ملفات خاصة

 
 

رحيل جان لوك غودار عن 91 عاماً:

السينما من دون إلهها

هوفيك حبشيان

عن رحيل جودار

سحر السينما

   
 
 
 
 
 
 

"موت غودار”! ما أصعب ان يكتب ناقد #سينمائي تلك الجملة المؤلفة من كلمتين على رأس مقاله. لم أجد سوى موسيقى "الاحتقار" لجورج دولورو، تصدح في أذنيّ عبر السمّاعة، لأكتب النصّ الآتي. ذلك اللحن الموجع على شكل لازمة حزينة يستفز الذاكرة السينيفيلية ويعيد جمع الصور المبعثرة على غيمتي الافتراضية، ما يساعد في استحضار الماضي وكتابة هذا الرثاء في رحيل #جان لوك غودار الذي مات أمس عن 91 عاماً. فغداً، ستشرق الشمس وغودار ليس هنا منذ 3 كانون الأول 1930. هذه الشمس التي كانت تشرق في ظلّ غودار، إله السينما وأجمل مخلوقاتها. تصعب الكتابة عن الرجل كما نكتب عن آخرين، فهناك السينمائيون وهناك غودار. اذا كان سواه جسّد السينما بأشكالها المختلفة، فهو السينما نفسها. وحده، بلا شريك.

أمضى غودار ثلثي حياته بين الأشرطة. 60 سنة أنجز خلالها ما يُقارب المئة فيلم (21 منها عُرضت في مهرجان كانّ السينمائي حيث كان في أولى صفوف الحراك الذي حدث فيه في دورة 1968) لا تنتمي الا إلى نمط ابتكره غودار بنفسه، نمط يخربط التوقّعات ويقفز بين الأنواع، يحرّف ويلغي ويضيف ويحذف ويشتبك، ذاهباً في الاتجاه المعاكس لِما هو مقبول، قبل ان ينتقل في العقدين الأخيرين من حياته، إلى سينما أقرب من التجريب، ذروة جديدة أصبح أحد أسيادها.

ولد غودار مع ولادة السينما الناطقة، وكان أحد أقوى أصواتها التي تردد صداها في العالم. ألهم ولم يلهمه أحد، تشبّه به آخرون ولم يشبه أحداً، كثر مشوا على خطاه وأضاعوا طريقهم. بصمته فريدة، حضوره داخل السينما وخارجها لا يتكرر، غيابه يطوي الكثير من ماضي السينما، في هذه المرحلة بالذات حيث الخطر الذي يهدد هذا الفنّ هو الأقوى منذ عقود. ترك قصائد بصرية عابرة للزمن، عبارات لمّاحة، والأهم حبّ السينما الذي زرعه داخل كثر منّا ونمت أغصانه إلى ان أصبحنا نتظلل بها.

ابن السينماتيك

لا يتذكّر غودار أي فيلم شاهده وأعلن على أثره فوراً: "أريد ان أكون سينمائياً". يقول انه لا بد ذهب لمشاهدة أفلام والت ديزني، مثل كلّ الصغار في طفولتهم. غير انه ليس مثل كلود لولوش الذي يقول "في الثالثة شاهدتُ ذاك الفيلم في يوم كذا فعرفتُ أني سأكون سينمائياً". لكنه يتذكّر جيداً انه شعر في السينماتيك الفرنسية بأنه "سيتعاطى" الأفلام لبقية حياته. في مؤسسها هنري لانغلوا وجد "أباً"، وفي الناقد أندره بازان معلّماً تنويرياً. دخل السينما كما يعتنق آخرون ديانة. هناك، اكتشف عالماً لم يحدّثه أحد عنه، لا المدرسة، ولا الأهل. "لماذا اخفوا عنّي وجوده؟ حدّثوني عن غوته، لكن ليس عن دراير… اكتفينا بالمشاهدة. كنّا نشاهد أفلاماً صامتة في حقبة السينما الناطقة، كنّا نحلم بأفلام، وكنّا نسمع عن أفلام لم نشاهدها أبداً. "الموجة الجديدة" كانت هذا: كنّا مثل مسيحيين اهتدوا دون ان يروا أبداً المسيح أو مار بولس. السينما الجيدة، الحقيقية، كانت التي لم نكن نشاهدها لأنها لم تكن تُعرض. السينما الاخرى، كنّا نستطيع مشاهدتها كلّ سبت. لكن السينما الحقيقية، غريفيث، أيزنشتاين... كنّا نشقى كثيراً لمشاهدتها، فإما كانت ممنوعة أو غير معروضة أو موزّعة في شكلّ سيئ…”.

بدأ غودار، الفرنسي السويسري المولود في باريس، ينخرط في السينما في ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية خاصة، بعد نحو عقد من نهاية الحرب العالمية الثانية والتغييرات التي حدثت خلال "الثلاثون المجيدة" التي كانت ستعيشها فرنسا وأوروبا في تلك الفترة، وكانت الحاجة إلى أصوات جديدة من خارج الأسماء المعروفة، بدأت تلح. فكانت "الموجة الجديدة الفرنسية"، وكان هو أحد الذين زرعوا بذورها مع تروفو وشابرول ورومير وريفيت، من دون ان يعلموا انهم يضعون خطاً فاصلاً بين ما سيتحوّل إلى "ما قبل" تلك اللحظة و"ما بعدها" في تاريخ الفنّ السابع. فيلمه "مخطوف النفس" (1960) الذي كتبه صديقه اللدود فرنسوا ترفو، من أول أفلام هذه الحركة الثورية. مع الوقت، ارتقى الفيلم إلى مصاف الاسطورة. صورة شهيرة لجانّ سيبيرغ في دور طالبة أميركية تبيع الصحف في شوارع باريس كي تؤمّن ثمن دخولها السوربون مع جان بول بلموندو الذي أصبحت عبارته "اذا كنتَ لا تحب البحر ولا تحب الجبل ولا تحبّ المدينة، فاغرب عن وجهي"، وهو يتوجّه بها إلى الكاميرا، أشهر عبارات السينما، زيّنت جدران غرفنا ونحن مراهقون نكتشف لتوّنا السينما الفرنسية. مع هذا الفيلم، فجّر غودار قنبلة، ناسفاً الكثير من "سينما الآباء" المصنوعة داخل الاستوديوهات، مشرّعاً الطريق أمام سينما حرة طليقة، لا تحكمها القيود مهما تكن أشكالها، وخارجاً على الحدود القديمة، الجمالية منها والسردية. معه، نزلت الكاميرا إلى الشارع، حُملت على الأكف، اقتحمت اليومي والعادي والحميمي، وما عادت حاضرة فقط في مكان الحدث، بل في المقلب الآخر أيضاً. وداعاً للسيناريو الذي كان حتى الأمس "انجيلاً" في موقع التصوير، وداعاً للشكل التقليدي للممثّلين ولحواراتهم، وداعاً للنحو الذي تصوَّر فيه باريس… كانت نقلة في الكتابة الفيلمية، نقلة في استخدام المونتاج، نقلة في كيفية تحرّك الأجساد داخل الكادر. باختصار: الحرية في أبسط معانيها. كلّ شيء بدا فجأةً جديداً، مغايراً، طازجاً، يحمل ألوان العصر وتكثيفه، همومه وهواجسه، شخصياته المتناسلة من الواقع، لا بطل رواية بعيدة. أحضر غودار طيف السينما الأميركية، التي عشقها هو ورفاقه، وفكّكها طولاً وعرضاً في مقالاته على صفحات "دفاتر السينما"، في واحد من أول الأفلام التي كانت تزخر بالاشارات إلى السينما والموسيقى والأدب. هكذا دخل غودار التاريخ، وهكذا دخلت السينما الحداثة، عائداً بها إلى نقطة الصفر.

“كلّ شيء كان متحجّراً”

غودار ورفاقه الذين ذهب كلّ منهم لاحقاً في اتجاه، لا بل في اتجاهات نقيضة بعضها لبعض، جعلوا كلّ شيء ممكناً في ظلّ "الموجة الجديدة". قبل تلك اللحظة، وبحسب غودار، "كلّ شيء كان ممنوعاً، متحجّراً، حرفياً في أسوأ معاني الكلمة". في مقابلة مع مجلة "استوديو" نُشرت في العام 1995، أعلن: "قلنا: كلا، لا ممنوعات، ممكن العمل مع صديقة وكتابة ما نرغب في كتابته. وأنجزنا أفلاماً ضد القواعد السائدة. "الموجة الجديدة" ولدت أيضاً من روحية التعارض. صوّرنا أفلامنا في الشارع، اذ في الحقبة تلك كلّ الافلام كانت تصوَّر في ديكورات داخلية. لو صوّروا في الشارع، لكنّا صوّرنا ربما في الداخل”.

 

"الاحتقار" (1963) ذروة أخرى في الفنّ الغوداري. فيلم عن السينما ومن داخلها. من الصعب إيفاء حقّ هذا الفيلم "الاسطوري"، الذي جاء مراراً في قائمة أفلام النقّاد العشرة المفضّلة العابرة للأزمنة. منذ الجنريك، يضع غودار أسس سينما معارضة، تتجلّى من خلال كلمة أندره بازان في التعليق الصوتي: "السينما تستبدل بنظرتنا عالماً يتطابق مع رغباتنا". ثلاثة من الكبار يضطلعون بالأدوار الرئيسية: ميشال بيكولي، بريجيت باردو وفريتس لانغ. صُوِّر الفيلم في كابري الإيطالية ويتضمّن مناظر خلابة للبحر انطلاقاً من التلّة التي تقع عليها الفيللا حيث مكان اقامة الشخصيات. مشاهد المداعبات والكلام اللذيذ بين بيكولي وباردو ("أحبّك بتراجيديا" يقول لها)، بالاضافة إلى نزلات الكاميرا وطلعاتها على جسد ب. ب. بعدسة راوول كوتار، دخلت معبد الصورة الحيّة. أما الحكاية فليست أكثر من كونها تروي اللحظات الأخيرة من علاقة بين رجل وامرأة أصبحا على عتبة الانفصال. فكلّ شيء يبدأ مع وصول بول وزوجته كاميّ (بيكولي وباردو) إلى كابري حيث من المتوقع ان يساعد المخرج فريتس لانغ (يلعب ذاته في الفيلم)، لمواصلة عملية كتابة سيناريو فيلم "عوليس". ما إن يصبح هناك حتى تتأزم العلاقة بينه وبين زوجته، ظنّاً منها بأنه يرميها في أحضان المخرج الكبير كي يتسلّم المهمة. أُسأل دائماً من محبّي سينما شباب: من أين ينبغي البدء في التعرف إلى غودار؟ ربما من "الاحتقار". نحن أمام رائعة قاومت الزمن. هناك رمزيات لا يسهل التقاطها من المشاهدة الأولى، ويستغل غودار هذا كله كي يطرح نظرياته في السينما بين الحاضر والماضي، بين سينما الآباء المتمثّلة في صورة المنتج و"الموجة الجديدة" التي تتخذ ملامح باردو. وما بيكولي بقبّعته وسيجاره، الا "غودار ثانٍ"، يلملم ألمه قبل الذهاب إلى الموت.
أراغون: “ما هو الفنّ؟ انه غودار”

“بيارو المجنون" (1965) ذروة ثالثة. تطريز مدهش، نسيج من بقايا أشياء، عمل خاص بالألوان الفاقعة (الأزرق والأحمر لا مثيل لهما في السينما)، يكشف اندفاع غودار إلى السينما هذه، بكلّ جنونه وفلتانه وحريته. ميلانكوليا وشاعرية ورومنطيقية تلتقي في فيلم واحد تخطف فيه آنّا كارينا، خصوصاً عندما تكرر جملة "ماذا يمكنني ان أفعل؟ لا أعرف ماذا أفعل؟"، القلب، لكن في تلك الفترة لم يحدث الفيلم الاجماع، فالنظرة إلى أفلامه كانت لا تزال قاصرة. الشاعر لوي أراغون من الذين أثنوا على الفيلم، اذ كتب مقالاً في الصفحة الأولى من مجلّة "الآداب الفرنسية" في عنوان: "ما هو الفنّ؟ انه جان لوك غودار". اليوم، دخل الفيلم متحف الكلاسيكيات الخالدة. البطلان (كارينا وبلموندو) "غوداريان" بكلّ ما تحمله العبارة من مستويات. يجوبان طرق جنوب فرنسا، على موسيقى أنطوان دوهاميل، بحثاً عن حبّ وحرية ورغبة في الذهاب إلى أقاصي الجنون. ماغريت، بيكاسو، فان غوغ، سامويل فولر، بيتهوفن، وغيرهم هم ضيوف في الفيلم، ولو عبر ذكرهم أو عُرِضت لوحة لهم، في واحد من الأشياء التي كانت ستتحوّل إلى توقيع غوداري. بلموندو الذي نراه يقرأ كتاباً وفي فمه سيكارة، مستلقياً داخل البانيو، يشكّل مع كارينا من أجمل الثنائيات في السينما الفرنسية، إن لم يكن أجملها.
بدءاً من نهاية الستينات، اختار غودار ان ينجز سينما أخرى، سينما لا يحاصرها أي قيد أو شرط، مسيسة ومناضلة، يفعل فيها ما يريده، لكن، من دون ان يخون "ثورة" البدايات، كما فعلها تروفو أو شابرول اذ قررا الابتعاد عنها. غودار حافظ على تلك الشعلة التي تنير عتمة الدروب. ثورة 1968 خط فاصل في رؤيته للسينما والسياسة والفنّ والحياة وكلّ شيء. وهذه السينما التي فيها العظيم والأقل عظمةً، الملتزم أو نتاج اللهو بوسيط يعلم كلّ أسراره، انقسم حولها الجمهور والنقّاد. منذ حقبته الماوية إلى انكبابه على أفلام عن فلسطين وغيرها، مضى غودار في خيارات أكثر راديكاليةً. انصاره، وأنا منهم، اصطفّوا إلى جانبه وشدّوا على يده في الحلو والمر. فيلسوف السينما لا يمكن ان يخطئ، وإن أخطأ فهذا جزء من روعته، ثم ان أخطاءه أجمل من صواب الآخرين. في المقابل، بقي جمهور آخر له، عالقاً في الستينات، رافضاً الصعود معه في قطار التجريب والتخريب والاشتباك مع اللغة السينمائية. طائفة غودار تعتبر نبيّها خلق السينما بلا انقطاع، وكلّ فيلم جديد له ساهم في عدم موت الشاشة. في أي حال، النصّ الغوداري يعرف كيف يدافع عن نفسه.

سينما بين المطهر والجنّة

"موسيقانا" (2004) أمثولة في السينما التي لجأ اليها غودار بعد تجاوزه السبعين. يقترح فيه المعلّم رؤيته الخاصة للحروب والمجازر في ثلاثة فصول: الجحيم، والمطهر والجنّة. منذ البداية، يدخلنا عالمه الخاص حيث يمتزج الخيالي بالواقعي والتسجيلي بالتصويري. صور لقتلى وجرحى ودبّابات ونزوح ودمار وعنف وألم بالأسود والابيض والألوان. هذا كله على الوقع المقلق لضربات البيانو الواحدة تلو الأخرى. يرى غودار ان الأمل الوحيد موجود أمام المهزوم. ويقول محمود درويش في الفيلم ان الشعب الفلسطيني سيئ الحظ، لأن عدوّه يتمثّل بالدولة الإسرائيلية التي يدافع عنها الجميع. لكن هذا الشعب محظوظ أيضا لأنه يملك عدواً تسلط عليه كلّ الاضواء.
"فيلم اشتراكية" (2010) نموذج آخر لهذه السينما. كعادته، يقفز غودار من موضوع إلى آخر، مكثّراً الأقوال الشهيرة والأقل شهرةً من مكتبته الضخمة، غير مكترث بالانسجام بين الصورة وخلفيتها. هنا، ثمة مقاربة جديدة قديمة للتاريخ. غودار لا يسائل التاريخ بقدر ما يحاكمه واضعاً إياه على أريكة المحلل النفسي، معانقاً ثمانية عقود من التاريخ الآدمي. يختلط الروائي والأرشيفي، الحرب والسلم، الصورة النقية والرديئة، على وقع موسيقى الأرغن. موزاييك من الصور تنهش الشاشة، يرافقها كمّ من الكلمات المتقاطعة. شيئاً فشيئاً، يتوضّح لماذا عنون غودار فيلمه بـ"فيلم اشتراكية". كرهه للفائدة المادية يتجلّى في العبارة الآتية: "جرى اختراع المال، كي يخاطب الناس بعضهم بعضاً من دون ان ينظر الواحد في عين الآخر". "وداعاً للغة" (2014)، مانيفستو سينمائي آخر، استخدم فيه المعلّم الأبعاد الثلاثة وتقنية "صورة فوق صورة"، محوّلاً الشاشة إلى شيء لا يمكن النظر اليه. تخطّى هنا كلّ الحدود المسموح بها. فرض علينا الا نرى.

غودار لا يُقارَن الا بغودار

أما "كتاب الصورة" الذي اختتم به مسيرة سينمائي اختار ان يقف على أعلى قمّة في التاريخ، وفي يده الوصايا العشر السينمائية، فكان ختاماً غودارياً. للمناسبة، مناقشة المرحلة الغودارية عند غودار، قضيّة لا معنى لها، الرجل فوق النقد، اذ لا توجد مرجعية يمكن الاستناد اليها لتقييم هذا العمل أو أي من أعماله الأخيرة. هذا شيء يتجاوز السينما والفنّ، يكسر علاقة الصانع بالمتفرج التقليدية، انه مفهوم للسينما يتجرّد كلياً ليعود إلى الأصل والمنبع، أي إلى الفكرة والكلمة، لذا لا يُمكن مقارنة غوادر إلا بغودار. المتفرج في "كتاب الصورة" شاهد أكثر منه متفرجاً، وفي هذا ينبذ غودار تقاليد العمل الفني ليحملنا إلى لعبة تماهٍ من خلال حرفة يملك سرّها، وهذه الحرفة هي في قلب عملية خربطة علاقتنا بالمشاهدة منذ زمن طويل. غودار يُغرقنا في نهر من الصور المتدفقة التي تخنقنا حرفياً. لا نفهمها دائماً، لا نتدارك مكانها في الإعراب، نبحث عبثاً عن منطقها التسلسلي، ولكن هل من ضرورة لهذا المنطق؟

روح معذّبة اختارت لحظة الرحيل

لا يذهب الكبار إلا بعد أن ينتزعوا منّا الكثير ويتركوا فينا الكثير أيضاً. غودار من هؤلاء. تأثيره المستقبلي في الذاكرة الجماعية سيكون كبيراً، والامتنان له أننا عشنا في زمنه، سيكون أكبر. غودار الذي لطالما كان حاضراً عبر غيابه (مثلما كان حاضراً في فيلم أنييس فاردا عندما راحت الأخيرة لزيارته فكتب لها كلمة على الباب ولم يفتحه)، سيبقى حاضراً في غيابه الأبدي، وسيبقى في وجدان كثرٍ منّا ذاك الشاب الذي صرخ قبل أكبر من نصف قرن، أيام ثورة 68: "أكلّمكم عن تضامن مع الطلاب والعمّال، وأنتم تحدّثونني عن حركة ترافلينغ ولقطة قريبة". هذا الثائر الطوباوي، صاحب الروح المعذّبة الطريفة العذبة، لم "يتبرجز" يوماً، ظلّ مبهماً غاضباً مستفزاً، حتى في ثمانيناته وهو يطل في فيلم وثائقي خالطاً النبيذ بالماء، مواصلاً مشاكسة مكتسبة عنده منذ الصبا يوم خاصم عائلته. أخيراً، هذا المثالي الذي قال ذات يوم بأنه لا يريد ان يموت قبل رؤية أوروبا سعيدة وقبل ان يرى كلمتي "روسيا" و"سعادة" مقترنتين من جديد، كان توقّف عن الاعتقاد ان الفن يغيّر العالم، فاختار موعد رحيله، انتحاراً مدبّراً تحت عناية طبية (اجراء مسموح به في سويسرا)، وفي هذه الخطوة الأخيرة، كلّ غودار الذي عرفناه وأحببناه: إله سينما يختار لحظة العصيان وأدواته.

 

النهار اللبنانية في

14.09.2022

 
 
 
 
 

جان لوك غودار... الموجة الجديدة فقدت ملهمها

نجوم/ الأخبار

غيّب الموت، اليوم الثلاثاء، المخرج السينمائي الفرنسي ــ السويسري جان لوك غودار عن عمر ناهز 91 عاماً، حسبما نقلت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية، استناداً إلى بيان صادر عن العائلة.

ونقل البيان المقتضب عن زوجة غودار آن ماري مييفيل ومنتجيه أنّه «توفي في 13 أيلول/سبتمبر 2022»، وأنّ «أي مراسم رسمية لن تقام»، موضحاً أنّه «توفي بسلام في منزله محاطاً بأفراد عائلته»، وأنّ «جثمانه سيُحرق».
يُعدّ الراحل عراب الموجة السينمائية الجديدة في فرنسا وقد أحدث إقحامه موضوعات محظورة واستخدامه قوالب روائية جديدة ثورة في صناعة الأفلام، كما ظل يلهم مخرجين «متمردين» بعد عقود من ذروة نشاطه خلال الستينيات
.

بزغ نجمه بإخراجه بعضاً من أشهر الأفلام التي زادت قيمتها مع مرور الزمن وباتت ضمن الأعمال الكلاسيكية في تاريخ السينما، مثل فيلمي «منقطع الأنفاس» و«ازدراء».

خرجت أفلامه عن التقاليد الراسخة للسينما الفرنسية وساعدت في إطلاق طريقة جديدة في الإخراج تعتمد على التصوير بالكاميرا المحمولة والانتقالات الفجائية في المشاهد والحوارات الوجودية.

ولا ينسب الفضل إلى غودار وحده في إطلاق «الموجة الجديدة»، إذ شاركه في تأسيس تلك المدرسة ما لا يقل عن 12 من أقرانه، من بينهم فرانسوا تروفو وإريك رومر، ومعظمهم أصدقاء من حركة «الضفة اليسرى لباريس» البوهيمية التي نشأت في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي.

ومع ذلك، فقد أصبح الرمز الأشهر لهذه الحركة السينمائية التي امتدت إلى اليابان وهوليوود، وحتى في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية وكذلك في البرازيل.

وكان غودار أحد أغزر أقرانه إنتاجاً، إذ أخرج عشرات الأفلام القصيرة والطويلة على مدار أكثر من نصف قرن منذ أواخر الخمسينيات. وجاءت معظم أشرطته الأكثر تأثيراً ونجاحاً من الناحية التجارية في الستينيات، ومن بينها «حياتي التي سأعيشها» وDeux ou trois choses que je sais d'elle و«ويك أند»...

وتعليقاً على نبأ الرحيل، كتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على تويتر: «جان لوك جودار (كان) أكثر صانعي أفلام الموجة الجديدة رمزية... لقد فقدنا كنزاً وطنياً».

أما وزير الثقافة الفرنسي السابق جاك لانغ، فأكد في بيان عبر البريد الإلكتروني أنّه «نحن مدينون له بالكثير... لقد ملأ السينما بالشعر والفلسفة. بصيرته الحادة والفريدة جعلتنا نرى ما لا يمكن لأعيننا رؤيته».

 

الأخبار اللبنانية في

13.09.2022

 
 
 
 
 

السينما تفقد معلّم "الموجة الجديدة" المخرج جان لوك غودار

المصدر: "النهار"

الراديكاليّ الطليعيّ والإشكاليّ وعرّاب حركة "الموجة الجديدة" السينمائيّة، المخرج الفرنسيّ السويسريّ #جان لوك غودار، رحل اليوم عن 91 عاماً، هو الذي قال في فيلم "أحيّيكِ يا سراييفو" على لسان الشاعر لويس أراغون: "عندما يحين وقت إغلاق الكتاب، لن أشعر بالندم".

اشتهر غودار بالجرأة والنزعة إلى الجذريّة في صناعة الأفلام، واقتحام المحظورات وتجنّب القوالب المعلّبة، وهو ما أدّى إلى ثورة سينمائيّة ألهمت مخرجين متمرّدين يبحثون عن الحريّة، حتى بعد عقود من ذروة نشاطه في الستينيّات.

عكست أعمال مخرج "الجنديّ الصغير" و"الاحتقار" و"كتاب الصورة"، معرفةً قويّةً بتاريخ صناعة الأفلام، وفهماً شاملاً للفلسفة الوجوديّة والماركسيّة، ونظرةً عميقةً على هشاشة العلاقات الإنسانيّة. وقد تحدّى غودار الأعراف السينمائيّة الهوليووديّة والفرنسيّة التي كانت سائدة، حتّى أخذ عليه البعض ميله إلى ما وُصف بـ"التطرّف".

"العالم يعيش في السينما"، قال غودار في حوار مع الصحافي جان بيار لافوانيا عام 1995. قالها بالمعنى الذي عبّر عنه شارل ديغول في حديثه عن البرلمانيّين: "الفارق بينهم وبيننا هو أنّهم يعيشون في فرنسا، نحن فرنسا تعيش فينا". وقد اعتبر غودار يومذاك أنّ "العالم يحيا في السينما كما يحيا في الرسم أو أيّ شكل آخر للفن"، مذكّراً بأنّه "لزمن ما، في الخمسينيّات، كانت كلمة كاميرا معروفة في حجم يوازي كلمة خبز".

اعتقد غودار أنّ التلفزيون أفسد وظيفة السينما، "لأنّه قائم على قاعدة البث، فيما كانت السينما فائقة القوة وعصيّة على الرقابة. لذا فضّلوا تقزيمها إلى بعدها المشهدي الواحد".

خرجت أفلام الراحل عن التقاليد الراسخة للسينما الفرنسيّة، وساعدت في إطلاق طريقة جديدة في الإخراج تعتمد على التصوير بالكاميرا المحمولة والانتقالات الفجائيّة في المشاهد والحوارات الوجوديّة.

لا يُنسب الفضل إلى غودار وحده في إطلاق "الموجة السينمائيّة الجديدة" في فرنسا، فقد شاركه في تأسيس المدرسة ما لا يقلّ عن 12 من أقرانه، من بينهم فرانسوا تروفو وإريك رومر، ومعظمهم أصدقاء من حركة "الضفة اليسرى لباريس"، وهي حركة بوهيميّة نشأت في أواخر الخمسينيّات. ومع ذلك، أصبح غودار الرمز الأشهر للحركة السينمائيّة التي امتدّت إلى اليابان وهوليوود، وحتى في تشيكوسلوفاكيا الشيوعيّة والبرازيل.
من جهة ثانية، كان غودار واحداً من أغزر أقرانه إنتاجاً، إذ أخرج عشرات الأفلام القصيرة والطويلة على مدار أكثر من نصف قرن منذ أواخر الخمسينيّات. وجاءت معظم أفلامه الأكثر تأثيراً ونجاحاً من الناحية التجاريّة في الستينيّات، ومن بينها "حياتي التي سأعيشها" و"شيئان أو ثلاثة أعرفها عنها" و"عطلة نهاية الأسبوع".

 

####

 

محطّات في المسيرة الاستثنائيّة للمخرج الراحل جان لوك غودار

المصدر: "النهار" - "أ ف ب"

فقدت السينما اليوم المخرج الفرنسيّ السويسريّ #جان لوك غودار، عرّاب "الموجة الفرنسيّة الجديدة" وأحد المخرجين الأكثر نفوذاً في القرن العشرين، عن عمر يناهز 91 عاماً.

في الآتي، محطّات مفصليّة من سيرة المخرج الأسطوريّ والمنشقّ عن السينما التقليديّة:

- 3 كانون الأول 1930: وُلد غودار في باريس.

- 1960: عرض أول فيلم روائيّ طويل بعنوان "منقطع الأنفاس"، وحصل على جائزة جان فيغو وجائزة أفضل مخرج في مهرجان برلين.

- 2 آذار 1961: تزوج الممثلة الفرنسيّة الدنماركيّة آنا كارينا التي مثّلت في سبعة من أفلامه (انفصلا عام 1964).

- 1963: عرض فيلم "الاحتقار" مع بريجيت باردو.

- 1965: أخرج "بييرو المجنون" مع جان بول بيلموندو، وفاز فيلم الخيال العلميّ "ألفافيل" بجائزة الدب الذهب في برلين.

- 1967: أخرج فيلم "الصينيّة"، بطولة آن ويزيمسكي التي تزوجها عام 1967 (انفصلا عام 1970)، وحاز على جائزة خاصة في مهرجان البندقيّة.

- 9 حزيران 1971: إصابته بحادث دراجة نارية خطير، أمضى على اثره ستّة أشهر في المستشفى وفترة إعادة تأهيل طويلة، وتقرّب من كاتبة السيناريو السويسريّة آن ماري مييفيل.

- 1977: انتقل إلى رول السويسريّة مع مييفيل.

- الثمانينيات: عودة إلى الأفلام ذات الميزانيّة الكبيرة مع "انقذ ما تستطيع، (الحياة)" و"شغف" و"محقّق" (مع جوني هاليداي) و"السلام عليكِ يا مريم"...

- 1987: حصل على جائزة سيزار فخريّة لحياته المهنية، ثمّ جائزة ثانية عن عمله في 1998.

- 1998: أنجز مشروعه الضخم "تاريخ (تواريخ) السينما" الذي أتى في 8 حلقات (3 ساعات ونصف الساعة)، وفي مجلّد عن دار "غاليمار" الفرنسيّة.

- 2010: حصل على جائزة أوسكار فخريّة لمسيرته.

- 2014: فوز فيلمه "وداعاً للغة" بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كانّ (جائزته الوحيدة في المهرجان حيث تنافس ثمانية من أفلامه).

- 2018: حاز فيلمه "كتاب الصورة" وأعماله الأخرى على السعفة الذهبيّة الخاصة في "كانّ".

 

النهار اللبنانية في

13.09.2022

 
 
 
 
 

قراءة لـفيلم "موسيقانا " لجان لوك جودار

بقلم صلاح هاشم

عن كتاب " السينما الوثائقية.تجارب ودروس " لصلاح هاشم .الصادر عن المركز القومي للسينما.مهرجان الإسماعيلية السينمائي الدورة 19 لعام .2017

من أهم وأبرز الأفلام التي خرجت للعرض حديث في فرنسا فيلم "موسيقانا" للمخرج والمفكر السينمائي الكبير جان لوك جودار( من مواليد 1930)، وكان الفيلم ،عرض خارج المسابقة الرسمية في مهرجان "كان" السينمائي الدولي 57 ، بمناسبة" تكريم" مخرجه، الذي أخذ شكل عرض مشهد بارز من أحد أفلامه، وذلك قبل عرض الفيلم المشارك في مسابقة المهرجان عام 2004

يحكي جودار في ” موسيقانا” عن مأساة فلسطين من خلال حكايته عن مدينة سراييفو ومأساة الحرب، اذ يعود في فيلمه الي المدينة التي كان زارها قبل و اثناء الحرب، يعود اليهامن جديد، لكي يتفقد أعمال البناء والعمران، ونهوض المدينة من كبوتها، وهي تتطهر من أدران الدمار والخراب الذي لحق بها ،بعد انتهاء الحرب الاهلية الدموية ، و قد قامت كي تعيد تشييد ذلك الجسر فوق نهر موستارالذي كان يربط بين ضفتين وعالمين متنازعين، وكان الجسر كما هو معروف، رمزا قبل نشوب الحرب، لقيم التسامح والتآلف، والسلام والمحبة مابين البشرعلي اختلاف عقائدهم ودياناتهم من أهل المدينة، ويكشف لنا جودار في فيلمه عن تضافر الجهود في عملية ترميم جسر موستارMOSTAR، بمشاركة عالمية، تطلبت خبرات و مجهودات فائقة في جمع أحجار الجسر، وانتشالها من قاع النهر ، ثم ترتيبها وترقيمها قبل ترميمها، واستخدامها ذات الاحجار مرة اخري في تشييده من جديد في سراييفو الحزينة..

غير ان ترميم الجسر كما يشرح لنا جودار في فيلمه، اذا كان ينفع مع الحجر، لاينفع مع البشر، فلا يمكن ترميم ضحايا الحروب، الذين رحلوا عن عالمنا، وأعادتهم الي الحياة من جديد، بعدما صارت الحروب آفة عالمنا في كل مكان، في سراييفو والعراق وفلسطين، ولذلك يكرس جودار فيلمه لكي يكون درسا سينمائيا بليغا، في تحليل وتشريح عالمنا المعاصر، بأزماته ومشكلاته وتناقضاته وحروبه، ويقسم فيلمه الي ثلاثة اجزاء أو ممالك، يطلق عليها تباعا” الجحيم” ثم ” المطهر” ثم ” الفردوس”، علي نسق قصيدة ” الكوميديا الالهية ” للشاعر الايطالي العظيم دانتي اليجيري.

يقصفنا جودار في ” الجحيم” –الجزء الاول-ويستغرق عرضه بين7و8 دقائق، يقصفنا بصور الحروب المرعبة، ومن دون ان تخضع هذه الصور لاي ترتيب زمني او تاريخي، فنشاهد طائرات ودبابات وسفن تقصف وتدمر، ونروح نتأمل في المنظر الطبيعي الذي تحول الي أرض خراب بفعل الدمار ومشاهد تنفيذ احكام الاعدام في البشر ، وخروج السكان والحشود البشرية وهروبها من النيران، ويمزج جودار في هذا الجزء بين الصور بالابيض والاسود والصور الملونة الوثائقية المأخوذة من أرشيف الحروب وكوارثها، وتصاحب الصور 4 جمل مكتوبة علي الشاشة، واربع قطع موسيقية علي البيانو في الخلفية، وتظهر لنا في ذلك الجزء صورة هذا ” الوحش” الرهيب الذي يسكن داخلنا..

في حين يحكي جودار في ” المطهر” –الجزء الثاني- ويستغرق عرضه حوالي الساعة، يحكي عن مدينة سراييفو في الوقت الحاضر، بمناسبة دعوته للمشاركة في لقاء من لقاءات الكتاب الاوروبي كان عقد في المدينة، وكان موضوع اللقاء يدور حول ” ضرورة الشعر”، فينتهز جودار فرصة اللقاء ويدعو الشاعر الفلسطيني محمود درويش، للظهور والتمثيل في الفيلم، لكي يناقش من خلال حوار صحفية اسرائيلية معه ، حضرت لتغطية اللقاء، يناقش معها في اطار الحديث عن ” ضرورة الشعر” ضرورة وجود الانا و” الآخر” ، ضرورة وجود الصورة ونقيضها، ضرورة وجود اسرائيل وضرورة وجود فلسطين ايضا، وحقها المشروع في الوجود والحياة، ويلخص لنا جودار في الفيلم قضية فلسطين بضربة معلم في صورتين، اذ يرينا اليهود في صورة وهم يعبرون البحر الي الشاطيئ الفلسطيني، الا ان هذه الصورة وحدها هكذا في المطلق لاتقول شيئا، لابد من الصورة ونقيضها، ثم يرينا جودار صورة اخري للفلسطينيين وهم يخوضون في مياه ذات البحر، هربامن بطش اليهود ويغرقون فيه، ويقول جودار عن الصورتين في محاضرة له مع الطلاب الذين يدرسون السينما في ” اكاديمية الفنون” بالمدينة، معلقاعليهما، ان الباب الذي دخل منه اليهود الي فلسطين ،هو ذات الباب الذي شهد خروج ونزوح الفلسطينيين الكبيرعن بلادهم ووطنهم، و يضيف جودار معلقا: هكذا عبر اليهود البحر ودخلوا السينما الروائية، بينما عبرالفلسطينيون البحر ودلفوا الي السينما الوثائقية ” كاشفا بذلك عمن يكون الجلاد في القضية، ومن يكون الضحية، جامعا بين مشاعرالاحساس بالذنبCULPABILITE ومشاعر الغفرانPARDON، في لقطة واحدة من فيلمه، ..لقطة واحدة ينهي بها جودار الجدل القائم، معلنا عن موقفه من قضية الشعب الفلسطيني، وانحيازه الي حقوقه الشرعية في الوجود والحياة، ويقول جودار انه عثر علي صورة الفلسطينيين المذكورة في كتاب ” فلسطينيون ” PALESTINIENS للكاتب الفلسطيني الياس صنبر، الذي يحتوي علي مجموعة كبيرة من الصور التاريخية للحياة في فلسطين قبل ” النكبة” وبعد اخراجهم بالقوة من بلادهم ووطنهم..

ويظهرفي الفيلم الكاتب الروائي الاسباني الكبير خوان جويتسلو، لكي يردد مقاطع من كتابه ” حالة حصار” الذي كتبه اثناء تواجده في حصار سراييفو، ويحضر ايضا “هنود امريكا” في الجزء الثاني من الفيلم ، كمعادل موضوعي، لمأساة الفلسطينيين، وغربتهم في وطنهم تحت الاحتلال، وتهبط جملة علي الشاشة – حين يظهر الهنود الحمر في سراييفو، هكذا فجأة بملابسهم التقليدية- تقول ” سوف ندفن أيامنا في رماد الاساطير

وينهي جودار فيلمه في الجزء الثالث بعنوان ” الفردوس”، ويستغرق عرضه حوالي 10دقائق، ينهيه بفتاة تتجول داخل الفردوس أو ” جنة ” جوادر، وكما يتمثلها، علي شكل حديقة غناء بجوار شاطيء بحيرة من نوع البحيرات التي تظهر في الصور االتي تمجد الطبيعة، ” جنة” نروح نتمشي فيها علي مهل، مثل تلك الفتاة، بين الزهور، واشعة الشمس الذهبية تتخلل اوراق وفروع الشجر، ونحن نستشعر سعادة لاندرك كنهها، ثم اذا بنا فجأة، نعثر علي جندي مشاة أمريكي من قوات المارينز يجلس هناك، اللعنة!، ولاتسل يامؤمن ماذا يفعل هنا، فهو حتما كما يقول لنا جودار سوف يكون هناك لحراسة ” جنة ” جودارفي المستقبل وشوارعها، اجل امريكا ” شرطي” العالم سوف تكون ايضا هناك، في ” جنة” جودار، وربما ايضا في ” جنتنا” ، واذا كان لابد من شرطي لحراسة شوارعها، فسوف يكون بالقطع امريكيا، ويقول جودار ان البعض قالوا ، حين اظهر صورة ليهودي في معسكر اعتقال، وكتب تحتها” يهودي”، ثم اظهر صورة اخري لجثة بجوار اسلاك المعسكر ، وكتب تحتها ” مسلم ” في الفيلم، وكان جودار كشف عن الصورتين، ليوضح ان السينما لايمكن ان تقوم وتكتمل، الا من خلال عرض الصورتين معا والكشف عن التناقض بينهما، وذلك في نطاق شرحه لمعني ” المجال” اي حدود الصورة أو الصورة CHAMPوعكسها او الصورة المناقضة لهاCONTRE-CHAMP والمقصود به في السينما،..

قالوا ياله من شيء مقرف حقا، لأن تاريخ فلسطين ليس تاريخ “هولوكوست” اليهود وهلاكهم ، وتساءلوا، كيف يجرؤ جودار علي وصف ماوقع للفلسطينيين علي يد لليهود، بذلك الهلاك ( الهولوكوست) الذي وقع لليهود علي يد النازي، ولاسبيل في رأيهم للمقارنة. لكن جودار كما يضيف، رد علي هؤلاء بقوله :” لقد كتبت كلمة ” مسلم ” تحت جثة اليهودي، لأن حراس المعسكر النازي، كانوا يهينون اليهود، ويطلقون عليهم وينادونهم باسم ” يامسلم ” آنذاك ، ثم ماذا يريد اليهود، أو لم تكن هوليوود تدعي “مكة” السينما في العالم؟..

فيلم جودار الذي لايسرد علينا قصة ولايوجع دماغه في تلخيص احداثها، ينتمي الي النوع السينمائي الخالص المصفي، مثل قصيدة من قصائد الزن التي تنطق بالحكمة، ومن دون ” تصريحات” فجة او” هتافات” مزعجة، قصيدة فلسفية تأملية عميقة، تطرح عدة تساؤلات، ثم تمضي في سلام، مثل قارب، وتتركنا مأخوذين ومدهوشين بفنها وسحرها، وهي تدلف الي مياه بحر السينما الكبير، وتمتزج بدمنا..

تحية الي جودار وفيلمه الشجاع الفلسفي العميق المحفز للتفكير والجدل، الذي يضع قضية فلسطين تحت المجهر، أمام ضمير العالم، ويستحق المشاهدة- أكثر من مرة- عن جدارة.

 

سينما إيزيس في

13.09.2022

 
 
 
 
 

الرصاصة قرب الأذن: بيانٌ لجان لوك غودار نشرته جريدة "فتح" عام ١٩٧٠

رمان الثقافية

بهذه الطريقة يمكن أن يصبح الأدب كما كان يريد لينين، جزءاً صغيراً حياً في جهاز الثورة، أي باختصار عدم إظهار فدائي مصاب، لكن كيف تساعد هذه الإصابة الفلاح الفقير، وحتى نصل إلى هذه الغاية، فإن الطريق شاق وطويل لأنه منذ اختراع الفوتوغرافيا، صنعت الإمبريالية أفلاماً حتى تمنع الذين تضطهدهم من عملها، صنعت صوراً لتزييف الواقع بالنسبة للجماهير التي تضطهدها.

نشر جان لوك غودار في جريدة "فتح" عام ١٩٧٠، خلال تصوير فيلم "حتى النصر" الذي تحول في ما بعد إلى "هنا وهناك"، بياناً من وحي تجربته الفلسطينية، ننشر في "رمّان" البيان الذي سيشمله كتابٌ يصدر قريباً بدعم من مؤسسة "فيلم لاب فلسطين"، بمناسبة الدورة التاسعة من مهرجان "أيام فلسطين السينمائية":

فكرنا أنه من الأصح سياسياً أن نأتي إلى فلسطين من أن نذهب إلى مكان آخر، إلى الموزامبيق أو كولومبيا أو البنغال، فالإمبريالية الفرنسية والبريطانية كانت تستعمر الشرق الأوسط مباشرة (اتفاقية سايكس – بيكو) ونحن مناضلون فرنسيون، من الأصح لنا أن نأتي فلسطين لأن الوضع معقد ومختلف، ثمة تناقضات كثيرة، والوضع أقل وضوحاً مما هو في جنوب شرق آسيا، نظرياً على الأقل.

بالنسبة لنا كمناضلين في مجال السينما حالياً، فإن المهام الملقاة على عاتقنا ما زالت نظرية، فنحن لا نزال في مرحلة الاعتقاد بأن التفكير بشكل مختلف يصنع الثورة، وبهذا فنحن متأخرون عشرات السنوات عن أول رصاصة أطلقتها العاصفة.

قال ماوتسي تونغ: إن الرفيق الجيد يذهب حيث الصعوبات وحيث التناقضات أكثر حدة. نحن نريد أن نعمل دعاية للقضية الفلسطينية، بالصوت والصورة، في السينما وفي التلفزيون وأن نعمل دعاية يعني أن نطرح المشاكل، والفيلم هو بساط طائر يمكن أن يذهب في كل مكان، وهو عمل سياسي، وليس في ذلك أي سحر، يجب أن ندرس وأن نبحث وأن نسجل هذا ثم نعرض النتيجة (المونتاج) على مناضلين آخرين، أن نعرض مقاتلات "فتح" على أخواتهن مناضلات "الفهود السود" اللواتي تطاردهن ف. ب. أي تصوير الفيلم سياسياً وعرضه سياسياً وتوزيعه سياسياً، أمر طويل وشاق. إنه يعني حل مشكلة ماثلة كل يوم، العثور على فدائي، على كادر، على مقاتلة، وترى معهم كيف تضع صوراً وأصواتاً لنضالهم، وتقول للفدائي: "سأصورك وأنت تطلق رصاصة العاصفة الأولى"، وأن تعرف أي صورة تضعها في البداية، وأي صورة بعدها، حتى يكون للمجموع معنى ثوري وأيديولوجي يساعد الثورة الفلسطينية والثورة العالمية، كل هذا طويل وشاق لا بد من معرفة ماهية السينما... ومعرفة "فتح" والإعلام في "فتح"، والتناقضات مع بقية المنظمات. "فتح"، مثلاً، تناضل ضد الإمبريالية الأميركية، لكن الإمبريالية الأميركية هي أيضاً جريدة "نيويورك تايمز" وC.B.S، نحن نناضل ضد C.B.S و"نيويورك تايمز"، هناك عدد كبير من الصحافيين الذي يعتقدون صادقين أنهم من اليسار ولا يناضلون، و"نيويورك تايمز" يعتقدون أنهم يساعدون "فتح" في نشر مقالة في الصحافة البرجوازية، لكنهم لا يناضلون، "فتح" هي التي تناضل وتعمل، ومناضلو "فتح" هم الذين يموتون، يجب إدراك هذا جيداً في الأدب وفي الفن ليتم النضال على الجبهتين السياسية والفنية، إنها المرحلة الحالية، ويجب أن نتعلم كيف نحل التناقضات بين هاتين الجبهتين، في الجريدة اليومية التي تصدرها "فتح"، لا نزال نرى الكثير من صور القادة والقليل من صور المقاتلين، يجب أن نرى أين يكمن هذا التناقض وكيفية حله، وهذه ليست مشكلة فنية تتعلق بتوضيب الصفحات، إنها مشكلة سياسية في المجال الأيديولوجي (الصحافة) يجب أن نتعلم كيف نقاتل العدو بالأفكار وليس فقط بالبندقية، الحزب هو الذي يوجه البندقية وليس العكس، إن تعقيد المسألة الفلسطينية مرتبط بصعوبة تكوين الحزب (كما في فرنسا) وتتميز "فتح" برفضها إطلاق اسم حزب أو جبهة عليها، إنها تعني أن تقول للمسلم: لا تتخلَّ عن أفكارك ومعتقداتك ولكن اترك منظمتك وانضم إلى صفوفنا، منظمة "فتح" ليست في حاجة إلى أن تكون ماركسية بالكلمات والشعارات لأنها ثورية بالأعمال والأفعال، إنها تعرف أن الأفكار تتغير أثناء الممارسة وأنه كلما طالت المسيرة إلى تل أبيب؛ تغيرت الأفكار التي ستسمح في النهاية بالقضاء على دولة إسرائيل.

جبهة سياسية وجبهة فنية

جئنا إلى هنا للدراسة والتعلم واستخلاص الدروس، وإذا أمكن تسجيل دروس ننشرها بعد ذلك هنا أو هناك في أي مكان في العالم. منذ عام جاء رفيقان من مجموعتنا لعمل تحقيق مع الجبهة الديمقراطية وآخر مع "فتح"، وقرأنا النصوص والبرامج، وبوصفنا فرنسيين ماويين قررنا عمل الفيلم مع "فتح" وأطلقنا عليه عنوان "حتى النصر"، لقد تركنا الفلسطينيين يقولون خلال الفيلم كلمة "الثورة"، لكن الاسم الحقيقي للفيلم هو "منهج تفكير وعمل حركة التحرير الفلسطينية".

المناقشات مع الرفاق في الجبهة الديمقراطية تشبه إلى حد كبير المناقشات مع الرفاق في باريس، لم نتعلم منهم شيئاً جديداً ولا هم تعلموا منا. مع "فتح" كان الوضع مختلفاً، من الصعب الحديث مع أحد القادة عن الصورة الواجب إعطاؤها عن الثورة الفلسطينية، والصوت الذي يجب أن يصاحب هذه الصورة (أو يناقضها)، لكن هذه الصعوبة أمر إيجابي في حد ذاته، لأنها تطرح بشكل مادي التناقض بين النظرية والتطبيق، أي بين الجبهة السياسية والجبهة الفنية، وعندما وصلنا إلى عمّان قالوا لنا: "ما الذي تريدون مشاهدته؟". قلنا: "كل شيء". ورأينا الأشبال وتدريب الميليشيا والقواعد في الجنوب والشمال والوسط، شاهدنا مدارس الشهداء، ومدارس الكوادر والمستشفيات، قالوا لنا: "ما الذي تريدون تصويره الآن؟". قلنا: "لا نعرف". قالوا: "كيف لا تعرفون؟" قلنا: "لأننا نريد أن نتكلم معكم". أي أن نتدارس الأمر معكم، إنكم لا تملكون ذخيرة كثيرة لمدافعكم ونحن أيضاً ليس لدينا الكثير من الصورة والأصوات، إن الإمبريالية (هوليوود) قد أتلفتها وحطمتها، لذلك يجب ألا نسرف في استعمالها (الصوت والصورة) لأنهما ذخيرة أيديولوجية ويجب أن يتعلم السينمائي استخدامها لقتل ومحاربة أفكار العدو، ولهذا فنحن بحاجة إلى أن نتحدث معكم، قالوا "حسناً، ومع من تريدون أن تتحدثوا؟". قلنا: "مع أبو حسن". لم نكن نعرف من هو، لكننا كنا قد قرأنا مقالاً له في العدد الأول من "فدائي" وتحدث معنا سياسياً، وقال على سبيل المثال: "جيش الشعب ليس أجهزة الرادار الحديثة وإنما هو عشرة آلاف طفل بمنظار مقرب وتوكي - ووكي". هذه صورة ثورية... نرى على الفور أن الجيش المصري ليس جيش الشعب، فبدلاً من 10 آلاف طفل هناك عشرة آلاف مدرب سوفييتي.

الرصاصة قرب الأذن

كان أبو حسن يقول أيضاً: "إن الرصاصة الأولى للعاصفة لا بد أن تطلق بجانب الآذان أي آذان الفلاحين ليسمعوا صوت تحرير الأرض". هذا صوت ثوري، وهذه مناقشة تسمح بإقامة علاقة سياسية بين الصوت والصورة بدلاً من عمل صور "حقيقية" لا تعني شيئاً ولا تقول شيئاً لأنه ليس لديها شيء لتقوله، شيء لا نعرفه من قبل وما هي فائدة تكرار الأشياء التي نعرفها سابقاً؟ على أي حال، ليس للثورة التي تبحث عن الجديد وراء القديم، فهذا يتطلب وقتاً كما أنه شاق وطويل، لكن لماذا لا يقابل فيلم عن الثورة الفلسطينية الصعوبات التي تواجه هذه الثورة؟ لماذا يعرض هذا الفيلم في التلفزيون الأميركي؟ هل تسيطر منظمة فتح على شبكة التلفزيون الأميركية؟ لا، إنها لا تسيطر حتى على صالات السينما في عمّان، لكن كل مساء تعمي القاذورات الأميركية عيون الجماهير.

لحسن الحظ، وبفضل أزمة حزيران تمكنت القيادة العامة الموحدة من أن تفتح عيون الجماهير في صباح اليوم التالي على جريدة يومية تصدرها أن مشكلة الإعلام الثوري مهمة للغاية، نقول رؤية التناقض بين هذه المهمة الثانوية والمهمة الأساسية للثورة، وهي هنا النضال المسلح ضد إسرائيل، ويجب أن ندرك أنه في لحظة معينة وفي مكان محدد يمكن للثانوي أن يصبح رئيساً، هذا هو ما نطلق عليه الصراع السياسي لعملية إخراج فيلم سياسي، إنه ليس فقط بإجراء حديث مع حبش أو عرفات أو حواتمة، وليس فقط بعض صور جميلة لأشبال يجتازون حواجز من النار المشتعلة، لكن بعلاقات بين الصور وعلاقات بين الأصوات وعلاقات بين الصور والأصوات تشير إلى التفاعلات داخل الثورة الفلسطينية وبين النضال المسلح والعمل السياسي.

إن كل صورة وكل صوت، وكل تركيبة لصور وأصوات هي لحظات من علاقات القوى، ومهمتنا تتلخص في توجيه هذه القوى ضد قوى أعدائنا المشتركين، وهم الإمبريالية، أي "وول ستريت والبنتاجون، والـ C.B.S ويونايتيد أرتيست... إلخ".

نحن نعتقد مثلاً أن منظمة "فتح" قد أصيبت بهزيمة في مجال الإعلام أثناء أزمة حزيران وفي ما يتعلق بالبلدان الرأسمالية الأوروبية عمن تتحدث التايمز أو اللومند أو لفيجارو؟ عن رد الجماهير على الاعتداءات القاسية؟ أو عن الدور الذي لعبته منظمة "فتح" وطريقة ردها من الناحية السياسية والعسكرية؟ لا، إن كل هذه الصحف والتلفزيونات والإذاعات الأوروبية الغربية فاضلت بين جورج حبش وياسر عرفات، مشيدةً بالأول أكثر من الثاني... إن مهمتنا كمناضلين ثوريين في مجال الإعلام هي أيضاً تحليل لماذا وكيف تجري هذه العمليات؟ أما بالنسبة للإمبريالية، فإنها كانت تسعى لا لتحطيم الوحدة المزمع إقامتها بين المنظمات الفلسطينية المختلفة، وإنما إلى إفساد معنى الثورة الفلسطينية وتضليل الجماهير الثورية في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، التي ترى أن الثورة الفلسطينية مثل الثورة الفيتنامية خميرة ثورية ثمينة. إن نصاً مثل "حوار مع فتح" الذي كتبه أبو إياد لم يترجم إلى الآن للفرنسية، وهذا أمر خطير... ورغم أن هذه الهزائم قد تعتبر ثانوية فإنه يجب باسم الصدق الثوري تحليلها كهزائم بالتتابع، نضال ثم فشل ثم نضال جديد، ثم فشل جديد ونضال جديد حتى النصر، هذا هو منطلق الشعب، كما يقول الرفاق الصينيون، وإنه منطلق الشعب الفلسطيني أيضاً في حركة تحرره القومي تحت قيادة منظمة "فتح"، وهذا هو ما نحاول تقديمه في فيلمنا هذا، والسؤال الآن أين سيعرض هذا الفيلم؟ إن هذا يتوقف على الوضع الحالي للنضال، فقد يعرض في أحد شوارع القرى في جنوب لبنان فنشد ملاءة بيضاء بين نافذتين أو عمودين ونعرض الفيلم، أو أمام طلبة في "بيركلي" أو وسط عمال مضربين في كردوبا أو ليون أو في مدرسة أميلكار كابرال، أي أنه سيعرض بوجه عام أمام العناصر المتقدمة سياسياً من الجماهير.. لماذا؟ لأنه يقدم قوى التحرير في لحظة النضال.

العلاقات بين الصور

يجب إذن أن يكون الفيلم مفيداً... (على المدى القصير أو الطويل) وأن تستخدمه عناصر أخرى من هذه القوى أثناء نضالها، أي في اللحظة التي يمكنه أن يخدم فيها نضالها، لنأخذ مثلاً: صورة فدائي يعبر نهراً ثم صورة فدائية من منظمة "فتح" تعلم اللاجئين في المعسكر القراءة والكتابة، ثم ثورة "شبل" يتدرب، ما الذي تعنيه هذه الصور الثلاث؟ منفردة ليس لها أي قيمة، وقد تكون لها قيمة عاطفية أو قيمة فوتوغرافية لكن ليس لها وحدها أي قيمة سياسية، كل واحدة من هذه الصور لا بد أن ترتبط بالصورتين الباقيتين حتى تكتسب هذه القيمة السياسية، وفي هذه اللحظة، فإن ما يصبح مهماً هو الترتيب الذي سيتم عرضها به، لأنها تشكل جزءاً من كل المفهوم السياسي، والترتيب الذي سيتم عرضها به يمثل الخط السياسي، إننا نسير على خط فتح، لذلك فإننا نرتب الصور هكذا: (1) فدائي في عملية. (2) فدائية تعلم القراءة. (3) أطفال يتدربون. ويعني هذا: (1) النضال المسلح. (2) عمل سياسي. (3) حرب شعبية طويلة الأمد.

إن الصورة الثالثة هي حصيلة الأولى والثانية، إن النضال المسلح + العمل السياسي = حرب شعبية طويلة الأمد ضد إسرائيل، إنها أيضاً الرجل (الذي بدأ القتال) + المرأة (التي تتحول وتصنع الثورة)، التي تلد طفلاً سيحرر فلسطين يوماً ما (جيل النصر)، لا بد من إظهار لماذا وكيف، ولا يمكن تصوير الطفل الإسرائيلي بالطريقة نفسها، الصور التي تقدم صورة لطفل صهيوني ليست هي صور الطفل الفلسطيني نفسه، يجب في الحقيقة عدم التحدث عن الصور وإنما عن العلاقات بين الصور.

عملاء هوليوود

الإمبريالية هي التي علمتنا أن نعتبر الصور في ذاتها، هي التي جعلتنا نعتقد أن الصورة هي واقع، بينما الصورة لا يمكن أن تكون سوى وهم، لأنها في نهاية الأمر صورة، إنها انعكاس صورتك في المرآة، ما هو واقعي هو أنت أولاً، ثم العلاقة بينك وبين هذا الانعكاس الوهمي، ما هو واقعي بعد ذلك هو العلاقة التي تقيمها بين هذه الانعكاسات المختلفة وذاتك، أو بين مختلف هذه الصور ونفسك، إنك تقول مثلاً أنا جميل أو يبدو أني مرهق، لكن بقولك هذا فإنك لا تصنع سوى إقامة علاقة بين عدد من الانعكاسات، واحد منها وأنت تبدو مستريحاً والآخر وأنت مرهق، تقارن وتقيم علاقة، ولذلك فيمكنك أن تستخلص ما يلي: "يبدو أني مرهق"، العمل السياسي في الفيلم هو إقامة هذا النوع من العلاقات السياسية لحل المشاكل السياسية، أي على صورة عمل ونضال فعليين. وبالفعل، فإن الإمبريالية وهي تعمل على جعلنا نؤمن بأن صور العالم واقعية بينما هي وهمية، فإنها تسعى إلى منعنا من عمل ما يجب عمله. إن إقامة علاقات حقيقية (سياسية) بين هذه الصور وهي صورة شبل يتدرب وصورة فدائي يعبر نهراً هي الحقيقة الثورية الوحيدة لأنها تثير مسألة السلطة وتتابع هذه الصور كما وضعناها وتعلن أن السلطة على فوهة البندقية. إن الإمبريالية تريد أن تكتفي بتصوير فدائي يعبر نهراً أو فلاحة تتعلم القراءة أو شبل يتدرب. الإمبريالية ليست ضد كل هذا، فهي تصنع كل يوم مثل هذه الصور (أو يصنعها عملاؤها) كما تذيعها في البي. بِي. سي. وفي مجلات لايف والاكسيرسو وخلافه، ومن ناحية أخرى توجد وكالة الغوث L'U.N.R.W.A (للمعدة) كما توجد هوليوود وأتباعها من اللبنانيين والمصريين. السينما الإمبريالية علمتنا ألا نقيم علاقات بين الصور الثلاث التي تحدثنا عنها، أو أن نفعل ذلك لكن بترتيب آخر حتى لا تتعارض ومخططاتها.

الأفكار والتناقضات

مهمتنا نحن المناضلين حالياً في مجال الإعلام المعادي للإمبريالية، هي أن نكافح بكل قوانا في هذا المجال، وأن نتحرر من سلسلة الصور التي فرضتها الأيديولوجية الإمبريالية من خلال أجهزتها المختلفة من صحافة وإذاعة وسينما وأسطوانات وكتب، إنها مهمة ثانوية نضعها نحن في المرتبة الأساسية، ونحاول من خلالها حل التناقضات الخاصة بها، فمثلاً ونحن نناضل على هذه الجبهة نصطدم كثيراً بعدد من الرفاق. إن هؤلاء الرفاق هنا في منظمة "فتح" مثلاً لديهم أفكار متقدمة وسليمة عن الجبهة الرئيسة للنضال المسلح، لكن أفكارهم أقل صحة بالنسبة للجبهة الثانوية أي الإعلام، وبالنسبة لنا يجب أن نتعلم حل هذه التناقضات كما لو كانت تناقضات نابعة من وسط الشعب، فليس هناك تناقض بيننا وبين العدو، فإن صنع صور متناقضة يدفع إلى التقدم على طريق تحليل هذه التناقضات، وهنا بعد أن طرحنا مسألة إنتاج هذه السلسلة من الصور (إذا أخذنا المثال نفسه، يمكننا أن نطرح الآن وبشكل أكثر دقة وبشكل سياسي مسألة عرض هذه الصور، وحيث إن بين هذه الصور علاقات حقيقية (متناقضة)، وبسبب هذه العلاقة الواقعية، فإن الذين سيرون ويسمعون هذه الصور سيكون لهم كذلك علاقة حقيقية معها، ومشاهدة الفيلم ستكون لحظة حقيقية من حياتهم وواقعهم، وهي حقيقة سياسية هذه المرة، فبوصفك فلاحاً مضطهداً، أو عاملاً في إضراب أو طالباً في ثورة، أو فدائياً أمام الكلاشينكوف.. سنقول لك (ليسقط الاستعراض ولتحيا العلاقات السياسية الحقيقية).

الأسنان والشفاه

بهذه الطريقة يمكن أن يصبح الأدب كما كان يريد لينين، جزءاً صغيراً حياً في جهاز الثورة، أي باختصار عدم إظهار فدائي مصاب، لكن كيف تساعد هذه الإصابة الفلاح الفقير، وحتى نصل إلى هذه الغاية، فإن الطريق شاق وطويل لأنه منذ اختراع الفوتوغرافيا، صنعت الإمبريالية أفلاماً حتى تمنع الذين تضطهدهم من عملها، صنعت صوراً لتزييف الواقع بالنسبة للجماهير التي تضطهدها. إن مهمتنا هي تحطيم هذه الصورة واستخدام وتعلم عمل صور أخرى أبسط، لخدمة الشعب وحتى يستخدمها الشعب بدوره، والقول إن هذا عمل شاق وطويل يعني أن هذا النضال (الأيديولوجي) هو هنا جزء من الحرب الطويلة والممتدة التي يقودها الشعب الفلسطيني ضد إسرائيل. إنه يعني القول إن هذا النضال مرتبط بنضال جميع الشعوب ضد الإمبريالية وحلفائها، مرتبط مثل الأسنان والشفاه، مثل الأم وطفلها، مثل أرض فلسطين والفدائيين.

 

مجلة رمان الثقافية في

13.09.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004