ملفات خاصة

 
 

على عبد الخالق…

حياة تشـبه «أغنية على الممر»

علا الشافعى

عن رحيل المخرج

علي عبدالخالق

   
 
 
 
 
 
 

· «أغنية على الممر» تجربة ملهمة وفريدة في السينما المصرية.. أعطت دروسًا أهمها الرغبة في العمل والإخلاص والصدق

· حمل كاميراه على كتفه هو وأبناء جيله من جماعة «السينما الجديدة» وصرخوا: «سنقاوم ولن نتوقف»

· لم يستسلم لحظة لهزيمة يونيو.. وتسلح بالمقاومة بعد استيعاب الصدمة

كانت المقاومة بكل أشكالها هى سبيله الوحيدة إلى الحياة، وكان ذلك هو أهم درس يستخلصه كل من يقرأ أو يتعرف إلى مشواره السينمائى عن قرب… إنه المخرج الكبير على عبد الخالق (1944 - 2022)، أحد الحالمين من جيل ثورة يوليو، الذين تشكل وعيهم وعاشوا مرحلة الصبا والشباب مع الحلم الكبير، ونشوة الانتصارات، وكانوا جزءًا من تحولات مجتمعية كبرى، وكذلك عانوا وجع الانكسار.

..........................

لم يكن عبد الخالق واحدًا ممن استسلموا لتلك الحالة، بل عرف منذ اللحظة الأولى وبعد أن استوعب الصدمة، أن المقاومة هى السلاح الوحيد.. حمل كاميراه على كتفه، هو وأبناء جيله من جماعة «السينما الجديدة» الذين صرخوا جميعًا «سنقاوم ولن نتوقف».. وأعتقد أن مخرجنا المبدع الكبير صاحب الإنجازات المتنوعة ظل مقاومًا للحظات الأخيرة.

لا أعرف عدد المرات التى بكيت فيها كلما شاهدت فيلمه المتفرد البديع «أغنية على الممر» الذى أنتج عام 1972.. أتأمل تلك الحالة الإنسانية والسينمائية الخالصة.. تلك القدرة الباهرة لرواية الحرب والبشر من خلال هذا الممر الضيق الذى انعزل فيه خمسة جنود مصريين عن باقى الجيش المصرى بعد الانسحاب من سيناء فى حرب الخامس من يونيو 1967.. كيف عزفوا تلك الأنشودة الحزينة.. كيف كان ذلك الممر الضيق يشبه خشبة مسرح مليئة بالحركة والصخب والهدوء، وبنفس السلاسة نراه شريطًا سينمائيًا شديد الثراء والغنى..

عندما نقول إن الفيلم «متفرد» ليس فقط لتميزه على المستوى الدرامى والبصرى، ولكن لظروف إنتاجه وتفاصيل عرضه، فنحن أمام نص مسرحى للكاتب على سالم من فصل واحد.. ملامح أبطاله أقرب إلى أبطال الملاحم.. الظروف التى يجدون أنفسهم فيها هى أجواء ملحمية دون مبالغة.. خمسة جنود من أبطال الجيش المصري: محمود مرسى، ومحمود ياسين، وأحمد مرعى، وصلاح قابيل، وصلاح السعدنى، يجدون أنفسهم فى مواجهة العدو بعد أن تقطعت بهم سبل الاتصال.. لم تصلهم أوامر الانسحاب، فكان عليهم الصمود، رغم تناقص الماء والطعام والذخيرة.. وتحت قصف دبابات وطائرات العدو، يتمسك الجنود بمكانهم.. يواجهون مصيرهم.. يجدون أنفسهم فى مواجهة العدو، وكل ما يملكونه فى سبيل تلك المواجهة أرواحهم ودماؤهم يقدمونها طواعية وحبًا لأرض الوطن.. العدو يهدد ويتوعد وأحلامهم المنكسرة وأطياف حياتهم تتراءى لهم.. تشريح كامل للمجتمع وتساؤلات حول أسباب الهزيمة.. أفكار فلسفية حول الحياة والموت والتضحية والفداء، دون لحظة ملل واحدة.. إيقاع لاهث ولحظات من الصمت تضع أبطال العمل فى مواجهة مع أنفسهم وبعضهم البعض.. لحظات من الضعف الإنسانى المبرر فى تلك الظروف.. رغبة فى النجاة، وفى المقابل إصرار على المقاومة والتمسك بالأرض رغم إغراءات العدو، ولكنهم فى النهاية هم أبناء مصر الذين ينتمون لبيئات اجتماعية وثقافية مختلفة، ولكنهم لم يختلفوا أبدًا على دفع الثمن، والتضحية بأرواحهم ، فى المعركة الأخيرة التى يعرفون نهايتها الحتمية، خصوصًا عندما يرفض الشاويش محمد «محمود مرسي» الاستسلام قائلا: «ما بخدش أوامر من العدو».. تلك الوجوه الخمسة التى باتت تشبه صخور سيناء المقدسة، وكأنهم تماهوا معها وأصبحوا جزءا منها، فضلوا أن تروى دماؤهم تلك الصخور. سيناريو الفيلم الذى صاغه الكاتب المخضرم الراحل مصطفى محرم بشكل جديد ومختلف عما كان يقدم فى السينما المصرية والعربية فى ذاك الوقت، قام بالربط بين «الفلاش باك» وما يحدث داخل كهف الممر وخارجه.. التناقض ما بين حياة هؤلاء الأبطال الذين بدوا وكأن الزمن قد توقف بهم عند تلك اللحظة، والمجتمع الذى يسير بشكل عادى وطبيعى.. لم يختل إيقاع الفيلم لحظة واحدة، حيث كل الأحداث التى تدور زمنيًا فى ساعة ونصف الساعة، تسير بالتوازى، كاشفة للكثير عن حاضر هذه الشخصيات وماضيها.. هذا المونتاج المتقن والتمثيل الباهر، والصورة السينمائية المختلفة و»الكادرات «النابضة بالحركة، رغم سكون المكان، وزوايا الكاميرا وضيق الكادر فى تأكيد معنى حصار أبطاله، سواء الحصار المكانى أو النفسى.. معها شريط صوت شديد الغنى والإبداع، قياسًا لظروف السينما المصرية التقنية فى هذا التوقيت.. أيضًا من اختيارات على عبد الخالق الفنية والواعية.. إننا لم نر العدو فقط، بل سمعنا صوته المليء بالوعود تارة، أو الذى يقوم بالترهيب والتهديد. المفارقة أن فيلم «أغنية على الممر» يصنف كفيلم حربى نوعيًا، لكننا لم نر إبهارًا فى عدد الآلات الحربية والمعدات العسكرية، ولا أعدادًا ضخمة من الجنود، ولا أبطالًا خارقين.. فقط «بنى آدمين» يناضلون ويقاومون من أجل الوطن.. شاهدنا الحرب والمجتمع وتحولات ما بعد الهزيمة من خلالهم، ورغم تأكدهم من استحالة النصر، لم يفكروا سوى فى التضحية.

وإذا كان «أغنية على الممر» تجربة ملهمة وفريدة فى السينما المصرية، فإن ظروف إنتاجه أيضًا تعطينا دروسًا مهمة للغاية، أهمها الرغبة فى العمل والإخلاص والصدق لأنهما الطريق للسينما الحقيقية، حيث يذكر الكاتب مصطفى محرم فى كتابه «حياتى فى السينما» أن الفيلم «صادف عقبات إنتاجية فى مؤسسة السينما، ووقتها اقترح المخرج على عبد الخالق للخروج من هذا المأزق أن تقوم جماعة «السينما الجديدة «بإنتاجه، ودعم هذا الاقتراح الناقد سمير فريد، وأضاف أن يتم ذلك بمشاركة مؤسسة السينما، وتشارك الجماعة بأجور العاملين فى الفيلم، وقامت المؤسسة وقتها بتقديم قيمة تكاليف الفيلم، وتم دفع 25% من الأجور، ثم بدأت مع المخرج فى مقابلة الممثلين وترشيح الأدوار. والمفارقة أن الفنان الراحل أحمد مظهر كان مرشحًا لدور الشاويش محمد ولكنه رفض اعتراضًا على أن يقوم بإطلاق النار على العدو أحد أفراد الموقع وليس هو الضابط القديم فى الجيش والمعروف بفروسيته ودقة التصويب بالأسلحة». ويضيف محرم: «حاولنا أن نقنعه بأنه لا يمثل شخصيته، وإنما شخصية الشاويش محمد، ولكنه أصر على التغيير، فاعتذرنا له، ثم جاء الاختيار على محمود مرسى، ومحمود ياسين، وصلاح قابيل، وصلاح السعدنى، وأحمد مرعى، ووافقوا جميعًا، وتم دفع 400 جنيه لعلى سالم ثمنًا للمسرحية». تكلف الفيلم 19 ألف جنيه ــ بحسب تصريحات تليفزيونية سابقة للمخرج على عبد الخالق ــ حيث حكى عن كواليس فيلم «أغنية على الممر» مشيرًا إلى أنه كانت توجد سيارات إسعاف بجانب دور عرض فيلم أغنية على الممر، بسبب حالات الإغماء لتأثر الجمهور. لافتًا إلى أن أجور الفنانين فى فيلم «أغنية على الممر» كانت قليلة جدًا مقارنة بالوقت الحالى، مشيرا إلى أن الفنان محمود مرسى حصل على أعلى أجر فى فيلم أغنية على الممر وهو 4 آلاف جنيه، واستغرق عرض الفيلم فى سينما ديانا نحو 8 أسابيع بدعاية ضخمة من النقاد والكتاب، ولم يكتب عن فيلم مصرى فى تاريخ السينما مثلما كتب عن هذا الفيلم، حتى إن المقالات فى بعض الأحيان كانت تتصدر الصفحة الأولى من الجريدة، وأتى لمشاهدته وزير الحربية الفريق محمد صادق، وسيد مرعى، وعبد القادر حاتم، فى عرض خاص بسينما ريفولى، وحصل الفيلم على عِدّة جوائز محليّة ودولية أهمها جائزة مهرجان كارلو فيفارى الدولى. وصارت أغنيته « تعيشى يا ضحكة مصر أبكى.. أنزف.. أموت، وتعيشى يا ضحكة مصر.. وتعيش يا نيل يا طيب.. وتعيش يا نسيم العصر» التى كتبها الراحل عبد الرحمن الأبنودى، واحدة من أهم الأغانى الوطنية. ولن نبالغ إذا قلنا إنها صارت مرادفًا لمعنى الوفاء والتضحية.

 

الأهرام اليومي في

09.09.2022

 
 
 
 
 

على عبدالخالق صانع الحب والحرب والبهجة

كتب نسرين الزيات

منذ الصغر، كان حلمه أن يصير مخرجًا، تأثر بسينما «ألفريد هتشكوك»، بينما حبه لأفلام المخرج «عز الدين ذو الفقار» جعله مولعًا بالسينما.. جاء المخرج «على عبدالخالق» –الذى رحل فى الثانى من سبتمبر الجاري- من أسرة متوسطة، كانت مهتمة بالثقافة والأدب، وأيضًا السينما.

عقب تخرجه من مرحلة الثانوية، قرر الشاب «على عبدالخالق» دراسة السينما، وبالفعل تخرج منها قبل عام واحد من النكسة (1966). 

لم يكن الطريق ممهدًا فى السينما، مثل الكثيرين من أبناء جيله، لم تكن لديه الفرصة فى العمل بسهولة فى مجال السينما، فالمحظوظ منهم قد يعمل مساعد مخرج لكبار الأساتذة وكان وقتها يعتبر انتصارًا كبيرًا.

استمر حلمه بأن يصير مخرجًا، ويصنع أفلامًا لا ينساها الجمهور، وتظل على قيد الحياة.. ظل «عبدالخالق» خمسة أعوام لكى ينجز فيلمه الروائى الطويل الأول (أغنية على الممر) عام 1972، والذى تم تصنيفه ضمن قائمة أهم مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية.

كان رجلًا دمث الخلق، لم يهاجم أى أحد، فى الوقت الذى كان البعض من جيله دائم الهجوم على الأساتذة.. لم يعتد «عبدالخالق» على خلق حروب ورد الإساءة أو النقد السلبى على أى من أفلامه. من بين الحكايات التى يعرفها أبناء جيله، أن المخرج «حسن الإمام» كان قد شن هجومًا على فيلمه (أغنية على الممر) وقتها كان «على» شابًا لم يبلغ الثلاثين من عمره.. وقد التزم الصمت لما يقرب من عشرين عامًا، إلى أن قدم فيلمه (مدافن مفروشة للإيجار) وللمرة الأولى تتصدر صورة المخرج حسن الإمام أفيش الفيلم.. كان ذلك ردًا للسخرية من جيل لم يتذوق مرارة الهزيمة.

 ما بعد النكسة.. وجماعة السينما الجديدة

عقب النكسة، كان مثل غيره من رفقاء جيله، فى حالة من الصدمة والغضب، ظل خمسة أعوام لكى يصنع رائعته (أغنية على الممر) والذى استغرق تصويره عامين، وخلال الخمسة أعوام عقب التخرج من معهد السينما، والشعور بالهزيمة، خلق حالة من الغضب والإحباط، لذا كان من الصعب -وقتها- التعبير عن تلك الأفكار فى صور سينمائية، وقتها صنع عبدالخالق عددًا من الأفلام التسجيلية منها (السويس مدينتى)، والذى نال الجائزة الكبرى فى مهرجان «فيرساى للأفلام العسكرية» وقتها كان عبدالخالق شديد الفخر والسعادة، وفى رصيد أفلامه التسجيلية صنع 17 فيلمًا، أنجزها على فترات وسنوات خلال فترة عمله على أفلامه الروائية الطويلة.

عقب عام من نكسة 67، قام المخرج «على عبدالخالق» وعدد من أبناء جيله مثل: رأفت الميهى، وخيرى بشارة، ومحمد خان، وداوود عبدالسيد، بتأسيس جماعة السينما الجديدة عام 1968، وكان الهدف منها الرغبة فى إعادة توزيع ميزانية مؤسسة السينما، ليحصل الجيل الجديد من السينمائيين على فرصة لعمل أفلامهم. ضمّت جماعة السينما الجديدة والتى كان «عبدالخالق» من روادها، مخرجين شبان فى ذاك الوقت لم ينجزوا أفلامهم الأولى الطويلة. وكان أول إنتاج جماعة السينما الجديدة التى خرجت للنور هو فيلم (أغنية على الممر)

فى لقاء كان قد أجراه «عبدالخالق» قبل أشهر من وفاته لـ«روزا اليوسف» قال عن هذا الفيلم، إنه من أهم أفلامه وأكثر ما يعتز به فى تاريخى السينمائى، وقد جاءت فكرته بسبب الاستفزاز العالمى فى هذا الوقت بعد حرب 67، فالجيل الذى حضر هذه النكسة شعر بالمرارة الشديدة، فقد كان الجيل كله مؤمنا بالزعيم الراحل عبدالناصر الذى يعيش فى قلوبنا حتى الآن، وقد جاءت فكرة الفيلم حينما شاهد على غلاف مجلة التايم الإنجليزية صورة تصور مصر صحراء وبها جندى مصرى عار، لتصور هزيمتنا أمام الجيش الإسرائيلى، ففكر فى تقديم عمل يوضح الحقيقة ويؤكد أن الجيش المصرى لا يهرب أبدًا وجنوده نموذج للبطولة والبسالة على مر العصور ولديه بطولات عظيمة لابد من تجسيدها.

 من الهزيمة إلى سينما الواقعية 

كان لدى المخرج «على عبدالخالق» مفهومًا مختلفًا عن الواقعية فى السينما، تحدث عنه فى لقاء تليفزيونى نهاية الثمانينيات فقال: «الواقعية ليست أن تقوم كمخرج بتصوير الحارة الشعبية، لكن يجب أن يكون حقيقيًا، ويهم عددًا كبيرًا من جمهور السينما، ويخاطب عقول جميع الطبقات الاجتماعية المختلفة فى مصر.. لا يوجد افتعال، بمعنى آخر لا يحمل فيه التركيبات الدرامية غير المنطقية والمعقدة للشخصيات.. فكلما كان الفن جيدًا، وقريبًا للجمهور كلما كان أكثر واقعية». 

فى فترة الثمانينيات والذى كانت أعماله السينمائية أكثر كثافة، ركز «عبدالخالق» على صناعة أفلام تناقش قضايا اجتماعية تشغل الناس، وتعكس واقعًا ملموسًا لما كان يشغل المجتمع المصرى فى ذلك الوقت. بالإضافة للتغييرات التى طرأت على المجتمع عقب الانفتاح الاقتصادى، والتى ظهرت بشكل واضح فى فيلم (الحب وحده لا يكفى) 1980، وكذلك الفيلم الذى ناقش وقتها أزمة السكن (مدافن مفروشة للإيجار) عام 1986. لكن نجد معظم أفلامه مغلفة بطابع الكوميديا السوداء.

ومن بين القضايا التى كانت تشغله فى فترة الثمانينيات، تجارة المخدرات وتأثيرها على الشباب والمجتمع وجاء ذلك فى فيلم (الوحل) عام 1987، والبيروقراطية التى تواجه المواطنين فى منظومة العمل الحكومية فى فيلم (أربعة فى مهمة رسمية) عام 1987. وكان «على عبدالخالق» من أوائل المخرجين الذين ناقشوا قضية سرقة الأعضاء البشرية، وقدم تلك القضية فى فيلم (الحقونا) عام 1689، وفى نفس العام ناقش قضية التحرش بالفتيات فى الشارع المصرى، فى فيلم (اغتصاب) عام 1689، وفى فيلم (البيضة والحجر) عام 1990 قدم الصراع الذى كان سائدًا لفترة طويلة ولايزال حتى الآن هو الصراع بين الدجل والخرافات مقابل العلم والمنطق

هذا النوع من تناول مثل هذه القضايا فى سينما «على عبدالخالق»، ساعد كثيرًا فى غلق المسافات بين الجمهور وصانع الفيلم، بقربه بجدية وخفة من واقعهم الذين يعيشون فيه. وهذا ما جعل «عبدالخالق» واحدًا من أهم مخرجى جيل سينما الواقعية الجديدة

من الأفلام التجارية إلى ثلاثية الأخلاق 

فترة الثمانينيات كانت بمثابة الانطلاقة السينمائية الحقيقية للمخرج «على عبدالخالق». قدم فيها عددًا كبيرًا من الأفلام التى تناقش الحرب والجاسوسية والصراعات السياسية التى أعقبت حرب أكتوبر مثل فيلم (إعدام ميت) عام 1985، و(بئر الخيانة) عام 1987، والذى ناقش فيه عن قرب قصصًا حقيقية منها واحدة من واقع سجلات المخابرات المصرية.

أما ثلاثية (العار، الكيف، وجرى الوحوش) فهى الثلاثية السينمائية الشهيرة فى فترة الثمانينيات، أفلام مغلفة بصورة احترافية عالية، منسوجة بذكاء الحس التجارى، وبها محاولة لكسر جدية القضايا التى يناقشها

فى تلك الفترة، أطلق النقاد على تلك الأفلام الأشهر والأهم التى قدمها «على عبدالخالق» ثلاثية الأخلاق، والتى ركز فيها على مفهوم الحلال والحرام، الممنوع والمرغوب، والنتيجة لأبطال شخصياته تكون الجنون، وهو ما يعتبر إسقاطًا غير مباشر على الوضع الاجتماعى فى مصر، وانهياراته النفسية والاجتماعية

هكذا كانت سينما «على عبدالخالق»، وحتى الآن لا يمكن نسيان أى من أفلامه، التى مهما تكرر عرضها بعد سنوات على شاشات التليفزيون، إلا أننا جميعًا، نجلس متربصين أمام الشاشة، نشاهد سينماه بكامل الشغف، وكأنها المرة الأولى.

 

####

 

من خلال عيون 4 نقاد:

سينما «على عبدالخالق» التى حملت هموم الوطن والناس

كتب آية رفعت

«التمرد» كان السمة الأساسية التى ميزت أغلب أعمال المخرج القدير الراحل «على عبدالخالق»، فما بين أكثر من 47 عملاً سينمائيًا وتليفزيونيًا وتسجيليًا، استطاع «عبدالخالق» أن يصبح من أهم المخرجين الذين وضعوا بصماتهم بقوة فى تاريخ السينما المصرية.. وعلى الرغم من كونه ينتمى لجيل المخرجين الخارجين من رحم نكسة 67 فإنه استطاع أن يتماشى مع متطلبات مختلف العصور والأجيال المختلفة من الجماهير، ويحفر اسمه بقوة فى أفلام  تعتبر من أهم علامات السينما المصرية.

ومن بين أعماله الكثيرة رصدت «روزاليوسف» أهم 4 محطات فى تاريخه السينمائى والتى يقيمها النقاد بأن جرأة «عبدالخالق» السينمائية وإبداعه بتقديم الأعمال بسلاسة وحبكة درامية دون «فزلكة» هى التى جعلت هذه الأفلام تعيش طويلا وتشكل علامات فى تاريخ السينما وتاريخ نجومها أيضًا. قدم «عبدالخالق» عددًا كبيرًا من الأفلام الوطنية، خاصة أن بدايته الحقيقية كانت بعد نكسة 67 مباشرة، كما قدم أعمالاً عن الجاسوسية والخيانة للوطن وغيرها من الأزمات التى تزيد من ارتباط المواطن ببلده وزيادة حسه الوطنى وحبه وفخره بمصريته. ولعل أبرز تلك الأعمال الوطنية كانت أول أفلامه الروائية (أغنية على الممر) الذى استطاع من خلاله سرد العزيمة الخاصة بخير أجناد الأرض ضمن معركة من أصعب المعارك التى مرت بها البلاد خلال حرب الاستنزاف، ومثابرة وصمود الجندى المصرى بعد نكسة 67. ووصف الناقد الكبير «كمال رمزى» هذه الملحمة بأنها صعبة ومن الجرأة تقديم عمل وطنى بهذه الصيغة، قائلاً: «من أصعب أنواع الأعمال الوطنية حول العالم، هى الأعمال التى تتحدث عن (الهزيمة)، فبعد النكسة كان الجمهور لا يتحمل فكرة عرض عمل فنى يتحدث عن تلك الهزيمة أبدًا.. ولكن الكاتب «على سالم» قدم مسرحية بعنوان (أغنية على الممر) استقبلها الجمهور من مختلف المدن والنجوع والقرى بحفاوة شديدة لأنها تبرز مدى صلابة الجندى المصرى وعدم استسلامه لأى عدو ودفاعه عن وطنه حتى آخر قطرة من دمه». وأضاف «رمزى»: إن «عبدالخالق» قد التقط التفاف الجماهير حول هذه الملحمة المسرحية، فقرر تقديمها بشكل سينمائى، مما يدل على جرأته كمخرج ليكون هذا الموضوع الصعب هو أول أفلامه الروائية فى وقت كانت كل الأعمال السينمائية تبتعد عن تلك الأمور. وأسند البطولة لمجموعة متميزة من النجوم الكبار الذين استطاعوا أن يشاركوا بالملحمة، وقد حقق العمل نجاحًا باهرًا وأصبح علامة مميزة ليس فى تاريخ «عبدالخالق» فقط، بل فى تاريخ السينما المصرية. ويستكمل «رمزى»: إن ما يميز أعمال «عبدالخالق» والمنتمى لجماعة السينما الجديدة التى بدأت أوائل السبعينيات هو تمتعه بالروح الوطنية والهموم الاجتماعية، فهو و«رأفت الميهى» و«عاطف الطيب» والكاتب «بشير الديك» وغيرهم، كانوا كمجموعة قلبها ينبض بحب الوطن، ولعل مرورهم بفترة «الهزيمة والنصر» بعد حرب 1973 جعلتهم يرصدون التغيرات التى طرأت على المجتمع والتوابع على ذلك، ومنها بالطبع أفلام الجاسوسية مثل: (إعدام ميت)، (بئر الخيانة) وغيرهما، ولكن كلها نابعة من خلفية اجتماعية. وأكد «رمزى» أن سينما «عبدالخالق» كانت تتميز بخلوها من الشعارات، حيث يمكنه استخدام أدواته الفنية بدون (فزلكة) ويعتمد بشكل كبير على الأداء التمثيلى بدلاً من استعراض حركات الكاميرا غير المبررة، فكان لديه أسلوب احترافى فى الإخراج مكّنه من تطويع مختلف النجوم الكبار الذين عمل معهم.. بل استطاع أن يقدم لكل منهم دورًا مميزًا يذكره التاريخ مثل «محمود عبدالعزيز» و«نور الشريف» و«حسين فهمى» و«محمود مرسى» وغيرهم.. مضيفًا أن «عبدالخالق» كان معروفًا فى البلاتوه بأنه مخرج هادئ لا يستخدم أسلوب الضجيج، بل يقنع الممثل بما يريده فى هدوء شديد وبطريقة لبقة.

محمود عبدالشكور:

شكل مع «زكى» دويتو مميزًا

لا تنسى ذاكرة السينما ثلاثة أفلام من أفضل ما قدم المخرج على عبدالخالق مع النجم الكبير «أحمد زكى»، وهى: (4 فى مهمة رسمية)، (البيضة والحجر) و(شادر السمك).. ولكل عمل منها تيمته المميزة وموضوعه الخاص.

ولعل أكثر ما يميزها هو اجتماع «عبدالخالق» و«زكى» معًا، حسبما قال الناقد «محمود عبدالشكور»، حيث قال: إن كلاً منهما يمتلك تاريخًا إبداعيًا؛ فعندما اجتمعا معًا قدما أعمالاً مميزة مثلهما.. مضيفًا: إن الظروف لو كانت سمحت لتقديم المزيد لكانا قدما أعمالاً رائعة.

وأضاف قائلاً: «أكثر ما يميز ثلاثيته مع أحمد زكى هو إيمان عبدالخالق الكامل بقدرات زكى التمثيلية وتباينها، لذلك رشحه فى أدوار مهمة لكل منها طابعه الخاص، فنجده الرجل الفقير الذى يحارب ظروفه القاسية فى شادر السمك، ثم المدرس الذى يتحول إلى دجال كوميدى فى البيضة والحجر وأيضًا الكوميديا الاجتماعية 4 فى مهمة رسمية. فالأعمال الثلاثة تم تقديمها بشكل متقن وبإيمان مطلق بينهما».

كما وصف «عبدالشكور» هذه الأعمال بأن «عبدالخالق» يهتم بشكل عام بوضع كل ممثل بمكانه الصحيح وتوظيف كل الأدوات لإظهار الممثل وإبداعه، كما كان يتميز بالخلق الطيب فى التعامل مع فنانينه، لذلك كان يستطيع أن يتعامل مع كبار النجوم وتوجيههم وإخراج أفضل ما فيهم.. كما كان يتعمد استخدام العدسة الواسعة، أى أنه يظهر المحيط حول البطل.  

رامى عبدالرازق:

جيل المراجعات الاجتماعية

كان المخرج الراحل دائم التطوير من نفسه فيقدم كل الألوان المختلفة ويهرب من حبسه فى نوعية أفلام دونا عن غيرها.. وأكثر ما ميز مشواره الفنى فى فترة الثمانينيات، الثلاثية التى قدمها بصحبة الكاتب الراحل «محمود أبوزيد» وهى: (الكيف)، (العار) و(جرى الوحوش) والتى اهتمت بشكل كبير بإظهار مظاهر الفساد المختلفة فى المجتمع المصرى.

يعلق الناقد «رامى عبدالرازق» أن «عبدالخالق» ينتمى لجيل من المخرجين المهتمين بهموم المجتمع، وبالتالى اهتموا فى أعمالهم بالمراجعات الاجتماعية ورصد المشكلات فى حبكة درامية مشوقة. مضيفًا إلى أن هذه الأفلام لا توجد بها سلطة الدولة، ولكن تتميز بوجود سلطة الأب بشكل كبير خاصة تأثيره فى فيلم (العار) وغيابه فى (الكيف).. كما كانت للأبوة جانب كبير فى فيلم (جرى الوحوش) والذى دارت أحداثه بشكل أساسى حول الرغبة فى الإنجاب.

وأضاف قائلاً: «الأفلام الثلاثة تقريبًا كانت تحمل نزعة أخلاقية واضحة.. حيث يرصد التحولات التى تطرأ على المجتمع المصرى من خلال قصص مشوقة كتبت بعناية شديدة وجمل حوارية تُدرس.. بينما الثلاثية كانت تعرض فكرة الصدام مع المبادئ والأسس الأخلاقية، مما يؤدى فى النهاية إلى الخسارة، باستخدام نهايات تراجيدية بحتة بخسران الإنسان لنفسه وأسرته وماله.. بينما اهتم بشكل كبير فى أفلامه بالتعرض لشرائح المجتمع المختلفة».

وأنهى «عبدالرازق» حديثه بأن البعض اعترض على فكرة استخدام الجمل المباشرة فىa نهاية الأفلام الثلاثة سواء من آيات قرآنية أو أبيات شعرية، مؤكدًا أنها أضعفت الكثير من إتقان الفيلم الفنى، حيث إن النهايات كانت تراجيدية ومؤلمة بما يكفى لتوصيل رسالة العمل.  

علا الشافعى:

كان يطوع إبداعه مع تركيبات النجمات

يُعتبر «عبدالخالق» من أبرز مخرجى جيل الثمانينيات الذين استطاعوا أن يقدموا إبداعات مختلفة لأفلام نسائية بالدرجة الأولى، حيث قدم أعمالاً مع نجمات عديدات وكانت أغلبها تناقش قضايا اجتماعية تمس المرأة بشكل مباشر، حتى وإن اتسم بعضها برصد الفساد المجتمعى بشكل عام أو تم تقديمها بالتيمة التجارية التى كانت تسود فترة التسعينيات بشكل خاص، حيث قدم أكثر من عمل مع نجمات مثل «مديحة كامل» و«نبيلة عبيد» و«نادية الجندى» وغيرهن.

وعن تأثيره كمخرج على أفلام النجمات قالت الناقدة «علا الشافعى»: إنه استطاع أن يطوع تركيبات النجمات المختلفة وفقًا لإبداعه الخاص، أى أنه كان يقدم الأعمال بالشكل الذى يتناسب صمع طبيعة كل واحدة منهن، ولكن بطريقة إبداعية وتيمة إخراجية مميزة. وأضافت قائلة: «كانت بداية عبدالخالق السينمائية نفسها غير تقليدية، فهو بدأ من الأفلام التسجيلية ومع الوقت أدرك أنه لا ينتمى لنفس منظومة المخرجين المتواجدين على الساحة، ولكنه يمتلك أدواته الخاصة والتى مكنته من الجمع ما بين الأعمال التجارية والسينما الممتعة والتى تحتوى على قصة وتفاصيل.. بينما فى أعماله الفنية مع النجمات استطاع أن يقدم أعمالاً مختلفة حسب تركيبة كل نجمة منهن.. فـ«نبيلة عبيد» كان لهاa توجه معين و«نادية الجندى» كان لديها تيمات خاصة أيضًا».

وأضافت «علا» قائلة: «إنه استطاع ألا ينجرف لموجة الأفلام التى تحمل تيمة تجارية لجنى الإيرادات فقط، فهو استطاع  أن يمسك العصا من المنتصف ويحاول تحقيق  المعادلة الصعبة لكى يظل على الساحة ويقدم أعمالاً لا تقل من قيمته كمخرج».

كما قالت: إن أكثر سمة ميزت أفلام المرأة بالنسبة لـ«عبدالخالق» هى أن المرأة كانت تتسم بالقوة فى أفلامه، حتى فى الأعمال التى تعتمد على بطولات ذكورية مثل (4 فى مهمة رسمية).. كما تميزت بالتنوع فى مناقشة قضايا المجتمع المختلفة والتى تؤثر علينا مثل فيلم (اغتصاب) أو المواقف التى تضع الإنسان فى اختبارات اجتماعية مختلفة.. ولكن بشكل عام فإن «عبدالخالق» كان يحاول تقديم أعمال متقنة وممتعة فى الوقت نفسه.  

 

مجلة روز اليوسف المصرية في

11.09.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004