ملفات خاصة

 
 
 

يوميات فينيسيا (5):

يوم الميلودرامات العائلية والبابا

أمير العمري

فينيسيا السينمائي الدولي التاسع والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

قررت أن أشاهد أكبر عدد من الأفلام في هذه الدورة، وأن أكتفي بتدوين ملاحظات وتأجيل الكتابة بعض الوقت. ومن حسن الحظ أنني لم أكن مضطرا لأن ألهث وراء الكتابة اليومية. بعض الأفلام لا يصح أن تكتب عنها مباشرة في نفس يوم مشاهدتك لها، لأنها تقتضي بعض التأمل والتفكير والهضم والاستيعاب ثم إعادة استدعاء ما فيها من معان ودلالات. لذا يجب أن تتاح فرصة للتفكير. والتفكير وسط زحام الأفلام مرهق ومربك. البعض يكتفي بمشاهدة فيلم أو فيلمين على الأكثر لكني أشاهد أربعة أفلام يوميا وأحيانا خمسة، وهو ما لم أفعله منذ سنوات. (لقد هرمنا)!

اليوم الخامس من أيام المهرجان هو الرابع من سبتمبر. لم أكن أبدا في أي وقت، مهتما بمتابعة أو بحضور أي عرض من عروض ما يسمى بأفلام الـ VR أو virtual reality. لم أفهم منطقها ولم أتشوق لمعرفة كيف تعمل وما المتعة التي تنتج عنها أصلا. مازلت أفضل الفيلم الحقيقي الذي نعرفه منذ أو ولدنا ونشأنا، وهو الفيلم المصور بكاميرا سينمائية ولكن لا مانع أن يكون بكاميرا رقمية عالية النقاء في الصورة بعد التقدم الكبير الذي حدث خلال السنوات الأخيرة في كاميرات الفيديو الرقمية.

ذات مرة في مهرجان روتردام الدولي دعيت لحضور عرض من هذا النوع من أفلام الـ VR لمخرج تايلاندي شهير لا يمكنني أبدا ان احفظ اسمه رغم أنه معروف وسبق أن نال السعفة الذهبية عن فيلم لم يعجبني أصلا ووجدته يدعو للنعاس، لكنه عاد في تلك المرة ومعه فيلم مطلوب منك فعلا أن تشاهده وأنت تتمدد على ما يشبه السرير او الأريكة، وأن تغمض عينيك وتتخيل الفيلم الذي يعرض أمامك أو تشاهده وانت نصف نائم، أي أنك في الحقيقة تشاهد الفيلم وانت شبه نائم أو منوم، وقيل إن الفيلم نفسه مصنوع لكي يمنحك هذا الشعور بأنك بين الحلم واليقظة. وكانوا سيأخذوننا بحافلة إلى الجهة الأخرى من الماء، بعيدا عن وسط مدينة روتردام لكي نشاهد الفيلم ثم يعيدوننا. وطبعا درجة الحرارة في روتردام كان تصل الى درجة التجمد وما بعدها لأن المهرجان يقام في يناير.

لم اذهب طبعا وأرفض مثل هذه البدع التي تشوه الفن السينمائي وتحط من شأنه ولا أعرف لها هدفا. لكن مهرجان فينيسيا يتوسع هذا العام في عرض أفلام الواقع الافتراضي VR، يأخذونك في قارب من قوارب فينسيا الشهيرة (الأليجونا) في موعد محدد، إلى مكان محدد ليس في جزيرة الليدو حيث يقام المهرجان، بل في جزيرة فينيسيا السياحية (سان ماكو واخواته) وعليك ان تحجز تذكرتك مقدما بالطبع. اعتبرت مثل هذه البدع إضاعة للوقت والجهد كما انها ستفقدني أفلاما يفترض أنها مهمة لأنها في المسابقة الرسمية، علما بأن اللهاث وراء أفلام المسابقة أكثر حدة هذا العام بسبب كثرتها (23 فيلما).

اليوم لدي 4 أفلام أخرى من أفلام المسابقة، منها فيلم “الرحلة” In Viaggio للمخرج الإيطالي جيانفرانكو روسي الذي سبق أن فاز فيلمه التسجيلي البديع “نار في البحر” (2016) بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين. أما “الرحلة” فهو فيلم تسجيلي آخر ربما يثير اهتمام العالم الكاثوليكي أو الكاثوليكين المؤمنين بعبقرية بابا الفاتيكان ونبوته ولمساته الإنسانية وهي كثيرة في الحقيقة. فالفيلم يتابع رحلات البابا فرانسيس المتعددة من كوبا الى العراق، ومن لبنان إلى البرازيل، ومن وسط افريقيا إلى تركيا، ومن الأرجنتين إلى كوريا الجنوبية ثم على إسرائيل والأراضي الفلسطينية.. وكثير من البلدان الأخرى، ويصور كيف استقبل البابا وما الذي قاله وكيف أبدى تضامنه مع البؤساء والمشردين واللاجئين.

 إنه احتفاء سينمائي بشخصية لها قدسيتها، ولكني أعتبره أساسا، فيلما سياسيا، فالبابا يطرق أبواب السياسة بكل قوة، ويتخذ مواقف سياسية مغطاة بغطاء ديني، وهو أمر جيد كونه ينتصر دائما لقيم الخير والحق والجمال. لكن هذا الفيلم الذي يعتمد أساسا، على مواد مصورة “من الأرشيف”، ليس فيه إبداع كثير، وكان يمكن أن يمتد هذا الفيلم إلى ما لا نهاية، لكن جيانفرانكو روسي أبقاه في إطار زمني معقول (80 دقيقة) مع تعليق صوتي تقليدي، وصور مدهشة مثيرة توضع في سياق سينمائي جذاب وإيقاع متدفق سريع.

شخصيا لم أجد الفيلم الياباني “حياة الحب” Love Life (من الإنتاج المشترك مع فرنسا) للمخرج كوجي فوكادا، عملا مثيرا للاهتمام. فهو يروي قصة تقليدية في سياق تقليدي حد الملل.. ميلودراما عائلية، عن امرأة تعيش مع زوجها (الثاني) وابنها من الزواج الأول (6 سنوات) في مدينة جنوبية باليابان، في الشقة المجاورة يقيم والدها. ويقع حادث مأساوي، عندما يغرق الابن في البانيو ويموت، فيعود أبوه أي الزوج السابق وهو أصم، إلى الواجهة ويتداخل في حياة المرأة وتتدهور بالتالي علاقتها بزوجها الحالي، لنصل إلى نهاية أخلاقية وعظية سبق لنا أن رأينا مثلها في أفلام عتيقة.

حقيقية لم افهم قط لماذا أتى مدير المهرجان ألبرتو باربيرا، وهو رجل يفهم جيدا في السينما الحديثة، بمثل هذا الفيلم العتيق وأدخله المسابقة. هذا يحدث عادة لسبب واحد هو حضور فيلم من السينما اليابانية بأي شكل والسلام، ولنا في أفلام المخرجة اليابانية ناوومي كواسي، سابقة بل سوابق كثيرة. فأي فيلم تصنعه هذه المخرجة المتوسطة المستوى، يجد طريقه عادة على المهرجانات الكبرى، خصوصا مهرجان كان، بسبب ولع فرنسي خاص بتبني هذه المخرجة وإنتاج الأفلام لها بمال ماما فرنسا!

كان أول أفلام اليوم الذي شاهدته في الفترة الصباحية هو فيلم “أطفال الآخرين” Les Enfants des autres للمخرجة ربيكا زيوتوسكي، وبطولة الممثلة الجميلة الرائعة “فرجيني إيفرا” التي رشحها كثيرون لنيل جائزة أفضل ممثلة عن دورها في هذا الفيلم. والحقيقة انها تحمل الفيلم بأسره على كتفيها، فهي حاضرة في كل لقطة وكل مشهد، وتحرص المخرجة على حصرها كثيرا في لقطات قريبة جدا أو كبيرة جدا big close ups لرصد تعبيرات وجهها التي تتغير وتتباين من لحظة لأخرى. أمامها الممثل من أصل مغربي “رشدي زيم” (أرجو أن أكون قد كتبت اسمه على نحو صحيح) وهو ممثل ومخرج أيضا وله فيلم آخر في المسابقة كمخرج، هو فيلم “روابطنا” Our Ties.

أما “أطفال الآخرين” فهو عن علاقة حب قوية تربط بين علي (العربي المسلم) وهو مطلق ولديه طفلة جميلة هي “ليلى”، وبين المرأة اليهودية الجميلة “راشيل”. ومع توطد العلاقة تنتقل راشيل للإقامة مع علي الذي يعمل في تصميم السيارات لحساب شركة ما، بينما تعمل راشيل معلمة في مدرسة ثانوية. لكن “علي” حاصل على حق حضانة ابنته، وبالتالي يجب أن تقيم ليلى مع  أبيها وحبيبته، ولكنها تبدي نفورا من وجود راشيل وتطالب بحضور أمها، وتتساءل لماذا لا تعيش أمها مع والدها.. ولكن بمرور الوقت تتقارب ليلى من راشيل ولكن ليس الى حد نسيان أمها “أليس”. وأما “راشيل” وهي في الأربعين من عمرها فطبيبها يخبرها أن فرصتها في الانجاب أصبحت ضئيلة وتتضاءل يوميا وأنها يجب أن تبكر لو أرادت الحمل. وهي تتوق للأمومة لكنها أيضا لا تعاني من غيابها.

مشكلة معقدة، وتتصاعد أكثر عندما لا يصبح أمام “علي” مفر سوى العودة الى زوجته الأولى من أجل تحقيق السلام النفسي لابنتهما ليلى التي لا يمكنها على ما يبدو العيش من دون الأم الاصلية. تربية أبناء الآخرين مشكلة لا تقدر عليها راشيل. وبالتالي ستجد نفسها في النهاية تندمج في حياتها العملية وصحبتها من الأصدقاء والطلاب، بعد أن تخلى عنها علي رغم حبه الشديد لها.

فيلم حميمي رقيق يفيض بالمشاعر والهمسات الخافتة تحت جلد الصورة، لا صراخ ولا تشنجات، ولا مواقف ميلودرامية عالية، بل هناك أيضا بعض اللمسات الكوميدية التي تخفف من قسوة الموضوع.

من الطريف أن المخرجة استعانت في أداء دور طبيب امراض النساء الذي تتردد عليه “راشيل” بالمخرج الأمريكي المخضرم “فريدريك وايزمان” (هو أيضا يهودي مثل المخرجة والممثلة)، وله فيلم في المسابقة يقع في 60 دقيقة، شاهدته ولم يعجبني ابدا لجموده وحواره الذي لا يتوقف ثانية واحدة، وهو عبارة عن مشهد واحد لسيدة (ممثلة) يفترض أنها زوجة ليون تروتسكي، الزعيم البلشفي الشهير، تتحدث إلينا وتنظر للكاميرا مباشرة، عن زوجها، كيف عاش وكيف مات.. في مونولوج طويل بطول الفيلم!

الفيلم الرابع الذي شاهدته اليوم، هو فيلم L’immensita وقد تعني “الضخامة” وهو فيلم إيطالي من اخراج ايمانويل كرياليسي، وبطولة الاسبانية التي لا تفقد جمالها أبدا، بنيلوب كروز، في دور “كلارا”، وهي أم إسبانية لثلاثة أطفال، متزوجة من رجل إيطالي وتقيم في روما في السبعينيات. أي أن الفيلم يعكس جانبا من السيرة الذاتية لمخرجه (من مواليد 1965).

هذا بالتأكيد “فيلم عن أم”، أي عن معاناتها مع زوجها ومع أطفالها ومع المحيط الاجتماعي كله، ومع الغربة.. زوجها يخونها مع سكرتيرته ولا يخجل مما يفعله بل يبرره، وابنتها الكبرى “أدريانا” تميل إلى أن تكون ولدا وتتشبه بالأولاد سواء في الملبس أو في تصفيفة الشعر مما يعرضها لسخرية شقيقها وباقي الفتيات، ثم حيرة أمها التي لا تستطيع أن تفهم كيف تتعامل مع هذا الميل الغريب، خاصة والفتاة تنطلق الى الخارج، تعيش في الخيال وتعتقد انها قادمة من كوكب آخر من خلال نوع من السحر أو شيء من هذا القبيل، وترتبط بعلاقة مع فتاة من أبناء اللاجئين الذين يقيمون في منطقة إيواء مؤقتة سرعان ما تهدمها الحكومة.

المهم أن لا بنيلوب كروز، رغم اجتهادها، يمكن القول انها أضافت شيئا الى السيناريو الذي يصلح لتمثيلية سهرة تليفزيونية، لمن يبحثون عن مثل هذه المواضيع التي فيها قدر من النوستالجيا، وقدر آخر من تعذيب الذات. لكن لا شيء مميزا في أسلوب الإخراج، ولا في طريقة تناول الموضوع من الزاوية الفنية، ومرة أخرى، حوار كثير جدا لا يكاد يتوقف، من البداية الى النهاية.

عنوان الفيلم كلمة إيطالية تعني الاتساع أو الضخامة، وهو اسم أغنية شهيرة من عام 1967، لكنه يشير هنا أيضا إلى ضخامة ما تواجهه كلارا من أعباء ومشاكل في حياتها مع زوجها وأبنائها، تؤدي بها في نهاية الأمر، الى الانهيار العصبي.

 

موقع "عين على السينما" في

15.09.2022

 
 
 
 
 

يوميات فينيسيا (6):

اسوار العزلة وعقاب الذات

أمير العمري

لاحظت هذا العام أولا زيادة كبيرة في أعداد المترددين على المهرجان من الجمهور العادي الذي أتى خصيصا لمشاهدة الأفلام، ومعظم هؤلاء الشباب يقيمون في جزر أخرى أقل تكلفة بالطبع من الإقامة في جزيرة ليدو حيث يقام المهرجان.

ولاحظت ثانيا أن بلدية فينيسيا بالتعاون مع مجلس إدارة البينالي، أنفقت بسخاء، من أجل دعم المهرجان من الناحية اللوجستية، فتم تمهيد المنطقة المحيطة بقصر المهرجان والمقر الصحفي وتزيينها بكل ما يمكن أن تتفتق عنه عبقرية مصممي الديكور الايطاليين المعروفين بذوقهم الرفيع، وتم افتتاح مقهى ومطعم يليق بالمهرجان قاصر فقط على الصحفيين داخل المبنى التاريخي المسمى حتى الآن بـ”الكازينو” رغم أنه توقف عن أن يكون كذلك منذ سنوات بعيدة، وهو المقر العملي للمهرجان إلى جانب “قصر السينما” الذي تقع في داخله “صالة جراندا” أي قاعة العرض التاريخية التي افتتحت في عهد الديكتاتور موسوليني عام 1934 وأنشئت أصلا خصيصا لإقامة أول مهرجان سينمائي في العالم وهو الذي أطلق عليه وقتها- ومازال- الموسترا، أي المعرض على غرار معارض الفنون.

وقد حضرت المهرجان في الثمانينيات عندما كانت العروض الصحفية تقام في قاعة بسيطة صغيرة نسبيا تقع في الطابق الأول من فندق إكسيلسيور الراقي الذي يستقبل كبار النجوم، مع بعض العروض في قاعة بيرلا الواقعة داخل مبنى الكازينو وكانت قاعة بدائية بمقاعد مرهقة، غير منظمة، قبل أن يتم تحديثها وتزويدها بنظام صوت حديث فيما بعد، لتصبح من أفخم قاعات المهرجان. وكان “الكازينو” يغلق أمام عروض الصحافة في المساء ويتحول طوال الليل، إلى نشاطه الأساسي أي استقبال المقامرين في صالات القمار الرئيسية في الطابق الثالث تحديدا، وكان يشترط بالطبع الدخول بالملابس الرسمية.

في أواخر التسعينيات وضع المهرجان يده بالكامل على “الكازينو” فتوقف عن أن يلعب دوره كمكان للمقامرة، وخضعت كل قاعاته لإدارة المهرجان، وأصبح مقرا لثلاث قاعات، أعيد هذا العام، تصميم وتحديث وتجديد قاعتين منها (غير قاعة بيرلا)، مع عودة قاعة الصحفيين (المزودة بأجهزة الكومبيوتر والانترنت) إلى العمل كما كانت قبل جائحة كورونا، في الطابق الثالث.

مبنى “الكازينو” أقيم عام 1938، وهو نموذج للعمارة الفاشية التي تتصف بالعظمة والإبهار في الواجهة الحجرية الصماء المرتفعة الشامخة. ومن الداخل ينتشر الرخام الإيطالي الملون الفاخر يغطي جميع الأرضيات والسلالم، وتزين النقوش البديعة أسقف القاعات والبهو حيث ترتفع الأعمدة الرخامية.

هذا العام أقيمت أيضا دار عرض جديدة، أضيفت الى قاعات المهرجان وكانت قد أقيمت دار عرض جديدة أخرى قبل سنوات قليلة، فأصبح المهرجان يضم 9 شاشات، وتفوق بذلك على مهرجان كان الذي لايزال يعاني من عدم القدرة على التوسع ولا على التخلص من القاعات القديمة المتهالكة الرديئة الموجودة.

من أهم أقسام المهرجان قسم الكلاسيكيات الذي ينقسم إلى نوعين من الأفلام، الكلاسيكيات القديمة لعدد من الأفلام المشهودة في تاريخ السينما، والأفلام الجديدة التي أنتجت عن فن وصناعة السينما، أو عن أعمال كبار المخرجين. ومن هذه النوعية الأخيرة عرض المهرجان فيلما جديدا بعنوان
سينما جودار” عن أعمال المخرج الفرنسي الكبير، وفيلما آخر بعنوان “سيرجيو ليوني: الإيطالي الذي اخترع أمريكا”.  وقد شاهدته باعتباري مؤلف الكتاب الوحيد في العربية عن السينمائي الإيطالي العظيم، وسيكون لي مقال منفصل عنه قريبا
.

هذا هو اليوم السادس من أيام المهرجان. في الصباح شاهدنا عملا بديعا من أيرلندا- بريطانيا، هو فيلم “منفى إينيشيرن” The Banshees of Inisherin من إخراج مارتن ماكدوناه، وبطولة الممثل الكبير كولن فاريل، وبريندان جليسون وكيري كوندون وباري كيوجان، وهو في الحقيقة مباراة في الأداء التمثيلي.

ويبرز فيه بوجه خاص، أداء كولن فاريل في دور شاب يدعى “بادرياك سوليبان” يرعى الماشية ويعيش على حليبها، في قرية قاحلة بجزيرة أيرلندية فقيرة وقت الحرب الأهلية في العشرينيات من القرن الماضي، يعاني من الوحدة والقلق والفراغ الناتج عن جفاف الحياة في القرية بشكل عام، وهو على علاقة قديمة، مع “كولم” (بريندان جليسون) الذي يقرر فجأة قطع علاقته به وينذره بعدم التحدث إليه مستقبلا، بل ويهدد بقطع إصبع من أصابع يده إن عاد إليه الشاب ثم قطع باقي أصابع يده اليمنى لو تكرر الأمر. ولكن بادرياك لا يمكنه أن يفهم رغبة صديقه قط. ولكنه لا يكف عن ملاحقته، يريد أن يفهم السبب.

بادرياك يعيش في بيت فقير مع شقيقته التي لم تتزوج رغم تقدمها نسبيا في العمر، والتي تقضي وقت فراغها الكبير في مطالعة الكتب. وهي تعطف عليه وتعامله كما لو كانت أمه وهو ابنها، فهي أكثر منه نضجا في المشاعر كما أنها أكثر ذكاء ومعرفة وإدراكا لما يحدث في العالم. وهو مصر على محاولة فهم سبب قطع كولم علاقته به، ويحاول بشتى الطرق استفزازه واستعادة العلاقة التي لا يجد بديلا عنها لكليهما، خصوصا في هذه البيئة العقيمة. لكن كولم ينفذ تهديده ببتر إصبع يده ثم بتر باقي الأصابع وكأنه يعاقب نفسه، ومع ذلك يستمر في تأليف القطعة الموسيقية التي تشغل باله. فهو مغرم بآلة الكمان، يريد أن يختلي بنفسه لكي يؤلف مقطوعة موسيقية ويشعر انه تأخر كثيرا في تحقيق حلمه هذا.

إنها كوميديا سوداء، تثير الضحك بقدر ما تثير الألم. هناك شاب صغير شبه مختل، هو “دمينيك”، الإبن الوحيد لشرطي القرية القاسي القلب الذي يسيء معاملة ابنه، فيلتصق بصاحبنا بادرياك، يسرق الشراب من غرفة أبيه لكي يتشارك في احتسائه مع بادرياك الذي لا يجد فيه- رغم ذلك- تعويضا عن صديقه القديم كولم.

أما كولم فهو يريد أن ينأى بنفسه عن بادرياك تماما، ويتخذ موقفا صامتا سلبيا حتى بعد أن يحرق بادرياك بيته البسيط انتقاما من موت حماره الوحيد بسبب خطأ ارتكبه كولم عندما ألقى بأصابعه المبتورة أمام دار بادرياك فتعفنت وأكل منها الحمار فتسمم!

دومنيك، ابن شرطي البلدة، رغم حساسيته ورغبته في التواصل، عاجز عن التعبير عن نفسه، فهو خجول مضطرب، وعندما يشير إلى شقيقة صديقه، معربا لها عن هيامه بها تعتذر له، فهي تكبره كثيرا في العمر.. وعندما تأتيها فرصة للعمل بعيدا عن تلك الجزيرة التي تكاد تصيب المرء بالجنون، تترك شقيقها وترحل رغم شعورها بالحزن لمفارقته.

نحن أساسا، أمام شخصيتان لرجلين مختلفين، وإن كان كل منهما يحاول أن يعثر على وسيلة للهرب من حياة الفراغ القاتل في تلك الجزيرة المنعزلة، التي لا يسمع الناس فيها سوى أقل القليل، تصلهم من بعيد أصوات قذائف المدافع على الجانب الآخر من البحر، يشاهدون الدخان الناتج عن معارك الحرب الأهلية، دون أن يكونوا طرفا فيها.  

بادرياك ظل لسنوات، على موعد يومي في الثانية بعد ظهر كل يوم، مع صديقه كولم، وكانا يلتقيان في الحانة لاحتساء البيرة والثرثرة في لاشيء. ولكن كولم أدرك بعد أكثر من عشرين عاما أنه سئم إضاعة الوقت والثرثرة فيما لا ينفع مع هذا الشخص الذي اكتشف أنه غبي بليد، وأدرك أن من حقه أن يحلم بعيدا عن أسوار هذا “السجن”، وأن يلحق قبل أن يأتي الموت الوشيك، يحقق بعضا من متعة الإبداع، لربما تعوضه شيئا عن سنوات ضائعة.

أما بادرياك فهو يرى ان الصداقة بين الرجال الناضجين ليست مثل الزواج، أي لا ينفع معها الطلاق، بل يجب أن تمتد إلى الأبد. لذلك فهو يرفض ويظل يرفض بإصرار نهاية الصداقة، ويلح على استعادتها بينما صديقه القديم مصر على القطيعة النهائية، ولا يجد مناصا من تنفيذ تعهداته ببتر أصابع يده ربما أيضل كعقاب للذات!

بينما يريد كولم أن يتجاوز العزلة داخل هذه الجزيرة التي لا يحدث فيها شيء سوى الموت، عن طريق تأليف المقطوعة الموسيقية التي يطلق عليها “منفى جزيرة إينيشيرن” وهو عنوان دال للمقطوعة وللفيلم نفسه، لا يرى بادرياك بديلا عن العيش في الجزيرة، ويرفض رفضا قاطعا أن يرحل نحو عالم جديد وفرصة جديدة خارجها.فيلم بديع في مغزاه وسياقه، يمكن متابعته باستمتاع رغم سوداوية أفكاره التي يخفف من قسوتها الطابع الفكاهي الذي يصبغ الكثير من عبارات الحوار وكأننا نشاهد مسرحية من تلك التي برع في كتابتها مارتن ماكدوناه. ولكن لا بأس، فهناك مذاق جديد، وبعض الاسقاطات الفلسفية والتأملات التي تنبع من الحوار، تدفعنا إلى التأمل في مسار الحياة، ومغزى ما يمكن أن تحمله لنا القدر.

 

موقع "عين على السينما" في

16.09.2022

 
 
 
 
 

يوميات فينيسيا (7):

ويسترن وسياسة وعنصرية عادية

أمير العمري

وصلنا الآن إلى نهاية اليوم السادس من أيام المهرجان، والحلقة السابعة من يومياتي التي بدأتها من يوم ما قبل الافتتاح، حينما تناولت العرض الرائع للفيلم الصامت “ستيلا دالاس” بمصاحبة أوركسترا مع العزف الحي المباشر داخل قاعة العرض.

شاهدت اليوم 4 أفلام، بدأت في الثامنة والنصف صباحا بفيلم الويسترن الأمريكي الجديد “ميت من أجل دولار” Dead for a Dollar للمخرج الكبير وولتر هيل الذي بلغ الثمانين من عمره. والفيلم معروض في فينيسيا خارج المسابقة في إطار تكريم هذا المخرج المرموق علما بأنه فيلمه الأول منذ 6 سنوات.

الفيلم الثاني هو “سيد النمل” للمخرج الإيطالي الكبير جياني إيميليو، والثالث في المساء هو “سان أومير” للمخرجة الفرنسية- السنغالية أليس ديوب، وهو فيلمها الروائي الطويل الأول بعد 7 من الأفلام التسجيلية، وأخيرا الفيلم الإيراني “الحرب العالمية الثالثة” وهو معروض ضمن قسم “أوريزونتي” أو “آفاق”، للمخرج الإيراني هومان سيدي.

فيلم “ميتٌ من أجل دولار” عمل ممتع، خلاب من أفلام الويسترن الجديد الذي يقلب صورة الويسترن التقليدي القديم إلى حد كبير. فمن ضمن شخصياته الرئيسية اثنان من الأمريكيين السود، وثلاثة من المكسيكيين، وكلهم لا يقومون بأدوار شريرة باستثناء مكسيكي واحد فقط، كما أنه لا يمتليء بالمبارزات بالرصاص وإن كان ينتهي في المشهد الأخير بالمعركة التي يموت فيها الأشرار وينتصر أهل الخير، وهي المعركة التي لا مفر منها والتي ينتظرها الجمهور عادة.

الفيلم يناقش فكرة الاختيار الأخلاقي: هل يغلب الإنسان مصلحته على مبادئه وقيمه الإنسانية، أم يمكن أن يأتي وقت يحتم عليه أن يقف بجوار ما يثبت له أنه الحق والخير في مواجهة الشر. والفكرة الأخرى التي يدور حولها الفيلم هي فكرة تغيير الخيارات، وتبادل الأدوار.

لدينا رجل يدعى “ماكس بورلوند” يقوم بدره الممثل النمساوي كريستوف والتز الذي سبق أن تألق في فيلمي تاريانتيو “أوغاد مجهولون” و”جانجو طليقا”. وهو يقوم هنا بدور مماثل لدوره في “جانجو” وهو دور رجل من متعقبي المجرمين للقبض عليهم وتسليمهم مقابل المال، أي دور صياد مجرمين. يستأجره رجل أعمال صاحب نفوذ كبير، لاستعادة زوجته التي يخبره أن زنجيا اختطفها وطالب بفدية قيمتها 10 آلاف دولار مقابل إطلاق سراحها. وفي الوقت نفسه، يطلق سراح مقامر محترف ولص بنوك من السجن هو “جو كريبنز” الذي يقوم بدوره الممثل الكبير وليم دافو. وكان “بورلوند” هو الذي تسبب في سجن “جو”، لذلك يخرج جو وفي نيته تعقب بورلوند والانتقام منه.

سيتضح فيما بعد أن الزوجة المختطفة لم تُىختطف ولكنها فرت بإرادتها مع الشاب الأسود وهو عسكري في الجيش الأمريكي، وأنهما طلبا المال حتى يستخدماه في العبور الى المكسيك ثم الذهاب إلى كوبا، أي انهما ينشدان الحب والحرية، وأن زوج المرأة البيضاء صاحب النفوذ القوي، يريد قتلها وعشيقها بعد أن تسببت في تلطيخ سمعته كما يقول، وفي الوقت نفسه يصحب بولوند في مهمته، عسكري أسود آخر من الجيش للمساعدة في القبض على العسكري الفار واعادته لكي يخضع لمحاكمة عسكرية بسبب تمرده، لكنه بالطبع سيتعاطف معه كونه يعرف أبعاد مشكلته الحقيقية فقد كان صديقا له.

زوج المرأة البيضاء راشيل، يتحالف في أعماله القذرة مع زعيم عصابة مكسيكي يدعى تيبيريو” ـ الذي يستأجر “جو “للبحث عن ماكس بورلوند وقتله. ولكن جو سيكتشف أن من استأجره وغد يتنصل من وعوده، ويكتشف ماكس أن زوج راشيل وغد آخر كان يضرب ويعذب زوجته ويسيء معاملتها، كما أنه لا يلتزم بالوفاء بدفع 2000 دولار له مقابل إتمام مهمته. تتغير الولاءات وتتقاطع الطرق، وتختلف المواقف.

الأحداث تقع في عام 1897 قرب الحدود المكسيكية، داخل وخارج المكسيك. وكل عناصر الصورة في أفلام الويسترن حاضرة هنا: موسيقى موحية تشبه موسيقى إنيو موريكوني على الأقل في المدخل الأولي للفيلم، الأشرار والأخيار، الصالون، المسدسات والخيول والمطاردات وأجواء الصحراء الممتدة القاحلة والمناظر الطبيعية المألوفة في هذا النوع من الأفلام، وطلقات المسدسات الأسرع من غيرها. ومع ذلك، ليس من الممكن أن تشعر بأنك فعلا أمام أحد أفلام الويسترن، فالمعالجة الهادئة الرصينة تجعل الفيلم أكثر عقلانية، وأقل عنفا ونمطية. وبالطبع لا حاجة بنا إلى القول إن خلق الأجواء والتمهيد للحدث، مع ضبط الإيقاع وحركة الممثلين، من أهم ما يميز سينما وولتر هيل، يدعمه أداء بديع من جانب طاقم الممثلين جميعا.

يروي فيلم “سيد النمل” Lord of the Ants قصة في سياق شبه تسجيلي (دراما تسجيلية) عن شخصية حقيقية لكاتب وشاعر إيطالي مرموق كان مثليا وتعرض للمحاكمة في الستينيات، بسبب علاقته بشاب قيل إنه كان يستغله جنسيا بينما أصر الشاب على أنه ارتبط به عن رغبة ويقين ودافع ذاتي، وان الكاتب الشاعر لم يفرض عليه شيئا. وقد اعتقل الشاعر الفنان بعد اقامة الدعوة عليه من جانب أسرة الشاب الذي ارتبط به، ومعظم الفيلم يدور داخل قاعة المحكمة، مع الاستماع للمدعين والقضاة وصدور أحكام بالسجن خمس سنوات على الشاعر لمجرد أنه استجاب لمشاعره الحقيقية التي كانت مجرمة طبقا لقانون يعود الى الفترة الفاشية في إيطاليا، وهو ما تم التخلص منه حاليا.

جياني إيليميو يسير على الكتاب كما يقال- في إخراج مشاهد هذا الفيلم الذي يعتبر مرافعة سينمائية من أجل الحرية الشخصية التي تحققت بالفعل بل وتجاوزت كثيرا ما يطالب به الفيلم. ولذا ليست هناك أهمية خاصة لمثل هذا الفيلم، سوى أهمية تاريخية تهم بعض قوى اليسار الإيطالي التي تعاطفت ووقفت بجوار هذا الرجل في تلك الفترة رغم الموقف الرسمي للحزب الشيوعي الذي أراد أن ينأى بنفسه عن تأييده حتى لا يفقد شعبيته. ومرة أخرى يظل الحوار الكثيف الكثير يهيمن على الفيلم ويشرح كل شيء ويقول ويكشف كل شيء. ولا توجد لمسات سينمائية متميزة من حيث الصورة في هذا الفيلم الرتيب البطيء.

المرافعة داخل قاعة محكمة، والحوار الذي لا يتوقف، كان حاضرا أيضا بل وأساس أفلام أخرى في المهرجان، احتلت مساحة كبيرة منها كما في فيلم “تار” tar الذي قامت ببطولته كيت بلانشيت وأدت أداء مشهودا كعادتها، ولكن أهم هذه الأفلام هو الفرنسي “سان أومير”  Saint Omer  الذي يدور في معظمه داخل قاعة محكمة ولا يتوقف الحوار فيه ولو لثانية واحدة، ويبدو مثل المقال السينمائي المباشر الموجه في الدفاع عن امرأة مهاجرة من افريقيا إلى باريس، قتلت ابنتها بإغراقها في البحر، والدلائل كلها واضحة على جريمتها ومع ذلك فوراء تلك الجريمة الكثير من الأسباب التي يجب شرحها عبر ساعتين من الجمود السينمائي. لكن التمثيل مؤثر، والموضوع يثير مشاعر الليبراليين الغربيين المدافعين عن حقوق الأقليات المهاجرة عموما، لذلك وجد صدى كبيرا لدى الجمهور. وإن لم أعتبره عملا كبيرا بأي مقياس.

يظل الفيلم الإيراني “الحرب العالمية الثالثة” وهو عمل كوميدي طريف يسخر من كثير من الأمور داخل تركيبة المجتمع الإيراني، وهو يقتضي وقفة خاصة.

 

موقع "عين على السينما" في

17.09.2022

 
 
 
 
 

يوميات فينيسيا (8):

أحلام السبعينيات

أمير العمري

هناك بعض الأفلام إن لم تكن على معرفة بالخلفية التاريخية لها، ويمكنك أن تشعر بالاهتمام بموضوعها وما يمكن أن يثيره فيك على المستوى الشخصي قبل أن تشاهدها، فلن يمكنك ان تستمتع بها، ربما ستشعر بالغربة وسط جمهور عريض جاء خصيصا لمشاهدة الفيلم، مترقبا أن يرى أحداثه رغم أنها معروفة من القصة الأصلية القديمة التي حدثت في الواقع، كما يريد أن يرى مجموعة الممثلين أو “النجوم” المشتركين في الفيلم الحاضرين بشحمهم ولحمهم أمام الجمهور.

هذا ما حدث عندما تورطت في حضور أحد العروض العامة، وسط الجمهور، مع عرض الفيلم الأمريكي Dreamin’ Wild الذي لا أعرف له ترجمة مناسبة سوى أن تكون مثلا “أحلم بجنون” أو “بتوحش” وهو على أي حال عنوان “ألبوم” غنائي، أو إحدى أغاني ذلك الألبوم الذي صدر عام 1979 لشابين من شباب الغناء الأمريكي الشائع (البوب) الذي لا أزعم أنني فهمته ذات يوم أو أحببته، لكن غيري فعل بكل تأكيد.

لا أعرف من أبطال الفيلم الذي حضروا إلى العرض الجماهيري في قاعة سينما جراندا الرائعة، سوى كيسي أفليك وبو بريدجز (الذي بدت عليه علامات التقدم في العمر)، ومعهم طبعا المخرج بيل بولاد Bill Pohlad وهو مخرج (على قد حاله- كما نقول) وفيلمه أيضا يحاول أن ينقل لنا حرفيا كيف غامر شابان مراهقان (شقيقان) هما دوني وجو إيمرسون، وأنفقا كل من حصلا عليه من مال من والدهما، في عمل ذلك الألبوم الذي لم يهتم به أحد، ولكن بعد مرور أكثر من عشرين سنة، بعد أن كبرا وتجاوزا منتصف العمر أصبح هناك الآن من يعيد اكتشافه، ويقوم بطبعه وتوزيعه ليحقق ما عجز عن تحقيقه في الماضي. وهكذا يصبح الحلم القديم حقيقة.

عمل شديد المحلية، يثير بعض النوستالجيا لدى البعض من الأجيال الأكبر التي عاصرت تلك الفترة من أواخر السبعينيات، مع بطء في الإيقاع وثرثرة كثيرة في الحوار كعادة هذا النوع من الأفلام، ومشاهد جامدة داخلية مع كثير من الأغاني من ذلك الالبوم على شريط الصوت، والأداء التمثيلي البليد من جانب كيسي أفليك الذي يختلف في رأيي، كثيرا عن شقيقه بن أفليك، فهو لا يمتلك ما يتمتع به شقيقه من كاريزما رغم اجتهاده وإصراره. أو ربما أن هذا هو انطباعي الشخصي عن أدائه في هذا الفيلم تحديدا.

إلا أن هذا كان يوم الفيلم البريطاني المنتظر “الإبن” The Son للمخرج الفرنسي المحظوظ فلوريان زيلر، الذي سبق أن نال التقدير عن فيلمه السابق مباشرة “الأب” The father وكلا الفيلمين عن مسرحية له، فهو كاتب ومخرج مسرحي أساسا، وهو مولع على ما يبدو بهذا النوع من الدراما العائلية البسيطة التي يجيد تحويلها الى بناء درامي معقد مليء بالحيوية مع قدر لا بأس به من المبالغات العاطفية.

هذا فيلم آخر من الأفلام التي تصور المتاعب التي تنتج عن العلاقة بين زوجة الأب، والإبن المراهق (أبناء الآخرين) الذي لا يمكنه تخيل غياب أمه عن المنزل، لكنه ليس سعيدا أيضا مع أمه التي تعيش وحيدة لذا ينتقل للعيش مع والده الذي تزوج امرأة أخرى غير أمه. ويرفض الفتى قبول واقعه الجديد، بل ويحمل والده مسؤولية التخلي عنه وعن أمه، وصولا إلى أقصى درجات الانهيار النفسي.

يقوم أنطوني هوبكنز (الذي كان الأب في الفيلم السابق) بدور صغير هو دور الأب أيضا ولكن والد الأب الأصغر أي أنه جد الفتى، وهو قد تنكر أيضا لابنه ووالدته وهجرهما، وبالتالي يمكن القول أن الأب من الجيل الثاني سار على نهج والده، وهكذا تستمر الدراما لتصل إلى ذروة الميلودراما. ولكن الفرق أنها مصنوعة جيدا ومقنعة.

الفيلم الإيراني “وراء الجدار” للمخرج جليل فاند، فيلم جيد جدا، وهو ثالث أفلام مخرجه الروائية الطويلة بعد سلسلة من الأفلام التسجيلية ومسلسلات التليفزيون. وهو يروي قصة رجل (غامض) فقد نظره تقريبا يقيم وحيدا في شقة معزولة تبدو كسجن، يتردد عليه رجال الامن، يستجوبونه باستمرار، تصله رسائل من امرأة لا يعرفها ولم يرها سوى مرة واحدة، هذا الرجل له قصة شديدة التعقيد، لا يكشف عنها الفيلم سوى من خلال التراكمات المستترة التي تسمح لك، إن استطعت طبعا، بتجميع خيوطها وربطها معا، والعثور على صلة بين الماضي الذي تتكرر مشاهده المفصلية، وبين الحاضر، لتتبين الفرق بين الواقع والخيال، وبين الحلم والحقيقة. والفيلم يقتضي دون شك، وقفة خاصة منا.  

وهو نفسه، شأن الفيلم اللبناني “حديد، نحاس، بطاريات” لمخرجه وسام شرف، الذي يروي قصة حب تجمع بين لاجيء سوري ولاجئة أثيوبية في ظروف قاسية، في بيروت. فهو عمل رقيق، جديد في موضوعه وسياقه الدرامي وتفاصيله، بعيد عن النمطية التي صبغت الكثير من الأفلام اللبنانية بل والافلام التي تناولت موضوع اللاجئين عموما.

الفيلم الإيراني معروض داخل المسابقة، أما الفيلم اللبناني فعرض داخل قسم “أيام المؤلفين” وهي التسمية الإيطالية لهذا القسم الذي يعرف عالميا باسم “أيام فينيسيا” وهو في الحقيقة مهرجان مستقل يقيمه اتحاد المخرجين الايطاليين على غرار “نصف شهر المخرجين” الذي يقام في مهرجان كان. ولكن الفرق أن مهرجان فينيسيا الرسمي يتبنى عرض أفلام هذا القسم ويضمنها كل مطبوعاته، ويعرضها في قاعات المهرجان، أي أنه لا ينفصل بقاعة خاصة واحدة كما هو الحال في “نصف شهر المخرجين”.

 

موقع "عين على السينما" في

18.09.2022

 
 
 
 
 

يوميات فينيسيا (9):

الأمر فعلا يدعو للقلق!

أمير العمري

من فضائل مهرجان فينيسيا السينمائي أنه يرحب بالتجارب الجديدة للمخرجين، بعرض أفلامهم الأولى والثانية. هذا العام شهد المهرجان مثلا، عرض أفلام من إخراج مخرجين عرب قدموا تجاربهم الأولى والثانية في مجال الأفلام الروائية الطويلة، أذكر من بينهم الفيلم الجزائري البديع “الملكة الأخيرة” (سيكون هناك مقال خاص عن هذا الفيلم)، وهو أول الأفلام الروائية الطويلة لمخرجته عديلة بنديمراد وزميلها المخرج داميان أونوري، وفيلم “ملكات” أول أفلام المخرجة المغربية الشابة ياسمين بنكيران، و”نزوح” ثاني أفلام السورية سؤدد كعدان، وهو أقل كثيرا في مستواه من فيلمها الأول، و”حديد، نحاس، بطاريات” وهو ثاني أفلام المخرج اللبناني بسام شرف. وجاء عرض هذه الأفلام داخل مسابقة “آفاق” و”أسبوع النقاد”، و”أيام فينيسيا”.

وقد شاهدت هذه الأفلام وسأكتب عنها فيما بعد في مكان آخر، وإن كان الفيلم الوحيد الذي فاتني أن اشاهده هو الفيلم العراقي “جنائن معلقة” أول أفلام المخرج أحمد ياسين. ولكني آمل أن اشاهده في مهرجان آخر قريبا. فهذه الأفلام لا نراها سوى من خلال المهرجانات السينمائية.

ومن الأفلام الأولى لمخرجيها، عرض خارج المسابقة الرئيسية للأفلام الطويلة الفيلم الروائي الطويل الثاني الذي تخرجه الممثلة الأمريكية أوليفيا وايلد وعنوانه “لا تقلقي ياحبيبتي”Don’t Worry Darling  من بطولة الممثلة الانجليزية الصاعدة بقوة، “فلورنس بيو” أمام المغني والممثل الإنجليزي هاري ستايلز.

تحاول أوليفيا وايلد ان تجمع في فيلمها، بين الجدية والتجارية، بين تقديم عمل جاد له مغزى سياسي معاصر، وبين عمل بوليسي ودراما نفسية مثيرة، لا مانع من حشوه ببعض مشاهد الجنس الصريح، كجزء من المشهيات التجارية. ولكن ليست هذه هي المشكلة، فالمشكلة أنها تعتمد على سيناريو ضعيف، يكرر الفكرة باستمرار، ويجعل الفيلم محاكاة لما سبق أن شاهدناه في أفلام قديمة تلعب على فكرة البارانويا التي تنتج عن الشعور بالحصار، بالوقوع ضحية لمؤامرة شريرة يشترك فيها الجميع، بينما تبدو الأمور من السطح براقة لامعة.

يفترض أن الأحداث تجري في الخمسينيات. جاك (هاري ستايلز) مهندس الالكترونيات، وزوجته الشابة الجميلة “أليس” (فلورنس بيو) يذهبان للإقامة في مكان بعيد داخل صحراء كاليفورنيا، هو أقرب إلى المنتجعات الراقية، جنة الله على الأرض، حيث كل شيء متاح: الخضرة والماء والسيارات الفارهة الحديثة والبيوت الراقية. هناك مجتمع كامل يعيش هناك، من المهندسين الذين يعملون في مشروع كبير في تلك القرية النموذجية التي أطلق عليها مؤسسها ومديرها الشاب اللامع الذكي “فرانك” (كريس باين) الذي يرحب مع زوجته الجميلة الصينية الأصل “شيللي” (جيما اشلي) بالقادمين الجدد.

هذه القرية يطلق عليها مؤسسها “victory” أي “النصر”. والمهندسون الشباب يتوجهون كل صباح للعمل في مشروع سري محظور عليهم أن يتفوهوا بكلمة واحدة لزوجاتهم اللاتي ينتظرن في البيت.

في البداية، تشعر أليس بالسعادة، فهناك طعام جيد، أدوات ترفيه عديدة متوفرة، حياة رائعة داخل ذلك المنزل الحديث الذي تتوفر فيه كل عناصر الرفاهية، حفلات راقصة جماعية، ولائم عشاء يغشاها الجميع ومن بينهم السيدة الأنيقة “باني” الجذابة، التي تقوم بدورها لا أقل من المخرجة “أوليفيا وايلد” نفسها.

أليس تعد الطعام الجيد لزوجها كل مساء، وهو يقبل، لا على التهام الطعام بقدر ما يقبل عل ممارسة الجنس معها بينما تستقبله هي بكل عنفوان الرغبة، سواء في الفراش أو خارج الفراش، على مائدة الطعام حيث تقلب الأطباق لتتحطم على الأرض مع شعورها بالنشوة.

هذا كله تمهيد لما سيحدث عندما تخرج أليس ذات يوم، تريد استكشاف المكان، فتقترب مما لا يسمح بالاقتراب منه، لتلمح احدى سيدات هذه القرية، سيدة سوداء زوجة أحد المهندسين العاملين، هي “مرجريت” (كيكي لاين) التي تنذرها بأن هناك أمرا فظيعا يجري في هذا المكان، وأن الجميع يعلم ويتستر. ويأتي الحراس الأشداء يقبضون على مرجريت ويذهبون بها بعيدا. تحاول أليس أن تعرف لكن جاك يهديء من روعها (لا تقلقي يا حبيبتي”، ولكن شعورها بالرعب يزداد بعد أن ترى كيف تلقي مرجريت بنفسها بعد ذلك، من أعلى بناية ثم يأخذون جسدها ويسحبونه بعيدا. لقد قتلت نفسها. هناك إذن شيء رهيب كامن في هذا المكان. لكن لا أحد يريد أن يعترف بحقيقة ما رأته. حتى جاك يوهمها بأن مرجريت لم تنتحر، وان كلها خيالات ورؤى.

من هنا تبدأ الرحلة الغامضة من أجل معرفة الحقيقة. هل تصنع الحكومة أسلحة سرية مدمرة؟ ربما. هل يتعرض العاملون في المشروع الكبير لأشعة مدمرة؟ هذا محتمل. هل هناك مخاطر على العالم من هذا المشروع السري؟

السيناريو لا يكشف عن طبيعة الخطر لكنه يكشف عن عقدة الفيلم نفسه بعد أقل من نصف ساعة من زمنه (يقع الفيلم في ساعتين ودقيقتين)، ثم يظل يدور حول الفكرة نفسها، مع تكرار التساؤلات والفزع والرفض والرغبة في التمرد، ثم ظهور الوجه الآخر (الشرير) لمدير القرية وصاحب المشروع “فرانك”، الذي يتغير من البشاشة والرقة إلى العنف. لكن أليس أيضا تتعاطى عقاقير مهدئة، لكنها تجعلها تتخيل الكثير من الأشياء، وغالبا هم الذين دسوا لها هذه العقاقير، لكي يبدو الأمر كما لو كانت هلوسات، لكنها تصر على أنها رأت فعلا ما حدث، فيتهمونها بالجنون، ويجعلونها تخضع للعلاج بالصدمات على غرار جاك نيكلسون في “طار فوق عش الواق واق”.

من الواضح أن الفيلم يشير إلى ما هو معروف من إقامة الحكومة الأمريكية قاعدة سرية في صحراء نيفادا لتصنيع القنابل النووية، وهو ما يشير إليه الفيلم عندما يجعل الموجودين يشعرون بهزات أرضية بين وقت وآخر لكنهم يتجاهلونها. فالرعب يسيطر على الجميع، ومن يجرؤ على الحديث علانية أو الإعراب عن تشككه فيما يجري، يتهم بالجنون، أو يتم تصفيته أو اخفاؤه، ويخشى الرجال فقدان وظائفهم التي تدر عليهم الكثير من المال، كما تخشى الزوجات التضحية بحياة الرفاهية التي يعيشونها.

يريد الفيلم ان يوحي برجعية الخطاب، أي كيف دفع بالزوجات إلى الانزواء داخل المنازل، والاكتفاء بإعداد الطعام لأزواجهن وتنظيف المنازل، والاسترخاء في الشمس بجوار حمام السباحة، وانتظار أزواجهن بفارغ الصبر للمضاجعة. بينما نعرف من خلال “فلاش باك” أن أليس كانت في السابق، طبيبة تعمل في إحدى المستشفيات قبل أن تتزوج جاك.

كل هذا جميل ومصور جيدا جدا، مع صورة لامعة مصقولة، وألوان زاهية، وسماء صافية، وشمس ساطعة. ولكن ما يأتي بعد ذلك يفسد، ليس فقط تلك الصورة، بل الفيلم نفسه. فالحبكة بتفاصيلها مألوفة كثيرا وسبق أن رأينا تفاصيل مماثلة في كثير من الأفلام الأخرى، كما يتكرر كثيرا الخطاب السطحي لمدير المشروع “فرانك” الذي يردد على مسامع الجميع أشياء ساذجة مثل “نحن هنا نساهم في صنع حضارة جديدة للإنسان.. تاريخ جديد وعالم جديد، نصنع المستقبل.. وانتم جميعا جزء من هذا المشروع العظيم، ونحن نوفر لكم هنا حياة جديدة نوفرها لكم.. وكم أنتم سعداء الحظ”.

والفكرة تتكرر كثيرا، وليس فقط الخطابات المباشرة، أن وراء السطح الخارجي للأشياء، هناك شيئا بشعا يجري تحت الأرض ويجب كشفه، أو على الاقل مغادرة المكان لعدم التورط في المشروع، أي غالبا، بدافع “أخلاقي” فقط. أو أن هذا ما تراه وتعبر عنه أليس بينما يرفضه زوجها بشدة لأنه يعرف نتيجة التضحية بما يحققه من مكاسب من عمله. ولأن التواءات الحبكة لا تضيف جديدا ولا تشبع نهمنا لمعرفة تفاصيل الموضوع، يظل الفيلم يراوح مكانه، ويفقد جاذبيته، ويفقدنا القدرة على المتابعة باهتمام وجدية.

قد تكون فلورانس بيو اجتهدت كثيرا لكي تجعل شخصية “أليس” أكثر عمقا وقربا منا، لكنها عجزت عن التغلب على سطحية الشخصية ودورانها حول نفسها داخل حلقة مفرغة لا تؤدي إلى شيء.

أما ستايلز، ففشل في تقمص دور المهندس الأمريكي الشاب، لا بسبب تشتته في نطق اللهجة الأمريكية كما رأى البعض، بل بسبب عدم قدرته على التعامل مع الشخصية بجدية، فهو “يمثل” لكنه لا يعيش داخل جلد الشخصية التي يؤديها. ولذا بدت انفعالاته فوق الحد المعقول والمقبول.

أما كريس باين فاكتفى بتكرار نفسه، مع توجيه نظرات خبيثة خصوصا في مشهد يتسلل خلاله الى بيت الزوجين (أليس وجاك) ليتلصص عليها وهي تمارس الجنس مع زوجها، دون أن يترتب على هذا التلصص الذي يظهر اهتمامه الخاص بها كامرأة، أي شيء فيما بعد.

أوليفيا وايلد قد تكون ممثلة جيدة، إلا أنها هنا مجرد روبوت لامرأة جميلة، زوجة حامل، تخفي وتتستر، إلى أن تعترف لأليس بمعرفتها بما يدور وتنصحها بالمغادرة، دون أن تقدر هي على اتخاذ موقف مماثل. أما كمخرجة فيجب أن تعرف كيف تهتم أولا وأخيرا، بالسيناريو، ببناء الشخصيات، والابتعاد عن النمطية، فالصورة الجميلة لا تكفي!

 

موقع "عين على السينما" في

19.09.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004