ملفات خاصة

 
 
 

شاهدتُ لكم:

“عَلَم” عن تمرد مراهق فلسطيني بـ“القاهرة السينمائي”

البلاد/ طارق البحار

القاهرة السينمائي الدولي

الدورة الرابعة والأربعون

   
 
 
 
 
 
 

حقق الفيلم الفلسطيني ”عَلَم“ للمخرج فراس خوري جائزة الهرم الذهبي الكبرى في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الرابع والأربعين، الذي عقدت في العاصمة المصرية القاهرة أخيراً، وحصل الفنان محمود بكري، على جائزة أحسن ممثل عن دوره في الفيلم ذاته، وحصل “عَلَم” على جائزة يوسف شريف رزق الله بقيمة 15 ألف دولار، مشاركة بين المنتج والشركة الموزعة للفيلم في مصر.

تدور الأحداث حول تامر، مراهق فلسطيني يعيش حياة تقليدية هو وأصدقاؤه في المدرسة الثانوية حتى تظهر زميلتهم الجميلة ميساء ولنيل إعجابها، يوافق تامر على المشاركة في عملية غامضة تحت مسمى “عَلَم” تقلب حياته رأسًا على عقب.

وعلى الرغم من بساطة قصته، يقدم الفيلم حياة شخصيات فلسطينية تفتقر إلى العِلْم بما يحدث حولها مثل معرفة الفرق بين ما يحدث في الأراضي التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية (بعد اتفاق أوسلو) وما يحدث في المدن العربية داخل إسرائيل وهكذا، إذ تدور أحداثه في بلدة عربية داخل إسرائيل، حيث يمتلك الفلسطينيون الجنسية الإسرائيلية، لكنهم يفتقرون إلى بعض الحقوق الأساسية.وفي التفاصيل يحكي الفيلم بالتحديد قصة تامر، مراهق في المرحلة الثانوية (ويقدمه محمود بكري) الذي نشاهد حياته كمراهق عادي مليء بالمشاعر الداخلية الغاضبة والراغبة وغيرها، ويقدم هذه المشاعر في صورة خطة مجموعة مع الأصدقاء لاستبدال العَلَم الإسرائيلي على سطح المدرسة بالعَلَم الفلسطيني عشية يوم استقلال إسرائيل بعد أن اقترح صديق تامر ”صفوت“ (الذي يجسده الفنان محمد عبدالرحمن) الفعل بثورة صبيانية، وبالطبع يوافق تامر للفت انتباه الفتاة الجديدة ميساء (جبور كاون).دراما بلوغ سن الرشد تتوافق مع القصة الجميلة للفيلم، مع تقديم منظور جديد لتصرفات المراهقين هنا كما يفعلون في الغالب، وكما نفهم جميعاً مما نراه، وفي أي مكان ”مزحة مراهقة غبية“ لإقناع الفتاة ستؤدي إلى نزاعات لا قيمة لها منذ البداية.

والفيلم من تأليف وإخراج فراس خوري، وبطولة محمود بكري، سيرين خاص، صالح بكري، أحمد زغموري، ومحمد عبدالرحمن. وتصوير فريدة مرزوق، ومونتاج نادية بن رشيد، وإنتاج MPM Film (فرنسا) (ماري بيير ماسيا، كلير غاديا، نايومي لاجاديك)، Paprika Films (تونس) (مالك كوشباتي)، وPhilistine Films (فلسطين) (أسامة بواردي)، وتتولى MAD Solutions وLagoonie Film Production مهام توزيع الفيلم في العالم العربي.

ويملك خوري في رصيده العديد من الأفلام القصيرة، من بينها أفلام نالت العديد من الجوائز: سبعة أيام في دير بولس (2007) وصفّير (2010)، وعُرض في العديد من المهرجانات وعلى القنوات التلفزيونية ومنها Arte وVVD. في العام 2019، انتهى من فيلمه القصير اجرين مارادونا الذي شهد عرضه العالمي الأول في مهرجان بالم سبرينغز السينمائي، ويعرض على نتفليكس منذ 15 أكتوبر 2021.

وإلى جانب نشاطه الإخراجي، يلتزم خوري بنشر الأفلام الفلسطينية وتدريب الشباب. كما قام بتدريس التعبير السينمائي في مدرسة السينما في مسرح الحرية بمخيم جنين للاجئين، وجامعة الناصرة وجمعية المشغل للثقافة والفنون في حيفا، وفي تونس أيضاً. فراس خوري هو عضو مؤسس في مجموعة “فلسطينما” التي تهتم بإقامة ورش لصناعة الأفلام وعروض في مختلف المدن الفلسطينية.

 

البلاد البحرينية في

26.12.2022

 
 
 
 
 

"العائلة" لمرزاق علواش: فيلمٌ مستعجل ومضطرب

عبد الكريم قادري

قدّم المخرج الجزائري مرزاق علواش (78 عاماً)، في مساره الطويل، إضافة فنية مهمة في تاريخ السينما الجزائرية، بدءاً من فيلمه المفصلي "عمر قتلاتو" (1976)، الذي ساهم بطريقة ما في كسر سرديّة سينما الثورة الجزائرية، والتحوّل إلى سينما جديدة، تستثمر في الواقع الاجتماعي، وتتناول مواضيع غير ثورية، ليولد من ذلك العمل مرحلة سينمائية جديدة تماماً، أنتجت أفلاماً مختلفة عدّة لمخرجين شباب. بهذا، ساهم في خلق تيّار سينمائي، وكسر مرحلة كاملة. في الوقت نفسه، واصل إخراج أفلامٍ، تناولت بمجملها مواضيع الراهن، لالتصاقها بواقع الجزائر.

موضوع الإرهاب يكاد يكون أكثر ما تناوله في مجمل أفلامه. لكنّه، بين حين وآخر، يُنوّع المواضيع، وإنْ كانت متشابهة في معظمها، خاصةً أنّه بات يخرج كلّ عام فيلمين. لذا، باتت أفلامه أقلّ حِرفية وفنية من أفلامه السابقة، وأصبح يُسارع الزمن لإنتاج أكبر عدد من الأفلام، من دون أنْ يعطي للفيلم قيمته السينمائية، التي تعكس هويته الفنية وتميّزه. بالتالي، غلَّب الكَمّ على الكيف، وأصبح يقدّم أفلاماً عادية وهشّة أحياناً، لا تحمل قيمة سينمائية كبيرة، يسدّ بها فراغاً تشهده السينما الجزائرية.

هذه المعطيات انعكست في أحدث أفلامه، "العائلة" (2022)، المُشارك في مسابقة "آفاق السينما العربية"، في الدورة الـ44 (13 ـ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي". تدور أحداثه في فترة الحراك الجزائري عام 2019، عبر نماذج بشرية في عائلة بورجوازية منتفعة من الأنظمة السياسية المتعاقبة، يعكسها الأب (عبد الرحمن إيكاريوان)، الذي كان وزيراً سابقاً، تحاصره ملفات فساد عدّة، إذ بدأ اسمه يُذكر في تقارير مختلفة، فأصبح يخاف على نفسه من السجن. المعطى نفسه تتشارك فيه زوجته (حميدة آيت الحاج)، المنتفعة هي أيضاً من الأنظمة السابقة. كانت تعتمد على جسدها لتحافظ على مكتسباتها، وترقية زوجها. إضافة إلى ابنتهما (نرجس عسلي)، المنخرطة في الحراك، رافعةً العلم الجزائري، تُطالب كغيرها بسقوط النظام، وضرورة محاسبة الفاسدين. تشارك كلّ يوم جمعة في المظاهرات، رفقة صديقتها المقرّبة (مريم عمير).

لهذا، بدأ الوزير السابق يبحث عن مخرج من هذه الورطة المقتربة منه، فيكلّف حارسه المقرّب خالد (نصر الدين جودي) بإيجاد طريقة للهروب والسفر، ستكون عبر الحدود المغربية. كما بدأت زوجته بيع الممتلكات (شقق ويخت ولوحات فنية وغيرها) التي حصلت عليها كهدايا، بسبب فساد زوجها. ثم تبدأ الرحلة باتجاه الحدود المغربية، تحصل فيها أحداث أخرى غير متوقّعة، فتتعقّد الأمور، وتتوجه نحو السواد، خاصةً أنّ هناك مفاجآت عدّة لم تنتظرها العائلة.

لم يحمل السيناريو (علواش) أحداثاً غير متوقّعة، فكل ما قدّمه منطلقات بديهية بنتائج منتظرة، وهذا هَدَم القيمة السردية لـ"العائلة"، وجعله ينزلق إلى العاديّ الذي يُثير مللاً لدى الجمهور، لأنّه يتوقّع أحداثاً يُشاهدها و"يتنبأ" بأخرى. أي أنّ علواش لم يقدّم معالجة جديدة أو مبتكرة، مختاراً فقط قصّة من الراهن، أعاد تشكيلها وفق سياق محدود، فأصبحت التفاصيل في تناول الجمهور، الذي سيتعالى من خلالها على المخرج. خيَّب الفيلم ظنّ المتلقّي الحصيف، الباحث دائماً عمّا يثيره ويحرّك ذائقته السينمائية. كما أنّه لم يستطع إدارة الممثلين كما ينبغي، ولم يُحسن استغلال ممثلين لديهم مواهب كبيرة، بسبب خيارات خاطئة. لكنْ، هناك من صنع استثناءً، كالممثلة فوزية آيت الحاج، التي أظهرت طاقة رهيبة، وأعطت للعمل نكهة كوميدية خاصة، بشخصيتها المرحة، وحضورها القوي. غير أنّ هذا كلّه لا يكفي، فالطاقة التي تملكها الممثلة كان يمكن أن تقلب موازين الفيلم. حاصر علواش شخصيتها، وحوّل المأساة التي تعيشها العائلة إلى مشاهد كوميدية عبرها.

هذا خيار فني لا يليق بدرامية الفيلم وتوجّهه وموضوعه. كما أنّه لم يستغل حضور الممثل خالد بن عيسى وموهبته، فأعطاه دوراً ثانوياً يُمكن لأيّ ممثل، مهما كانت قيمته، تأديته بسهولة. إضافة إلى الممثلة نرجس عسلي، التي لم تقدّم شخصية مُقنعة، مؤدّية دورها ببرودة تامة، غير مُقنعٍ (الدور) بالألم الذي تعيشه، لأنّ عائلتها مُهدّدة بالتفكّك والسجن، بينما تميل هي إلى الحراك. هذه المفارقة لم تنعكس في الشخصية كقيمة نفسية، لها أبعاد بين العاطفة الإنسانية ـ التي يحسّها الفرد تجاه أسرته، مهما كانت، لأنه لم يخترها ـ والمطالب الموضوعية، التي يعكسها الحراك كقيمة حضارية ضد فكرة الفساد.

كان يُمكن لعلواش، لو أحْسَن إدارة الممثلين، أنْ يعكس الدورين بين نرجس عسلي ومريم عمير، لتؤدّي كل واحدة منهما دور الأخرى. فالأخيرة تملك ملامح قوية ومعبّرة، تُمكّنها من أداء تلك الشخصية المضطربة والواقعة بين نارين.

الذهاب بشكل مباشر إلى موضوع الفساد أرهق "العائلة"، وهَدَم معظم الأبعاد التأويلية، التي كان يمكنها أن تكون فيه. كان يُمكن لمرزاق علواش، ككاتب السيناريو والحوار، أنْ يراوغ فيُقدّم الموضوع بشكل مختلف، فيضمن خلق لغة سينمائية في فيلمه، ويُبعد ذلك الاضطراب والتفكّك في تفاصيله. كان بوسعه، لو استعان بكاتب سيناريو جيد، تقديم موضوعه بطريقة أكثر ذكاء. مثلاً: اختيار امرأة حامل توشك على الولادة، لم تجد طريقها إلى المستشفى بسبب الحراك، وطبيبة المستشفى منشغلة بأسرتها المهدّدة بالسجن. يمكن أنْ تكون هذه القصة المحور الرئيسي، بينما يجعل قصّة الوزير الفاسد ثانوية.

كان يُمكن لمعالجة جيدة أنْ تُحوّل المتن إلى هامش والهامش إلى متن. من هنا، يُمجَّد الحراك والتعريف بالفساد بحرفية أكثر. هذا مثل بسيط عن تعدّد خيارات القصّ والسرد، ولا يمكن أنْ يكون تدخّلاً في خيارات مرزاق علواش.

"العائلة" ("العايلة" باللهجة الجزائرية) فيلمٌ مستعجل ومضطرب، كأفلام أخيرة لعلواش، منها "ريح رباني" (2018)، وفيه المعطيات السلبية نفسها المذكورة، بتقديمه صورة سلبية عن التسرّع وعدم الاهتمام بالتفاصيل التي تصنع فيلماً جيداً. ربما حان الوقت لاستعانة مرزاق علواش بكتّاب سيناريو يحملون روحاً جديدة، ويبثّون دماءً مختلفة في أعماله، دافعينها إلى مسار أكثر فنية، بدل السقوط في الأخطاء والمعطيات نفسها التي تحدث في أفلامه، أو إعطاء وقت كافٍ لأيّ عملٍ يقوم به، من كتابة السيناريو إلى الإخراج، بدل صنع فيلمٍ في أسبوعين أو ثلاثة.

 

العربي الجديد اللندنية في

28.12.2022

 
 
 
 
 

مُخرج «ماما».. يُفجر قانون الوصاية على البنات

د. أمل الجمل

أتذكر أنني التقيت فتاة تركية في سويسرا قبل عدة سنوات عندما استضافتني في بيتها ضمن برنامج الضيافة Airbnb، وحكت لي قصتها، أو بالأحرى قصة هروبها من والدها وأخوتها الذين كانوا يخططون لتزويجها رغماً عنها. ساعدها في ذلك بعض المدرسين المتعاطفين مع قضيتها، خططوا معها حجة الخروج من المنزل للهروب ليلاً، الطريق الذي ستسلكه، مَنْ سينتظرها وأين، المكان الذي تستقر به، نجحوا في توفير دعم بعض المؤسسات لها، وعمل لتوفير دخل لها عقب الهروب، وذلك علي أن تبدأ الرحلة في الليلة التي ستُكمل فيها سن الثامنة عشر. فتم إنقاذها وتبديل مستقبلها بزاوية ١٨٠ درجة. أصبحت الفتاة مستقلة، واصلت تعليمها الجامعي، صار لديها شقة، وعمل، وحياة.

في مصر، وفق القانون، تظل الفتاة تحت الوصاية حتى تبلغ سن الحادية والعشرين. قبل ذلك يُمكن لوالدها أو عمها - أو أي وصي بعد وفاة والديها - أن يفرض سيطرته عليها، فيتحكم في أموالها وميراثها ويٌحدد لها مصيرها.

تناقض غير مفهوم!

هذا القانون هو ذاته الذي يمنح الفتاة حق استخراج بطاقة الرقم القومي في عمر السادسة عشرة، ويمنحها حق استخراج رخصة القيادة عندما تبلغ الثامنة عشر، فلماذا يمنحها القانون حق القيادة الذي لا تكون فيه مسؤولة عن حياتها فقط ولكن عن حياة آخرين أيضاً؟؟ بينما يحرمها من حق أن تتولى قيادة مسؤولية نفسها وتحديد مصيرها والتصرف في ميراثها ورعاية أخيها عندما تبلغ الثامنة عشرة؟ لماذا تسبقنا الدول الأوربية وأمريكا في ذلك؟ ولماذا يُصر القانون المصري على أن تظل الفتاة فاقدة أهليتها محرومة من حريتها حتى تبلغ سن الحادية والعشرين؟ لماذا لا يتم تعديل مثل هذا القانون؟

الفيلم القصير البديع «ماما» للمخرج الموهوب ناجي إسماعيل يُفجر برقة هامسة قضية الوصاية على الفتيات في مصر. الفيلم مقتبس عن قصة حقيقية مُوجعة، لكن ناجي أعاد كتابة سيناريو روائي قصير مؤلم، بناؤه منسوج بحكمة وبصيرة الفنان الصادق المهموم برؤية مُشْرَعة على المستقبل.

من تلك اللحظة التي أعقبت الوفاة غير المعلنة يبدأ. هكذا نشعر مع اللقطة الأولى حيث الفتاة التي تُعطينا ظهرنا وتمد بصرها باتجاه الضوء القوي القادم من الشباك. لحظة تأمل كأنها السكينة أو الاستسلام للقدر، قبل أن تهم وتغلق النافذة كأنها تغلق القبر من الداخل، مع استمرار صوتها الذي يصاحب الصورة عن قصة الأمير الصغير الذي كان بحاجة وضرورة لمواساته.

اشتغالات بصرية شديدة السينمائية

الوفاة السرية تؤكدها تلاوة الشيخ محمد رفعت لآية «مثل نوره كمشكاة…» من سورة النور على لقطات بصرية خالية من البشر تشي بحزن البيت. يعقبها على شريط الصوت دق شديد على شراعة الباب بكف غليظ. «الشراعة» ذاتها لوحة فنية تحمل دلالتها ضمن محتوى الفيلم، ففي منتصف زجاجها رُسم وجه طفل يبتسم ورأسه يتطلع لشيء مبهج لا نراه. الدق المتواصل العنيف يعقبه خروج الكاميرا إلى مشهد العمارات الشاهقة المتراصة وفي مقدمتها شاطئ البحر المتوسط قبالة الإسكندرية.

كأنها رحلة من الداخل إلى الخارج، عبر تفاصيلها البصرية المعدودة نُدرك الحالة الاجتماعية الاقتصادية لبطلي الفيلم؛ من الأحذية الرثة الراقدة على الأرض متجاورة، وبعض مفردات الأثاث القديم، التلفاز والكنب، الجدران والسقف الذي تتدلى منه قطع من الطلاء المتهالك.

نرى الفتاة التي تكاد تقترب من سن الواحد والعشرين بصحبة طفل ربما في السابعة أو الثامنة. يسيران في الشوارع، يجلسان على السور الممتد على شاطئ البحر، يمران بلسانهما على السائل المتجمد للآيس كريم بينما عيونهما شاردة باتجاه عمارة أمامها.

لاحقاً عبر ثلاث لقطات سريعة ومكالمة هاتفية مُوجزة - لكنها كاشفة - سنُدرك أن الدق على شُراعة الباب كان مصدره العم الذي يُلاحق البطلة مي، مٌدعياً حرصه عليها وعلى أمها وأخيها، مُصراً على أن تذهب لتعيش معه هى وأخيها الصغير بالقاهرة وبيع شقتهما، خصوصا أن لديه شكوكاً بأن أمها قد أصابها مكروه. إذن جوهر الموضوع هو وضع يده على الشقة.

عدم الغرق في المأساة

نعيش تفاصيل رعاية الفتاة لأخيها، وحمايتها له نفسياً مُدعية أن الأم مريضة ولايجب أن يراها لتحميه من نقل العدوى، فيكتب الصبي خطابات لأمه، يحكي عن حبه لأخته وعدم إغضابها لأنها مرهقة، وأنه ادخر مبلغاً من المال ليشتري لها هدية في عيد ميلادها، وفي لقطات آخرى نرى الشابة بين الممرضات زميلات أمها في المستشفى وهن يقدمن لها المساعدة المادية، بينما تتقبلها وهى تفر فراراً.

أحداث الفيلم القصير مؤلمة، كئيبة، مُقبضة، لكن ناجي إسماعيل بموهبته وإحساسه السينمائى والوجداني حاول التخفيف من هذه وطأة هذه الكآبة ومنحها لمحات من الآمل والإرادة، وعدم الاستسلام، وحب الحياة. حقق ذلك ببراعته في الاشتغالات البصرية المعبرة، الموجزة، الموحية، والتي تخلق تياراً شعورياً خطيراً يجعلنا نندمج مع مأساة الفتاة وشجاعتها، حتى إنه عندما بلغت المأساة بلغت ذروتها لم يتركنا نغرق فيها طويلاً، لكن عبر الانتقال السلس من صدمة الفتاة وذعرها - المصحوب بشريط صوت مخصص لأغنية «جارة الوادي» لفيروز بصوتها الشجي - ثم ينتقل ناجي إلي تفاصيل آخرى للصبي المتحمس عقب خروجه من المدرسة مفكراً في الهدية التي أعدها لأخته، متحمساً لأنه سيُسعدها، ولأنه سيُشاركها، بنظرة عيونه، بحركة يديه تؤرجح الحقيبة على ظهره، بملامح وجهه وحركة لسانه على شفتيه التي تكشف بوضوح شوقه للهدية.

براح وسحر الإسكندرية

ميزة آخرى تُحسب لناجي إسماعيل أنه - رغم تبديله لتفاصيل القصة الحقيقية - أصر على أن تدور أحداث فيلمه في الأسكندرية، حيث كان يخرج بنا من بين حصار الموت والجدران وكآبة الليل إلي البحر الواسع الرحب الذي تستعين به مي جلوسا ورقوداً، لأطول فترة ممكنة، قبل أن تعود بأخيها ليقضيا الليل في المكان الذي ترقد فيه جثة والدتها على مدار عدة شهور قد تبلغ التسع، تنفيذا لوصية أمها ألا تُعلن وفاتها أو تدفنها إلا عندما تُكمل الفتاة سن الحادية والعشرين.

رغم أننا لم نر الأم، ولم نر هذا المشهد بينهما، واكتفى المخرج بذكره عقب تحقيق البوليس، لكنه يرسم في مخيلتنا صورة لهواجس الأم التي أدركت أنها تحتضر، وتفكر في مصير ابنها وابنتها، وتُدرك جشع العم، ورغبته في الاستحواذ على الشقة، هذه الأم التي أدركت أن القانون سيكون ضد فلذات أكبادها فقررت أن تلتف عليه، وتراوغه، بأن تطلب من ابنتها عدم إعلام أحد بوفاتها، وتأخير دفنها لحين بلوغها السن القانوني لتفلت من الوصاية. هذه تصرف له دلاله صارخة ويجب أن يتقف أمامه القانون.

هذا الفيلم المهم، سينمائياً وفكرياً، شارك في مسابقة الأفلام القصيرة بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الرابع والأربعين. خرج من دون أن يحصد جائزة، نال الجائزة فيلم مصري آخر، من توقيع منتجة فيلم «ماما»، كوثر يونس بعنوان «صاحبتي».

صرخة تضامن مع البنات

وفي رأيي الشخصي أن فيلم «ماما» أهم سينمائياً - وكموضوع - من فيلم «صاحبتي»، صحيح أن الأخير جريء لكنه ليس بكر، فقد سبقه لنفس التيمة فيلم آخر دار حول نفس المضمون - تخفي الشباب في زي البنات ليلتقوا حبيباتهم - بعنوان «ستاشر» للمخرج سامح علاء، لكن الأخير كان أعمق وأقوى دلالة لأنه كان إدانة لمجتمع يقتل الحب، لذلك استحق «ستاشر» أن يكون أول فيلم مصري قصير يحصد السعفة الذهبية بمهرجان كان ٢٠٢١، وقبلها حصد جائزة أفضل فيلم قصير من مهرجان موسكو السينمائي الدولي٢٠٢٠.

كان يُمكن لفيلم «ماما» فكان يمكن له أن يُستقبل بترحاب في المهرجانات الدولية، لكن صانعه فضل أن يكون عرضه العالمي الأول في بلده مصر، لأنه صنعه من أجل قضية تخص نساء في وطنه الذي يُؤمن بأنهن نصف المجتمع، وليقدم صرخة احتجاج متضامنة مع ملايين البنات في أرض الكنانة، فتحية تقدير لناجي إسماعيل.

 

موقع "مصراوي" في

01.01.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004