ملفات خاصة

 
 
 

أحمد عبدالله السيد (1/ 2):

أفضّل أنْ يكون ما لا يُقال أكثر مما يُقال

القاهرة/ أمل الجمل

القاهرة السينمائي الدولي

الدورة الرابعة والأربعون

   
 
 
 
 
 
 

أحد أبرز مخرجي السينما المستقلّة في مصر، في العقدين الأخيرين. جاء من عالم المونتاج والموسيقى. كان حلمه دراسة الإخراج، لكنّه لم يُقبَل بـ"معهد السينما"، فدرس الموسيقى، ثم مُنح فرصة المونتاج في مرحلة باكرة، فمَنْتَج أفلاماً عدّة، قبل إخراج أول فيلم له بعنوان "هليوبوليس" (2009)، تلاه "ميكروفون" (2010)، ونال جوائز عدّة من مهرجانات عربية ودولية. توالت أعماله لاحقاً: "فرش وغطا" (2013)، و"ديكور" (2014)، و"ليل خارجي" (2018).

فيلمه الجديد، "19 ب" (2022)، عُرض للمرة الأولى عالمياً في المسابقة الدولية للدورة الـ44 (13 ـ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، ونال بفضله 3 جوائز: "لجنة التحكيم ـ هنري بركات لأفضل إسهام فني"، الممنوحة لمدير التصوير مصطفى الكاشف، و"أفضل فيلم عربي" (قيمتها المالية 10 آلاف دولار أميركي)، و"الاتحاد الدولي للنقّاد ـ فيبريسي".

بهذه المناسبة، حاورت "العربي الجديد" المخرج المصري أحمد عبد الله السيد عن جديده، وعن السينما والفنون والحياة والواقع والمجتمع.

(*) يبدو لي "19 ب" مُخادعاً إلى حدّ ما. ربما يبدو بسيطاً، لكنّه يحمل طبقات عدّة من المعاني. قبيل عرضه العالمي الأول في "مهرجان القاهرة السينمائي"، قدَّمْتَه قائلاً إنّ الفكرة جاءتك أثناء انتشار "كوفيد 19"، فبدأتَ تتأمّل ذاتك في تلك العزلة. أيعني هذا أنّ الشخصيتين الرئيسيتين ربما تحملان أشياء منك؟

معك حقّ فعلاً. عندما كتبتُ الفيلم، استلهمتُ الفكرة من شخصٍ كنتُ أراه يومياً في الشارع. حاولتُ كتابة قصّة متخيّلة عن حياته. لكنْ، عندما نبدأ الكتابة، تدخل شخصياتنا في ما نكتب، ونعكس مخاوفنا وهمومنا. أناسٌ قريبون جداً منّي قالوا، بعد مشاهدتهم الفيلم، إنّ شخصية البطل فيها أشياء من شخصيّتي، وإنّه يُشبهني، رغم أنّ فيه أشياء كثيرة جداً لا أفعلها في حياتي، إذْ ليس لدي قطّة أو كلب، مثلاً.

لكنْ، رغماً عنّي، في الكتابة أُحمّل الأشياء والشخصية تفاصيل من حياتي وملامحي وروحي.

(*) إحساسي أنّ "19 ب" عن فكرة الخوف: خوف من أي شيء، أو من شخصٍ ربما نتصوّر أنّه لا يُهزم، بينما هو في الحقيقة ربما يكون ضعيفاً جدّاً من الداخل، وهشّاً إلى درجة إمكانية هزيمته، هو وكلّ ما يُمثّله، بأبسط الأشياء.

صحّ جداً. طبعاً.

(*) وهذا يُحيل إلى فكرة الديكتاتور.

لم أقصد هذا بشكل دقيق. لم أكنْ أرمي إلى فكرة السلطة وعلاقاتها بالآخرين. حقيقة، كنتُ أقصد شيئاً آخر: العلاقات بين البشر. هذا مهمومٌ به أكثر. كنتُ أتساءل: هل نحن قادرون على العيش، بعضنا مع بعض، باختلاف الثقافات والميول والعقائد والأفكار الفلسفية؟ كيف نستطيع أنْ يعيش بعضنا مع البعض الآخر؟ أودّ، مع نهاية الفيلم، أنْ يتساءل المتلقّي: هل كان لا بُدّ أنْ ننتهي هذه النهاية، أم كان من الأفضل أنْ يعيش الناس بعضهم مع بعض، وأنْ يتشاركوا مواردهم البسيطة والمحدودة جداً، التي بالكاد تستطيع منحهم القدرة على الحياة، حتى يعيشوا بسلامٍ؟ هذا كلّه يطرحه الفيلم، أكثر من علاقة الفرد بالقانون أو بالسلطة.

(*) لكنّك أنتَ أصلاً، بتقديمك شخصية البلطجي، التي يؤدّيها أحمد خالد صالح، لم تترك لنا فرصة التعاطف معه، وظلّ هذا مدة طويلة من الفيلم. تقريباً، في الثلث الأخير فقط، بدأنا نتعاطف معه، تحديداً في مشهد الاعتراف، الذي يتعرّى فيه نفسياً، كاشفاً عن ضعفه الداخلي، وعن قلّة حيلته، في مشهد النار المشتعلة للتدفئة، بجوار سيد رجب، فندرك أنّ هذا الجبروت مجرّد قشرة هشّة، يحمي بها ضعفه. لكنْ، طوال الفيلم، أنت تجعلنا ضدّه، إذْ ما الذي يدفعنا إلى التعاطف معه، أو إلى التفكير في إمكانية أنْ يتشارك مع هذا الرجل حياته أو موارده البسيطة. على العكس، شخصياً وجدته، في أغلب المشاهد، تجسيداً للقهر، لأنّه يُسبّب للعجوز حارس العقار نوعاً من الخوف والقلق والأرق.

قرأتِ الفيلم بهذا الشكل؟ شعرتِ بهذا؟

(*) أجل. أحكي عن مشاعر وأفكار أوجدتها المُشاهدة فيّ.

أتذكّر أنّ أصدقاء وأساتذة كبارا شاهدوه في المراحل الأولى للمونتاج، وطلبوا منّي تبديل مكان مشهد الاعتراف هذا، وأنْ أجعله أبكر، أو في جزء من البداية. لكنّي كنتُ مشغولاً أكثر في أنْ يظلّ الفيلم يُعطي تفاصيل ومعرفة إضافية عن الشخصية كلّما تقدّم، وأنْ يُفاجئ المتلقّي في تحرّكه معهم لحظة الذروة. مثلاً، لو كنتُ أصنّفه في خانة الشرير أو البلطجي، مع الوقت ستختلف مشاعري، وحين أبلغ النهاية تظهر مشاعر أخرى. تُعجبني هذه اللعبة.

(*) لماذا اخترت إنهاء الفيلم نهاية سعيدة؟

هل خرجتِ منه وأنتِ تشعرين بسعادة وفرح؟

(*) لا، لم أقصد أنّي خرجتُ سعيدة. لكنْ، على الأقل، أنتَ جعلتَ الرجل الطيب ينتصر على الشرير/البلطجي. بدا لي هذا صراعاً بين الخير والشر، وأنتَ جعلت الرجل/الخير ينتصر على الرجل/الشرير. صحيحٌ أنّك كشفت عن ضعف هذا البلطجي في الثلث الأخير، لكنّي كنتُ لا أزال أرى هذا الشاب رمزاً للقهر، خاصة أنّ العجوز، الذي ربما يرمز إلى الوهن الذي نعانيه كشعب، استطاع أنْ يهزم البلطجي.

سعيدٌ بأنّ هذه المشاعر وصلتك. عموماً، أحبّ أنْ يخرج الناس من مشاهدة أفلامي بأفكار ونتائج مختلفة. بعد العرض الأول، وصلتني ردود فعل متباينة، فالبعض قال إنّي سبّبت له ارتباكاً: "يُفترض بنا أنْ نكره هذه الشخصية، لكنّنا أحببناها، وحزنّا على تلك النهاية". قال آخرون إنّهم خرجوا مندهشين أو متوترين أو غير قادرين على تحديد أمكنتهم.

في الحقيقة، أثناء كتابة السيناريو، هذا كان أكثر شيء تمنّيتُ أنْ يحدث. أي أنْ يخرج المُشاهدون وهم عاجزون عن تحديد مشاعرهم بدقّة، ويتساءلون لماذا حدث ما حدث؟ هذا أراهن عليه وأحبّه، رغم أنّ تقاليد كتابة السيناريو تعتبره غير صحيح، وأنّه يُفترض بنا وضع الجمهور في مكان محدّد، يخضع للتصنيف.

أنْ يخرج الناس مرتبكين، هذا لا يُفضَّل في تقاليد الكتابة، لكنّي أحبّ ممارسة هذه اللعبة، التي جرّبتها في أكثر من فيلم.

(*) في مَشاهد من "19 ب"، كنتَ تغرس تفاصيل غامضة، تُحيل أحياناً إلى الواقعية السحرية، كمشهد الصخرة التي تُنقَل، ثم نراها في المنزل؛ أو خوف الحارس من شيءٍ ما في البيت، في مشهد باكر، من دون أنْ نراه. كذلك مشهد الشجار، الذي حين يُفتح حديثٌ عنه صباح اليوم التالي، يكون ردّ الحارس العجوز كأنّ شيئاً لم يحدث، كأنّه خيالٌ أو حلم، وهذا مُربك قليلاً، ويجعلنا نتساءل: أهذا واقع أم خيال. لماذا كنتَ تتعمّد غرس هذا الغموض، أو روح الشكّ؟

أحبّ الغموض في الأدب. أفضّل أنْ يكون ما لا يُقال أكثر مما يُقال. عندما يحدث هذا في كتابٍ أو رواية، أحبّهما جداً، لأنّ المؤلّف يترك لي لحظاتٍ أتخيّلها وأكمل البناء عليها. كذلك أحبّ الأفلام المماثلة؛ لذا أحبّ ممارسة هذه اللعبة في أفلامي، ومنها "19 ب". مثلاً: علاقة نصر ويارا غير واضحة، ولا نعرف شيئاً عن الماضي الخاص بهما. البعض يسأل: لماذا لم تقل شيئاً؟ كذلك حكاية المرأة المسنّة التي تستقلّ سيارتها، ويتلاقى بصرها مع الحارس. المشهد يُفسّر نفسه، وقدر المعلومات المطروح فيه كافٍ. أعتقد أنّي لو زوّدت كمية المعلومات، سأفسدها، وكذلك لو قلّلتها ستصبح رقيقة، أو شيئاً لا قيمة له. أحياناً تنجح هذه اللعبة، وأحياناً أخرى لا تنجح. مع ذلك، أحبّ دائماً أنْ يكون غير المحكي أكثر بكثير من المحكي. لكنْ، في الوقت نفسه، نشعر بغير المحكي ونفكّر فيه.

(*) لنتحدّث عن شريط الصوت وثرائه: هل كتبتَ ذلك حرفياً في السيناريو، أم في المونتاج؟

هناك أغنية واحدة وظّفتها في الفيلم، "في قلبي غرام"، موجودة منذ كتابتي المسوّدة الأولى للسيناريو. كنتُ أعرف. كتبتُ أنّ البطل يستمع إلى أغنية محمد عبد المطلب هذه، التي ينتهي بها الفيلم. هناك تفاصيل موسيقية أخرى في منتصفه اشتغلنا عليها، المونتيرة سارة عبد الله وأنا. نظراً إلى أنّي بدأتُ حياتي مُؤلّفاً، أرى أنّ المؤثّرات الصوتية والأغاني والموسيقى جزء أساسي من الفيلم، والمَشَاهد تُبنى على "تراك" الموسيقى و"تراك" المؤثّرات الصوتية. مثلاً، لو كانت موسيقى الـ"هيب هوب"، في غرفة الأولاد والشباب، آتية من بعيد، لا بُدّ أنْ تكون محسوسة، ولو أنّها آتية من بعيد، لأنّ هذا مهمّ في كشف علاقات الناس بعضهم ببعض، وفي ديناميكية العلاقة بينهم. الأغنية الأساسية تبقى "في قلبي غرام".

(*) لماذا، بعد دراستك الموسيقى، اتّجهت إلى السينما والمونتاج، ثم الإخراج؟

طوال حياتي، كنتُ أرغب في السينما. تقدّمت إلى "معهد السينما" 3 مرّات، ورُفضت فيها كلّها، كعشرات آلاف المصريين. لذا، كثيرٌ من الذين يعملون معي، أراعي أنْ يكونوا في حالتي ووضعيّتي، أي أنْ يكونوا حاولوا الالتحاق بـ"معهد السينما" للدراسة فيه رسمياً، ورُفضوا، أو لم تُتح لهم الفرصة.

(*) كيف حقّقت حلمك؟

طوال حياتي، أحاول أنْ أقرأ وأنْ أقترب من السينما، بشكل أو بآخر. عندما فشلت في الالتحاق بـ"معهد السينما"، والموسيقى حبّي الثاني، قرّرت فعل شيء له علاقة بالفنّ، فاخترتها ودرستها. بعد مرور عامٍ أو عامين، قلتُ لنفسي إنّي سأكون "مزيكاتي"، وتخصّصت في ذلك، إلى درجة أنّي عزفت مرتين على آلة الـ"فيولينة"، على خشبة "المسرح الكبير".

لا بُدّ أنْ أعترف أنّي لم أكنْ أبداً عازفاً ماهراً، فالعزف يحتاج إلى تدريب مُضنٍ، والموسيقيون يتعبون جداً كي يبلغوا منطقة متميّزة في الأداء والعزف. أما أنا، فلم أكن عازفاً متميّزاً، لأنّه لم يكن لدي ما يُسمّى... (لحظة تفكير)

(*) الشغف؟

(معترضاً) لا. بالعكس، لدي الشغف، لكنْ لم يكن لدي "الانضباط" في هذا التدريب. لم تكن لدي طاقة العزف، 6 ساعات يومياً، على هذه الآلة، "سُلّم طالع" و"سُلّم نازل". عدم قدرتي على الانضباط لعب دوراً.

(*) لكنّك، ببساطة، تفعل مع السينما أكثر من ذلك بكثير. يُمكن أنْ تمضي في عمل السينما أضعاف هذا الوقت، من دون ملل أو كلل. أعتقد أنّ السينما الشغفَ الحقيقي لديك.

نعم، صحيح. أنا جيّد في النظرية الموسيقية، التي أفادتني كثيراً عندما بدأت المونتاج. أعرف النظرية، وأنّ هذه الجزئية تأتي بدلاً من تلك، وتحتل هذا الموقع أو ذاك.

(*) كذلك أفادتك في الإيقاع.

ليس فقط الإيقاع، رغم أنّه أكثر شيء واضح في الموسيقى. لكنّ علاقة السلالم و"التونات" الخاصة بالأصوات المختلفة، والاختلافات بينها، ومحاولة التبديل بين هذه الأشياء، كلّها فرقت معي كثيراً بفضل معرفتي بالنظرية الموسيقية.

 

العربي الجديد اللندنية في

21.12.2022

 
 
 
 
 

أحمد عبدالله السيد (2/ 2):

"فكرة الزمن أساسية في منهجية تفكيري"

القاهرة/ أمل الجمل

(*) بدأت حياتك السينمائية مونتيراً. متى قرّرت أنْ تُصبح مخرجاً؟ منذ تقدّمك إلى "معهد السينما"، كنت تفكّر في ذلك؟

تقدّمت إلى قسم الإخراج، لكنّي رُفضت. بعد ذلك، جاءتني فرصة تعلّم المونتاج. حينها، كان "نان لينير إيدتنغ" قد دخل مصر حديثاً، أو قبل فترة قصيرة، في التسعينيات. كنت مُراهقاً، أبلغ نحو 16 عاماً. بدأت أتعلّم وأحاول تركيب الأشياء على بعضها، وأتعامل مع الكمبيوتر (Windows). كانت أول مرة يتوافر فيها "كارت فيديو"، فحاولت تغيير الصورة. لم يكن هناك إنترنت قوي، كما هو متاح بشكله الحالي. علّمت نفسي المونتاج، والناس كانوا مهووسين بمونتاج "نان لينير"، ويُريدون تعلّمه والتعرّف إلى المزيد عنه.

(*) بدأت مونتيراً لأفلامٍ ناجحة جداً. لكنْ، عندما تُخرج بعض أفلامك، لنْ أقول كلّها، تُشرك معك مونتيراً آخر. لماذا؟ هل ترى أنّ عيناً إضافية معك على الفيلم أفضل؟ أم ماذا؟

إضافة إلى ذلك، أحبّ تجريب أشياء عدّة في السينما. أفلامٌ لي كتبتُ لها السيناريو، وأخرى كتبها آخرون وأخرجتها أنا. هناك أفلام صوّرتها بنفسي، كـ"ليل خارجي"، وهناك أفلامٌ عملت فيها مع مُصوّرين آخرين. أفلامٌ لي ولّفتها بنفسي، كـ"هليوبوليس". أحبّ دائماً أنْ تكون هناك عينٌ أخرى في الفيلم، أو أنْ أُجرّب إدارةً أخرى في صنعه. مع ذلك، لو أستطيع أنْ أقلّل مساهمتي في الفيلم، سأفعل ذلك. لو أنّ هناك شخصاً يستطيع التعبير عن هذه الشخصيات، وعن حالة أريد كتابتها، سأترك له السيناريو، كـ"ليل خارجي". عندما أعطاني شريف الألفي السيناريو، قرأته، ثم قلت له: "لديّ أفكار بسيطة عدّة". في ذلك الوقت، كانت هناك تساؤلات تُشغلني طرحتها عليه، فكتبها واشتغل عليها وأعاد الكتابة.

(*) في فبراير/ شباط 2022، نظّمت معرضاً فوتوغرافياً، أخبرتَني أنّ عنوانه "مخادعة الوقت". ألا ترى أنّ هناك تماساً بين فكرة "مخادعة الوقت" في المعرض الفوتوغرافي والزمن في "19 ب"؟

مشغولٌ دائماً بفكرة الزمن. ربما عملي كمونتير ومخرج جعل الزمن أساسياً في منهجية تفكيري. السنّ تلعب دوراً في هذا أيضاً. الزمن في فترة "كوفيد 19" من أكثر الأشياء التي تُشغلني: الإنسان يكبر في السنّ، والزمن يمرّ، وهذا يولّد تساؤلات عن علاقتنا بالزمن، وكيف تتغيّر الأشياء والأماكن حولنا، وكيف نصبح قادرين على التعامل مع هذا التغيير، ومع هذا الخوف من التغيير. هذه الهواجس كلّها موجودة في مرحلة الكتابة.

"مخادعة الوقت" له علاقة شخصية بعلاقتي أنا بالزمن.

(*) أعود مرة أخرى إلى الرموز والإسقاطات في "19 ب". العقار/ الفيلا يرمز إلى مصر، بأهلها المُسافرين إلى الخليج، الذي ربما يرمز إلى الطبقة الوسطى التي تخلّت عن دورها.

هذا ليس تخميناً، بل أشياء قيلت في الفيلم. الفيلا مهجورة، تركها أهلها الذين باتوا يعيشون في الخليج، ولا نعرف طريقاً إليهم. هذا واقع موجود في الأحياء القديمة، وفي مصر الجديدة. أنا مثلاً أسكن في "غاردن سيتي". هناك بنايات مهجورة كثيرة ليس لها أصحاب. فعلياً، لا أحد منّا يعرف أصحاب هذه البيوت. هذا حدث لمنازل كثيرة، قد يكون لها أصحاب سرّيون لا نعرف عنهم شيئاً. بيوت مغلقة منذ خمسينيات القرن الـ20 وستينياته وسبعينياته، ولم تُفتح أبوابها قط. هذا واقع. الإسقاطات والرمزية لم أفكر فيها قطّ. أحياناً، ألتقي أناساً يقولون لي قراءات مختلفة. مرّة، قال لي أحدهم: "هذه مصر"، وآخر قال: "هذا تعبير عن الصراع بين إسرائيل وفلسطين". للناس دائماً قراءات مختلفة، لا أستطيع أنْ أحجر عليها، طالما أنّ كلّ واحد يقرأها هكذا، ويستمتع بها في المُشاهدة، وقراءته متماشية مع ما يراه. لا مشكلة. أرى هذا صحّياً.

(*) مؤكّد أنّ لديك هموماً وتساؤلات تُشغلك بخصوص هذا البلد، لذا يصعب أنْ أصدّق أنّ أفلامك لا تُحمّلها بعض هذه الرموز والإسقاطات، حتّى وإنْ أنكرت أنت هذا، خاصة أنّك تُفضّل أنْ تُضمّن أفلامك أشياء غامضة، أو أنْ تقولها همساً.

لا. أنا لا أنكرها. بالعكس. ما أودّ قوله أنّي لا أحبّ السينما الرمزية. هذا ذوقي الشخصي. لا أحبّ كتابة أنّ هذه ترمز إلى مصر، وهذا يرمز إلى مَنْ دمّر مصر. لا أحبّ هذا الأسلوب. صحيحٌ أنّ في السينما جزءاً كبيراً لا يُقال، لكنّ هذا لا يعني أنّه رمزي، أو غائب، أو مخفيّ، أو أنّه لم يتمّ قوله حتى يُكمِل الناس القصّة. هذا الغموض ليس من أجل الرمزية، بل لإخبار القصّة أو حكيها، أي Story Telling.

مثلاً، لستُ معجباً برمزية سينما صلاح أبو سيف. لا أقصد التقليل من شأنه، لكنّي غير مُعجبٍ بهذا الأسلوب.

(*) إذاً، لماذا تصنع السينما؟

لستُ معنياً بصناعة السينما فقط. أنا أحبّ الفن، عموماً. أرى أنّ الفن وسيلة تعبير مملوكة للجميع، لذا أنا ضد احتكار النقابة لتصريحات التصوير. برأيي، يُفترض بجميع الناس أنْ يصنعوا أفلاماً، وأنْ يُصوّروا ويرسموا، والجمهور يختار. ربما ستسألين: ماذا عن الموهبة الضعيفة؟ برأيي، هذا ليس إشكالاً. المهم أنْ نترك الفرصة للجميع. هذا جزءٌ من لعبة الفنّ. هناك أناسٌ موهبتهم متواضعة، لكنْ لديهم "حدوتة" يُريدون إخبارنا بها، أو لديهم شيءٌ يُريدون أنْ يصل إلينا. أحبّ أنْ أكون أحد هؤلاء الآلاف الذين يملكون هذا الحق، الذي يجب أنْ يُمنح للجميع.

(*) تقول إنّك تُحبّ أنْ يكون كلّ فيلمٍ مختلفاً عن الآخر، وأنْ تضيف شيئاً جديداً إلى كلّ عمل. فهل هناك تحدّ ما يُسيطر عليك، تقني أو فكري، عندما بدأت العمل على "19 ب"؟

التحدّي أنّي أحاول الابتعاد قدر المُستطاع عن الفيلم السابق. أتساءل عن الفيلم السابق، وماذا عملتُ فيه. ثمّ أفكّر بصنع عمل أبعد ما يكون عنه. مثلاً: عملتُ "ميكروفون" من دون لحظة صمت. إنْ لم يكن هناك حوار، تجدي أغاني. المُشاهد الأجنبي سيقرأ طوال الفيلم ترجمة مكتوبة. بعده، أنجزتُ "فرش وغطا"، ذهبتُ فيه إلى منطقة أبعد كثيراً. بعد "ميكروفون"، فكّرت أنّي لا أريد استخدام الحوار في فيلمي المقبل، بل الاعتماد على أشياء أخرى، سواء نجح أو لا. قد ينجح في جزء، قد لا ينجح في أجزاء أخرى. هذا شعورٌ أحبّه. في كلّ مرة، أحاول تجربة أشياء جديدة، أبعد ما تكون عن الفيلم السابق. صحيحٌ أنّ هذا قد يزعج الجمهور، لأنّه يُريد مشاهدة شيء أحَبَّه قبلاً، فيُصاب بالإحباط أو الاستياء. هذا حدث مع "فرش وغطا"، لأنّ الجمهور توقّع رؤية شيءٍ مُشابه لفيلمي السابق، رغم أن الجمهور لو شاهد الفيلم ومخرجه يُقدّم عملاً للمرّة الأولى، ربما تقبّله وتعامل معه على أنّه فيلم مستقل بحدّ ذاته.

أحبّ أنْ أفعل هذا بين حين وآخر، والجمهور بدأ اعتياد ذلك.

"ليل خارجي" فيلم طريق. فيلم ملوّن ومجنون، يدور في شوارع القاهرة كلّها. "19 ب" يدور في مكان مغلق، مع أناسٍ مختلفين، وبحركة كاميرا. لكنّ الـ"ستايل" مختلفٌ في كل شيءٍ.

(*) على عكس مُشاهدين ونقّاد كثيرين، أعجبني "فرش وغطا" كثيراً. أرى أنّ مشكلته تقنية، وجُمل الحوار القليلة جداً لم توظّف تقنياً بشكل مُقنع؟

هذا صحيح، لكنّه أساسي في فكرة اللعبة، لأني كصانع فيلم أجرّب وألعب. في "فرش وغطا"، بعد بداية التصوير بيومين أو 3، قررتُ تغيير الـ"ستايل". مثلاً: إدخال أجزاء وثائقية. عند الذهاب إلى المقابر، بدأ سكّانها يحكون عن مشاكلهم، لأنّهم كانوا يرون الكاميرات. شعرتُ بأنّ دوري ليس تصوير المكان فقط، أو أنْ أحلّ مشاكلهم، بل نقل حكاياتهم. أعدتُ صوغ الشخصيات وبناءها، لتتقاطع مع الشخصيات الحقيقية الوثائقية في المقابر.

أحبّ أنْ أستفيد من الظروف المتاحة، وأنْ أترك نفسي لها، كي أرى كيف تخدمني، وإلى أين ستقودني. أحياناً، يحدث هذا في الأمور التقنية أيضاً. تعلّمت هذا في عملي مع إبراهيم البطوط. مرّات كثيرة كانت هناك لقطات جميلة جداً عنده، تعطيها له المدينة من دون إعداد مسبق. المهمّ أنْ يكون لديك الاستعداد لاستقبالها.

(*) كأنها هبة إلهية.

بالضبط. مثلاً: بطل "فرش وغطا" لا يتحدّث. مع ذلك، قلتُ للجميع، ولآسر ياسين: "في أي وقتٍ تشعر بأنّك تُريد أنْ تتكلّم، تكلّم". ركّبتُ له ميكروفوناً في المشاهد كلّها، في واحدٍ منها يتحدّث، إذْ لم يكن طوال الوقت صامتاً، كما تخيّل الناس.

أقصد من هذا أنّ هناك مرونة في إدارة الأمور، والتعامل لا يكون مُحكَماً أو مُتشدداً، بل أتركه مفتوحاً أمام الظروف.

(*) هناك 3 ـ 4 أعوام تقريباً بين تحقيق فيلمٍ لك وآخر، بالنسبة إلى أفلامك الثلاثة الأخيرة. حدّثني عن روتينك الحياتي لإنجاز كلّ فيلم: هل تمشي وتراقب الناس، كي ترى بعينيك؟ أم ماذا تعمل في فترة بحثك عن فكرة؟

لا أدّعي أنّي أبحث عن فكرة. كنتُ سريعاً في إنجاز "ميكروفون" و"فرش وغطا". لكنْ، هناك عاما الثورة. ثم "ديكور"، أي بعد عام.

ليس ضرورياً أنْ أمضي 4 أعوام بين فيلمٍ وآخر. صدف ذلك مع الأفلام الـ3 الأخيرة. يتوقف هذا على الظروف وتوافر الإنتاج. أحياناً، أنشغل بفكرةٍ وتساؤلات، إلى حدّ أنّها تؤرقني. لكنْ، بعد مرور عامٍ أو اثنين، أجد نفسي ابتعدتُ عن هذا الفيلم. حصل هذا معي أكثر من مرة: كان يُفترض بالفيلم أنْ يُنجز في هذه اللحظة الآنية، ليعبّر عن حيرةٍ أمرُّ بها، ويطرح تساؤلات عن أشياء معينة. لكنْ، مع مرور الوقت، أشعر بأنّ هذه التساؤلات فات أوانها، وأن هناك أخرى باتت أهمّ وأكثر إلحاحاً. لذلك، تتعطّل أحياناً أشياء، وأبدأ مجدّداً.

(*) ماذا عن المشروع الذي تتمنّى تحقيقه، وإن ليس حالياً؟

أبداً لم يكن لديّ مشروع أحلم بالاشتغال عليه. ما يحدث، أنّه بعد انتهاء كلّ فيلمٍ، أميل، لفترةٍ، إلى صنع فيلم آخر، وأنّ لديّ "حواديت" أخرى أريد أنْ أحكيها. مثلاً: في هذه اللحظة، أكثر مشروع أريد العمل عليه مع صديقتي المنتجة قسمت السيد عنوانه "برلين". أريد تصوير فيلمٍ خارج القاهرة والإسكندرية. سأصوّر هذا المشروع في برلين. فيلمٌ مصري عادي جداً، يرتبط بشباب كثيرين، أصدقاء وآخرين أعرفهم، نزحوا إلى برلين في الفترة الأخيرة. فيلمٌ عن حياتهم، وتفاصيل تحدث لهم في الحياة.

 

العربي الجديد اللندنية في

23.12.2022

 
 
 
 
 

المخرج أحمد عبدالله: «19 ب».. يبحث أسئلة التغيير والتعايش

حوار - منى شديد

بعد مرور أربع سنوات على فيلم «ليل خارجي»، وفوز بطله شريف الدسوقي بجائزة أفضل ممثل في الدورة الأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، عاد المخرج أحمد عبد الله السيد إلى المهرجان في دورته الـ44 بفيلمه الجديد «19 ب»، ويتحدث عنه في الحوار التالي، كاشفا كيف حصد ثلاث جوائز لأفضل فيلم عربي، والاتحاد الدولي للنقاد «فيبريسي»، وهنري بركات لأفضل إسهام فني لمدير التصوير مصطفى الكاشف.

·        بدأتَ كتابة الفيلم بتأثير العزلة التي تسببت فيها جائحة "كورونا"، فإلى أي مدى اعتمدت في كتابتك له على تفاصيل من حياتك؟

شخصيات الفيلم متخيلة، صحيح أنى كنت أرى أحيانا شخصا في أثناء مروري في الشارع يطعم الكلاب الضالة بشكل يومي، لكني حاولت أن أتخيل كيف يمكن أن تكون طبيعة حياته. وما يحدث عندما أكتب قصة متخيلة عن شخص هو أنه تنتقل بعض الملامح من شخصيتي وحياتي وأسئلتي وهواجسي ومخاوفي إلى الشخصية بشكل لا إرادي.

لقد كتبت هذا الفيلم في فترة الجائحة، وبالتالي فهو محمل بأسئلة حول العزلة والوحدة والخوف.

·        وهل استمساك حارس العقار بمكان منسي هو تعبير عن رفض البعض للتغيير؟

نعم، فالفيلم يتحدث عن شخص مستمسك بحياة لا يريد تغييرها، وشخص آخر يعيش الحياة بشكل مختلف، وكيف يمكن أن يعيش الشخصان مع بعض، ويجد كل منهما مكانا للآخر في حياته، علما بأن حارس العقار الذي جسده سيد رجب يصر على الشكل القديم للحياة التي اعتاد عليها، وأصبح أسيرا لها نوعا ما.

·        لكن النموذج المقابل المتمثل في السايس نصر الذي جسده أحمد خالد صالح شخص عنيف وبلطجي، ولا يشجع على التغيير في هذا الاتجاه؟

هذا صحيح، وغير صحيح في الوقت نفسه، فحياتنا عندما تتغير ليس بالضرورة أن تكون أسباب التغيير إيجابية، في الكثير من الأحيان تتغير حياتنا بسبب عقبات أو مواقف سيئة، ولكن علينا أن نجد وسيلة للتعايش وتغيير حياتنا في الحقيقة، أو هكذا أتخيل.

·        إذا لماذا اخترت هذه النهاية القاسية لنصر؟

هذه النهاية تأكيد لرؤيتي بأن الاثنين لم يجدا وسيلة للتعايش، كما أني تمنيت أن يخرج الجمهور بعد مشاهدة هذه النهاية القاسية، وفى ذهنه سؤال: "لماذا اضطررنا للوصول إلى نهاية قاسية بهذا الشكل"، ألا توجد وسيلة أخرى يمكن للناس من خلالها التعايش بعضهم مع بعض بدون هذا الكم من العنف؟

·        هل تتعمد التغيير في الأسلوب والحالة العامة والأجواء الخاصة بكل فيلم جديد؟

بلا شك: طبعا، هذا هدف أركز عليه دائما منذ أن قدمت فيلمي الأول، ففي كل مرة أصنع فيلما جديدا أبحث عن أبعد نقطة عن الفيلم السابق، وأبدأ منها، وهذا يغضب الجمهور أحيانا.

·        لا تزال الأفلام الفنية ذات الإيقاع الهادئ مثل "19 ب" تحظى باستقبال جيد في المهرجانات لكنها بعيدة عن الجمهور العادي فهل سيؤثر ذلك على توزيع الفيلم؟

بالورقة والقلم والأرقام: لا أرى هذا صحيحا، فإذا نظرنا للأفلام الأولى التي سُميت بالأفلام المستقلة -برغم تحفظي على الاسم- سنجد أن الموجة تكبر، وأن جمهورها يتزايد يوما بعد يوم. وربما تكون هناك مشكلة توزيع لكنها ليست مشكلة جمهور، كما يمكن التغلب عليها الآن بالبيع للمنصات، وستحظى الأفلام بمشاهدات جيدة.

 

الأهرام اليومي في

25.12.2022

 
 
 
 
 

شاهدتُ لكم في القاهرة السينمائي:

الفيلم الأوروبي "The Woodcutter Story"

البلاد/ طارق البحار

عرض ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في دورته الرابعة والأربعين أخيراً الفيلم المذهل "The Woodcutter Story" أو "قصة الحطاب" ضمن المسابقة الدولية وهو عمل روائي تدور أحداثه حول بيبي حطاب في مدينة ريفية صغيرة في فنلندا، خلال بضعة أيام، تعصف به سلسلة من الأحداث المأساوية التي دمرت حياته تدريجياً، ولكن يبدو أنه يخبئ سرّاً ما!

وفي التفاصيل التي تدور خلال فصل الشتاء في بلدة صغيرة في شمال فنلندا، وهناك قد تجد نفسك تخطط لطرح أسئلة حول وجودك هنا في الأرض، أو ربما تضحك أثناء قراءة كتاب لسيغموند فرويد! هذا هو العالم السريالي للفيلم، وفي منتصفه مباشرة يوجد بطل الفيلم بيبي (جاركو لاهتي)، وهو رجل متفتح كثيراً لدرجة أن نظرته المستمرة نصف الممتلئة للحياة يمكن أن تدفع أصدقاءه وزملاءه في العمل إلى الغضب، يردد: ”ابتسم والعالم كله يبتسم معك"، ولكن ماذا يحدث عندما لا يبتسم العالم فحسب، بل يحبط سعادتك بعكس ما تظن؟

في أول ظهور له في الإخراج، قرر صانع الأفلام ”ميكو ميليلاهتي“ أن يرى ما يحدث عندما يضع بيبي من خلال الضغوط، والنتيجة هي فيلم مذهل بشكل غريب مثل الحياة التي نعيشها تماماً، لا يمكن معرفته في النهاية، نقله في فيلم روائي طويل لبطله الذي يتمتع بحياة مريحة وهادئة، ويعمل في منشرة مع أفضل صديق له ”توماس“ (HP Bjurkman)، ويعشق ابنه (Iivo Turi) الذي يذهب معه للصيد على الجليد كل يوم، وهو محبوب جداً في الحانة الوحيدة في المدينة لدرجة أنهم يحتفلون بعيد ميلاده بكمية كبيرة من البهجة، ووسط كل ذلك الإيجابية هناك بالطبع سلبية تظهر للقاع، فزوجته غير مبالية بتقدمه، ويبدو أنها تركت عيد ميلاده يمر دون ذكر، لكن في إحدى الأمسيات أثناء لعب الورق انفجر بيبي في ظروف غامضة في البكاء دون سابق إنذار بسبب الإعلان عن بيع المنشرة، وبعد قرار ملاك الجدد إغلاقها، مما أدى فعلياً إلى إخراج المدينة بأكملها من العمل الوحيد الذي يتقنونه ربما في هذا الطقس!

القرار أدى إلى ظهور سلبية كبيرة في المنطقة، مع ظهور سلسلة من ردود الفعل، وتبدأ حياة بيبي المنظمة في الانهيار، حيث يعاني من الآلام والكوارث من كل نوع تقريباً والتي من شأنها أن تضعف إرادة أي إنسان يعمل بشكل طبيعي تقريباً، في حين أن توماس الذي اكتشف أن زوجته تخونه، يقوم بتقييم أكثر قتامة للأمور وسط الأجواء التي يعيشها أيضاً مع صديقه. الحياة ليست عادلة ويجب أن نكون مستعدين لها دائماً بكل الصور.

من الناحية التصويرية للفيلم أجاد المخرج في نقل قصص الشخصيات في مقدمة الإطار بينما يبدو العالم من حولهم كبيراً جداً بالنسبة لاحتياجاتهم الصغيرة، ومع ذلك فهناك أوقات كان من الممكن أن يختار فيها الفيلم طريقة أكثر مباشرة وإلحاحاً لصناعة الأفلام بدلاً من محاولة الحفاظ على مسافة ساخرة طوال الوقت.

تبدو قصة The Woodcutter Story في البداية وكأنها شخصيات تبدو بلا عاطفة تجلس في حانات، وترقص بشكل غريب وبطل متفائل إلى ما لا نهاية في عالم ساخر للغاية، لكن القصة ليست كذلك بالمعنى الكلاسيكي والأدبي، فبطل الفيلم متشبع من قوة أعماق الغابة الفنلندية، والتي يظهرها لنا العمل بصورة كبيرة للثلج الموجود في كل مكان في هذا الفيلم، وتم التقاطه في صور رائعة على شاشة عريضة، وهو ليس من النوع الذي يقلق بشأن مصيره، عندما تظهر قافلة من السيارات السوداء الأنيقة وتبدأ البدلات في إطلاق النار على الجميع لصالح بناء منجم جديد، ويبدو أنه العامل الوحيد الذي يعتقد أنه يجب أن يكون هناك سبب وجيه لمثل هذا الجشع الرأسمالي. تختبر بقية الفيلم نظرته للعالم ضد عالم يتلاشى ببطء عن الأنظار والفكر الإنساني.

يقدم المخرج ميكو ميليلاهتي بأول فيلم طويل له خلف الكاميرا، هذا الحدث الكارثي لاستكشاف الفروق الدقيقة في هذه القرية الصغيرة وسكانها الغريبين، يحدث العنف والخيانة والغرابة البسيطة واحدة تلو الأخرى، وكلها تُروى بأسلوب بطيء ومتحفظ مثل برودة المكان الذي صُوِّر فيه مع بطلنا ”بيبي“ الذي هو مكلف بأن يكون في الغالب متفرجاً على جميع الأحداث الغريبة، بما في ذلك الغزوات غير الضرورية في الخيال العلمي وإثارة الانتقام وحكاية العمال.

 

البلاد البحرينية في

18.12.2022

 
 
 
 
 

”السد“ في "القاهرة السينمائي" وتقديم القوة والضعف في نفس الوقت

البلاد: طارق البحار

عرض مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في دورته الـ 44 مؤخرا، الفيلم السوداني "السد" للمخرج علي شيري، ضمن عروض المسابقة الدولية، وهو إنتاج مشترك بين السودان وعدة دول مثل ألمانيا وصربيا ولبنان وفرنسا وغيرها.

وشارك الفيلم شارك في الدورة الأخيرة بمهرجان كان السينمائي الدولي. وتدور أحداث الفيلم في السودان بالقرب من سد ”مروي“، حيث يعمل "ماهر" في مصنع طوب يعتمد على مياه نهر النيل انتفاضة الشعب السوداني.

”السد" هو الفيلم الأول للفنان البصري والمخرج علي شيري المولود في بيروت والمقيم في باريس، عبارة عن قصة رمزية، ولكن في بعض الأحيان، تكون الرمزية موحلة مثل العمل الشاق الذي يقوم به عامل البناء ماهر (ماهر الخير) في هذا السد، وحقق الممثل السوداني ماهر الخير جائزة أحسن ممثل ضمن المسابقة الدولية بالمهرجان، عن الفيلم، مناصفة مع الممثل محمود بكري عن فيلم "علَم".

السد هو فيلم مستقل، على الرغم من وصفه بأنه الجزء الثالث من ثلاثية ”الحفار والقلق“، وهما فيلمان قصيران تم بثهما في العديد من المهرجانات، وفي البداية يبدو الفيلم على الأرض أكثر تأكيدا وأكثر دراية. نرى الرجال الأفارقة يعملون بجد تحت أشعة الشمس الحارقة، ويتم قطع المناظر الطبيعية من خلال طريق ترابي طويل لا ينتهي متجاوزا الصخور الجميلة والآفاق المذهلة، العديد من الرجال يكدحون بعيدا، تدور الكاميرا بين الأجسام والطوب، وكأنها تندمج في صورة واحدة. يوضح الفيلم بالتفصيل كيفية صنع الطوب الطيني، وكيف هو جهد جماعي هائل، وتتحرك الشمس من الشرق إلى الغرب في نهاية يوم العمل ويختتم باستحمام الرجال في الماء.

في هذه اللحظة تتحدث التقارير الإخبارية في الإذاعة عن ثورات واحتجاجات على قيادة عمر البشير، الذي أطيح به من السلطة في انقلاب عسكري في العام 2019، يوضح الفيلم كيف يتسبب عمل الإنسان في استجابة الطبيعة، ومع انتهاء الاحتجاج، يبدو أن كل ما يدور حول ”ماهر“ يتغير ويشجعه على أخذ مصيره بين يديه والهروب من السد الذي هو يعيش فيه، السد الذي يمثل قوته وضعفه في نفس الوقت.

أخرج الفيلم المخرج اللبناني علي شيري الذي يقيم في باريس، وهو أيضا فنان تشكيلي حاصل على بكالوريوس تصميم الجرافيك من الجامعة الأميركية في بيروت وعلى ماجستير في الفنون المسرحية من أكاديمية المسرح والرقص في أمستردام، وحاصل كذلك على زمالة روبرت إي فولتون من جامعة هارفارد في العام 2016. شارك شيري في عدد كبير من المعارض وحصل مؤخرًا على الأسد الفضي لبينالي البندقية التاسع والخمسين، وعرضت أفلامه في مهرجانات دولية عديدة.

أنتجت الفيلم شركة الإنتاج الفرنسية كينو اليكترون، والتي سبق لإنتاجاتها الحضور في مهرجانات سينمائية مثل كان وبرلين والبندقية ولوكارنو وتورنتو. ​

 

البلاد البحرينية في

14.12.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004