ملفات خاصة

 
 

جان ــ لوك غودار مجدداً:

انتحار أم مساعدة على الموت؟

نديم جرجوره

عن رحيل جودار

سحر السينما

   
 
 
 
 
 
 

رحيل جان ـ لوك غودار (13 سبتمبر/ أيلول 2022)، منبثقٌ من رغبةٍ لديه في الموت. "ليبراسيون" (الصحيفة اليومية الفرنسية) تذكر أنّه يطلب المساعدة على الانتحار، ناقلةً عن قريبٍ له قوله إنّه "لم يكن مريضاً، بل مُنهكاً، بكل بساطة".

موتٌ رحيم أو انتحار؟ إنّه "طلبٌ للمساعدة على الموت"، متأتٍ (الطلب) من شعور عميق بأنّ الجسد والروح مُثقلان بتعبٍ غير مُحتَمل. تفكيرٌ بالموت يُرافقه منذ سنين مديدة، وردٌّ يتفوّه به على سؤالٍ في حوار مع داريوس رُشُبان، في برنامج Pardonnez-Moi ("إذاعة وتلفزيون سويسرا"، RTS، 26 مايو/ أيار 2014)، يكشف موقفاً يبدو، غداة رحيله، متجذّراً فيه. يقول رُشُبان: "عندما تموت، بعد وقتٍ متأخّر قدر الإمكان..."، فيُقاطعه غودار قائلاً: "ليس بالضرورة في وقتٍ متأخّر قدر الإمكان". يتساءل المُحاوِر عن مدى استعجال/عدم استعجال غودار في الموت، فيردّ مخرج "وداعاً للّغة"، المعروض حينها في المسابقة الرسمية للدورة الـ67 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2014) لمهرجان "كانّ" السينمائي، بأنّه "غير متلهّفٍ على الاستمرار (في الحياة) بالقوّة"، مضيفاً أنّه، عندما يُصبح مريضاً جداً، "لن تكون لديّ رغبةٌ في أنْ أُجَرَّ في عربةٍ"، مُشدّداً على رفضه هذا بتكرار مفردة "أبداً".
كلامٌ كهذا غير مُنتهٍ. غودار يُقيم في سويسرا منذ أعوامٍ طويلة، وهناك يُسمح قانونياً بـ"المساعدة على الانتحار". المادة 115 من قانون العقوبات، الصادر عام 1937، تنصّ على أنّ "الدافع الأناني" الذي يحثّ شخصاً على الانتحار، أو يساعده في ذلك، يؤدّي إلى عقوبة بالسجن 5 أعوام كحدٍّ أقصى، أو إلى دفع غرامة مالية (غير مُحدّدة). قارئو المادة يقولون إنّ "الدافع الأناني" هذا "يُتيح هامشاً مهمّاً من التقدير"، ويسمح لجمعياتٍ مختلفة (Exit و Dignitas و Life Circle) بتقديم مساعدة طبية لمن يرغب في الموت
.

البيان الصادر باسم زوجته آن ـ ماري مِيَافيل يُؤكّد أنّ موته حاصلٌ "بسلام"، بين مقرّبين إليه، في منزله في "رول"، على ضفاف بحيرة "ليمان". هناك من يُخبر "ليبراسيون" بأنّه "غير مريضٍ، بل مُنهك"، وهذا دافعٌ له إلى اتّخاذه قرار "إنهاء حياته". في الحوار الإذاعي/التلفزيوني نفسه، يسأل داريوس رُشُبان عما إذا كان مستعداً للّجوء إلى "طلب المساعدة على الانتحار"، فيُجيب غودار بـ"نعم" حاسمة، قبل أنْ يذكر له أنّ هذا الموت المُختار، "لا يزال صعباً للغاية"، حالياً (أي لحظة الحوار، وفي المدى الزمني المنظور، على الأقلّ، حينها).

بعد 8 أعوام، يؤكّد أقارب لجان ـ لوك غودار إقدامه على هذه الخطوة. مفردة "مُنهَك"، المعطوفة على طلب المساعدة على الانتحار/الموت، مُثيرة لتفكيرٍ، يستعيد لحظاتٍ سابقة، تشهد أكثر من محاولة للانتحار يُقدِم عليها، في ظروفٍ مختلفة، مع التنبّه إلى أنّ له "تفكيراً فلسفياً" يتعلّق بسؤال الانتحار. علاقته بالممثلة الفرنسية آنّا كارينا، مثلاً، عاصفةٌ، بدءاً من رفضها تأدية دور صغير في A Bout De Soufle، يعرضه غودار عليها عام 1960. في تصوير Une Femme Est Une Femme، عام 1961، يحصل جدلٌ عنيف بينهما، يؤدّي به إلى قطع عروقه.

للناقد السينمائي الفرنسي جان ـ لوك دْوان قولٌ مفاده أنّ "غودار مفتونٌ بالانتحار" ("جان ـ لوك غودار، قاموس المشاعر"، منشورات "ستوك"، باريس، 2010). في "موسيقانا" (2004)، يطلب من ممثلةٍ مشاركة في فيلمه هذا قراءة جملة من "أسطورة سيزيف" (1942) لألبير كامو: "هناك مشكلة فلسفية واحدة جدّية: الانتحار" ("ليبراسيون"، 13 سبتمبر/ أيلول 2022). غداة رحيله، يتذكّر سينيفيليون عديدون أنّ مسألة الانتحار حاضرةٌ في بعض أفلامه، كما في Soigne Ta Droite، المُنجز عام 1987، إذْ يضع بين يديّ الممثل ميشال غالابْرو كتاب "الانتحار، تعليمات للاستخدام" لكلود غيّيون وإيف لوبُنْياك، الصادر عام 1982 (مائة ألف نسخة مباعة)، والمُعرَّض لسجالات ومحاكمات، بعد "تحريضه" على انتحار أناسٍ عديدين، والممنوع بيعه في فرنسا 9 أعوام بعد صدوره. لاحقاً، يُسأل غودار إنْ كان لا يزال يحتفظ بهذا الكتاب، فيُجيب بـ"نعم"، مرفقة بأنّه غير قارئ له مُجدّداً، "منذ فترة طويلة". 

دْوان نفسه يُشير إلى أنّ السينمائيّ يضع في محفظته شفرة حلاقة، ويذكر أنّ إيريك رومر، المخرج الفرنسي المُشارك مع غودار وآخرين في ابتكار الموجة الجديدة في السينما الفرنسية (ستينيات القرن الـ20)، يعثر عليه ذات يوم "غارقاً" في دمه، في الاستديو الخاص به، "كي يصنع أنشودة ملحمية يختتم بها حياته بطريقة وحشية". غودار نفسه يُفسّر معنى إحدى محاولاته المتعدّدة للانتحار، في حوار مع روبر ماجوري ("ليبراسيون"، 15 مايو/ أيار 2004): "(هذه محاولة) مُنجزة بشكلٍ دجّال، إلى حدّ ما، لإثارة انتباه الناس إليّ"، وذلك في منزل صديقٍ له، لم يذكر اسمه. هذا حاصلٌ بعد "أيار 68"، ووالده، الطبيب بول، "يضعه" في مصحّ للاضطرابات النفسية: "هناك، سيُرغموني على ارتداء سترةً مُقيِّدة، منعاً لقيامي بحركات تعيسة، على الأرجح". عندها، ينتبه غودار (كما يروي) إلى ضرورة المحافظة على الهدوء، "وإلّا، فإنّهم لن يطلقوا سراحي أبداً".
في 13 سبتمبر/ أيلول 2022، يُطلق جان ـ لوك غودار سراح نفسه وروحه، فيُغادر حياةً يملؤها بسجالات وإشكاليات ومسالك وأفلامٍ، ستبقى مؤثّرة وفاعلة في الثقافة والفنّ والفكر والاجتماع والإعلام والعلاقات والتفاصيل الحياتية
.

 

####

 

جان ــ لوك غودار وفلسطين... التزامٌ سينمائيّ وفاءً لليسار الأممي

سعيد المزواري

مع وفاة جان ـ لوك غودار (13 سبتمبر/أيلول 2022)، أُثير مُجدّداً النقاش حول تعاطفه مع القضية الفلسطينية، الذي يبدو جلياً في مُنجز فترته المتّسمة بالالتزام، واستعاد البعض اتّهامه باللاسامية، الذي بلغ أوجّه عند الإعلان عن فوزه بـ"أوسكار شرفي" عن مجمل أفلامه، عام 2010.

بعد نكسة 1967، تبنّى غودار اتّجاهاً موالياً للقضية الفلسطينية، ومناهضاً للصهيونية، وفاءً لروح اليسار الأممي، الذي رأى في اجتياح إسرائيل أراضي عربية انتهاكاً للشرعية الدولية، وإمعاناً في اضطهاد الشعب الفلسطيني وتشريده، كامتداد جديد للإمبريالية العالمية، في الشرق الأوسط. نهاية عام 1969، تلقّى غودار، ورفيقه من مجموعة "دزيغا فرتوف" جان ـ بيار غوران، عرضاً من حركة فتح، يتمثّل بتصوير فيلم بعنوان "حتى النصر" في المخيمات الفلسطينية في الأردن ولبنان، بموازنة قدرها 6 آلاف دولار أميركي فقط. يروي الناقد والمؤرّخ السينمائي أنطوان دو بِياك أنّ غودار طلب لقاء ياسر عرفات أثناء التصوير، مُستعيناً بخدمات المترجم الشاب الياس صنبر، وطرح عليه سؤالين. الثاني، الذي لم يتلقّ جواباً عنه، تناول رؤية عرفات مستقبل الثورة الفلسطينية؛ بينما حمل الأول في طياته الموقف المركزي لغودار من المسألة اليهودية: "هل هناك علاقة بين معاناة الفلسطينيين ومعسكرات الإبادة؟". أجاب القائد الفلسطيني: "كلّا. هذا تاريخ الألمان واليهود". فقال غودار: "ليس فعلاً. هل تعرف أنّ الجنود الألمان كانوا يطلقون على المُعتَقَل اليهودي، حين يصبح ضعيفاً جداً ويقترب من الموت، تسمية "مسلم"؟". عندها، تساءل أبو عمّار: "وماذا في ذلك؟". فأجابه المخرج: "(...) هذا يُبيّن أنّ هناك علاقة مباشرة بين مِحَن الفلسطينيين ومعسكرات الإبادة".

أسابيع بعد انتهاء التصوير، سبّبت أحداث "أيلول الأسود" في الأردن (بدءاً من 12 سبتمبر/أيلول 1970) مقتل أغلب المقاومين الثوريين المُصوّرين في مادة فيلمية، تجاوزت مدّتها 44 ساعة، لم يعرف غودار وغوران ما يفعلانه بها، إلى أنْ وضّب الأول، بمعيّة رفيقته الجديدة آن ـ ماري ميلفيل، جزءاً منها في فيلمٍ، أسماه "هنا وهناك" (1976)، قدّما فيه درساً سينمائياً بليغاً عن تفاعل الصُور مع الأصوات، ونظرية مزج الطبقات الصوتية (من أساسيات أسلوب غودار، بحسب جان دوشيه)، وكيفية تلاعب وسائل الإعلام، في مقدّمتها التلفزيون، بالصُور، حاجبةً أكثرها أهمية، خدمةً لمصالح اقتصادية وسياسية معيّنة.

أنجز المخرجان مونتاجاً تراكبياً بين صُور عدّة، بمنظور المقارنة التاريخية، منها صُور الجثث المحروقة في الحرب العالمية الثانية، ومَشاهد حرق جثث الفدائيين الفلسطينيين في الأردن. لكنّ وضع صورة أدولف هتلر إلى جانب صورة لغولدا مائير، رافعةً يدها في ما يشبه حركة التحية النازية، شكّلت اللقطة التي لا تزال تسيل الكثير من المداد. من تعليق الفيلم، هناك جملة ظلّت عالقةً في الأذهان: "اليهود يُذيقون العرب ممّا قاسوه هم أنفسهم من النازيين".

بدأ انشغال جان ـ لوك غودار بـ"المسألة اليهودية" منذ "امرأة متزوّجة" (1964)، حيث تناول محاكمات أوشفيتز من زاوية السخرية القاتمة (على حدود اللائق) من اللاسامية الساذجة، المنتشرة في أوساط البورجوازية الفرنسية حينها، وتتبّع ـ في ما بدا استشرافاً لنسق المونتاج الجدلي، الذي سيقع لاحقاً في قلب تصوّر أفلامه الوثائقية ـ لقطات من شاشة سينما، تعرض "ليلٌ وضباب" (1956)، وثائقي آلان رينيه حول مراكز الإبادة، مع مَشاهد حبّ بين البطلة وعشيقها في غرفة فندق. ثنائية تفصح عن رؤيةٍ، عبّر عنها غودار باكراً في نصوصٍ نقدية تطرّق فيها لأفلامٍ مثل "كابو" (1961) لجيلو بونتيكورفو (عن إبادة اليهود)، و"هيروشيما حبيبتي" (1959) لرينيه (عن القنبلة الذرية)، فحواها أنّ محاولة صوغ أيّ تركيب جمالي لصُورٍ تنتمي إلى مُعجم الإبادة تُحدِث خرماً في الأخلاقيات (مُستشهداً بقول للوك موليه: "لقطة المتابعة مسألة أخلاق")، وابتذالاً يُحيل إلى استتيقا تسليع الجنس السائدة في الإعلانات التلفزيونية آنذاك.

ثمّ جاء مشروعه الضّخم، "تاريخ/تواريخ (قصص) السينما" (1988 و1998)، للإجابة عن مُركّب ذنب، ما فتئ يقضّ مضجع مخرج "ألفافيل" (1965)، مفاده عجز السينما عن تسجيل التاريخ وأحداثه الكبرى، وفي مقدّمتها "المحرقة"، باعتبارها أهمّ حدثٍ تخلّل القرن العشرين، وصاغ أحداث نصفه الثاني، في غياب السينما التي تحوّلت بنظره إلى آلة لخدمة الدعاية الشمولية، والمصالح الإمبريالية، حاملةً في جيناتها ملامح مشروع القتل الكبير، و"الحلّ النهائي"، أو فكرة "الموت داخل العين" (2004)، عنوان المؤلَّف المرجعي لستيفان زَغْدانسكي، الذي غذّى فيما بعد حواراً طويلاً ومُلهماً بين الرجلين.

بصفته مخرج صُورٍ، وجد غودار صعوبةً بالغةً في استيعاب قانون الكلمات، وما فتئ يبحث في جذورها واشتقاقاتها: "الكاثوليكي، أعرف جيداً ما يعنيه: شخصٌ يذهب إلى القداس. لكنّي لا أعرف ماذا يعني "يهودي". لا أفهم". يُسرّ لجان ناربوني، في فيلم آلان فليشر، "قطع محادثات مع جان ـ لوك غودار" (2007).

في "موسيقانا" (2004)، المُصوّر أثناء "الملتقى الأوروبي للكتاب" في سراييفو، أضاف غودار لبنةً مُهمّة لمُنجزه الملتزم قضية فلسطين، حيث يتمثّل نفسه في وضعية المعلّم الذي يفسّر لطلبةٍ مفهوم الحقل والحقل المضاد، عبر صورتين متقابلتين، تظهر إحداهما إسرائيليين مبتهجين ببلوغ "أرض الميعاد"، التي طالما تخيّلوها وحلموا بها، وتقدّم الأخرى فلسطينيين مطرودين من أراضيهم إلى المنفى وراء البحار، مُعلّقاً: "يلتحق اليهود بالمجال الروائي، بينما يصبح الفلسطينيون مادة للوثائقي". توليف غودار، بدل أنْ يؤالف ويُقرّب، يُقسّم ويُباعد، بتعبير جيل دولوز (مُتعاطف آخر مع القضية الفلسطينية)، في كتابه "الصورة ـ الزمن" (1985).
ينتهي "موسيقانا" بعملية تفجيرية في قاعة سينما في إسرائيل، بعدما بدأ بصحافية إسرائيلية شابة في "هآرتس"، تُنجز تحقيقاً، موضوعه "لماذا سراييفو؟ لأنّ هناك فلسطين...". تمكّن غودار من أنْ يُثير سوء فهم، وأن يُبقي عمله عرضةً للتأويلات والتأويلات المضادة، كونه حمّال أوجه، لا يكتفي بترديد المسلّمات، ولا يرضى بالتخندق في الأحكام البسيطة والمانوية. بنظره، السينما تشتغل مثل الميكروسكوب والتلسكوب، حين تُرينا فقط ما لا يُمكن أنْ نراه من دونها
.

 

العربي الجديد اللندنية في

15.09.2022

 
 
 
 
 

جان لوك غودار

هموم شكلية .. ورؤية جديدة

بقلم: عماد النويري

السينما والحياة عند غودار، هما شيء واحد. السينما لا تصور الحياة ولا تعكسها،  إنما هي جزء من الواقع ذاته تنفعل به وتتفاعل معه. إنه يحرك الكاميرا في جميع الاتجاهات ويصور كل البشر. ويختار لحظات محددة من حياتهم. . ليست لحظات شاذة أو غريبة. . وإنما اللحظات التي يستطيعون خلالها الكشف عن أنفسهم بصورة أفضل .  إنه يقطع اللقطات ويعيد قطعها ولصقها.. وتنطق جمل المونولوج أو الحوار، واحدة وراء الأخرى بلا علاقة ظاهرة بينهما ،  بحيث تكون غير مفهومة، وكأنها تنسجم انسجاماً تاماً مع أجزاء الصور الموضوعة بإهمال على الشاشة. ومن هنا ينبع الإحساس بأن أفلام جودار لا تتضمن تطوراً في الأحداث. وإن الصور والكلمات فيها تتقابل أو تختلط في زمن حاضر دائم. ويبدو الأمر كما لو كان جودار يسعى بكل الطرق أن يتجنب وضع اصبعه في تروس السينما الكلاسيكية… إنه يرفض أن يقوم بدور الساحر. وأن يلعب لعبة الصور السحرية . العاطفة- والفكرة.

إنه يعتبر أن السينما سر من الأسرار، ولكي ينكشف هذا السر أمام المتفرج فإنه في البدء يضايق المتفرج. ثم يصدمه. ثم يجعله يعتدل في جلسته. ومن ثم يرغمه على أن يظل محتفظاً بالمسافة بينه وبين الشاشة.

واذا كنا عرفنا أو سمعنا عن التغريب البريختي، في المسرح. فإن غودار يفعل في السينما كما فعل بريخت عندما كسر الجدار الرابع، أو الحائط الرابع. ان جودار يسعى وبوضوح الى كسر الايهام عند المتفرج في صالة العرض بأن الذي يعرض أمامه هو فيلما يحكي قصة لها بداية ووسط ونهاية وأحداث تتصاعد في خط درامي متنام يصل الى الذروة. وللوصول الى حالة التغريب السينمائي هذه فإن جودار يستخدم أكثر من طريقة.

قيادة اللعبة

أحياناً يتدخل جودار في أفلامه ليوصل رسالة واضحة الى المتفرج وهي: أنا المخرج الذي أقود اللعبة وآخذكم الى حيث أريد فلا تقعوا في مصيدة الصورة المتحركة. ومن الأساليب الأخرى، التي يستخدمها لخلق حالة التغريب هذه هي افراغ المشاهد الدرامية من مضمونها الدرامي. ففي فيلم: على آخر نفس، يقتل ميشيل- جان بول بلموندو- شرطي المرور. نحن نرى العملية كلها تتم في ثلاث لقطات: لقطة كبيرة للمسدس- ليس في منتصف الكادر، ودون أي تأثيرات ضوئية- بحيث تبدو اللقطة- عمدا- مملة غير جذابة. ثم لقطة غير واضحة المعالم- فلو- لا يظهر فيها أي تفصيل بوضوح. فلا نرى وجه رجل الشرطة، وانما نرى وكأن شخصاً يسقط على ظهره فوق شيء أشبه بالأعشاب أو الحقول. ومشهد القتل هذا الذي نراه في ثلاث لقطات مشهد فقير جداً. هنا يعارض جودار أفلام الأجرام الكلاسيكية التي يتم فيها تنظيم كل شيء- باستخدام مؤثرات الإضاءة وزوايا التصوير. الموسيقى والمونتاج- لإضفاء الطابع الدرامي على الحدث…. ودفع المتفرج

إلى المطابقة بين شخصيته وشخصية الممثل. لكن في مشهد جودار- في آخر نفس- يستحيل حدوث ذلك.

جهاز الإبصار

الأسلوب الثالث الذي يستخدمه غودار أو الذي يميز سينماه، هو مضايقة جهاز الإبصار لدى المتفرج بصفة مستمرة. وذلك بتقديم لقطات إما طويلة جداً أو قصيرة جداً. تتجاوز الحد الأقصى لأبصار المتفرج أو تكون أقصى من الحد الأدنى له ففي فيلم: رجال الشرطة، يقوم الممثلون في أحد المشاهد بإلقاء بطاقات بريدية- كارت بوستال- على مائدة. وتلقى البطاقات، واحدة تلو الأخرى دون توقف لمدة خمس دقائق متصلة. ودون أن تتحرك الكاميرا من مكانها قيد أنملة. وفي الفيلم ذاته نرى أحد رجال الشرطة يطلق رصاص بندقيته على إحدى السجينات الشيوعيات. ويطلق الرصاص لمدة طويلة بعد أن يكون المتفرج قد تأكد تماماً أن السجينة قد قتلت.

هدف جودار من المشهدين السابقين واحد . وهو نسف فكرة الخط الروائي تماماً. وإحباط شغف المتفرج بالحكاية. ومنعه من الاستسلام للحبكة القصصية والانقياد لها. إن جودار لا يظهر لنا إلا كل ما هو واقعي. وكل ما يحدث فعلاً في المكان الذي يحدث فيه ذاته. ولما كان من المستحيل أن نصور على الشاشة ممثلين يقتل بعضهم البعض بطريقة واقعية فإن جودار لا يصور أبداً مشاهد مثلا هذه. وإذا حدث وصورها فإنه يفعل ذلك بطريقة تجعل المتفرج واعياً تماماً بأن القتل أو المذابح التي يراها على الشاشة غير واقعية وليست سوى تمثيل… وجودار يعلم تماماً أن ظاهرة المطابقة في السينما تلعب دوراً، يتزايد جداً، أمام مشاهد العنف والجنس.

تجارب سمعية

وبالنسبة للصوت البشري فإنه يلعب في جميع أفلامه دوراً جوهرياً. فالمخرج يستخدمه لكي يدفع المشاهد إلى دخول تجارب سمعية جديدة. فجودار يحاول أن يحرك الإدراك البصري للمتفرج، نحو أدارك سمعي، ففي فيلم: عطلة الأسبوع، فإن المشهد الأول من الفيلم يستغرق حوالي عشر دقائق وهو عبارة عن لقطة واحدة بكاميرا ثابتة. ونرى على الشاشة حجرة وضعت في منتصفها مائدة وكرسي . ويجلس رجل على الكرسي بينما تجلس على الطاولة فتاة ترتدي لباس البحر- بكيني-، والفتاة تتحدث بلا ا انقطاع وتقص على الرجل حكاية لا معقولة- وجنسية- لا أول لها ولا آخر. فجمل الحكاية ليست مرتبطة إحداها بالأخرى. بل أحياناً لا تستطيع سماعها بسبب مرور طائرة أو دراجة بخارية أو نفير سيارة…. وهكذا نرى أن جودار يفعل بالصوت البشري ما يفعله بالصورة نفسها. إذا يبتر جزءاً من المعطى السمعي بهدف وضع المتفرج إلى فك رموزه. ويستدعى ذلك جهداً كبيراً لفتح آذان المتفرجين حتى يستطيعوا فك رموز رسالة صوتية صعبة عليهم أن يشتركوا في تأليفها وإعادة تركيبها بلا توقف.

وجهة نظر تسجيلية

ومن أكثر الأساليب إثارة للاهتمام هو إدخال الممثل في الواقع الذي يصور من وجهة نظر تسجيلية. وقد كان لهذا الأسلوب تأثير كبير جداً على السينما الحديثة. وقد قال جان كوليت- وهو أول ناقد يؤلف كتاباً عن جودار- أن هذا الأسلوب هو الطابع الذي تتسم به سينما جودار كلها. فنحن لا نرى في أفلامه أبداً صورة جمالية صنعت من أجل التكوين… أو الإبهار كهدف أساسي.

إن غودار يوحد تماماً بين حياته الشخصية المتفتحة إلى الحياة الديناميكية غير المكتملة التي لا تكف عن البحث. وبين عمله- كمخرج بحيث أصبحت حياته هي أفلامه. إنه ينحاز إلى جانب الحياة وهو متجرد تماماً من كل شيء. لقد ترك نفسه لتيار الحياة الجارف المتحرك الذي تحف به المخاطر. ولم يحاول خلال هذا النوع من الحياة أن يحمي نفسه بنظريات أو صيغ أو هياكل أو حيل يستخدم فيها المونتاج. إنه من خلال أفلامه يرغب أن يتوه… وبأن يشعر بالقلق الذي نحس بنبضه في كل صورة. ولكن قلق رجل رضي أن يتوه حتى يستطيع أن يجد نفسه….

رغم أن هموم غودار الشكلية هذه جعلته- سواء أراد ذلك أم لا- يتقوقع على ذاته ويعيش في عزلة فريدة. فإنه يصعب الشك في نزاهته. فهو فنان يحب السينما إلى درجة الجنون. ويمتاز بجرأة تفوق كل الحدود.

حين الاقتراب من سينما جودار يجب أن نضع في الاعتبار أن تلقي الجمهور الفرنسي أو ربما الأوروبي لسينما جودار يختلف جذرياً عن تلقي جمهور بعيد- جمهور العالم الثالث مثلاً. كما عندنا.

إن غودار في النهاية هو واحد من الذين ساهموا في تطور السينما كفن. واستكشاف إمكاناتها…لقد قدم- شئنا أم أبينا- رؤية جديدة ووضع يده على إمكانات للفن السينمائي لم يكتشفها أحد من قبله….

يقول عنه جون مرسل تايلور: غودار أصيل إلى أبعد الحدود. إنه أحد أولئك المخرجين الذين لا يمكن أن تصبح السينما بعدهم تماماً كما كانت من قبل. إنه لا يأخذ شيئاً واحداً على نحو يقيني. لا يؤمن بأن هناك- ما يجب- وما- لا يجب – حتى يجرب نفسه.

إن مسألة تقييمه وتقييم سينماه تختلف عندنا… لكن إذا حدث، وأقدم على فيلم من أفلامه فإنه يقدم دون فكرة مسبقة. ولنا كل الحق في أن نرى ما نشاء.

 

مدونة الكاتب في

15.09.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004