أسرار من لقاء «داوود عبدالسيد».. وحقيقة التوقيت الذى انشغلوا به!!
قصواء الخلالي
المبدع العظيم الذي اختار أن يتحدث معى وفى برنامجى، بعد أن
آثر التزام الصمت لسنوات طوال رافضًا الظهور في أضخم البرامج التلفزيونية
تكلفةً وإنفاقًا، رافضًا أن يتلقى أكبر المبالغ المالية مقابل ظهوره
الإعلامى، رافضًا حتى المداخلات الهاتفية أو الحوارات الصحفية المكبرة، رغم
تلقيه عروضًا بمبالغ ضخمة على مدار السنوات الماضية، والجميع يعلم هذا
تمامًا.. لكن؛ لم يكترث هذا الفنان العظيم للمغريات، ولم يتبع شهوة المال
أو الاستعراض الصاخب أو الضجيج الأجوف؛ كعادته إبداعًا وسلوكًا، وحين
تواصلنا معه منذ سنوات دون سابق معرفة شخصية وطلبت ظهوره أكثر من مرة كان
يقول:
- إنه لن يظهر إلا في برنامج يحمل فكرًا ورؤيةً.. وبعد فترة
أكد لنا أن اختياره في هذا سيكون برنامجى، معللًا هذا بأنه سيكون إيمانًا
منه بأهمية المعول الثقافى والفكرى الذي أتشبث به منذ سنوات، وتقديرًا منه
لما أبذله من مجهود في البحث والانتقاء والتدقيق بصفتى رئيسة تحرير
البرنامج ومذيعته، وأننى أتحدث من خلاصة أفكارى وقراءاتى دون إملاء، وكان
الأستاذ يتابع الحلقات جيدًا، ويُعلِق لنا عليها أحيانًا، وحين نُذَكّره
برغبتنا في استضافته، كان يقول:
- صدقونى سأظهر، وأعدكم بذلك، ولكن حين يكون لدى ما أرغب في
أن أقوله، فحالتى الصحية ليست جيدة، ثم يشرح لنا متاعبه بكل صراحة وبساطة
ومودة، ليؤكد في الأخير أن ظهوره لن يكون في غير برنامج «قصواء»، كما يصفه،
واستمر الحال لفترات طويلة، ولم نقابله وجهًا لوجه أبدًا، لكننا بقينا
نحدثه تليفونيًا كفريق إعداد أنا وزملائى المجتهدين، في قضايا أو فلسفة
فنية أو ندعوه للظهور فيجدد اعتذاره، ثم كان أن قام بمداخلة هاتفية معى على
الهواء في نفس البرنامج، ناعيًا رحيل المبدع الكبير «وحيد حامد»- رحمه
الله- بحزن كبير، وكان لم يتحدث قبلها بسنوات للإعلام المصرى، وتوقف بعدها
ثانية.
وبعد انتظار طويل، وبنهاية نوفمبر المنصرم، وافق المخرج
القدير «داوود عبدالسيد» على الظهور في برنامجى #فى_المساء_مع_قصواء،
طالبًا منا ترتيب إطلالته بتسجيل الحلقات وليس الظهور المباشر على الهواء،
واختار يوم وساعة التسجيل، وأبلغنا رغبته «إعلان اعتزاله» لأول مرة، بعد
تفكيره لسنوات، ونسق معنا الأمر لأسابيع، حتى جاء زاهيًا متأنقًا كالقمر
الأثير.
- الملاحظة المهمة والتى يجب تقديرها أيضًا، أن المخرج
القدير «داوود عبدالسيد» اختار الظهور معى وهو يعلم تمامًا أن هذا البرنامج
بحكم طبيعته الإنتاجية والفكرية لا يندرج تحت بند البرامج الترفيهية
والخفيفة الجاذبة للإعلانات التجارية، فهو برنامج «توثيقى تثقيفى تنموى» لا
يتبع سياسات إعلانية، وإنما يدخل ضمن بوتقةٍ مدعومةٍ كبيرةٍ متنوعة، حفاظًا
على الأمن القومى الثقافى والفكرى، وبالتالى لا يقدم مقابلًا ماليًا، مثل
فئات برامجية أخرى يدركها العاملون في حقل الإعلام، وكان هذا قناعتى
الراسخة أيضًا ضمانًا لجودة المنتج.
وحين حدثنا الأستاذ في هذا؛ لم يكترث، معلقًا أن تاريخه ليس
للبيع، وأنه يوافق على الظهور وإعلان اعتزاله في برنامجى، لأنه تابع ودرس
الأمر جيدًا ويرى أن هذا هو المنبر الإعلامى والفكرى الذي يناسبه لإعلان
ختامه لمسيرته الفنية العظيمة، ويتسق مع تنوع وجدية اهتماماته الإنسانية
والفكرية والثقافية، وبالتالى سيكون المنبر المناسب لإعلان اعتزاله رسميًا
دون أي اعتبارات أخرى، ورغم أن هذا الخبر يُقدّر بملايين الجنيهات إعلاميًا
وتسويقيًا وهو أستاذ الأساتذة، ويعلم هذا الأمر جيدًا، وكان من الممكن أن
يبيع خبر اعتزاله لمن يدفع سعرًا أعلى من البرامج الإعلانية أو غيرها من
الممولين خارج مصر وداخلها، وهذا أمر منتشر مؤخرًا، ثم يحضر بعدها لبرنامجى
ضيفًا كريمًا بعد ذلك ليجرى الحوار الفكرى الذي يلائمه بعد أن يكون قد حصل
على مقابل مجزٍ.. إلا أن «داوود عبدالسيد» كما كان مبدعًا زاهدًا مترفعًا
في فنه؛ ينتظر لسنوات حتى يقدم ما يؤمن به فقط، فقد آثر أن يختتم مسيرته
الفنية بإعلانه اعتزاله نهائيًا وهو على حاله الدائم من الترفع وتقدير
القيمة، مُؤْثِرًا أن يخرج بحديثه وأفكاره وإعلانه بعد صمت طويل في «توك شو
ثقافى» متحدثًا فيه عما يشاء، ساردًا ما يريد، معلنًا اعتزاله ببساطة بعد
سؤالى في الختام، وحوار فكرى فنى فلسفى مطول على مدار حلقتين اقتربت مدة
إذاعة الحلقة الواحدة من ساعتين من الحديث والمادة الموثِقة لفلسفته
ورؤيته، ظل فيهما متحملًا طول الحديث وتنوع الموضوعات والإرهاق، وحتى حين
سألته عن أمور يحب تسليط الضوء عليها عدا الاعتزال، قال:
أنا أتابعك جيدًا مع ضيوفك من مفكرين ومثقفين، وأثق في
إدارتك للحوار، بل أصر هذا العظيم على أن يعلن في ختام الحلقة عن تقديره
لمجهودى، وأنه قد تشرّف بالحضور إلى برنامجى والحوار معى، في شهادة لى من
صانع فنى قدير ليس له مثيل في السينما المصرية والعربية، وجب لى أن أفخر
بها وأسعد بتأطيرها بعد أن أوفى بعهده للإنسانية كلها، وليس لى فقط، وكان
رمزًا عظيمًا لسينما المؤلف وإبداعها المتماسك.
- لقد انتصر «داوود عبدالسيد» للقيمة، وانتصر للفكر وانتصر
للثقافة بإنسانية لا تقارن، وانتصر لمجهودات إعلامية شابة تقاتل لسنوات في
سوق كبيرة محلية وعربية، محملةً بمحتوى تلفزيونى من أصعب ما يمكن أن يُقدّم
وأن يُتَلّقى، وسط جمهور كثيرًا ما يتعرض لمفسدات الذائقة والذوق، ولكنّ
نسبةً كبيرةً من هذا الجمهور يُصرّون على أن يشاهدوا برامج ووسائط تقدم
وعيًا، وأن يتابعوا برنامجًا ثقافيًا، فلسفيًا، وفكريًا، ولقد انتصر «داوود
عبدالسيد» حتى لهذا الجمهور، كما انتصر له في إبداعه لعقود، وانتصر
للإنسانية التي نعمل تحت مظلتها في «مشروع بناء الإنسان»، وفوق هذا وذاك،
كان حضور هذا المبدع الفارق «داوود عبدالسيد» أثناء تصوير البرنامج رقيقًا
مهذبًا لطيفًا مع كل من قابله، كبيرًا أو صغيرًا، يبتسم لنا وقد التقطنا
معه صورًا تحمل فرحة الأطفال، وغالبتنا دموع «نوستالجيا» الحنين إلى أعماله
وزمن فنى طيب ذكى ورائحته الدافئة وإبداعه الواقعى الحالم؛ الذي يُغزَلُ
ببراعة عجيبة وامتزاج أحادى فريد، وكأنه يُقَدِّر عميقًا كل ما نحمل في
قلوبنا وتلمع به أعيننا من محبةٍ وتقديرٍ وامتنان لما منحنا خلال مسيرته،
ولحضوره الكريم.. بل سمح لنا للمرة الأولى في تاريخه بأن نرسل الكاميرا
تتطفل على استحياء إلى منزله، وأن نلتقط صورًا من أدراجه ونفحص قراءاته،
ونتحدث عنه مع زوجته الذكية المهذبة الواعية الأستاذة «كريمة كمال»، والتى
ظهرت وكأنها حبيبة وبهجة وصديقة «داوود عبدالسيد»، متحدثةً عنه بفخر
وتقديرٍ وحُبٍ ينبع من وعى وثقة.. بل حين سألناه عن مواد مصورة خاصة
لإضافتها إلى توثيق مسيرته في الحلقتين، ساعدنا متواضعًا مهذبًا بكل مودة،
وحتى وقت الإذاعة التلفزيونية تواصل معنا؛ ممتنًا ومحبًا ومعلنًا ارتياحًا
وسعادة لتقديم أعماله وآرائه معنا كما يحب أن تظهر.
- لقد حضر «داوود» إلى مدينة الإنتاج الإعلامى للتصوير في
استوديو البرنامج، رغم حالته الصحية غير المريحة، التي تحدث عنها في
تصريحات بعد ذلك، وحضر رغم سنوات عمره التي تجاوزت خمسة وسبعين، وتحمّل
الجلوس على مقعد طوال ساعات التصوير، وبرودة استوديو البرنامج دون أي
امتعاض، بل بأحاديث وضحكات وابتسامات ودودة في الفواصل والاستراحات، ولم
يطلب أي شىء، عدا كوب من مشروب ساخن يتجاوز به هذا الطقس المزعج؛ كنا نحن
من أصر على تقديمه بعد أن رفض كل شىء آخر.
وفى الختام، وبعد إصرار شديد منى، وافق في خجل عظيم على أن
نقوم جميعًا بإيصاله إلى باب القناة، وودعنا مبتسمًا، مبتسمًا.. ومنتصرًا،
منتصرًا لنا ومنتصرًا بنا.
وهو يعلم أن سر حواره ورسائله هو صدقه وبساطته وإنسانيته،
وأن سرّ حوارى الذي ذاكرت وقرأت له طويلًا هو محبته والاعتزاز بقيمته،
وأننا حرصنا جميعًا مؤسسةً وبرنامجًا وأفرادًا على التحضير المناسب
لاستقباله وظهوره، لتقديمه وتقديم أعماله قدر استطاعتنا بشكل لائق بتاريخه
وقيمته، وفى أحاديثه التي جاءت كرد فعل للقائه في البرنامج وإعلانه
اعتزاله، تحدث موضحًا أمينًا عظيمًا، كعادة الكبار، يتحدثون فقط بما
يناسبهم، وليس بما يُدفعون له.
- لقد جمعنى برنامجى على مدار السنوات الماضية، بأعظم
القامات العلمية والفكرية والفلسفية والفنية، وكنت كثيرًا ما أكتب عنهم
اعتزازًا وتقديرًا وفخرًا، ولكن هذا الحوار وبعد تصدره وسائل الإعلام
الإقليمية وتناقله في العالمية أيضًا، وتتويجه لترشيحات الأفضل إعلاميًا
لعام ٢٠٢١، كل هذه الأيام يستحق منى أن أفتخر، وأن أقول لداوود عبدالسيد؛
الذي كان للفن عِمادًا، والذى لم يُبدع مِثلَه في البلاد:
- شكرًا.
شكرًا، لأنك منحتنا وعلمتنا وأمتعتنا صغارًا، وأضفت لنا من
مقامك الرفيع وقدرك العظيم كبارًا، بل سمحت لى استثنائيا أن أكون في صميم
حضرتك جهارًا،
لقد أخبرتك أننى سأكتب عن «ما وراء اللقاء» بعد أن ينتهى
الضجيج حول ظهورك، والملاحقات الاستقصائية الاستكمالية لحوارك، ولكن صدى
فلسفتك وأفكارك وإبداعك لن يصمت أبدًا، لأنه كان «أعمق من الصمت، وأذكى من
الإفصاح»، لذا وجب الآن بعض من البوح المكتوب بصدق مشاعرى، وتقدير قلمى،
وخالص محبتى، والذى تستحقه مكانتك بأعمال مثلت نمطًا عبقريًا من الفواصل
الإبداعية الارتقائية في السينما المصرية، في أوقات متنوعة الدقة والحدة.
- لقد كان رهانك الدائم على القيمة.. ولقد ربحت رهانك في كل
خطوة وزمان، ووجب الشكر لكيانك، مهما جَدّ أو كان.
- شكرًا «داوود عبدالسيد» بعيدًا عن كل تنظير أو امتطاء
للحدث، أو اصطياد في رواسبه، أو عدم وعى حقيقى بأهميتك أو أهميته، أو إجحاف
بحقك، أو تسطيح لعمق وأبعاد رؤيتك.. فهذا كله لا ولم يمثل قطرة في محيط،
ويكفى أنك حين قررت أن تتحدث بعد سنوات من الصمت، كان ظهورك الصادق مؤثرًا
على كل ذى وعى.
- شكرًا لأنك كنت معنا هناك في ذاكرتنا، وكنت معنا هنا في
واقعنا، وستبقى رسائلك من قوة صدقها وبساطتها عميقةً على من لا يدرك،
غامضةً على من لا يعى «أن الإنسانية هي الأبقى، وهى الأشرف».
«الأستاذ» ودرة العنقود العظيم «داوود عبدالسيد».. لأنكَ
كنت ولاتزال معنا، فنحن كذلك سنبقى معك.. وأينما ترسو سفينتك، سنكون مرساك
ووتدك.
ولقد غلبنى قلمى إسهابًا ومحبةً وفخرًا بلقاء مختلف مع مبدع
فريد، ولكن مهما كتبنا فلن نمنحه نزرًا مما تستحق قيمته، وأتمنى أن أكون قد
قدمت بين سطورى ما يتبينه الفطن..
وعلى المتضرر اللجوء للاجتهاد، وللإنسانية، وقبلهما..
اللجوء للتاريخ.
#فى_المساء_مع_قصواء |