ملفات خاصة

 
 
 

أوراق القاهرة السينمائي- (5):

“جلال الدين.. الحقيقة هي الحب

أمير العمري- القاهرة

القاهرة السينمائي الدولي

الدورة الرابعة والأربعون

   
 
 
 
 
 
 

فيلم جريء آخر من المغرب هو “جلال الدين” للمخرج حسن بنجلون، صاحب البصمة الخاصة على الإنتاج السينمائي المغربي. فيلم جريء، يناقش موضوعا معقدا بأسلوب مركب، يصيب حينا، ويضل الطريق حينا آخر، لكنه يبقى في النهاية، عملا يثري الفكر ويدعو للتأمل. وقد عرض الفيلم بالمسابقةالرئيسية للأفلام الطويلة بالدورة الـ44 من مهرجان القاهرة السينمائي.

من الوهلة الأولى يبدو وكأن الفيلم يتمحور بين الخير والشر كما لو كان هذا الانقسام أمر فطري. وهناك كثير من الإشارات والعلامات التي يمكن أن تدعم هذا التقسيم كما سنرى، لكنه ليس كذلك بالضبط، فالخير والشر قضية نسبية، تلعب فيها الظروف والبيئة المحيطة دورا أساسيا. وأما غرابة الشخصيات فتنبع من مواقفها واختياراتها في الحياة، وهي قد تبدو أيضا اختيارات غريبة تخالف المنطق المعروف السائد.

شخصية “جلال الدين” (ياسين أحجام) شخصية مركبة، فهو رجل ثري، يمتلك ضيعة يربي فيها الخيول، ويعيش حياة هانئة مع زوجته “هيبة” (فاطمة ناصر) التي يحبها كثيرا ولا يستطيع أن يتصور حياته من دونها. لكنها مريضة مرضا خطيرا، لا يفصح عنه الفيلم، وأيامها في الحياة معدودة، لكنها تستقبل الموت بصدر رحب، فقد عاشت حياة سعيدة مع جلال الدين. وسوف نعرف فيما بعد، مع تطور الأحداث، أن “هيبة” تونسية التقت بجلال الدين عندما كانت في السابعة عشرة من عمرها وكان هو يتيما، فأحبته وارتبطت به وجاءت معه إلى المغرب كما تقول، وتبرا منها أهلها لهذا السبب. أنه ان كلاهما عاشا الوحدة الاغتراب.

لكونها عاجزة عن اشباع رغباته، ولفرط حبها لجلال تشجعه “هيبة” على أن يبحث عن المتعة مع غيرها، وأنها لن تتألم أو تشكو بل ستسعد لما يسعده. فشخصية “هيبة” تلك السيدة الجليلة، هي أساسا شخصية فيها الكثير من الملامح الصوفية التي تؤمن بالتسامي وتستمد السعادة من اليقين والروحاني. وهي تسجل شبه يوميات في دفتر صغير، تفضي من خلالها بمشاعرها وأفكارها التي نسمعها عبر شريط الصوت، في سياق شعري. ولا شك في وجود علاقة بين الفيلم وبين فلسفة الصوفي الكبير جلال الدين الرومي، فالفيلم يقتبس الكثير من المعاني التي تتردد في كتاباته وأشعاره الصوفية، خصوصا مما سيتردد على لسان الشيخ مولاي عمر ثم جلال الدين بعد تصوفه.

يختار حسن بنجلون، الذي كتب كعادته، سيناريو فيلمه، تجسيد فكرته حول التسامح والتسامي، من خلال خلق علاقات شديدة التنافر، أو بين النقيض والنقيض. فهو يجعل “جلال الدين” يقابل امرأة تعمل في محل للساونا والتدليك، كغطاء للدعارة، تدير المكان سيدة تدعى “فضيلة” (يجب أن نلاحظ هنا التناقض بين الاسم وحقيقة الشخصية) وهي تجلب الفتيات اليتامى من عمر صغير، وتتولى تربيتهن وتعليمهن كيف يرضين الزبائن من الرجال. ومن بين هاته الفتيات “ربيعة” (فاطمة الزهراء بلادي) التي يوحي الفيلم بأنها تغوي جلال الدي وأن الفعل الجنسي يحدث بينهما، رغم أنها تؤكد فيما بعد أنه لم يلمسها، لكننا سنراه في (شرائط فضيلة) المسجلة، يلمسها وأكثر من ذلك!

المشكلة أن “عادل” الابن الشاب لهيبة وجلال الدين، يقع في حب “ربيعة”، ويتزوجها رغم معرفته بماضيها الشائن. لماذا قبل بهذا؟ يبقى الأمر لغزا كبيرا، لا يفسره الفيلم ولا يتوقف أمامه كثيرا بل إنه يجعل جلال الدين يتغاضى عن الأمر عندما يقدم له ابنه عادل ربيعة باعتبارها المرأة التي سيتزوجها. من الممكن أن تحدث مثل هذه الأمور بالطبع، لكن عادة يكون لها أساس، وربما يكون تغاضي جلال الدين نابع من فكرة التسامح الذي يؤمن به، التسامح إزاء كل الخطايا البشرية. لكن المسألة هنا أكثر تعقيدا لأنه قضى وطره معها بالفعل، وربما يكون مؤمنا بحرية الارادة البشري، كما يردد فيما بعد، أي ترك كل انسان يختار طريقه بنفسه.

على أي حال، المشكلة ليست في العلاقة العابرة التي ستحدث بين جلال الدين وربيعة، فبعد وفاة هيبة، سيضطرب جلال الدين ويذهب إلى زاوية الشيخ الصوفي (مولاي عمر) التي تقع في منطقة ريفية جميلة خارج المدينة، ينشد العثور على اليقين والصفاء الذهني والتسامي الروحاني، تاركا خلفه كل شيء، المنزل الكبير والثروة والعائلة والإبن “عادل”. والفيلم يدور بين مستويين في الزمن، فهو يبدأ بوصول جلال الدين الى الزاوية الصوفية لمولاي عمر، لكننا سنعود إلى الماضي لكي نرى كيف وصل هو إلى هذا المنعطف الكبير من حياته. بعد ذلك، سنقفز عشرين عاما في الزمن، بعد أن يكون “عادل” قد تزوج ويفترض أن يكون أبضا قد أنجب ابنه “وليد” أي حفيد جلال الدين (وهناك إشارات كامنة إلى أنه قد يكون أيضا ابنه).

لقد رأينا في الماضي كيف أن ربيعة (التي روت لجلال أنها كانت ضحية استغلتها فضيلة أبشع استغلال وأنها لم ترض قط عن مهنتها الشائنة) وشت بفضيلة الى الشرطة قبل أن تغادر المنزل، فتهاجم الشرطة المكان وتقبض على فضيلة والفتيات وتكون النتيجة خمس سنوات في السجن، تخرج بعدها فضيلة تنشد الانتقام أو إعادة الاعتبار من جانب ربيعة – كما تقول- دون أن نفهم ما المقصود بالضبط من “إعادة الاعتبار”. وربما كان الأمر سيصبح أكثر اتساقا لو اقتصر على ابتزاز ربيعة واستغلال زواجها من عادل الثري.

على النقيض من عادل، المادي العملي الذي انقطعت صلته بوالده جلال تماما منذ أن غادر واعتزل، يبدو “وليد” الحفيد الذي يبدأ في البحث في تاريخ جده ويقرأ كتبه، وبعد أن كان يريد التخلي عن دراسته لكي يذهب الى الهند بحثا عن اليقين الروحي، الآن يقرر الذهاب الى جده ليبقى معه في العزلة التي اختارها والتي لا يراها عزلة بل يقول إنه منفتح على العالم بأسره، مرددا أفكار جلال الدين الرومي في قبول جميع البشر من جميع الألوان والأجناس والأديان. أي الإيمان بوحدة الوجود، والتوحد بين الانسان والخالق.

جلال الدين كأحد شيوخ الطرق الصوفية، لا يستند فقط الى فلسفة الرومي، بل ويستعين مثله بالموسيقى الروحية والذكر والاشعار والغناء (والرقص) للتعبير عن التسامي والرغبة في الوصول إلى الله. ولعل من أجمل مشاهد الفيلم تلك التي تدور في هذه الأجواء، وأجاد بنجلون إخراجها وضبط الحركة ف يداخلها، وتنويع اللقطات والزوايا. وفي مشهد عصري تماما، تجري مذيعة تليفزيونية حوارا مع الرجل عن فلسفته ونظرته للحياة، وحينما تسأله عن التطرف الإسلامي الذي يسقط فيه بعض الشباب، يدينه إدانة شديدة.

كان يصلح مشهد التحاق الحفيد بالجد، وكيف تصور الكاميرا اللقاء من زاوية مرتفعة على خلفية موسيقى شجية، ثم قيام الحفيد بتسليم الجد كتاب اليوميات التي كانت تسجلها هيبة، خاتمة مناسبة ومؤثرة للفيلم، إلا أن بنجلون فضل أن يعود لكي يستكمل الجانب الآخر من الفيلم، أي الصراع بين “فضيلة” التي تجسد الشر رغم رعايتها للفتيات اليتيمات، وبين عادل المادي المنصرف عن الروحانيات، وكيف تدمر فضيلة حياة عادل عندما تكشف له تسجيلات (فيديو) كانت قد صورتها للقاء الذي جمع في الماضي بين ربيعة وجلال الدين!

يتميز الفيلم بحركة كاميرا بطيئة، تسير بتؤدة وكأنها تعكس الحيرة التي تنتاب جلال الدين بعد وفاة زوجته التي كان يحبها كثيرا، والصورة بشكل عام في الفيلم جيدة مع ضبط التكوينات التي تعكس وعيا تشكيليا بمفردات اللقطة، وخصوصا في مشهد الجنازة، وهو مشهد لا يسقط في الفولكلور لأن بنجلون لا يستغرق فيه طويلا بل يكتفي بملامحه الخاصة، ثم ينتقل الى ما بعده، وهناك أيضا استخدامه الرمزي للمهرة كرمز للرغبة الجنسية، فربيعة هي التي تأتي بالمهرة التي اشتراها جلال الدين، لتسليمها إلى عادل، حيث يتبادل الاثنان النظرات التي تعكس الإغراء الأنثوي والرغبة. وأما مشهد وفاة هيبة فجاء مصطنعا وكان يمكن تقديمه بصورة أقل افتعالا.

هناك أيضا استخدام جيد لفكرة المادة التي تدهن بها فضيلة الشريرة وجهها لتزيده قبحا، في مشهد يدور بعد خروجها من السجن وعودتها الى بيتها، واستدعائها ربيعة ومواجهتها، مع تكرار الممثلة التي أدت الدور ببراعة كبيرة، الحركة التي تقوم بها، فتلمس خدها المدهون بتلك المادة التي تلمع ثم تدس اصبعها في فمها.

هل كان جلال الدين محقا في اتخاذه طريق الاعتزال داخل الزاوية واللجوء إلى التأمل والبحث عن السعادة الشخصية واليقين الديني، مع إهمال عائلته كلها بل إنه حتى لا يتأثر أو يبالي عندما تزوره “فضيلة” في عزلته وتخبره بأنها يمكن أن تدمر حياة ابنه وتطالبه بالتدخل وإجباره على رد الاعتبار إليها؟

هل كانت ربيعة مخطئة عندما امتنعت عن مصارحة عادل بما وقع بينها وبين أبيه في الماضي وفضلت إخفاء الحقيقة عنه كما أخفت حقيقة سيرة حياتها السابقة عن ابنها وليد؟

وهل كان عادل منطقيا منصفا لنفسه ولابنه عندما قبل الزواج من عاهرة تائبة يمكن أن يعود ماضيها ليطاردها في أي لحظة؟

الحقيقة أن كلها شخصيات فيها تجمع بين المتناقضات كما ذكرت في مستهل هذا المقال. ولذا فهي تدعو للتأمل والتفكير، وهذه ميزة تحسب للفيلم.

أعجبتني عبارة قالها “مولاي عمر” عندما سأله جلال الدين عن الحقيقة، فقد قال: الحقيقة يا بني هي مرآة سقطت من يد الله إلى الأرض وتحطمت. وتناول كل انسان قطعة صغيرة منها. وهي بالتالي ليست شيئا واحدا بل متعددة الأوجه، وهي داخل كل إنسان ولكن على المرء أن يبحث عن النور، نور الحقيقة في داخله”.

أدت فاطمة ناصر دور “هيبة” ببراعة مؤثرة، وبدت بجمالها الهاديء ونظراتها الحزينة ووجهها الناعم، متماهية مع الشخصية الصوفية القانعة بحياتها الماضية، التي تستقبل الموت دون وجل.

وأدت فاطمة الزهراء بجمالها المثير، دور العاهرة في البداية بقوة الإغراء والفتنة التي تخفي في داخلها شعور بعدم الارتياح والقلق. ثم أصبحت أكثر ثباتا بعد ذلك في دور الزوجة التي تحاول أن تستمر في الحياة دون أن تفارقها الهواجس بشأن ما يمكن أن يصيبها. هل كان لابد أن تدفع الثمن في النهاية كنوع من العقاب على “الإثم” الذي اقترفته في شبابها؟

أما ياسين أحجام في دور جلال الدين فظهر في القسم الأول من الفيلم وكأنه مصارع أو رجل قوي شهواني لا يتورع عن الجري وراء نزواته الشبقة، في تناقض مع صورته المفترضة كعاشق يبث زوجته كلمات الغرام العذبة، الذي لا يطيق عنها فراقا. لكنه أصبح في الجزء الثاني بعد أن خلف مولاي عمر ليصبح الداعية الصوفي، أكثر انسجاما وتأثيرا وتماهيا مع الشخصية، خصوصا بعد أن تبدلت ملامحه.  

 

موقع "عين على السينما" في

03.12.2022

 
 
 
 
 

"السدّ" لعلي شرّي.. الخيال استراتيجية للتغيير

محمد صبحي

علي شرّي (1976، بيروت) فنّان بصري وصانع أفلام لبناني مقيم في باريس، تجمع أعماله بين السينما والفيديو والنحت والتجهيز الفني وتحليل البنيات السردية. في ما يخصّ عمله السينمائي، أنجز شرّي فيلمين قصيرين، هما "القلق" (2013) و"الحفّار" (2016)، قبل أن يتمّم بأول أفلامه الطويلة، "السدّ"(*)، ثلاثية مخصّصة لما يسمّيه جغرافيات العنف، أو مشهديات العنف.

"القلق"، المعني بلبنان وحالته، تناول عنف الكارثة، وتحديداً التصدعات الزلزالية، وهي ظاهرة متكررة في البلاد. فيما "الحفّار"، المصوّر في أحد المواقع الأثرية في صحراء الإمارات العربية المتحدة، ساءل الروايات التاريخية التي بنيت عليها الأمّة الخليجية، بادئاً من قطع أثرية قديمة مكتشفة حديثاً. في "السدّ"، يذهب شرّي إلى السودان، وتحديداً إلى سدّ مروى، وهو مشروع فرعوني لتوليد الطاقة الكهرومائية على مجرى نهر النيل المتدفق عبر السودان، أعيد بناؤه حديثاً بتمويلٍ صيني، وفي سبيل إنجازه هُجّرت مجموعة من العائلات السودانية وقُتل الكثير من الأشخاص في احتجاجات أهلية مناهضة للمشروع.

في الفيلم، يعمل ماهر (ماهر الخير) مع زملائه في صناعة الطوب بالقرب من سدّ مروي، شمالي السودان. يجمعون التراب ويخلطونه بالماء، فيصير طيناً، ثم يتركونه ليجفّ في الشمس، فيصبح طوباً صالحاً للبناء. في أوقات فراغه، يكرّس ماهر وقته لتشكيل نصب ضخم من الطين، "غولم" أفريقي، سرعان ما سيكتسب حياة تخصّه وحده. يفعل هذا وسط الصحراء، مستعيراً دراجة نارية من أحد جيرانه. مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في السودان ضد حكومة عمر البشير، دبّت الحياة في الغولم الطيني الضخم، وبدأ الحديث مع صاحبه.

علي شرّي، القادم من عالم المفاهيم الفنّية والمكعبات البيضاء، يملك عيناً مفتوحة على عوالم مدهشة من الصور، لكنه لا يصرّح بعلاقاتها ولا يفشي بمدلولاتها، وإنما ينسجها معاً بطريقة غامضة وملغزة تحفّز المتلقي/المتفرج على التفاعل والإدلاء بتفسيراته. في ذلك هو أقرب ما يكون للسينمائي تساي مينغ ليانغ. في "السدّ"، يبني ويستثمر في عمله الفنّي القائم بالأساس على التعامل مع العناصر كسبيل لفهم القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تؤثر على الواقع.

حين ننظر إلى العناصر، نبدأ في فهم كل ما حولها. عبر إرسائه الفيلم في سياق محدّد وخاص، سياسياً واجتماعياً، ورفده بعناصر حلمية وأسطورية ورمزية؛ يلعب الفيلم رهاناً مدهشاً يعلن به إيمانه بالروح الأرضية للعالم في حكاية سياسية عن القوة البصرية الهائلة المنبثقة من العناصر الأساسية: الماء، التراب، النار، الهواء.
الماء والتراب عنصران أساسيان لكل أشكال الحياة، لكنهما أيضاً يمكن أن يتحولّا حين يصيرا سدّاً. عندما يُشرَّد الناس وتدمّر سبل عيشهم بسبب جدار حجري وكتل مياه محتجزة. حدث هذا أيضاً في سدّ مروي. لكن "السد" لا يذكر هذه الخلفيات إلا بشكل عابر. ما فعله نظام البشير من جرائم أخرى متروك للعثور عليه في فيلم آخر. الثورة، الخرطوم، المركز.. كل هذا يأتي محصوراً داخل شاشة تلفزيون يستمع إليها العمّال بلا مبالاة تقريباً، وفي النهاية تضيع الأصوات وسط الطبيعة الباقية والمقيمة.

الماء والتراب دائماً في الصورة. بمرور الوقت نتعلم كيف يُصنع الطوب في عملية جماعية نموذجية. أو كيف ينظّف عمال الطوب أنفسهم. نشاهد الطبيعة الكبرى وأفعال البشر فيها وبها ومعها. نعاين الصمت وغزوه من قبل أصوات بعيدة. نرى جرحاً مفتوحاً يفضي إلى عالم آخر لا نراه. وسواء تعلّق الأمر بجروح الجسد الإنساني أو جروح الطبيعة؛ يعيد علي شرّي تذكيرنا بضرورة التعامل مع جروحنا المفتوحة.

"السد" فيلم روحاني عن الطين البدائي الذي نشأ منه كل شيء. حول الطين الذي نصنعه في أطباق يمكننا أن نأكل منها. ولكنه أيضاً عن القوة المدمّرة للمياه. أفكاره وغلافها المؤطّر أهم من قصته غير المتماسكة، والمخلوق الطيني يستحضر جوانب صوفية (وغنوصية إذا اردت) وحكايات الأرواح في صحراء ما قبل الإسلام. و"السدّ" أيضاً رحلة السوداني إلى نفسه والتاريخ المضطرب لبلاده. وهو يفعل كل هذا وأكثر، بطريقة فريدة ومتطلّبة.
هذا المزيج - حكاية تقع على أطراف الحدث المركزي (الثورة السودانية)، في داخلها هي الأخرى ثمة حكاية هامشية عن بناء أسطوري في عمق الصحراء - يبيّن كيف يمكن للخيال وقوّته إحداث التحولات في الواقع. يستخدم ماهر خياله كأداة لتحرّره الاجتماعي والاقتصادي. وبالمثل، يستخدم شرّي الخيال (المنفلت من مركزية وهيمنة السرديات الرسمية) كأداة للتغيير، تغيير منظور الرواية بإعادة الاعتبار لخيالنا الشخصي. وبهذا المعنى، يغدو امتلاك (أو بالأحرى استعادة) المرء لخياله استراتيجيةً سياسية للتغيير.

(*) عُرض مؤخراً في الدورة الـ44 من مهرجان القاهرة السينمائي.

 

المدن الإلكترونية في

04.12.2022

 
 
 
 
 

ما علاقة الحب بذلك؟

خالد محمود

فى الفيلم البريطانى «ماعلاقة الحب بذلك» الذى افتتح به مهرجان البحر الأحمر السينمائى دورته الثانية، يعود شيكار كابور إلى الشاشة الكبيرة بهذه الكوميديا ​​الرومانسية الأنجلو آسيوية، حيث تدور الأحداث بين لندن ولاهور مجسدا الحب والصداقة من جانب، والتقاليد وتحطيم الأيقونات من جانب آخر.

زوى (ليلى جيمس) مخرجة أفلام وثائقية وكاظم (شازاد لطيف) طبيب، نشأ بجوار بعضهما البعض، عوالمهما متباينة، حيث نشأت زوى مع والدتها المطلقة الإنجليزية، كاث (ايما طومسون) مستقلة وفضولية بعض الشىء، بينما كان والدا كاظم المولودان فى باكستان سعداء بالمشاركة فى المجتمع البريطانى العلمانى مع ضمان سلوك أطفالهم وفقًا لعقيدة الأسرة المسلمة. بعد أن شهد بالفعل معاناة والديه عندما تزوجت أخته من بريطانى أبيض، اختار كاظم أن يحذو حذو والديه ويسعى إلى زواج تقليدى مرتب.

قرار كاظم يلهم «زوى» بفكرة رائعة لفيلمها الوثائقى القادم فى محاولة لالتقاط مشاعر حقيقية. تكتشف بعض الزوايا والطقوس المثيرة للاهتمام تنطلق وهى تحمل الكاميرا فى يدها، لتتبع صديقها فى كل خطوة من رحلته نحو الزواج فى محاولة لفهم الإغراء الدائم للزواج المرتب، بينما تعيد فحص نمطها الخاص من العلاقات المتشابكة. السيناريو الذى كتبته جيميما خان يحقق توازنا نادرا بين احترام العادات والإيمان بقوة الرومانسية، يأخذنا عنوان الفيلم لطرح أسئلة صعبة على المؤمنين الحقيقيين بالتقاليد فى كلا المعسكرين، بينما يأخذنا أيضا فى رحلة متشابكة نحو تلك اللحظة السحرية؛ حيث تتقاطع الاستقلالية والزواج.

الصورة الساحرة التى قدمها الفيلم يكمن سرها فى الكيمياء بين الممثلين ليلى جيمس وشازاد لطيف، بأداء مفعم بالحيوية، وسط تناقضات الأفكار والمشاعر، وموسيقى ملهمة وحبكة مدهشة، فزوى التى تبحث عن مشروع غير تقليدى تسخر من الرومانسية، وقد انخفضت أحلامها بسبب ما واجهته من علاقات متأزمة وفشلت مرارًا وتكرارًا فى مواعدة أى شخص لطيف، فيما أثار اهتمامها الأخبار التى تفيد بأن جارها يختار نهجًا أكثر تقليدية، فى الزواج مع عروس من لاهور، باكستان، ونرى كيف أن طبيب الأورام، يعارض فكرة تحويل زواجه إلى فيلم وثائقى، ولكن تم إقناعه بالنهاية.

«ما علاقة الحب بذلك؟» عنوان مثير للاهتمام لفيلم سينمائى من النظرة الأولى، ومع متابعة الأحداث ستدرك أنك أمام فكرة عصرية طازجة بلمستها الكوميدية الرومانسية، وإنْ كان بعدها الاجتماعى يحمل فلسفة خاصة ليس فقط على مستوى الافكار ولكن أيضا على النظرة الفنية لمخرجه.

فى ظل المشهد الرومانسى تكثر الملاحظات اللاذعة حول التحيز واللا وعى والعنصرية والسخرية وذلك إطار سحرية السرد والصورة الممتعة التى يتم تداولها بكثافة فى الكيمياء بين نجمتيها ليلى جيمس بدور زوى وشازاد لطيف بدعم من «إيما طومسون» السيناريو والحوار لجيميما خان، مكتوب بدقة كعمل رومانسى افتقدناه كثيرا، بل ويسخر من تلك الرومانسية بذكاء.

الفيلم يستكشف موضوعًا نادرًا ما يُشاهد فى أفلام خفيفة من هذا النوع. يثبت كابور أنه بارع فى المزج بين الكوميديا ​​الرومانسية والدراما العائلية وخلق شيء يبرز الثقافة الباكستانية البريطانية الحديثة.

هل يجيب الفيلم عن السؤال «ما علاقة الحب به؟» ربما لا. (إنه اختيار غريب للعنوان) إجابة كابور مفتوحة، لكن الفيلم هو تذكير بمدى متعة مشاهدة أزهار الحب وعدد المسارات الموجودة للرومانسية فى ظل شخصيات مازال الحلم بحب يستمر ينمو بداخلهم.

 

الشروق المصرية في

04.12.2022

 
 
 
 
 

علم.. السينما في مواجهة النسيان القسري للتاريخ

خالد محمود

تشكل تظاهرة "اختيارات عالمية" بمهرجان البحر الأحمر السينمائي حالة إبداعية خاصة، تتضمن أفلام من تلك النوعية التي تلهم مشاهديها برحلة أبطالها وهي وتحرك ساكن أفكارهم تجاه الاشتباك مع واقعهم، متأثرين بماضى يسعون لتمرد عليه ومستقبل يرسمون ملامحه، ومن بين تلك الأفلام يجيء "علم" إنتاج فلسطيني سعودي فرنسي تونسي مشترك، وهو العمل الروائي الطويل الأول للمخرج الفلسطيني فراس خوري، الذي يواصل به المزج بين التقاليد المتأصلة في الدراما والبعد السياسي المدروس مثلما فعل فى فيلمه القصير "أرجل مارادونا" عام 2019، وأن كان هنا يستكشف منطقة أبعد لأبطالة المراهقين، ليبدع عملًا يتصاعد مع طاقة أبطاله المراهقين وتمردهم وشغفهم غموض المشهد الذى يوقظ معه النشاط السياسي.

تامر محمود بكري (17 عاما)، وأصدقاؤه فلسطينيون يعيشون في إسرائيل - الجيل الجديد من الأطفال العرب من عائلات لا تزال تداعيات تهجير 1948 تمثل كفاحًا يوميًا. البالغ من العمر 17 عامًا فى بداية الخط الدرامى ورفاقه هم متمردو المدرسة الثانوية النموذجيون، ويقضون أيامهم في البحث عن الانتشاء، والوقوع في المشاكل بالمدرسة. ولكن في حين أن ذلك يجسد اشباع الرغبة التقليدية، والسذاجة والبراءة والثقة بالنفس لكل مراهق تقريبًا، فإن السياسات المعقدة التي يواجهونها والأجيال التي سبقتهم تظهر دائمًا، من العلم الإسرائيلي الذي يرفرف في وجوههم كل يوم من فوق المدرسة إلى يوم الاستقلال الإسرائيلي الذى يكون بالتزامن مع ذكرى النكبة، ذكرى تهجير 1948، يواجهون باستمرار وضعهم داخل إسرائيل.

بينما ينخرط بعض أصدقائه في السياسة، ويواصل آخرون البحث عن الحشيش والفتيات، يلاحظ تامر الجميلة ميساء (سيرين خاص) عندما تنضم إلى فصله، وتكشف أفكار مشاركتها السياسية.

وفي محاولة للاقتراب منها سرعان ما يبدأ تامر في الاهتمام أكثر بالعالم من حوله، ومع اقتراب يوم النكبة، يجب أن يقرر ما إذا كانت هناك أشياء أكبر منه تستحق القتال من أجلها. المشروع:
وبعد أن عرف أن ميساء، الفتاة التي يحبها، قد وافقت على الانضمام إلى "عملية العلم"، قرر تامر الانضمام إلى العملية أيضا، باستبدال العلم الإسرائيلي الموجود على سطح المدرسة سرا بالعلم الفلسطيني، وكأنهم يفككون نفس الرمز الذي ينبثق منه كل أفق صراع.. إنها عملية خطيرة جداً خاصة أنها ستنفذ في الليلة التي تسبق زيارة مسؤول مهم في الحكومة الإسرائيلية إلى المدرسة تتزامن مع تاريخ النكبة
.

هناك شعور مستمر بالإلحاح في جميع أنحاء الفيلم، مدفوعًا بمحركين مزدوجين لحماسة الشباب والغضب من النظام القمعي. في كثير من الأحيان، تظهر هذه الأمور على أنها متناقضة، ولكن نظرًا لأن تامر أصبح أكثر استيقاظًا سياسيًا، فهناك شعور بأنه يحتاج إلى التغيير، وسط عالم مشوش وإنه يمثل جيلا عليه أن يفكر فى قرار بوضع يتأزم داخل الصورة، وذلك عندما ينتقد أحد الطلاب درسًا في التاريخ، ونمط النسيان القسري، فإنه يذكرنا بأن هذا الجيل ليس لا مباليًا كما يود من هم في السلطة. على الرغم من كون والد تامر استبداديًا ظاهريًا، إلا أن الفيلم يلمح دائمًا إلى ماضيه وأنه كان أيضًا أحد النشطاء. وهنا ندرك المأساة الحقيقية في الفيلم.. إنها ليست اللا مبالاة.

سيكون من السهل اتهام ميزة الانغماس في الكليشيهات، مع جميع أنواع الاستعارات بكامل قوتها. لكن العديد من الكليشيهات المعروضة هنا متعمدة، حيث يتأرجح الفيلم بين ما هو واضح ومائي. مثلا نرى شقة تامر بها صورة من المدمرة بوتيمكين وهو "اسم الفيلم الذى قدمه المخرج سيرجي إيزنشتين ومجد الثورة العُمَّالية التي اندلعت في روسيا عام 1905 ضد نظام الإقطاع والتي قادت إلى الثورة البلشفية بعد ذلك عام 1917"، ربما تكون أقدم مثال لفيلم دعائي، بينما تستكشف النقطة المركزية للفيلم "الأعلام" كرموز. غالبًا ما تكون الدعاية غير خفية وواضحة، ويلعب خوري بذكاء تلك المشاعر.

الأداء التمثيلي قوي، لا سيما من قبل محمود بكري، بينما يتأرجح الفيلم في محتواه بين القسوة والدفء بفضل التصوير السينمائي لفريدا مرزوق.

دون شك نحن أمام فيلم مثير بدراما مليئة بإلحاحات معاصرة، ويشير بمهارة إلى الآليات غير الدقيقة للقومية، والتي يرسمها خوري عبر متاهة التناقض الذي يتتبع النسيان القسري للتاريخ.

الفيلم ــ كما يرى مخرجه ــ محاولة لتسليط الضوء على الظروف التي يجبر فيها الشباب الفلسطيني على التطور مع معايشة التناقضات الوجودية الحادة التي يتعرضون لها في سن مبكرة. بهذا المعنى، فإن "علم" هي قصة جماعية تتجسد في حياة الشاب (تامر)، الذي يرغب في الخروج من المنطقة الآمنة من الخوف السلبي إلى ضوء الحرية. لكن كما هو الحال دائمًا، لا تأتي الحرية بدون تضحيات. لن يعرف تامر الحرية التى ينشدها إلا إذا كان على استعداد لدفع الثمن.

تامر وزملاؤه الخمسة في المدرسة الثانوية يكافحون تحت عبء النسيان القسري للتاريخ والمخاطر التي ينطوي عليها من أجل تحقيق حلم جاء في سرد انسيابي يدعونا لنكون جزء من الحلم ذاته.

 

الشروق المصرية في

05.12.2022

 
 
 
 
 

عودة الروح الى " يوميات نائب في الارياف."

علي حمود الحسن

من الصدف السعيدة ترميم ورقمنة فيلم "يوميات نائب في الأرياف" في مهرجان القاهرة السينمائي 44، وهو واحد من أهم الأفلام الكلاسيكية المصرية، التي وثقت لحقبة من تاريخ المجتمع المصري سياسياً واقتصادياً وانثروبولوجياً (الدين، والأسطورة، والتقاليد، والفنون، والأدوات، والأسرة)، قيمة الفيلم ليس فقط بموضوعه والرسائل المضمرة، التي بثها من خلال المبنى الحواري، الذي شيده بإتقان الكاتب المسرحي الكبير الفريد فرج، الموسوم بالخفة والمرح والكوميديا السوداء، إنما بأسلوب توفيق الحكيم الفريد، بدءاً من تعدد أصوات السرد، ومروراً بالواقعية التي سجلت المكان والناس بأزيائهم وطريقة معيشتهم، حتى أنه يمكن القول إن "يوميات نائب في الأرياف" وثيقة انثروبولوجية للريف المصري والنمط الفلاحي العصي على التمدن، مثلما أكد الكثير من النقاد والمتخصصين، وانتهاءً بتعاقده مع ممثلين غير نجوم في السينما على الأقل، خصوصاً أحمد عبد الحليم الممثل المسرحي في دور النائب، والوجه الجديد الذي اكتشفه صالح راوية عاشور، التي قدمت أداءً باهراً بغموضها وابتسامتها وعدم انتمائها في دور ريم، أما الفنان القدير عبد العظيم عبد الحق، الذي قدمه صالح في باكورة أعماله، مجسداً شخصية الشيخ عصفور المركبة، فهو المبروك صاحب النبوءات والصوت الشجي والحزين، والعاشق الذي لا يضاهى لامرأة ابتلعها البحر فخبلته.

تدور أحداث "يوميات نائب في الأرياف" (1936) المقتبسة من رواية بالاسم ذاته للكاتب المصري الشهير توفيق الحكيم، حول يوميات وكيل نيابة قاهري متنور(جسده الممثل المسرحي أحمد عبد الحليم) في قرية مصرية نائية، يحقق في جريمة قتل قمر الدولة علوان (أدى دوره الفنان علي عزب)، الفلاح الأربعيني الأرمل، الذي أصابته إطلاقة مجهولة، لا دليل على الجريمة التي يحقق فيها النائب سوى ريم أخت زوجة المغدور الجميلة واليتيمة(الممثلة المصرية راوية عاشور في أول أدوارها)، التي تعيش في كنف قمر الدولة وأمه العجوز، يلفظ قمر الدين أنفاسه وهو يردد اسم ريم أمام النيابة والمأمور والعمدة، فتهرب من بيت مأمور المركز الفاسد(مثله توفيق الدقن)، بعد أن يضيفها عنده لغرض في نفسه، يكاد النائب أن يمسك طرف الخيط، وإنْ كان لا يصدق ارتكاب هذه الصبية جريمة قتل، لا يستمر الوقت طويلاً، حتى يجدوا جثتها بجانب صندوق الانتخابات، التي انطلقت بالتزامن مع جريمة القتل، التي ينشغل فيها أهل القرية وتُنسيهم "بلاوي" تزوير الانتخابات، وفوز مرشح الحكومة، عندها يتيقن النائب، أن لا أمل في التحقيق ومعرفة الجاني، فيقيد الجريمة ضد مجهول.

يمكن القول إن توفيق صالح أحدث قطيعة مع النمط الاستهلاكي للسينما المصرية، بفيلمه هذا، وإنْ كان واقعياً على الأقل بالنسبة لأفلامه.

 

الصباح العراقية في

05.12.2022

 
 
 
 
 

مرزاق علواش: عن حراك الجزائريين والوزير الفاسد!

وسام كنعان

يبدو فيلم «العايلة» (لمرزاق علواش- 95 د- إنتاج الجزائر 2022- العرض الأول في «مهرجان القاهرة السينمائي» الأخير) مكشوفاً منذ اللحظة الأولى، باعتبار أنه يعاين اليوميات الأخيرة لوزير فاسد، جرّب الهرب من الحراك الشعبي الذي طوّق البلاد عام 2019 مع انطلاق التظاهرات في معظم المدن الجزائرية، ما أدى إلى احتجاز مسؤولين كبار ووزراء بتُهم فساد، ثم صدرت أحكام بالسجن على العديد منهم. وقد بات هذا الظرف وشيكاً من إحكام الخناق حول عنق بطل الحكاية، لذا سيحاول تعقّب أثر نجاته، حتى يتاح له ذلك حسب وهمه، فخلال الطريق نحو الهرب تبدأ المكاشفات بين الوزير وزوجته، وتفتح صناديق التراكمات من الخلافات المكدّسة التي تؤول إلى عراكات متلاحقة، تتسع أحياناً لتصبح بمثابة فضيحة، بخاصة أن الزوجين متنكّران خوفاً من القبض عليهما. يجرّب السائق غواية ابنة الوزير التي وقع في غرامها خلال شغله مع العائلة، ولعلّه قرر مساندتهم كرمى لها، من دون أن توافيه بمراده، بعد أن تركت قلبها عالقاً عند صديقتها التي تجمعها علاقة مثلية بها. في نهاية المطاف، يجد الوزير نفسه بين يدي مهرّب ما هو حقيقة إلا أحد الشبان الذين تضرروا وأمضوا فترة سجن طويلة بسبب فساد الوزير!

هكذا، يسير الشريط في سياقه فيحسب له طرحه غير التقليدي للساعات الأخيرة في حياة سياسي فاسد، هارب من مواجهة مصيره القاتم، وصوغه لعلاقة مثلية بطريقة سلسة، وبارعة في خلق تعاطف المتفرّج. كما تسجّل له اللغة البصرية قيمة مضافة، خاصة لدى محاولة إشراك المتلقّي بالحدث من خلال حركة الكاميرا التي تنسج حالة الشخصية، وتجرّب القبض بإحكام على كوامنها النفسية المتباينة. تلاحق العدسة مساحات الجزائر الواسعة، وتناقض بشاعرية فائضة وصورة مدهشة الاختلاف الصريح في البيئة الجغرافية خلال انتقال عربة العائلة نحو الصحراء. كلّ ذلك من دون اشتباك موضوعي مع غليان الشارع، أو رغبة تقفّي ظروفه بتماس مباشر، في حين ينحو الحدث لصالح رصد وتفكيك بنيّة العائلة، وتشريحها وفضح تهاويها المطلق، وعناية ربّتها بالثانويات على حساب الجوهري في يوميات أسرتها ومصيرها المحاصر... وتبقى الهنّة الصريحة في الفيلم هي بناء حكايته المتوقعة بأغلب خواتيمها.

مرزاق علواش من أكثر السينمائيين الجزائريين المؤثرين سبق أن تقدم فيلمه «مرحبا ابن العم» سنة 1996 إلى ترشيحات جوائز الأوسكار في دورته التاسعة والستين ضمن فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية. كما حصد جوائز عدة في مهرجانات دولية، منها الجائزة الفضية عن فيلم «عمر قتلتوا الرجلة» من «مهرجان موسكو السينمائي الدولي» (1976) وجائزة أفضل فيلم من «مهرجان الدوحة السينمائي الدولي» عن فيلم «نورمال» (2011) كما عرض فيلمه «التائب» في قسم أسبوع المخرجين في «مهرجان كان السينمائي الدولي» (2012)

 

الأخبار اللبنانية في

05.12.2022

 
 
 
 
 

«علم» لفراس خوري: الرمز الفلسطيني في شكله الأوّلي

سليم البيك

زادت في الأعوام الأخيرة الأفلام الأولى لمخرجين شباب فلسطينيين أطلقوا مشاريعهم الروائية الطويلة بعد تجارب قصيرة. الميزة الأبرز في عموم هذه الأفلام هي، محاولة تمايز كل منها في موضوعاته، تفاوتت الأفلام فيها، وفي جودتها كذلك، وتبقى الجودة ضمن اعتبارات خاصة في حديثٍ عن ظروفٍ استثنائية تخص صناعة الفيلم الفلسطيني، فلا تخصّصات دراسية وصناعية، ولا تمويلات كما هو الحال في طبيعته. فلا يصح التعامل مع أفلام صنعها أصحابها ضمن ظروف هي أصعب لشرطها الفلسطيني، عن غيرها، دون مراعاة لهذا الشرط. كما يجب عدم التبرير، بهذا الشرط، الرداءةَ في الصناعة.

هذا الكلام يتعمم على الأفلام الأولى لأصحابها، لجيل سينمائي بدأ يتشكل في العقد الأخير، لاحقٍ لجيل أفلام ما بعد الانتفاضة الثانية. في فيلم فراس خوري «علم» ثلاث جوائز في مهرجان القاهرة السينمائي الأخير، هي الهرم الذهبي لأفضل فيلم، وأفضل ممثل، وجائزة الجمهور، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول له، تنويع على عموم أفلام هذا الجيل، وينسحب على عموم هذه السينما، تنويع في الحكاية والشخصيات، ومحاولة الذهاب إلى مناطق للكوميديا فيها مساحةٌ بارزة، يُحسَب هذا لصاحبه الذي خرج بموضوعه عن أيقونات الفيلم الفلسطيني، مصوّراً أيقونةً وطنية، مانحاً إياها اسم الفيلم وموضوعه والمحفز الأساسي، وإن بغيابه، لتطور أحداثه.

لا يحضر العلم الفلسطيني بقدر ما يحضر الإسرائيلي، بصرياً لا سردياً. نشاهد علماً إسرائيلياً معلقاً على سطح المدرسة، ونسمع كلاماً على تبديل علم فلسطيني به. هي بدايات تمرّد على وضع قائم في علم دولة الاحتلال، مرفوعاً على سطح مدرسة، وفي معلّم يدرّس منهاج الاحتلال في محو تاريخ الفلسطينيين وإحلال آخر محله، يقابلها طلاب يافعون يتكشّفون على هويتهم الوطنية، يخططون لإنزال العلم ورفع علم فلسطين مكانه، ويصححون للمعلّم في الصف حول التطهير العرقي والمجازر والتهجير. فكان العلم الفلسطيني غائباً بقدر ما كان الإسرائيلي حاضراً، (هو كذلك مطبوع على الورق ومبثوث على التلفزيون) ما طوّر الشخصيات وحرّض الطلاب.

الفيلم الذي تدور أحداثه حول ذلك التناقض، ما بين دولة الاحتلال ورمزها الأبرز، والشعب المحتَل ورمزه المحظور لسنوات طويلة سابقة العلم الفلسطيني بألوانه. أيقونات الفيلم الفلسطيني غابت عن الفيلم، لأنّ زمانه اختلف عمّا تعوّدناه في السينما الفلسطينية (الحواجز والجدار وما بينهما) ومكانه انحصر في بلدة صغيرة، وكانت الهوية الوطنية آنذاك في مسار تطورها، كانت بسيطة في مقارنتها، بما هي عليه اليوم. مجرّد رفع العلم كان «عملية» كما أراد صاحب الخطة تسميتها، كانت فعلاً مقاوِماً لجيل تربّى في بيت من عاشوا فترة الحكم العسكري في الخمسينيات والستينيات، وتعايشوا مع تروما الخوف. حضر العلم الفلسطيني في الفيلم ملخّصاً الأيقونات الوطنية ومستعيداً أيقونةً سينمائية فلسطينية بشكلها الأوّلي.
هذا الانتقال من فترة إلى أخرى في وعي الهوية الوطنية لدى الفلسطينيين، من جيل لآخر، مثّله اكتشاف الشخصية الرئيسية، تامر، لانتمائه الفلسطيني، بعدما لم يكن مكترثاً بذلك، لا مبالٍ بحالة التأسرل التي يعيشها، وربما لا يعيها، تطورت شخصيته بمدى إدراكه لأهمية رفع العلم ولانتمائه الفلسطيني. هو في ذلك شخصية في فيلم بلوغ (
Coming-of-age) ينتقل فيه الولد أو البنت إلى عالم جديد يتبع إدراكات تمحو سابقاتها، هي جدلية بين متناقضات داخلية، نفسية واجتماعية، تنقل صاحبها من حالة إلى أخرى، إذ تطغى بعض المتناقضات على غيرها، وهذا ما حصل مع تامر وفلسطينيته.

بلغ الشاب هويته الوطنية وأدركها في نهايات الفيلم، وفي حدث تراجيدي كان مبرِّراً واقعياً من ناحية، ورمزياً من أخرى، لذلك التطوّر. وهذا الحدث التراجيدي، وقد أنهى الفيلم، وما تبعه كانت تشطيبات ختامية، منح قيمةً درامية لفيلم كانت حواراته متكرّرة ومتخفّفة، تملأ المساحات الزمانية، وبنكاتٍ مرمية على أطرافه، منحت الفيلم جانباً كوميدياً بدا تلقائياً في بعض لقطاته وحسب، لكنها كذلك فكّكت سردية العمل في كونها فواصل كثرت، فتَفقد الكوميديا حسّها كما تفقد النكتة معناها بتكرارها، بذلك كانت الحوارات التي تتقدم بها القصّة، عتبات رخوة للوصول في الفيلم إلى نهايته. كأنّ الغاية كانت الوصولَ إلى ذلك المشهد التراجيدي وبلوغَ تامر هويتَه الوطنية، فتعجّلَ ما سبقه.

أحسن المخرج في اعتماد ممثلين هواة في فيلم يحكي عن طلاب مراهقين وتكشّفهم على هويتهم الوطنية، هو في ذلك خرج عن تقليد في السينما الفلسطينية صار رتيباً، في نَسخ الأوجه ذاتها وتكرارها من فيلم لآخر. وأحسن أساساً في الخروج من الزمان الراهن، متحرراً بالتالي من إنشاءات استعمارية صارت رموزاً أيقونية في هذه السينما، مستعيداً العلم الفلسطيني أيقونةً وحيدة. لكن لا يُبنى الفيلم على عناصر ضرورية إلا بترابطها وإنشاء علاقة في ما بينها، فتكون نقاطاً ارتكازية في الفيلم، في قصته وتصويره، لا إدخالات من خارجه أو إشارات سريعة مستقرة على السطح. هي كلامية كما هي بصرية، فلم يحمل الفيلم مبرراً لإظهارٍ، وكان متكرراً، لصورة من فيلم «المدرعة بوتمكين» لسيرغي آيزنشتاين، كصورة معلقة في بيت تامر. إحالة سينمائية شديد الرمزية والوطأة كأي لقطة من فيلم آيزنشتاين، لا يمكن أن تمر وتتكرر في مرورها، دون علاقة جوهرية في العمل المستعيد لها، في سرديته أو مونتاجه الصانع لهذه السردية في حالة الفيلم السوفييتي (الآيزنشتايني). الإحالات الثقافية في السينما تثقل على الفيلم ما لم تكن في موقعها، لا يمكنها أن تكون ديكوراً، كرسياً آخر داخل الإطار. لم يكن هذا، في المقابل، حال أغنية «ذا بارتيزان» لليونارد كوهين، نهاية الفيلم.

بالعودة إلى الأسطر الأولى، والحديث عن عمل روائي طويل أول لفراس خوري، الفيلم إضافة للسينما الفلسطينية في موضوعه، وفي خروجه عن تكرارات تمحورت حول عناصر إسرائيلية، أما حضور العلم الإسرائيلي فكان في سياق محاولات نزعه. والفيلم إضافة في خروجه من الزمن الراهن إلى آخر كان الرمز الفلسطيني الأنقى فيه هو العلم، وما لحق ذلك كان تفصيلات تعلو في العمل وتَخفت فيه، تُعلي منه وتُخفض، تنقصها حساسية سردية في عمومها، كلّها، التفصيلات، تأتي تحت عنوان واحد هو الجديد الذي مثّله هذا العمل في المألوف الفلسطيني، في موضوع الفيلم وفي طبيعة الرمز الذي فيه، في شدة الرمز بألوانه الأربعة.

كاتب فلسطيني سوري

 

القدس العربي اللندنية في

06.12.2022

 
 
 
 
 

ستيفن سبيلبرغ يحتفي بالسينما عبر سيرته الذاتية

فايزة هنداوي

القاهرة – «القدس العربي»: ستيفن سبيلبرغ مخرج فيلم «فابيلمانز»، الذي عرض في افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي مؤخرا، هو واحد من المخرجين القلائل الذين صنعوا أفلاما عن سيرهم الذاتية، مثل فريدريكو فلييني، الذي تقاطعت سيرته الذاتية مع كثير من أفلامه، وإيليا كازان في فيلم «أمريكا أمريكا» وبوب فوبس في فيلم «كل هذا الجاز»، وباولو سورينتينو في فيلم «يد الإله»، إضافة الى يوسف شاهين الذي قدم سيرته الذاتية في أربعة أفلام، هي «اسكندرية ليه»، و»حدوتة مصرية» و»اسكندرية كمان وكمان»، و»اسكندرية نيويورك»، وأخيرا بيدرو المودوفار في فيلم «ألم ومجد».

السيرة الذاتية

وتقديم السيرة الذاتية، تجربة شديدة الخصوصية والمخاطر، فالمخرج هنا يكشف نفسه أمام جمهوره، يعترف بأمور وتفاصيل كان يمكن أن ينأى عن الاعتراف بها، هروبا من تحويله أمام الجمهور من صانع للسحر إلى مجرد قصة. ولكن سبيلبرغ لم يخجل أبدا من نسج عناصر من تاريخ عائلته في أفلامه، فقد تحدث في لقاءات مختلفة، عن تأثره بقصص والده في الحرب العالمية الثانية عام 1941 في فيلم «إنقاذ الجندي رايان»، وتأثره بطلاق والديه في أفلام مثل «إي تي» أو «كاتش مي إ فيو كان».

وهو في «فابيلمانز» اختار أن يؤرخ ويعود بالزمن عبر السينما، ليرى من خلالها ويتعرف مع الجمهور على ذاته، ويفهم معه كيف وصل إلى الشخصية التي أصبح عليها الآن، فاستخدم السينما في البوح وحكي القصص حول الإنسان والأسرة والمدن والذكريات التي صنعته. يتذكر حياته الأسرية المعقدة وحبه المبكر لصناعة الأفلام، فالفيلم يدور حول الشغف بالسينما، والارتباط بها منذ الطفولة، وتأثير الأسرة والعلاقات المختلفة على هذا الشغف، مما يذكرنا بأفلام مشابهة مثل «سينما باراديسو».

يتابع الفيلم سامي من سن 7 إلى 18 عاما، ويبدأ سبيلبرغ من ليلة شديدة البرودة من عام 1952، حيث شاهد سامي فيلم «ذا كراتيست شو إن ذا إيرث»، مع والدته، ميتزي «ميشيل ويليامز»، ووالده بيرت «بول دانو». يثير تحطم القطار في الفيلم شغفا لدى الطفل، صاحب السبع سنوات، فيجعله يصر على تحطيم مجموعة القطارات الخاصة به وتصوير الحركة، وهي أول علامة على عين المخرج الناشئ، ودليل على أنه يتمتع بإحساس بصري حقيقي سيحول يوما ما هوايته الناشئة إلى مهنة قوية.

ينقل سبيلبرغ ببراعة من خلال ماتيو زوريون، وهو الطفل الذي قدم شخصية البطل، إحساس الدهشة الذي شعر به عند اكتشاف الأفلام والسعي لإتقان الحرفة، ويوضح إحساسه بالتكوين ووضع الكاميرا وإيجاد حلول بسيطة للمشاكل التي يمكن أن يقابلها، مثل استخدام المناديل الورقية لتغطية أجساد شقيقاته ليقمن بأدوار مومياوات.

يمكننا تقسيم الفيلم الى عدة فصول، الأول الذي نتعرف فيه على سامي، وهو الاسم الذي اختاره سبيلبرغ وتوني كوشنر، شريكه في الكتابة، للبطل الذي يجسد من خلاله شخصيته، ونتعرف على عائلته، التي تبدو في البداية سعيدة فهي مكونة من أم فنانة وموهوبة وتشجع ابنها سامي على تنمية موهبته، وأب عبقري في مجال الهندسة، وثلاثة أخوة يعيشون جميعهم في استقرار. يتجول المشاهد مع كاميرا سبيلبرغ في منزل «فابيلمانز» في نيوجرزي لنشعر بحميمية مع هذه الأسرة وحياتها الحالمة، فالكاميرا تأخذ المشاهد بانسيابية إلى جميع أنحاء المنزل، بكل تفاصيله، البيانو، وأجهزة التلفزيون، والمطبخ، ليبدو كل شيء جميلا ومرتبا.

واعتمد جون وليم في الموسيقى على المقطوعات الحالمة التي تعزفها ميتزي على البيانو، والتي كانت معبرة عن شخصيتها، وعن الصورة التي يتخيلها سامي ونتصورها معه عن العائلة، ثم جاءت الموسيقى بعد ذلك معبرة عن التحولات التي حدثت للشخصيات التي رسمت بدقة في السيناريو.

ومع مرور الوقت نكتشف مع سامي، في فصل ثان من الفيلم عندما ينتقل مع عائلته إلى أريزونا بعد وصوله الى سن المراهقة، أن علاقة الأب والأم ليست كما تظهر لنا أو كما كانت تظهر له، فالأب بعيد باهتماماته عن الأم الموهوبة التي فشلت في تحقيق أحلامها وحاولت ان تعوض ذلك بالاهتمام بأبنائها لكن هذا لم يجعلها سعيدة. ويواصل سامي انشغاله بالسينما ويجمع زملاءه في الكشافة في فيلم مستوحى من أفلام جون فورد، ويستخدم إمكانيات ضعيفة في صنع فيلم محكم. ولكن سنوات تكوين الشاب سامي تتأثر بحياته المنزلية المتوترة، بسبب التناقض بين الأم الموهوبة، التي تدعم عشقه للسينما وتساعده في تحقيق حلمه، والأب الذي يرى صناعة الأفلام مجرد «هواية» غير عملية، وكأنه تناقض بين العلم والفن. هذا التناقض والإحباط، الذي لم تتمكن ميتزي من تجاوزه، ربما يكون هو السبب في وقوعها في حب «بيني» صديق الأب.

المفارقة أن اكتشاف سامي للحقيقة جاء عن طريق السينما، فالسينما تستمد سحرها من أنها الحقيقة والخيال في آن حيث يمكن للكاميرا رؤية الأشياء التي تفتقدها العين البشرية، ويمكنها كشف الأسرار المؤلمة.

ففي إحدى العطلات قام سامي بتصوير رحلة عائلية وأثناء قيامه بعملية المونتاج للفيلم، يكتشف الحقيقة التي سيكون لها أكبر الأثر في حياته، حيث يدرك من خلال بعض المشاهد أن علاقة والدته مع أفضل أصدقاء والده، بيني «سيث روجن» لها طبيعة أخرى غير معلنة.

في هذه اللحظة أصبحت مساحته الآمنة وهي «السينما» مؤلمة لأنها كشفت له حقيقة كان يود ألا يكتشفها. وفي مشهد مؤثر يعرض هذه اللقطات على أمه، وأثناء مشاهدتها تظل الكاميرا على وجهها وهي تنهار، لتؤكد له أن العلاقة غير مكتملة، إلا أنه لا يزال يراها علاقة ملعونة، ولكنه أيضا لا ينسى لها رعايتها لموهبته، وهو ما يشعره بالتمزق.

نجحت ميشيل وليامز في تقمص دور ميتزي، والدة سامي، مما يرشحها بقوة للفوز بجائزة أوسكار أحسن ممثلة مساعدة، إذ نجحت في تجسيد الشخصية القوية والمحطمة في آن. فمن السهل أن نلمس في أدائها الحزن الدفين، والأحلام المقتولة، فهي موسيقية موهوبة لم تتحقق طموحاتها الفنية، وتقوم بمحاولات جاهدة أن تداري هذه المشاعر من خلال الاهتمام بأسرتها وبعض المغامرات المتهورة، مثل تكديس الأطفال في السيارة لمطاردة إعصار، وكأنها تطارد أحلامها التي أخمدت. ففي مشهد رائع نجحت ويليامز في أن تجعلنا نشعر بالحزن الكامن في نظراتها المسروقة، رغم انهماكها في الرقص، وأنار مدير التصوير بانوش كامينيسكي المشهد من الخلف بإضاءة خافتة بواسطة المصابيح الأمامية ما كثف الشعور بالحزن والشجن، وإن كان اعتمد في كثير من مشاهد الفيلم على الإضاءة الطبيعية، التي نجح في استخدامها مما حقق نسبة كبيرة من المصداقية والتأثير الدرامي.

بين الأسرة والسينما

ونقل سيث روجين في أدائه لشخصية بيني، شعوره المتناقض بين حبه لصديقه، وإحساسه بالذنب تجاهه بسبب علاقته بزوجته، وكان مشهد إصراره على منح سامي الكاميرا، التي يحلم بها كهدية، رغم رفضه الشديد، من المشاهد المؤثرة بشدة بسبب أداء روجين وغابريل لابيل، الذي برع في تجسيد شخصية سبيلبرغ كمراهق ممزق بين حبه للأفلام، وحبه للأسرة، مجسدا كل تقلبات الشخصية في هذه المرحلة الحرجة، التي تتميز بكثير من الحيرة والتوتر، وهو ما تم التعبير عنه من قبل بوريس، عم والدة سامي، الذي يأتي إلى المنزل في زيارة غير متوقعة، وأدى دوره الممثل جود هيرش، وهو ممثل سيرك سابق وأفلام صامتة، يظهر على الشاشة لمدة لا تزيد عن 10 دقائق، ولكن وجوده كان قويا ومؤثرا، حيث يقول لسامي: «سيمنحك الفن تيجانا في السماء وأمجادا على الأرض، ولكنه أيضا، سوف يمزق قلبك»، ويؤكد على الصراع بين الفن والأسرة، قائلا: «العائلة، الفن – ستمزقك إلى نصفين وتتركك وحيدا». ولكنه يتنبأ لسامي بالانتصار للفن حين يقول له «الفن مخدر ونحن مدمنون». وأخيرا يحقق سامي نبوءة بوريس وينتصر للسينما، لينتهي الفيلم بمقابلة سامي مع جون فورد المسن وغريب الأطوار، الذي يعلمه درسا هاما وهو أن الأفق لا يجب أبدا أن يكون في الوسط. وينجح سبيلبرغ في أن ينجو بالفيلم من الميلودراما العائلية ليصبح احتفالية بالسينما ومحبيها في العالم كله.

 

القدس العربي اللندنية في

06.12.2022

 
 
 
 
 

ماجدة موريس تكتب:

العقار .. والوطن

ترك سكان الڤيلا مسكنهم في حراسته، وسافروا للخارج، ولم يعودوا، سنوات طويلة وعم سيد يحرس الڤيلا التي جارت عليها السنون فتهالكت وبدأت الجروح تتخللها، لكنه ظل على وفائه ،يحرسها، ويسعد بمشاركة أحبائه في المكان، القطط والكلاب، الذي كرس وقته للعناية بهم ، وبعدها قليل من حراس البيوت الأخرى ورجال الشارع الذين أصبحوا بقية عائلته في حي عريق الزمالك، حيث الصمت يسود، والأصوات تبتعد، لكن الأمور تتغير حين يحل علي الشارع، شاب جديد، سايس قرر أن يوقف السيارات في أي مكان ، واختار الڤيلا ليحاصرها دائما، وحين يشكو الحارس،لا يهتم، ويزداد عدوانه علي المكان، ويشتبك معه عم سيد مرغما، ولكنه لا يتراجع، بل يتآمر عليه بهجوم يدبره مع آخرين لملأ الڤيلا بالمياه وإغراقها، فيقوم الحارس بإنقاذها، وبعدها يفاجأ به وقد احضر شحنة كراتين لتخزينها في الدور الأول محاولا إغراءه بالمال، وهنا يشعر الحارس العجوز بالخطر الذي لا يستطيع مواجهته وحده، فيذهب إلي محامي أصحاب الڤيلا ،الذي ينوب عنهم في إرسال (الشهرية )إليه، ويحضر الرجل، وبهدوء يواجهه بالحقيقة، وهو أن أصحاب المكان لن يعودوا أبدا، بل انه فقد الاتصال بهم بعد موت الأب، وأنه لديه عشم أن يجد حلا، ويطالبه بالاستمرار، أما ابنة سيد، فقد جاءت تزوره بعد سماعها قصة السايس، وطالبته بأن يترك الڤيلا، ويأتي للحياة معها، فيرفض.،، ولتنتهي أحداث فيلم (١٩ ب ) الفيلم المصري الذي شارك في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته رقم٤٤، والتي انتهت منذ أسبوع بحصوله علي ثلاث جوائز مهمة، وعلي إعجاب متفاوت من الجمهور الكبير الذي حضر عرض الفيلم، والذي رآه البعض يقدم موضوعا غريبا، يخاصم البهجة بينما رأته الأغلبية مستحقا لجوائزه، وأولها جائزة الاتحاد الدولي للنقاد، وأفضل فيلم عربي، وجائزة التميز الفني لمدير التصوير البارع مصطفي الكاشف في المسابقة الرسمية للمهرجان .

أين يذهب المخرج ؟

في الفيلم، ينجح مخرجه وكاتبه احمد عبد الله السيد في تقديم عمل فني مليء بالأفكار والافتراضات علي مستوى القصة والسيناريو، وعلي مستوى الصورة ،وهي عادته منذ فيلمه الأول (هليوبوليس )عن حي مصر الجديدة عام ٢٠٠٩، وبعدها قدم (ميكروفون ) بعد عامين ليكون أحد أهم أفلام السينما المصرية وأخيرا (ليل خارجي)الذي شارك في دورة المهرجان الأربعين وحصل علي جائزتين عام ٢٠١٨وبعد أربعة سنوات يعود ليقدم هذا الفيلم ( أنتجه محمد حفظي) الذي يواصل فيه طرح الأسئلة من خلال الصورة ورحلة الشخصيات مع تتابع الأحداث وكيف بدأت وتطورت، وليضعك كمشاهد في موقف المشارك في الحدث فلا تستطيع أن تهدأ مع رحلة حارس الڤيلا المليئة بالمفاجآت في حيز مكاني محدود، ولا أن ترفض التفاعل مع ظروفه الصعبة كحارس يعيش الحياة وحيدا في شبه عزلة هو وأمثاله من الحراس في الڤيلا والبيوت الصامتة، والشارع الأكثر صمتا، وبالطبع القطط والكلاب التي تتحدث لحارسها بعيونها وحركتها ،انه تراث حي موجود بيننا لكائنات وبشر يعيشون في أماكن مهجورة عمدا أو إهمالا، في كل مكان في مصر وليس القاهرة فقط، ولا حي الزمالك وحده، حياة علي الهامش ومع ذلك لا يتذمرون، وبالتالي يزداد الطمع فيهم وفيما يقومون بحراسته، ويتكاثر الطامعون كما حدث للڤيلا ، ولحارسها، ويتحول صاحب الحق إلي متسول للمساعدة أمام لصوص قادرين، وتصبح القضية هي هل من حق أي طامع أو لص، اغتصاب أرض أو مكان لمجرد انه بلا حماية تمنعه ؟ وهل من واجب أي مدافع عن الأرض أن يتركها حين تتعرض للهجوم ولا يقدر علي المواجهة؟ وهل اخطأ الحارس (الذي قام بدوره الممثل الكبير سيد رجب ) حين واجه السايس المعتدي (قام بدوره الممثل الموهوب احمد خالد صالح )، وأيضا ناهد السباعي في دور الابنة وبدوي عابد ومجدي عطوان، وبالطبع فإن براعة مدير التصوير مصطفي الكاشف بدت بوضوح في حالة وتأثير المكان والشخصيات سواء داخل الفيلا أو خارجها، كما أضاف جهد المونتيرة سارة عبد الله حيوية بالغة في تتابع المشاهد التي تدور داخل المكان، وحوله، وليترك لنا الفيلم وصناعه السؤال حائرا هل اخطأ الحارس حين واجه السايس المعتدي ؟ وهل قيام الحارس بالدفاع عن المكان من اللصوص حق أم واجب ؟،أم تركه للنهب. ؟

 

الأهالي المصرية في

07.12.2022

 
 
 
 
 

“19 ب" للمخرج أحمد عبد الله السيد.. غروب واختفاء الطبقة الوسطى

صفاء الليثي

لا أتصور أن مخرج فيلم " 19 ب" بدأ تفكيره بالفيلم من رمز ما أراد أن يعبر عنه، فبحث عن مكان يتناسب مع صورة الرمز أو المجاز. بل أتخيله في حلم يقظة يراوده هذا المنزل القديم الباقي وسط منازل حديثة لا يحب أن يراها ولا يلحظها عن قرب. منزل قديم يعيش فيه رجل مسن مع حيواناته الأليفة وأغاني محمد عبد المطلب وكأنه حلم له شخصيا ، نائيا عن الجميع وقد ظهر له فجأة عدو عائد من السجن ، شخص مجرم يهدده أكثر مما تشعره سلطة الحي وموظفيها بالتهديد. عناصر الواقع المعيش الذي نعرفه، أغلبنا يعرفه أو مر على مشابهات له في أحياء القاهرة الطبقة الوسطى، بقايا فيلات توشك على الانهيار وحولها عمارات حديثة كعلب شاهقة بلا تمييز. أمر عليها في حي الزمالك، أو جاردن سيتي، أو منيل الروضة. صورة انطلق منها المخرج المؤلف، لا توجد قصة قوية، بل قصة عادية لحارس بيت قديم، يتلقى أجره شهريا ويعيش وحيدا رافضا ترك المكان بحجج عدم التوافق مع زوج ابنته، ولكنه "مندوه" لهذا البيت ومكلف بحراسته، كنداهة ارتبط مصيره بهاـ يتلاعب بنا السرد قليلا، أين أصحاب البيت وأين المحامي عادل بيه؟ لمن يبحث منا عن التشويق سيفكر أن المحامي قد يكون رحل عن الدنيا فلم يعد لمن كلفه وجود. سيظهر المحامي عادل وينهي هذه الصفحة ويبقى لغز أصحاب البيت، منى وسارة ورثة المالك، اختفوا، هنا ألتقط مجازا واضحا لي عن اختفاء الطبقة الوسطى، لم يعد لها وجود، وبقي فقط حارس البيت الأمين والشقي المجرم. تحاول ابنة الحارس/ ناهد السباعي طلب النجدة فيقول لها الشقي لن يستجيب أحد، ماحدش هيسمع صوتك.

الوضع الآن والحادث أن البيت القديم أصبح مغنما للضباع، ليأكلوا عيش، المحامي نفسه نصح الحارس، كل عيش. وحارسنا الأمين مربوط بسلسلة غير مرئية، الحيوانات الأليفة ليست هي الموضوع، فقط عناصر من الواقع تكمل رسم شخصية الحارس العطوف على المساكين، والسواد غير طاغ على الصورة فهناك الدكتورة تعطف على الحيوانات وتساعده في رعايتها، أمها تظهر في مشهد وحيد/ منحة البطراوي، صامتة، يغلق زجاج نافذة السيارة فتبدو خلفه خيالا يتلاشى تشير بوهن بيدها للحارس، بينهما حوار صامت وبقايا ذاكرة. ستغيب الدكتورة في أجازة الصيف، يستجمع الحارس شجاعته ويقاوم الصعلوك/ أحمد خالد صالح، الذي تسقط عليه دعامة البيت الذي وضعته سلطة الحي، يعود المجاز ليبرز على سطح الحكاية، اختفى التهديد مؤقتا والحارس مع بواب العمارة الجار يشربان الشاي. وما زالت منى وسارة والدكتورة / فدوى عابد غائبات، اختفاء دائم وآخر مؤقت لنساء الطبقة الوسطى حارسات القيم، ربما. البيت القديم قائم والقطط تتكاثر . ويبقى المجاز الأوضح تلك الصخرة التي يحركها بصعوبة ويضعها أمام باب البيت حتى لا يركن السايس سيارة في المكان، يفاجأ بها داخل بيته، انت مش قدنا، يستجمع كل قواه ويحركها صخرة سيزيف عصرية، هذه المرة ينجح في زحزحتها، أفكر في الممثل سيد رجب والكاميرا في مواجهته ولا وجود لدوبلير، أزاحها فعليا وفريق الفيلم يراقب، لم يصفق أحد في صالة العرض ولكننا تنفسنا الصعداء. مازالت هناك فرصة. والمباراة لم تنتهي بعد.

في أسلوب يحاكي قواعد سينما "الدوجما"، إضاءة الفيلم لها مصدر واضح، الشمس ولمبات الكهرباء. صورة أجاد إضاءتها مدير التصوير الشاب مصطفى الكاشف، لا موسيقى إلا من مصدر نراه في الصورة، راديو كاسيت متهالك يتم ضبط صوته بعد وشيش لضبط الموجة. بقايا زمن يتعلق به الفنان صاحب الفيلم المتوحد مع بطله والمشفق عليه أيضا، أتجاوب كمشاهدة مع حلم يقظة أحمد عبد الله السيد وأفسره على طريقتي، أتجاوب معه، أعيش معه حلم يقظته باستمرار الحياة في 19 ب رغم المخاطر وفي غياب السلطات.

المخرج أحمد عبد الله السيد من جيل السينما المستقلة المصرية، في بدايته عمل كمونتير لمخرجي جيله في أفلام ابراهيم البطوط وتامر السعيد وماجي مورجان. تنوعت أفلامه في أساليبها الفنية بداية من "ميكرفون"، و"ديكور"، و"فرش وغطا"، و"ليل خارجي".. وأخيرا" 19 ب"، ورغم التنوع مازال في حضن الواقعية وتجلياتها، مازجا عناصرها الأساسية برؤيته التي تنتقد الواقع دون أن تهيل التراب عليه.

فيلم بطولة الممثل القدير سيد رجب، ولكنه ليس من نجوم الشباك، لا يراهن المنتج محمد حفظي على إيراد شباك التذاكر، والمستقبل معه، فهناك المنصات التي فتحت نوافذ للتوزيع تتوجه إلى جمهور لا يبحث عن المتعة السريعة ولا ينجذب فقط إلى نجوم الشباك. منصات ستلغي الفوارق بين ما يسمى فيلم مهرجانات وفيلم شباك. جمهورها ينتظر ويتجاوب مع أعمال يجد فيها متعة عقلية ومعرفية.

 

الصباح العراقية في

12.12.2022

 
 
 
 
 

ناعومي كاواسي:

”تميل المرأة إلى أن تكون أكثر بديهية وتعتمد على حواسها“

طارق البحار

استضاف مهرجان القاهرة السينمائي الدولي أخيراً المخرجة اليابانية ورئيسة لجنة تحكيم المسابقة الدولية ناعومي كاواسي التي تحدثت للجمهور عن رحلتها إلى أن تصبح مخرجة بالإضافة إلى أسلوب حياتها لتتكيف مع عملها بحضور رئيس المهرجان الفنان القدير حسين فهمي، والسفير الياباني بالقاهرة وعدد من المسؤولين بالمهرجان وجمهور المخرجة ضمن فعاليات الدورة الـ 44.

أدارت الندوة المخرجة فيولا شفيق، وذلك بمسرح النافورة في دار الأوبرا المصرية، وبحثت "كاواسي" مع الحضور خلال هذه الجلسة عن مصادر إلهامها، والعملية الإبداعية وراء بعض أفلامها المهمة.

تشتهر كاواسي بصنع أفلام بنظرة وثائقية، وتستخدم هذه الواقعية للتركيز على الأفراد ذوي المكانة الاجتماعية أو الثقافية غير المحرومة، وتركز أيضاً على عرض التمثيلات السائدة الصعبة للمرأة في السينما اليابانية، كما أنها تنفذ الكثير من نفسها ونضالاتها في أفلامها لربط تأملاتها الشخصية حول القضايا المعاصرة مثل الاغتراب والوحدة والهجر وانهيار الهياكل العائلية التقليدية.

نشأت المخرجة اليابانية من قبل أجدادها بعد انفصال والديها، لذا فهي تستخدم السينما كقماش فارغ تتوسل إليه مشاعرها وتأملاتها مثل ”Embracing“، الذي يناقش بحثها عن الأب الذي تخلى عنها عندما كانت طفلة، و"Katatsumori"، الذي يدور حول جدتها، "سأخلق أشياء من المصادر في داخلي. أعتقد أنه في عمق الشخص هناك شيء عالمي". يهتم عمل كاواسي بشدة بالخطوط غير الواضحة بين الخيال وغير الخيالي التي حدثت في حالة المجتمع الياباني الحديث.

تنظر ناعومي كاواسي إلى الجنس على أنه عالم إبداعي وسلس، تقول عن ذلك: "أحب التركيز على أفكار محددة للغاية وهذه هي الطريقة التي أحب أن أصنع بها أفلامي، وفيها أحصل على أفكارهم من حياتي الشخصية، ولا أبحث عما هو شائع“.

تتعامل مع فكرة تصوير النسوية من منظور مختلف تقول: “من الصعب للغاية مراقبة حياتنا، لأنها تتضمن النظر في الجوانب المحرجة أو غير المرغوب فيها لأنفسنا بطريقة ما، كوني امرأة سهّل علي النظر عن كثب إلى بيئتي الخاصة، وتميل المرأة إلى أن تكون أكثر بديهية وتعتمد أكثر على حواسها، أو قد يكون ذلك بسبب الاختلافات في الوضع بين الجنسين في اليابان، وربما عدم وجودها في المركز، مكّنها من تحقيق اكتشافات جديدة“!

موضوعات اهتمامها هي العائلة والأصدقاء بشكل أساسي، وكثيراً ما تصور العلاقات بين المخرجة والموضوع، وتنفذ باستمرار تقديرها للطبيعة في أفلامها، تقول: ”الطبيعة هي واحدة من الشخصيات الرئيسية في أي من أفلامي“، وأكدت أنها تحب أيضاً تصوير مسقط رأسها، ”Nara" وهي جزيرة في اليابان، ”اعتقدتُ أنه يجب أن أُظهر للناس ثقافتي ومكاني، ويمكننا الوصول إلى جميع الثقافات بمساعدة التكنولوجيا والإنترنت“.

كاواسي، مخرجة يابانية بارزة وكاتبة مشهورة عالمياً، حصلت على جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي 97، عن فيلمها الأول "Suzaku no Moe"، ثم حصلت لاحقاً على الجائزة الكبرى للجنة التحكيم عن فيلم "Mori no Mogari". وفي العام 2000، حصل فيلمها "هوتارو" على جائزة الفيبريسي من مهرجان لوكارنو بجانب ترشحه لجائزة الفهد الذهبي. انطلقت مسيرتها المهنية في أواخر ثمانينات القرن الماضي، ولدت في مدينة نارا اليابانية، وبدأت مسيرتها الفنية عبر مجموعة أفلام استهدفت تصوير الواقع، وتجاوزت فيها عن الصور النمطية للأعمال الوثائقية - الروائية. تعمل أيضاً "كاواسي" كمخرجة إعلانات تجارية ومنسقة موسيقية "دي جي" في برامج الراديو، كما أسست مهرجان نارا السينمائي الدولي في العام 2010.

 

البلاد البحرينية في

12.12.2022

 
 
 
 
 

ماجي مرجان.. وثقافة احترام الفيلم القصير بمهرجان القاهرة

د. أمل الجمل

شخصياً، أعتبر فيلمها «عشم» واحداً من أجمل وأهم مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، ليس فقط لجرأتها في التمرد على السرد المعتاد، حيث تغيب الحبكة التقليدية ذات البداية والوسط والنهاية، وأنها تتخلى عن منظومة النجوم، فمَنْ يقومون ببطولة فيلمها - من الرجال والنساء - أغلبهم شباب، ومعظمهم يخوض تجربته الأولى في الوقوف أمام الكاميرا، ولكن أيضاً لأن فيلمها يلمس القلب، تتفاعل مع أبطاله وشخصياته، تصدقهم. إنهم أناس بسطاء، مسالمون، لكن أقوياء الإرادة. بشر عاديون من مستويات اقتصادية واجتماعية مختلفة.

مَن يشاهد فيلمها الثاني - وثائقي بعنوان «مِنْ وإلى مير» سيجد به نقاط تماس قوية مع مضمون الفيلم الأول رغم اختلافهما تماماً، وسيُدرك أن ماجي مرجان منذ فيلمها الأول هى مخرجة مهمومة بمشروع معين، تحب السينما، تحب أن تحكي عن ناس تُحبهم، وتُفكر في ذات الوقت أن حكاية هؤلاء الناس قد تجد صدى عند آخرين من الجمهور. والأمر المدهش في الأمر أنك ستُحب شخصيات فيلمها رغم كل شيء.

ماجي مرجان موهبة سينمائية حقيقية، تبحث عن طُرق مغايرة في السرد لتحكي قصص أبطالها، أحيانا تحكي عنهم بلسانها هى، وكأنها تحكي بلسان حالهم، فتنقل إلينا صوتهم بصدق وشفافية عالية، كما فعلت مع حكاية قرية مير التي جاءت منها جدتها. هذا فقط يحدث لأنها تقع في غرام شخصياتها مهما كانوا بسطاء. ذهبت ماجي هناك تحت تأثير النوستالجيا، بحثاً عن الجذور، لكنها صُدمت بالواقع المختلف، تجاوزت الصدمة سريعاً عندما فتح لها الناس هناك بيوتهم وقلوبهم فقررت أن تحكي عنهم.

تنتمي أفلام ماجي للسينما المستقلة، تُنتج أفلامها بميزانيات محدودة جداً، أحيانا من دون ميزانيات أصلاً، فمثلاً فيلمها الثاني الذي جاء وثائقياً ظلت تعمل عليه منذ العام ٢٠٠٨ وذلك على مدار اثنى عشر عاماً، كانت كلما جمعت مبلغاً من المال واصلت التصوير والعمل عليه. أثناء تلك السنوات أخرجت فيلمها الروائي الطويل الأول «عشم»، ثم كتبت سيناريو فيلمها الروائى الطويل الثاني «أنا وليلى» والذي حصد جائزة السرد من ملتقى القاهرة السينمائى.

ما سبق لا ينفصل أبداً عن أسلوب تفكير ماجي مرجان حين تحملت مسؤولية مسابقة الأفلام القصيرة بمهرجان القاهرة السينمائى في دورته الرابعة والأربعين. التقيتها أثناء الفعاليات لأُحييها على البرمجة شديدة التميز لقسم الأفلام القصيرة. وكنت أرغب في معرفة كيف أدارت الأمر خصوصاً أنها صانعة أفلام لها بصمتها الخاصة.. سألتها عن تجربتها في العمل مع المهرجان فقالت:

ماجي: بدأت أعمل مع مهرجان القاهرة منذ 2010، كنت مسؤولة عن «ملتقى القاهرة السينمائي»، لكن قبل ثلاثة أعوام توقفت لأني كنت أريد أن أتقدم بفيلم لي ضمن «ملتقى القاهرة السينمائي» لذلك توقفت عن العمل به، ثم عدت في العامين الأخيرين للعمل في البرمجة مع أندرو محسن. كنت أقوم ببرمجة أفلام شرق أوروبا.

·        اشتكى الجمهور العام الماضي أثناء الدورة 43 لمهرجان القاهرة من أن الأفلام القصيرة كان مستواها ضعيفا؟

ماجي: كان المسؤول عن البرمجة مروان عمارة. شخصياً أشعر أنني تعلمت كثيرا من خبرة مروان. هو إنسان جريء جدا، أحترمه جدا، وقتها هو قرر أن يختار كل الأفلام عرض عالمي أول. وطبعا نحن كمهرجان عمره 44 سنة المفروض أننا نبني خبرتنا على خبرات الذين سبقونا، الأفلام موجودة كل سنة لكن المؤكد أن يكون هناك خبرة تراكمية.

·        ماذا كانت معايير الاختيار في هذه الدورة؟

ماجي: كان عندي رغبة في اختيار أفلام تجذب الجمهور، وتجعلهم يقعون في حب السينما، المشكلة أن كثيراً من المخرجين يعتبرون الفيلم القصير كأنه «كارت» لتقديم أنفسهم حتى يقوموا بإخراج فيلم روائي طويل بعد ذلك، بينما في العالم هناك مخرجون لهم أفلام طويلة لكنهم في لحظة ما يقررون صناعة فيلم قصير، لأن الفكرة تحتمل أن تكون بعمل قصير. أنا أحب مشاهدة الأفلام القصيرة كأن الإنسان يقرأ الشعر في مقابل الرواية وهنا الفيلم القصير في مقابل الفيلم الروائي الطويل.. الفنان يُمكنه أن يكتب الشعر وأن يكتب الرواية، كذلك أحب أن الجمهور يستمتع ويشاهد أشياء يستفيد منها وتعجبه. بالطبع هناك تحدٍ أننا في عصر الإنترنت فالأفلام القصيرة ستكون متاحة ومُشاهدة بنسبة كبيرة، لكن على الشاشة الكبيرة المشاهدة مختلفة وممتعة أكثر.

·        لو فكرنا في معادل لجملتك «أنك تريدين للجمهور أن يستمتع بأفلام ويُشاهد أشياء يستفيد منها،» فهل تحدثينا عن مقياس الاختيار؟

ماجي: كنت أعتمد على عدة أشياء، ولم أكن أختار لوحدي. كنا فريق كبير، وأيضا بعد أن انتهينا من الاختيار كانت هناك نظرة أخرى من أمير رمسيس وأندرو محسن. في الاختيارات الأولى كنت أحاول البحث عن موضوعات تلمس مشاعر الناس، وتكون قريبة من همومهم، أو من بعض أفكارهم. أنا أيضا أقوم بالتدريس في الجامعة الأمريكية وعلى تماس مع الطلبة وأشاهد الأشياء التي تجذبهم وتهمهم أكثر، وتشغل تفكيرهم، وفي اعتقادي أن جمهور الأفلام القصيرة هم أكثر من الشباب. أغلبهم. مثلاً كنت أدير ندوة فيلم «أشياء لم تُقل» ولاحظت وجود فرق كبير وتفاوت عمري. في الفيلم الروائي الطويل الناس أعمارها كبيرة أما في الأفلام القصيرة فكان الأغلب من الشباب.

·        ما حدث هذا العام من نجاح يُؤكد أن رهانك كان صائباً لأن الحفلات جميعها كانت "سولد أوت".

ماجي: أعتقد أنه من الأسهل أن تكون الأفلام القصيرة تذاكرها سولد أوت، الطريقة التي صممنا بها البرنامج أسهمت في ذلك؛ لأننا وضعنا في كل مجموعة فيلم مصري وفيلم عربي. فكل فيلم مصري اشتغل عليه نحو 10 أو خمسة عشرة من الشباب، فلو كل واحد منهم أحضر مجموعة من أصدقائه هذا في حد ذاته جمهور، بالإضافة إلى ذلك هناك بالفعل ناس تهتم بالفيلم القصير. هناك ناس حضروا العروض جميعها، كنت أشاهد وجوهاً تتكرر كل يوم، وتطرح أسئلة كل يوم. أعتقد أن هناك مجموعة كبيرة منهم من الشباب الذين يفكرون ويرغبون في صناعة أفلام قصيرة، وكانوا يُريدون أن يروا على أرض الواقع ماذا يحدث، وكيف تتم مناقشة الأفلام، كيف تتم معالجتها، وكيف يستقبلها الجمهور.

الحقيقة أنه إذا كانت القاعات في سينما الهناجر صغيرة ويمكن شغل جميع المقاعد بسهولة، فالأمر مختلف في قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية لأنها كبيرة وبها نحو 960 كرسياً، وهذا عدد ضخم، والملاحظ أن جميع المقاعد كان يشغلها الجمهور وهذا أمر لا يصدق.

ماجي: صحيح.. لقد انتبهت لذلك في اليوم الثاني لذلك قبل بداية العرض استأذنت الجمهور وطلبت منهم أن ألتقط صورة للقاعة.

·        ما تفسيرك أن مستوى الأفلام المصرية في هذه الدورة كان مرتفعا؟

ماجي: كل عام نسمع في مسابقة الأفلام الطويلة والأفلام القصيرة أن هناك صعوبة في الحصول على فيلم مصري، لكن الحقيقة أن هذا العام كان هناك عدد كبير من الأفلام خصوصا في القصير، ولولا الخوف من أن يتم لومنا على ذلك كنا اخترنا عدد أكبر، لأنه كان هناك أفلام مصرية عديدة جيدة.

·        الحقيقة أنا مندهشة. فقد كنت عضواً بلجنة اختيار الأفلام بمهرجان الإسماعيلية الدورة الأخيرة، ولاحظت أن الأفلام المصرية القصيرة المتقدمة للمشاركة كان مستواها غير جيد، فيها تعجل وتميل للمعالجة التليفزيونية أكثر منها إلى السينما.. لكن المدهش أن بمهرجان القاهرة شاهدت أفلاماً مصرية قصيرة جيدة جدا، بل مستواها مُدهش، وأنت تؤكدين على أنه كان هناك المزيد.. فهذا أمر غريب؟

ماجي: لابد أن نضع في الاعتبار أن صانع الفيلم القصير ليس لديه ميزانية، فهو أمام مُضلع ثلاثي.. الفن الفلوس ثم الوقت.. لابد أن يمتلك اثنين على الأقل من الثلاثة.. فمثلا فيلم «ماما» أو فيلم «صاحبتي» أو فيلم «إنترفيو» كل مخرج اشتغل على عمله تقريبا سنة ونصفاً، وهذا وقت طويل على فيلم قصير، لكنهم اضطروا لذلك لعدم وجود ميزانية كبيرة فمثلا ساندرو منتج فيلم كوثر يونس أكد على أنهم تقريبا اشتغلوا بالجهود الذاتية لعدم وجود ميزانية، عملوا بروفات على مدار حوالي ست شهور.. هكذا يكون الوضع إذا لم يكن لديك فلوس، فلابد أن يكون لديك متسع من الوقت لأنه سيكون من الصعب أن «تُكروِت»، أو تقدم عملا سريعا في وقت قصير وأنت لا تملك أموالاً. هذا لن ينفع.

·        ما هو طموحك لمتابعة الأفلام القصيرة في الأعوام القادمة؟ هل هناك شيء يمكن إضافته لهذا البرنامج بخلاف إن الأفلام يتم اختيارها وفقا لما يتم إنتاجه في ذلك العام، بمعنى آخر؛ هل سيعتمد البرنامج فقط على وجود أفلام جيدة أم هناك طموح أكبر من ذلك؟

ماجي: سؤال مهم جدا. كنت أفكر كيف يمكن التطوير؟ أعتقد أن هذه المسابقة يُمكن أن يتم تكبيرها ويتم تقسيمها إلى عدة أقسام؛ قسم للأنيميشن، قسم للتجريبي، وآخر للوثائقي.. ربما يكون هناك تقسيمات أخرى إذا كان لدينا وقت أطول ومساحة أكبر في دور العرض.. هذا العام كان لدينا أربع برامج فقط فإذا تم تطويرها وأصبحت ستة أو سبعة سيختلف الوضع، وهذا يتيح فرصة إمكانية وجود مسابقة لأفلام الطلبة. هذا مهم.

·        مهرجان الإسماعيلية به قسم لأفلام الطلبة، فمن باب أولى أن تكون هناك فرصة لهم في القاهرة؟

ماجي: كما أن الأمر لم يعد يقتصر على طلبة معهد السينما، فهناك طلاب الجامعة الأمريكية، والجامعة البريطانية، والجامعة الكندية، وعلي بدرخان.. الآن أفلام الطلبة كثيرة وهي لا تدخل في التنافس، فلابد من التفكير في عمل قسم لهم، حتى يُتيح لهم فرصة في النقاش، فرصة في معرفة ماذا يدور في المهرجان، متابعة مشهد رد فعل الناس، أن يجلس الطالب في الصالة ويتأمل ردود فعل الناس؛ هل ضحكت؟ أو لم تضحك ولماذا؟ هذا التأمل مفيد.

·        لاحظت أثناء حضور عروض الأُفلام القصيرة وجود ثقافة احترام الفيلم القصير.. ما هو تفسيرك؟

أنا لاحظت ذلك، وقلت أثناء تقديم أحد العروض: الناس الموجودة هنا في هذه الصالة هى ناس تحب السينما بشكل حقيقي، وليست مجرد جمهور عادي، ليست قادمة من أجل السجادة الصفراء أو الحمراء. حضرتك حضرتِ، لكن، لابد من القول أن النقاد الذين حضروا قليلون جدا. كذلك، أغلب الحضور كانت ناس تحب السينما ويريدون أن يُشاهدوا، ويتعلموا، من هنا أظهرت هذا الاحترام لهذا النوع الفيلمي. كنت دائما أقول قبل بداية كل عرض: «من فضلكم نطفي التليفون» لكن الحقيقة أن الناس كانت تلتزم من نفسها.. أيضاً كان هناك فيلمان عن ذوي القدرات الخاصة كشفا عن اهتمام الناس التي تشاهد الأفلام. كان المتلقى يسأل عن الموضوع وليس فقط عن الجماليات الفنية، كذلك، مثلا فيلم «إنترفيو» الذي كان يتحدث عن الإكتئاب ومحاولة الانتحار، والفيلم الأمريكي «روزماري» أيضا كان الرجل أباً لطفلة ويفكر في الانتحار. مع الفيلمين كان الجمهور يُبدي اهتماماً بهذه القضية، وتفاعل بشكل إنساني مع الموضوع وليس فقط مع المعالجة الفنية، وهذا يدل على أن موضوع الاكتئاب مثلاً يلمس هموم ناس كثيرة، وقضية تشغل تفكير عدد كبير من الجمهور. كذلك فيلم كوثر يونس بعد العرض وقف ثلاثة شباب من بين الجمهور وقالوا نحن فعلنا ذلك في مرحلة من حياتنا. هذا ما كنت أفكر أثناء اختيار الأفلام أن تُعبر عن حياة الناس، وعن قضايا تشغلهم، وعن تجارب تتلامس مع خبراتهم.

 

موقع "مصراوي" في

13.12.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004