ملفات خاصة

 
 
 

"لا موسترا ــ 79":

جمود خيال وإفلاس إبداعي

فينيسيا/ محمد هاشم عبد السلام

فينيسيا السينمائي الدولي التاسع والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

بعد الإعلان الرسمي عن أفلام الدورة الـ79 (31 أغسطس/آب ـ 10 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (لا موسترا)"، وقبل ساعات قليلة على بدء الفعاليات الواعدة، خاصة المسابقة الرسمية، كانت كافة التوقّعات تؤكّد أنّ هذه الدورة ستكون "ناريّة" بامتياز، نظراً إلى الأسماء المُكرّسة، المشاركة في الأقسام المُختلفة، وأوّلها المسابقة الرئيسية. أفلامٌ عدّة مُنتَظرة، وعليها عُقدت آمال كبرى، ومستويات أفلام أخرى كانت محلّ تكهّنات محضة. قلّة، لا سيما تلك الخاصة بأسماء غير مُكرّسة، لم تكن مُثيرة لاهتمام وتوقّع كبيرين.

مع تقدّم أيام المهرجان وعروض الأفلام، تكرّرت، بل تكرّست خيبة الأمل التي سبّبها فيلم الافتتاح، "ضوضاء بيضاء"، للأميركي نواه بومباك. تواترت أفلام المسابقة الرئيسية، مثلاً، بمعدل فيلمين أو ثلاثة أفلام يومياً. لكنْ، بمجرّد انتهاء عروض كلّ يوم، وبدء عروض اليوم التالي، تُنسى عروض اليوم السابق، أحياناً كلّها، كأنّها لم تكن، إلى درجة أنّه، مع اقتراب نهاية الدورة هذه، أجمع الحضور السينمائي على أنّ للأفلام كلّها المستوى نفسه تقريباً. ليس هناك ما استوقف الانتباه. لم ينوجد فيلمٌ يُمكن اعتباره تُحفة سينمائية خالصة، أو جوهرة المهرجان. لذا، كان صعباً، فعلاً، التكهّنُ بمعظم الجوائز قبل إعلانها، على غير العادة.

لا إبهار ولا متعة

هذا طَرح أسئلة عدّة، أغلبها مُتعلّق بجمود المستوى السينمائي، وفقر الخيال، والإفلاس الإبداعي، على أسوأ تقدير، ليس بخصوص أفلام "مهرجان فينيسيا" فقط، بل إنتاجات هذا العام، إجمالاً. لا يعني هذا أنّ أفلام الدورة الـ79 سيئة، أو رديئة، أو دون المستوى، أو مجرّد حشد لأسماء نجوم ونجمات ومخرجين ومخرجات. الأمر ليس كذلك بالتأكيد. فالغالبية الساحقة من الأفلام المعروضة جيّدة الصُنعة، بل ومُحكمة جداً، أحياناً كثيرة. المشكلة الكبرى كامنةٌ في أنّها "مُشاهَدة من قبل"، أي أنّها "Deja vu"، فلا جديد على مستوى الأفكار والموضوعات، والحبكة وتطويرها وتعقيدها. لا عمقاً في الأحداث والشخصيات والطرح. لا رؤية فلسفية جديدة، ولا تأمّلاً عميقاً. على الأقلّ، لا يوجد تناولٌ سينمائي مُختلف أو مُغاير، يُبهر الأبصار، ويُمتّع النظر.

أيضاً، لا جديد يجذب الانتباه على مستوى المونتاج والإيقاع والتشويق والغموض. وذلك رغم حرص البرمجة على التنوّع الشديد، ووجود كافة الأنواع السينمائية في مختلف الأقسام: موسيقيّ، رعب، وسترن، سيرة، اجتماعي، وثائقي، تاريخي، تحريك، سياسة، إلخ.

طبعاً، هناك استثناءات، في الطرح والشخصيات، كما في المُعالجة السينمائية والجماليات البصرية. لكنّها قليلة للغاية. من هذه الاستثناءات، برز "حواجز إينشرين" للأيرلندي مارتن ماكدونا، الفائز بجائزة مُستحقّة، "أفضل سيناريو"، لتميّزه (الفيلم) بين أفلام المسابقة بجدّية قصّته وفرادتها وأصالتها، مُقارنة بغيره. كذلك، رسم أجواء صادقة وشخصيات حية وأصيلة وجديدة، ما أهّل ممثّله الأساسي، كولِن فاريل، للحصول على جائزة "كأس فولبي لأفضل ممثل" عن تأديته دور بادريك، أمام نجم آخر، برندن غلِزن، في أدائه المُبهر لشخصية الموسيقيّ كولم. إجمالاً، يُذكِّرنا "حواجز إينشرين" برائعة الإيطالي فيدريكو فيلّيني "ثمانية ونصف"، وأفلام سيرة أخرى.

على المستوى البصري والجماليات السينمائية، لم يتخطّ أي فيلمٍ جماليات "باردو، توثيق مزيّف لحفنة حقائق" (180 دقيقة)، للمكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، الذي تضمّن، بمزجه الخاص بالعام والسيرة بالتاريخ، مشاهد محدّدة، تُعتَبَر، بأريحية تامّة، تحفة فنية إخراجية، من حيث التكوين، وإدارة المجاميع، وحركة الكاميرا، وتنوّع اللقطات. الجديد أنّ إيناريتو يضرب بقوّة وجرأة، وبسخرية غير مسبوقة في عمق التاريخ السياسي، بين الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك.

في اجتهاد إخراجي وبصري آخر، وقبلهما الاشتغال على الحبكة، واستغلال المكان المُغلق، وقلّة الشخصيات، نجح الإيراني وحيد جليلفاند في تقديم الجديد والمُختلف، في فيلمه الروائي الثالث، "وراء الجدران". المُشكلة الوحيدة فيه اختباره طويلاً لصبر المُشاهد. فبعد تجاوزه أكثر من ساعة ونصف الساعة، تبدأ أمورٌ في التكشّف، وتنجلي خيوطٌ، وتترابط صُورٌ بعضها ببعض. ثم، تدريجياً، قبيل الخاتمة، تُدرَك الصورة الكلّية، ويسطع العمل.

على نقيض المكان المُغلق، وحبسة الجدران، وظّف الفرنسي اليوناني رومان غافراس الفضاء المفتوح، مُستغلّاً إياه أحسن استغلال، ومُوظّفاً تقنيات بصرية لافتة بشدّة، مع حركة كاميرا حيوية ونشيطة، وموسيقى ملحميّة مُميزة، ولقطات حرّة تمتدّ دقائق طويلة، من دون مونتاج. وهذا في فيلمه الروائي الثالث (أيضاً) "أثينا". الجهد الفني الملحوظ لم يُقدِّم جديداً، أو يطرح مُغايراً، ما أدّى إلى خروج الفيلم، كنسخةٍ شبه مُطابقة للأفلام التي تتناول العلاقة الشائكة والعنيفة والدموية، أحياناً، بين الشرطة الفرنسية وشباب الجالية العربية. ما استحضر بقوّة فيلم "البؤساء" (2019)، للماليّ لادج لي، المُشارك في كتابة سيناريو "أثينا".

أسرة ومجتمع ومارلين مونرو

مُقارنة بأعماله السابقة، ذات المستوى المُتفاوت، التي جرى التعامل معها سياسياً قبل أي شيء، في تغافل أو تساهل مع الفنّيات وغيرها، أكّد الإيراني جعفر بناهي، في جديده "لا يوجد دببة"، على خصوبة خياله، وصدق موهبته. في الفيلم، الفائز بجائزة "لجنة التحكيم الخاصة"، يخلط جعفر بناهي، بمهارة، الخاص بالعام، على نحو أكثر فنّية وحِرَفية ودرامية وإقناعاً، بلا أي افتعال، من دون أنّ يتخلّى، صراحة هذه المرة، عن توجيه انتقادٍ كثير، أو اتّهامٍ للمجتمع الإيراني وأفراده، قبل النظام السياسي.

"روابطنا"، لرشدي زم، أحد أبرز أفلام المُسابقة تكثيفاً، وصولاً إلى الهدف مُباشرة، ناقلاً رسالته الإنسانية من دون تعقيد أو حذلقة، وبصدق تام. ينتمي الفيلم إلى مجموعة واسعة من الأفلام الاجتماعية، المعروضة في مختلف الأقسام، والمُتمحورة حول العلاقات الأسرية في فترات مُختلفة، بين الأشقاء في الأسرة الواحدة، كـ"روابطنا" و"من أجل فرنسا" لرشيد حامي، المعروض في قسم "آفاق"؛ أو بين الرجل والمرأة والأبناء، وصعوبة العلاقة الأسرية في ظلّ التحدّيات اليومية، وبروز مشاكل نفسية وجسدية وخُلقية، مرتبطة بأحد الأبناء، مثل "الهائلة"، للإيطالي إيمانويل كرياليز، مع حضور باهت لبينلوبي كروز، وقصّة بأحداث عادية، لم تُقدّم جديداً يُذكر. هذا انسحب أيضاً على "حب حياة"، للياباني كوجي فوكادا: علاقة تتعقّد بين حبيبين، تزوّجا مُؤخّراً. لكنّ الماضي يطلّ عليهما، متمثّلاً بالزوج الأبكم السابق للشابّة، الذي يتسلّل تدريجياً إلى حياتهما، بعد وفاة ابنه.

بعض الاختلاف ملموس في "الابن"، للفرنسي فلوريان زيلر، عن سيناريو المُحنّك كريستوفر هامبتون، الذي مضى أشواطاً بعيدة في تقديمه مشكلة الابن نيكولاس (زين ماكغراث)، المُضطرب نفسياً وسلوكياً، ومُحاولة والديه، المُنفصل أحدهما عن الآخر (هيو جاكمان ولورا درن) معرفة الأسباب، وإيجاد الحلول لعلاجه.

الشيء نفسه ينطبق على "الحوت"، للأميركي دارين أرونوفسكي، الذي اجتهد كثيراً ـ استناداً إلى الأداء الرائع للممثل براندن فرايزر، في دور تشارلي مفرط البدانة ـ في خلق التوازن بين علاقة أب بابنته المُراهقة، الكارهة له ولحالته الصحية. وقبل كلّ شيء، الاجتهاد في الخروج من نطاق الفيلم المسرحي، أو العزف على استدرار العواطف، واستمالة المشاعر. لكنّ أرونوفسكي لم يُوفّق كثيراً، إلّا في براعة إخراج أداءٍ ومشاعر ومواقف مُستهلكة.

في تقليدٍ شبه مُعتاد، في السنوات الأخيرة، يحرص المهرجان على وجود فيلم سيرة ذاتية في برمجته، في المسابقة أو خارجها. هذا العام، كان "شقراء" (166 دقيقة)، للأسترالي أندرو دومينيك، عن سيرة المُمثلة الأميركية مارلين مونرو، راوياً طفولتها المُعذّبة، عندما كانت نورما جين، وصولاً إلى ذروة مجدها في خمسينيات القرن الـ20. ركّز الفيلم على محورين رئيسيّين في حياتها: والدها، الذي لم تُقابله أبداً، ومُحاولتها الإنجاب. البحث وتخيّل شيء آخر في سيرة مونرو لم يُسفرا عن جديد. ورغم اجتهاد آنا دي أرماس، ونجاحها لدقائق ومَشاهد ليست قليلة في إقناعنا أنّها مارلين مونرو فعلياً، لم يحدث اندماج أو تماهٍ، رغم جهودها الواضحة.

هذا يُفسّر عدم فوز دي أرماس بجائزة "كأس فولبي أفضل ممثلة"، التي حصلت عليها الأسترالية كايت بلانشيت، عن دور ليديا تار، المايسترو وقائدة الأوركسترا الموهوبة والصارمة وقاسية القلب، في "تار" لتود فيلد. كما أنّها (دي أرماس) لم تحصل على جائزة "مارتشيلّو ماستروياني أفضل مُمثلة صاعدة"، التي كانت من نصيب الأميركية الشابّة تايلور راسل، عن دور مارين، في "عظام وكل شيء"، للإيطالي لوكا غوادانينو، الفائز بجائزة أفضل إخراج عن فيلمٍ، أفضل ما يُقال عنه إنّه جيد الصُنعة، إذْ لم يأت غوادانينو بجديد، خاصة في نوع أفلام الرعب وأكلة لحوم البشر، باستنثاء مَشاهد مُفاجئة قليلة، خبت تدريجياً، مع تقدّم مسار الأحداث.

المُثير أيضاً أنّ أداء راسل لم يكن بتلك القوّة، والجائزة ممنوحة لها فقط لأنّه لم يكن هناك، في الأفلام المُبرمجة، أصحاب أدوار أولى، أو ممثلين/ممثلات واعدين يستحقّونها، ما مَهَّد لها الطريق، ببساطة.

اللافت للانتباه أنّ جائزة التمثيل النسائي محصورة في نطاق ضيّق للغاية، بين كايت بلانشيت والبلجيكية الفرنسية فيرجيني إيفيرا، بطلة الدراما الاجتماعية النفسية "أولاد الآخرين"، للفرنسية ريبيكا زلوتوفسكي، بتأديتها دور راشيل، في منتصف أربعينياتها، التي لم يعد لديها وقتٌ كثيرٌ للإنجاب، بسبب العمر. في حين يزداد تعلّقها وانجذابها إلى أطفال الآخرين حولها: ابنة حبيبها، أولاد أصدقائها، رضيع شقيقتها.

نساءٌ في الطليعة

مُقارنة بالرغبة الحارقة لراشيل في الإنجاب، تسرد السنغالية الفرنسية أليس ديوب، في جديدها "سانت أومير"، قضية الطفل غير المرغوب فيه، من خلال قضية تُناقَش، في 123 دقيقة، في المحكمة. تطرح المخرجة، المشهورة بأفلامها الوثائقية عن الأفارقة والجالية السنغالية في فرنسا، قضايا العنصرية والظلم والفقر.

الفيلم ـ الفائز بجائزتي "الأسد الفضي ـ لجنة التحكيم الكبرى" و"لويجي دي لورنتس ـ أسد المستقبل لأول فيلم روائي طويل" ـ يسرد قضية الشابة السنغالية ذات الأصول المهاجرة لورانس كولي (كوسلاكي مالنغا)، التي تُنجب طفلة، سرّاً. وبعد بلوغها 15 شهراً، تتركها ذات مساء على شاطئ البحر، ليجرفها المدّ العالي، بعد إدراكها أنّ مستقبل الطفلة ومصيرها سيكونان قاتمين وغير عادلين، كحياتها.

المُثير هذا العام، منح لجنة تحكيم المهرجان، برئاسة الأميركية جوليان مور، "الأسد الذهبي (الجائزة الكبرى)"، للعام الثالث على التوالي، إلى مُخرجة، هي الأميركية لاورا بواتراس، عن جديدها "كلّ هذا الجمال وسفك الدماء". بواتراس (58 عاماً) مخرجة وثائقية معروفة، لها "المواطن أربعة" (2014) عن إدوارد سنودن، نالت عنه "أوسكار" أفضل فيلم وثائقي عام 2015. في جديدها، تقدّم شبه بورتريه، خاص جداً، عن المُصوّرة الأميركية اليهودية المشهورة والناشطة نان غولدن، وكفاحها وتأسيسها مُنظمة "ألم"، التي تصدّت لأزمة الأفيون في أميركا، وحاربت عائلة ساكلر، مالكة شركة أدوية ومُسكّنات للآلام ومُخفِّضة للحرارة، تسبّبت في حالات إدمان ووفيات كثيرة.

تُعيد الجائزة إلى الأذهان ما حصل عام 2013، وكانت المرّة الأخيرة التي مُنحت فيها هذه الجائزة إلى فيلمٍ وثائقي، "ساكرو جرا"، للإيطالي جيانفرانكو روزي.

 

العربي الجديد اللندنية في

19.09.2022

 
 
 
 
 

جعفر بناهي الفائز الغائب في مهرجان البندقية: إبليساً في إيران نبيّاً في العالم!

هوفيك حبشيان

#جعفر بناهي ليس أول مخرج في التاريخ عرضة للاضطهاد ولن يكون الأخير. لكنه أوفر المضطهدين حظاً وفرصاً. ينال البركة والتأييد من كلّ الجهات مذ قررت المحكمة الثورية في بلاده مصادرة حقّه في صناعة الأفلام، فمنعه من السفر إلى خارج بلاده #إيران، وأخيراً سجنه لمدة ست سنوات. ملاحقة بناهي من فيلم إلى آخر، كما لو كان مجرماً فاراً من العدالة، باتت، على مأسويتها، مادةً للتندّر، من شدّة عبثيتها وعدم جدواها. فلم يسبق له ان كان بهذه الغزارة، بل تضاعف إنتاجه منذ صدور القرار من أعلى السلطات معتبراً اياه خطراً على أمن الجمهورية الإسلامية و"قيمها". الجميع يجد ذلك مضحكاً وعبثياً وتافهاً، الا ملالي إيران الذين لا يزالون "وراك وراك".

رغم ذلك، بناهي (62 عاماً) حاضرٌ غيابياً في كلّ المهرجانات، له طيفٌ مقيم فيها، وإن بقي جسده في طهران. مرةً يُستحضَر بفيلم، من دون ان يخفي ان "هذا ليس فيلماً" (عنوان أحد أعماله التي أنجزها وهو في الاقامة الجبرية)، ومرةً يُكرَّم من خلال مكان شاغر يُترك على شرفه في لجنة التحكيم. انه الطفل المدلل لهذا الغرب الذي يعشق قصص الظلم الآتية من البعيد المجهول. وأغلب الظن ان كثيرين كانوا تمنّوا لو أنهم في مثل موقعه: إبليسٌ في الداخل، نبيٌّ في الخارج.

لكن، خلافاً لغيره من الذين أضحوا مادة للتضامن والتعاطف، فبناهي #سينمائي مهم، لا يمكن محاصرته في أي شيء من خارج فنّه، حتى لو طغى عليه في الكثير من الأحيان. لدى بناهي ما يحضّك على العودة إلى فّنه حتى لو حاول العالم كله ان يجعلنا نصرف النظر عنه للانشغال بالسطحي. وهذا ما يؤكده فيلمه الأحدث، "لا دببة"، الذي نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان البندقية الأخير (31 آب - 10 أيلول)، مختتماً المسابقة التي انطوت على 23 فيلماً. عمله هذا يحمل نضجاً ورؤية سينمائية وقدرة كبيرة على الايحاء والتلميح، فيقع بذلك في تقليد طويل من الأفلام الإيرانية التي وجدت في الاستعارة أسلوباً ولغة لتلافي الرقابة. في أي حال، مهما حاول نظام بلاده قمع الحريات والزجّ بالفنانين في السجون، ففكر مثل بناهي لا بد ان يتسرّب إلى العالم، وهو حلّق هذا العام في سماء "الموسترا" وعلى سجّادتها الحمراء التي شهدت أيضاً وقفة احتجاجية قبيل العرض الرسمي للمطالبة بالافراج عن المخرج، الذي لم يقترف جرماً سوى انه وضع كاميراه حيث يجب الاّ تكون في نظر السلطات التي تخشى آلة التصوير!

المفارقة ان مسألة "وضع الكاميرا حيث يجب الاّ تكون"، هي موضوع الفيلم الذي جاء به إلى البندقية، ولذلك، قلتُ سابقاً وأكرر، بناهي أفضل مَن وظّف معاناته في سبيل فنّه. فهي تحوّلت مادة فيلمية له، تروي قصّة، لكنها في الوقت نفسه ليست قصتّه فحسب، بل قصّة ملايين في مثل حالته، أو على وشك ان يكونوا في مثل حالته. ففي إيران الكلّ متّهم والكلّ مذنب حتى إثبات العكس. في حين كثرٌ من الفنّانين يبحثون عن خصم يشتبكون معه، هو جاءه الخصم أو العدو على طبق من ذهب. أفلامه الأخيرة وُلدت من هذه المواجهة مع هذه السلطة ومَن حاول منعه من العمل. ناهيك ان هذا سلّحه بالقدرة على التعبير عن الحالة السياسية التي يعيشها الإنسان الإيراني، وذلك بلغة غاية في الشفافية تختبئ خلف الاستعارة، تلك التي صنعت عبر التاريخ أهمية سينما إيرانية استطاعت ان تعيش وتنمو في بيئة رقابية صارمة وظروف معاكسة. هذا ما دفع ببناهي وغيره إلى ابتكار أساليب تعبير بديلة لا يفقهها ضبّاط الرقابة.

في "لا دببة"، نرى بناهياً مسحوباً من الحياة التي ينبغي لسينمائي مثله ان يعيشها في مدينة مثل طهران. انه مزيج من البناهي المعروف والبناهي الذي ولد بحكم الضرورة السيناريستية. يختبئ كمَن ارتكب فظاعة في بيت بالايجار داخل قرية يعرف عمدتها وهو يساعده في البقاء فيها مع رجل آخر يؤويه في منزله مقابل بدل مالي. يحارب بناهي على ثلاث جبهات على الأقل، سياسية واجتماعية وفنية. ويتعين عليه حلّ معضلات أخلاقية طوال الوقت، وهي كثيرة وستطرأ عليه باستمرار.

من وكره الموقّت، نراه يوجّه التعليمات إلى فريقه الذي يصوّر فيلماً، عن قصّة مفتعلة بعض الشيء، - دعونا نعترف بذلك أيضاً - عن حبيبين يحاولان الهرب من إيران إثر خروجهما من السجن حيث تم تعذيبهما. القرية نائية، تقع على الحدود مع تركيا، وهي بائسة وسكّانها بائسون. الحدود التي سيغامر فيها بناهي ذات ليلة، تشهد تجارة وتهريباً وممارسات غير شرعية، تدهمها الشرطة بين حين وآخر، لكن العمدة يبرر هذه الأعمال بالقول ان المحصول الزراعي راح يتضاعف فلم يبقَ أمام الناس سوى هذه الأعمال. في أي حال، هذا شأن هامشي في الفيلم ولو انه ذو بُعد رمزي، وسيلقي بظلاله على القصّة، لكن ما سيحدث بعد ذلك هو الأهم وهو الذي سيحمل بُعداً استعارياً: فصديقنا بناهي سيلتقط صورة ما كان يجب ان يلتقطها، أو بالأحرى صورة ستصبح مطلب سكّان القرية كلها، لأنهم يودون استخدامها كدليل لإدانة أحدهم (تفاصيل من الأفضل الاطلاع عليها عبر المشاهدة لا القراءة). اذاً، يجد بناهي نفسه داخل فخ محكم. هل يعترف انه التقط الصورة ويصبح بالتالي مجبراً على التنازل عنها لأهل القرية واضعاً حياة شخصين في الخطر، أو انه ينكر انه التقطها وتستمر المضايقات ضده؟ باختصار، يريده الآخرون ان يكون شاهد زور على حدث يملك الاثبات عليه. وهذا في الميزان السينمائي له دلالات كثيرة. لكن بناهي يقرر بكلّ "وقاحة" ان يتحدى وان يضع أهالي القرية أمام حقيقتهم وخرافاتهم والتقاليد البالية التي يستمّدون منها "قيمهم" ونمط حياتهم.

يقف بناهي على الحدود بين الأشياء من دون ان يتخطى عتبتها. هناك العديد من الأمور التي يتداخل بعضها ببعض، لكن أبرز تداخل هو بين الواقع والمتخيل الذي يمدّ الفيلم بمستوى جمالي آخر. تقنية شائعة في بعض السينما الإيرانية، لا بد ان تجعلنا نحسّ في لحظة من اللحظات أننا مشاهدون في صالة نتابع أحداث فيلم ولا نشاهدها بالعين المجردة. الواقع أقسى بمراحل من أي شيء ممكن ان نراه، ولهذا، تبقى مآسٍ كثيرة تحدث في الفيلم خارج الكادر، عصيّة على التجسيد. يعلم بناهي جيداً ان غيابها يعزز حضورها وبذلك يمنحنا درساً في الحياء السينمائي، حيث القليل يعني أحياناً المزيد. على رغم الظروف والبيئة التي تعادي الفنّ وتناهض الحرية وتحارب العقل، ينجح المخرج في إنجاز فيلم هادئ وإن حمل روحاً ثورية غاضبة. لم ينجر بناهي هذه المرة، خلافاً لبعض المرات السابقة، خلف سينما انفعالية تسيء اليه كفنّان وتخمد نار قضيته، بل جاء بفيلم يتسلل إلى الضمير بخطى بطيئة لكن أكيدة.

 

النهار اللبنانية في

19.09.2022

 
 
 
 
 

"سانت أومير" الفائز بجائزتين في البندقية:

مادة للتوظيف الإيديولوجي رغم صدقه وجماله

هوفيك حبشيان

"سانت أومير"، أول روائي طويل للمخرجة الوثائقية الفرنكو سنغالية أليس ديوب، سيسيّل حتماً الكثير من الحبر في الأشهر المقبلة، عند نزوله إلى الصالات، خصوصاً في فرنسا، بلد المنشأ والأرض التي تدور فيها الأحداث وتُعنى بها بشكل مباشر. بعد فوزه بجائزتين مهمتين في #مهرجان البندقية السينمائي الأخير (جائزة لجنة التحكيم الكبرى و"أسد المستقبل") سيسلَّط عليه المزيد من الضوء ويثير المزيد من النقاش. أقول "حتماً" على سبيل التأكيد، لأن هذا هو هدف الفيلم، أو أحد أهدافه، وهذا لا يقلل قيمته أو يجعله لاهثاً خلف الاثارة والبلبلة. النقاش من صلب هذا العمل، وبه يحيا. لا نقاش، لا فيلم! هكذا ارادته المخرجة، من خلال نصّ حمّال أوجه ينطوي على ثغر ويتأهب للجدال، عبر السعي إليه.

في الفيلم حكايتان: حكاية راما (كايي كاغامه) وحكاية لورانس (كوسلاكي مالنغا). لكن سرعان ما تتشابكان، لتصبحا واحدة وحيدة، في لعبة تماه بين إمرأتين أفريقيتين، واحدة هي صدى للثانية. راما تواظب على حضور جلسات الاستماع إلى لورانس في المحكمة، السيدة الأربعينية التي قتلت مولودها بلا سبب وجيه، أو على الأقل لسبب لا ينطوي على شيء من الموضوعية والمنطق. لورانس ستبقى تكرر ان هناك أشخاصاً في بلادها سحروها، ففقدت الارادة الحرة، ما دفعها إلى ارتكاب هذه الجريمة. أما الطريقة التي ارتُكِبت فيها الجريمة فهي أيضاً محل شرح طويل: الأم التي حبلت بالطفلة ووضعتها بالسر بعيداً من أعين الجميع لأنها ثمرة علاقة برجل فرنسي يكبرها سنّاً، حملت ابنتها التي كانت تبلغ من العمر 15 شهراً إلى الشاطئ الواقع في منطقة سانت أومير، وتركتها هناك في انتظار ان يجرفها المد العالي. طوال الفيلم، سنتابع تفاصيل تخلّصها من مولودها، قبل ان نتعرف إلى كلّ ما سبق الجريمة وأعقبها. تزامناً مع الجلسات، نتابع فصولاً من حياة راما الحامل التي يبدو انها تنوي استخدام شهادة لورانس لكتابة نسخة حديثة من اسطورة ميديا الإغريقية. لكن نية البدايات وطموحاتها ستتبدّل، لتحل مكانها أشياء أخرى. لقطة بعد لقطة، ينشأ نوع من تقارب بين الأم القاتلة والأم التي تنتظر مولوداً. حوار والدتين لا يحتاج إلى لقاء. تفصيل صغير سيلحّ عليه الفيلم: القاتلة ليست سيدة من اللواتي نشاهدهن في البيئات المهاجرة المهمّشة، فهي مثقّفة وتلقّت تعليماً يجعلها تتكلّم بفرنسية ممتازة، وهذا ما سيُدخل الارباك إلى المحكمة وقلوب المحكِّمين.

ما علاقة اسطورة ميديا بشخصية لورانس؟ الفيلم يوفّر شبه إجابات عن كلّ شيء، لكنها مليئة بالغموض، غموض يبلوره إلى أقصى حد، على شاكلة شهادة المتّهمة التي تترجح روايتها بين الكذب والخرافات وعناصر مستلّة من الواقع الذي يحيط بها. تصر المتّهمة على أنها وقعت ضحية السحر الذي أملى عليها تصرفاتها وتدّعي البراءة بناءً على هذه الفرضية. لا أحد يصدّقها، لا المُشاهد ولا حتى المحلفون ولا الكاتبة الصحافية نفسها التي تغطّي المحكمة. الفيلم يحاول النبش في هذه الحادثة الغامضة، حتى تفقد كلّ أوراقها وتصبح كالشجرة العارية تماماً. هذه الشخصية المعقّدة، قد تثير النفور أو التعاطف، ومن خلال الإحساسين اللذين ستثيرهما، سيتساءل المتلّقي عن طبيعة تفاعله معها.

 

تروي ديوب ان الحكاية التي استندت اليها حقيقية، ولفتت نظرها يوم قرأت في "لو موند" عن سيدة سنغالية ألقت بطفلتها في البحر، فاعتقد المحقّقون والصحافيون بعد فشلهم في تحديد هوية الضحية، أن الأمر يتعلّق بمهاجرين غير شرعيين. وتقول ديوب إنها نظرت في وجه الأم التي نشرت الجريدة صورتها، وصاحت: "إنها سنغالية!". ومذذاك، باتت هذه السيدة هاجساً عندها، وخصوصاً أنها في مثل سنّها ومن نفس أصولها، وراحت تتابع جلساتها في المحكمة لفترة طويلة بالسر ومن دون ان تبلغ أحداً. ديوب التي سبق ان عملت على عدد من الأفلام الوثائقية موضوعها الأفارقة في فرنسا، توثّق مع هذا العمل حدثاً جانبياً، لا يجد مكاناً له تحت الضوء. تلك الطفلة التي ولدت وماتت ولا أحد عرف حتى اسمها، ولدت مرة جديدة من رحم المحكمة وعاشت بفضل الجلسات وما تم التداول عنها. تلك المحكمة التي سمحت لها بالإنوجاد في واقعٍ موازٍ، فأرادت اعادة الاعتبار إليها وإلى كلّ الفتيات اللواتي كنّ يوماً في مثل حالها.

كلّ ما سبق لا يمكن ان يكون السبب الوحيد لوجود هذا الفيلم. إنها الشجرة التي تخفي الغابة. "سانت أومير" هو في النهاية كأي عمل مؤلف يملك حداً أدنى من الذكاء، يسأل أكثر ممّا يجيب، يقترح أكثر ممّا يستنتج، ويضع مجموعة من التساؤلات كلها تدور حول محاكمة سيدة سوداء على يد شلّة من البيض خلفهم تاريخ استعماري بغيض، وعليهم ان يصدروا حكماً في حق سيدة على ارتكابها جريمة. والتساؤلات التي ستُطرح ما كانت لتُطرح لو لم تكن مهاجرة من صنف معين. صحيح أننا أمام فيلم جميل وصادق، لكن ليس كلّ ما هو جميل وصادق يقول بالضرورة كلاماً صائباً، أضف إلى انه لا يمكن اعتبار الفيلم خطاباً كاملاً، بل هو نوع من مسوّدة وضعت عليها المخرجة في أول تجاربها رؤوس أقلام. ورغم أني من المعجبين ببعض مزايا الفيلم (منها شغل المصوّرة كلير ماتون التي اشتهرت بعملها على "بورتريه فتاة بالنار" لسيلين سيامّا)، فمن المتوقّع ان يثير هذا العمل لغطاً كثيراً ويُوظَّف سياسياً وإيديولوجياً. أحد المواقع كتب ان جريمة السيدة سببها الرجل الأبيض، وهذه المحاججة يصعب ابتلاعها، بل هو تبرير بشع، يتعذّر عليّ فهمه، الا من باب مجاراة المزاج العام لدى بعض الغربيين في جلد ذواتهم.

 

النهار اللبنانية في

20.09.2022

 
 
 
 
 

يوميات فينيسيا (10): “حوت” أرونوفسكي!

أمير العمري

لا أعرف لماذا يربط الكثير من النقاد وهواة السينما المخرج الأمريكي دارين أرونوفسكي (ياله من اسم مميز!) وبين فيلمه الذي ذاع صيته “البجعة السوداء” Black Swan الذي افتتح مهرجان فينيسيا السينمائي في 2010، وكأن أرونوفسكي لم يصنع غير ذلك الفيلم الشكلاني المركب، بينما أرى شخصيا، أن فيلمه الأهم- وأتجرأ وأقول الأفضل كثيرا أيضا- هو فيلمه السابق مباشرة على “البجعة”، أي فيلم “المصارع” The Wrestler (2008).

كان “المصارع” كما كتبت وقتها، فيلم “تعليقا حزينا على ما يحدث للفرد في مجتمع لا مكان فيه إلا للقوي الذي يمكنه أن يبيع جسده من أجل إسعاد الآخرين.. تماما مثل راقصة التعري التي نراها في الفيلم، التي يقلقها كثيرا أنها أوشكت أيضا على فقدان قيمتها في السوق كسلعة، لكنه أيضا فيلم عن الحياة عندما تستبد بنا وتدفعنا إلى الاختيار الصعب: إما أن نحياها محرومين من السعادة التي ننشدها ونتطلع إليها ونحن قرب نهاية الطريق، أو نعجل بالنهاية ونحن مازلنا نتمتع بصورة البطولة والنصر.. حتى لو كانت هذه الصورة زائفة”. وكان عملا سينمائيا نابضا بالحركة والحياة، مليئا بالمشاهد الموحية، التي تنقل لنا فلسفة ارونوفسكي في سلاسة وبساطة وجمال.

هناك أواصر صلة ما بين فيلم “المصارع” وفيلم “الحوت” The Whale وهو العمل الجديد لأرونوفسكي الذي شارك في مسابقة مهرجان فينيسيا. فنحن في “الحوت” أمام بطل وحيد أيضا، تجاوز منتصف العمر، يحاول أن يحقق السعادة لمن حوله أو يعوضهم عما حرمهم منه، والمقصود ابنته الوحيدة المراهقة صاحبة السبعة عشر ربيعا، بينما يعيش أيامه الأخيرة، وكما كان المصارع ينتحر ببطء فوق حلبة الملاكة، فالحوت، ينتحر أيضا عن طريق الافراط في التهام كل أنواع الطعام الرديء، ورفض الذاهب إلى المستشفى رغم ما يصيبه من نوبات قاتلة.

الحوت”- والتسمية ذات علاقة مركبة في الفيلم، هو شارلي (يقوم بالدور في أداء عظيم الممثل براندون فرايزر)، مدرس اللغة الانجليزية الذي يدرس لطلابه عن بعد، أي من داخل شقته الصغيرة الكئيبة الواقعة في الطابق الأرضي وعبر جهاز الكومبيوتر المحمول، الكتابة الإبداعية. وهو يعاني من مرض السمنة الشديدة فوزنه تجاوز المائتي كيلوجرام، ولم يعد يمكنه الوقوف أو السير، كما أنه يصاب بنوبات قلبية، كما نرى في أحد المشاهد لكنه ينجو منه، لا يتناول سوى الطعام السريع الرديء المليء بالدهون.

يتردد عليه ثلاثة أشخاص. المرأة التي تعني بشأنه وتحضر له الطعام وتساعده على التماسك، وصلتها به يشوبها الحزن الذي يملا سماء حياته، ثم شاب يهبط عليه فجأة، يريد أن يدعوه إلى الإيمان المسيحي والتوبة وطلب الغفران قبل أن يلقى مصيره بالموت، وأخيرا ابنته الشابة التي تحمل له الكثير من المرارة كونه هجرها ووالدتها وهي صغيرة، بعد أن وقع في غرام طالب من طلابه وارتبط معه بعلاقة جنسية وعاطفية، لكن الشاب الذي كان يدرس أيضا اللاهوت المسيحي، لم يقدر، كما سنعرف في مرحلة متقدمة بعض الشيء من الفيلم، على تحمل التناقض والألم والشعور بالذنب فأخذ حياته بيده.

انتحار الشخص الذي أحبه بجنون، دفع شارلي إلى الاكتئاب فاندفع في التهام الطعام وأغلق الباب على نفسه في تلك الشقة المبعثرة الأثاث، التي تشبه المقبرة. وهو يريد الآن عمل مصالحة مع ابنته، وأن يغادر الحياة بعد ان يكون قد كفر عن ذنبه تجاهها، لكن التصالح ليس سهلا. إنه يطالب طلابه أيضا بالابتعاد عن الكتابة التقليدية، والتعبير من خلال الكتابة الصادقة التي تنبع من القلب والتي تعبر عن ضمير الكاتب، مهما كانت قاسية، دون أي تزويق أو افتعال، وهو لا يفتأ يقرا قطعة تصف العلاقة المعقدة بين الكابتن “أهاب” والحوت في رواية “العجوز والبحر”، سنعرف فيما بعد، قرب النهاية، من الذي كتب تلك القطعة التي يعتز بها شارلي كثيرا ويعتبرها تحفة نادرة، في حين أن هذا الشعور لا يصل إلينا.. والمشكلة أن الفيلم يفترض أن مشاهديه يجب أن يكونوا، ليس فقط قرأوا رواية هيمنجواي، بل ومازالوا يذكرون أحداثها وتفاصيلها ومغزاها الفلسفي!

الفيلم مقتبس عن مسرحية الكاتب صامويل هنتر، ولابد أن تكون تلك الشخصية المركبة التي تتمزق بين الإيمان والشك، وبين الماضي والحاضر، مع الرغبة في تدمير الذات، قد أغرت أرونوفسكي، كما أغرته أيضا فكرة تحدي المكان الواحد بالتصوير المتنوع الزوايا، وإتاحة المجال لتقديم دراما نفسية، اجتماعية، ذات طابع ديني رمزي، عن رجل اختار أن يدفن نفسه داخل شقة أصبحت أقرب إلى مقبرة، يتعذب ويعذب المحيطين به، إلا أنه يتشبث أيضا رغم كل شيء ببصيص من الأمل، يريد أن يبثه في ابنته في النهاية.

مشكلة مثل هذا النوع من الأفلام، ذلك الطابع الاستاتيكي الجامد الذي يعتمد على التصوير داخل ديكور واحد مغلق، مع استخدام حجم الشاشة الصغيرة (المنسوب الأكاديمي الذي يجعل الشاشة كصندوق مغلق ضيق) للإيحاء بجو الاختناق كما لو كانت شقة الرجل هي السجن أو المقبرة، لا ينجح في تجاوز الفكرة الواحدة التي تتكرر طول الوقت، ليظل الفيلم يدور حول نفسه دون أي اختراق للدراما، أو تطور في الحبكة. ويأتي كل ما يريد الفيلم قوله في شكل أقرب إلى مونولوج طويل على لسان شارلي.

يعكس الفيلم ولع أرونوفسكي كعادته بالإشارات الرمزية (راجع فيلمه الشهير “أم” Mother) والحركة المحدودة للغاية من خلال شخصيات تدخل وتخرج كما لو كانت تتحرك على خشبة المسرح، والأكثر إرهاقا، اعتماد الدراما على الحوار الذي لا يكاد يتوقف لحظة واحدة، وهو حوار يجنح إلى المبالغات العاطفية واستدرار الدموع، الأمر الذي يجعل من مشاهدة الفيلم والخروج من قاعة العرض في النهاية، مهمة ثقيلة.

لا ينقذ الفيلم ويبقي عليه حيا سوى الأداء الممتاز المتميز كثيرا للممثل براندون فرايزر الذي يعود في هذا الفيلم بقوة، ليؤكد موهبته الكبيرة وقدرته على التقمص، بعد أن تعمد زيادة وزنه كثيرا، كما كان يرتدي ملابس معينة صنعت خصيصا له بحيث تمنح الإحساس بالبدانة المفرطة وثقل الحركة. ولا شك أن أداء فرايزر هنا يقربه كثيرا من المنافسة بقوة على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل. رغم أن الفيلم نفسه، لا أتوقع له أن يترك أثرا كبيرا.

 

موقع "عين على السينما" في

23.09.2022

 
 
 
 
 

أفلامٌ عربية في "لاموسترا 79": أهمية درامية والإبهار قليل

فينيسيا/ محمد هاشم عبد السلام

عقب كلّ مهرجان سينمائي دولي كبير، تُطرح عادةً تساؤلات، وتُثار نقاشات عن حجم الأفلام العربية ومستواها وأهميتها، تلك المُشاركة في أقسامه المختلفة، وعن مدى جدارتها بالمُشاركة، أو أحقيّتها في الحصول على جائزة، إنْ فاز أحدها. بعد اختتام الدورة الـ79 (31 أغسطس/آب ـ 10 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، طُرحت هذه الأسئلة المُعتادة، وإنْ بوتيرة هادئة، وعلى استحياء.

مردّ هذا إلى أنْ أغلب المُشاركات العربية كانت في الأقسام الفرعية، وأنّ الأفلام المعروضة (9 أفلام) لم تكن كلّها عربية بحتة، أي لا يُمكن وصفها بالـ"عربية"، بسبب التداخل الشديد في أمور التمويل والإنتاج، والتمثيل والكتابة والإخراج. فأغلبها مُمَوّل من مؤسّسات أوروبية، وبعضها استعان بمُمثّلين وفنيين أوروبيين. ورغم أنّ الحبكة والمُعالجات المُطروحة والشخصيات تدور حول عرب، أو جاليات عربية في الخارج، أو فئات في المجتمعات العربية، يصعب تصنيفها "عربية" صرفة. يُضاف إلى هذا أنّ بعضها غير معقود على اللغة المنطوقة فيه، أو محسوم بناء على أماكن التصوير، مثلاً، ما يُثير أسئلة متشابكة ومُعقّدة. وهذا ملموس في معظم الأفلام العربية المعروضة في مهرجانات سينمائية مختلفة، مُقامة عام 2022، وأبرزها "مهرجان فينيسيا".

عائلات مفكّكة في أوضاع مرتبكة

أول هذه الأفلام "روابطنا"، سادس روائي للجزائري الأصل رشدي زم (المسابقة الرئيسية)، الممثل والمخرج. فيه يضرب، مباشرة وبطريقة مكثّفة للغاية وبحساسية ملحوظة، على أوتار العلاقات الأسرية المُفكّكة بين الأشقاء، خاصة عندما يتقدّم بهم العمر، وتتقطّع بهم السبل، ويكون لكلّ واحد منهم حياته الخاصة. بذكاء ملحوظ، تجنّب السيناريو (رشدي زم وماوين) المشاكل المعهودة، والأنماط المطروقة، والمشاعر المُعتادة في هذا النوع من الدراما. مع تقدّم الأحداث، تقلُب إصابة موسى (سامي بوعجيلة)، بما يُشبه السكتة الدماغية، حياة الجميع حوله. إصابة تُفقده رزانته، وتُخرجه عن أطواره، وتحرفه عن سلوكياته المعتادة مع ابنيه وإخوته، فيحتار الأشقاء، وأوّلهم المذيع التلفزيوني المعروف رياض (رشدي زم).

من هنا، تتمحور الأحداث أكثر حول التباين بينهم، وتحديداّ بين الشقيقين موسى ورياض، ما يُفجر مواقف كثيرة مكبوتة في العائلة الكبيرة، خاصةً في حياة رياض، الذي يُدرك من حوله مدى برودته وأنانيته وابتعاده عن العائلة، بمن فيهم حبيبته ايما (ماوين).

في "آفاق"، قدَّم الممثل والمخرج رشيد حامي فيلمه الروائي الطويل الثاني، "من أجل فرنسا" (أو "من أجل بلدي")، الذي تدور أحداثه حول وفاة الضابط الشاب، الجزائري الأصل، عيسى (شاهين بوميدين)، عبر تدريبات ليلية في إحدى المدارس العسكرية الفرنسية الكبرى. جرى التعامل مع الوفاة كحادثة قتل غير مُتعمّدة، ما أفجع أسرته الصغيرة: والدته نادية (لبنى أزابال)، وشقيقه الأكبر إسماعيل (كريم لكلو)، ووالده عادل (سمير القاسمي)، المُنفصل عنهم منذ عقود.

رغم جودة الفكرة والبناء، وتخطّيه الأنماط المعتادة للطرح، بخصوص الجاليات العربية في المجتمع الفرنسي، لم ينجح رشيد حامي كثيراً، ولم يأت بجديد في سرد العلاقة المُعقّدة بين الشقيقين، وبينهما وبين والدهما البعيد عن الأسرة، بعد قرار أمهما مُغادرة الجزائر. المُشكلة الكبرى عدم استثمار الفكرة الرئيسية على نحو أمثل، فالمخرج لم يمدّ خيوطها حتّى النهاية، ليخلق منها إشكالية درامية فارقة، كان يُمكن أن تكون عاصفة.

بعد وعد الأسرة بجنازة عسكرية لائقة مُشرّفة، يتمّ التراجع عن الوعد، نظراً إلى أنّ القانون العسكري الفرنسي لا يسمح بهذا لمن لم يمت على جبهة القتال، أو في مُهمّة عسكرية. ما يعني أنّه، تقريباً، لم يمت من أجل فرنسا، وبالتالي لا يُسمَح بدفنه في مقابر الشهداء العسكريين. تجهد الأسرة في إقامة الجنازة، لأنّه فرنسي، خدم بلده. في تلك الأثناء، يبتعد الفيلم كثيراً عن قسوة الموضوع، وصرامة القوانين العسكرية، سارداً الحياة القصيرة لعيسى، ومُركّزاً على علاقته بشقيقه ووالده وطفولته، في مَشاهد "فلاش باك" كثيرة وطويلة، بين الجزائر وفرنسا وتايوان، لم تُقدّم جديداً.

من الأفلام المعروضة في "امتداد آفاق"، ويُمكن وصفها بالعربية الخالصة أو غير الأوروبية، "نزوح" للسورية سؤدد كعدان، فيلمها الروائي الثاني، ومُشاركتها الثانية في "مهرجان فينيسيا"، بعد حصولها على "أسد المستقبل" (مسابقة "آفاق")، عن "يوم أضعتُ ظلّي"، في الدورة الـ75 (29 أغسطس/آب ـ 8 سبتمبر/أيلول 2018). مُقارنة بفيلمها الأول، الدائر أيضاً حول الحرب والأوضاع غير المُستقرّة في سورية، يُعتبر "نزوح" متوسط المستوى، فكعدان لم تتطوّر ولم تُقدّم جديداً. تبدأ الأحداث من فكرة مُقنعة عن ربّ أسرة يدعى مُعتز (سامر المصري)، يرفض الانصياع لرغبة زوجته هالة (كندة علوش)، وابنتهما المراهقة زينة (هالة زين) بالرحيل من البلد، لرفضه بشدّة حياة اللجوء والتشرّد والمنفى. ترغب هالة في الالتحاق ببناتها الفارّات من حجيم بلد مُدمَّر، وتأمين مُستقبل مُغاير لزينة. يقف مُعتز، بكلّ تعنّت وصلف، أمام هذه الرغبة، ويفكّر في تزويج زينة من أحد المقاتلين.

هناك إحالات وإسقاطات كثيرة عن التسلّط الذكوري، ومفهوم الحرية، والانغلاق. لكنْ، تدريجياً، ينسلخ "نزوح" بشدة عن أي قوة سينمائية، تارة إلى طرافة ومواقف مُفتعلة وأحداث غير مُقنعة، وطوراّ إلى فانتازيا مُقحمة وساذجة كلياً، تصوّراً وتنفيذاً.

غرائز جنسية وحبّ مستحيل

في القسم نفسه، شارك العراقي أحمد ياسين الدراجي بأول فيلم روائي له، "حدائق مُعلّقة"، الذي تدور أحداثه في بغداد، حول الصبي الفقير أسعد (حسين محمد جليل) وشقيقه الأكبر طه (وسام ضياء)، اللذين يعملان في جمع القمامة والبلاستيك لتحقيق كسب يومي، بالكاد يكفي. ذات يوم، يعثر أسعد في مكبٍّ ضخم للنفايات، اسمه "الحدائق المُعلّقة"، على دُمية جنسية شقراء كبيرة، من مُخلّفات إحدى القواعد العسكرية الأميركية. يحتفظ بها، ويُخفيها.

لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبعد إلحاح صديقه أمير (أكرم علي)، الذي يطالبه باسترداد نقوده، يشرعان في استخدام الدمية وتوظيفها لجني الأموال، بعد تنظيفها وتهيئة المكان والأجواء للمُراهقين والشباب من أبناء الحي والمناطق المجاورة، الباحثين عن أي لذة تُشبِع الغرائز المكبوتة. هذا يُسبِّب لهما مشاكل ومصاعب كثيرة وغير مُتوقَّعة.

رغم جدّية الفكرة، وجرأة الطرح، واختيار صبي في هذه المرحلة العمرية تحديداً لتأدية الدور، يُعاني "حدائق مُعلّقة" مشاكل في المعالجة والعمق. فيه بعض النمطية، وأحيانا تسطيح وكليشيهات، في الأحداث والشخصيات الثانوية، كما في تقديم بعض الأفكار وتصوير بعض المشاهد، خاصة تلك المرتبطة بالاحتلال الأميركي، والإسقاط على التسليع الجنسي، رغم اقتحام المسكوت عنه في مجتمعات عربية مُحافظة، تُعاني ازدواجية وانغلاقاً مُدمّرين.

في تظاهرة "أيام المُؤلفين"، عُرض "حديد نحاس وبطاريات (قذر صعب وخطر)"، ثاني الأعمال الروائية الطويلة للّبناني وسام شرف، بعد "من السماء" (2017): قصة حبّ مُستحيل بين اللاجئ السوري أحمد (زياد جلاد)، جامع الخردة، واللاجئة الإثيوبية والخادمة المنزلية مهدية (كلارا كوتوريت)، وبحثهما عن الحُرية والأمان، مع طرح عناوين إنسانية عدّة، يُسقطها شرف على الواقع اللبناني، كالقمع والاضطهاد والعنصرية والفقر والهجرة والحبّ المستحيل والحرب. بذكاء لافت للانتباه، وحِرفية ملموسة، استطاع شرف صهر كلّ هذا في قالب فني جذّاب ومُشوّق وموجع وصادق، في رسم الشخصيات، ونسج الحبكة، ومنطق الأحداث وتسلسلها، كما في الخيط الفانتازي. الأهم في "حديد نحاس وبطاريات" انعدام الترهّل والسقوط في فخّ المطروق.

في التظاهرة نفسها، عُرض الجزائري "الأخيرة"، أو "الملكة الأخيرة"، الروائي الأول الطويل لعديلة بن ديمراد وداميان أونوري، كتابةً وإخراجاً. تدور أحداثه في القرن الـ16، في فترة تحوّلات عصيبة في تاريخ الجزائر، مع الأعوام الأولى للتواجد العثماني في البلد، وبدايات الغزو الإسباني لبعض المدن. هذه خلفية درامية تاريخية عريضة للفيلم، بينما الوقائع التاريخية الموكّدة تتأرجح بين اليقين والأسطورة، وفقاً لما كُتب في ختامه.

الزوجة والملكة ظفيرة (عديلة بن ديمراد) يُقتل زوجها غدراً، وهو آخر ملوك الجزائر، سليم التومي (محمد طاهر زاوي). يتميّز الفيلم بالأحداث السريعة المُتلاحقة، والأداء الجيّد جداً، لا سيما بطلته. المَشاهد محكومة في مواقع تصوير مُناسبة، والأزياء مُقنعة، والإضاءة خلقت تناغماً بصرياً رائعاً. وقبل كلّ شيء، اجتهدت المعالجة السينمائية كثيراً للارتقاء به، درامياً وبصرياً، وجنّبته الانزلاق إلى نوع المسلسلات التاريخية.

رحلة وخصوصيات غير مكتملة

كذلك عُرض، في التظاهرة نفسها أيضاً، "الملعونون لا يبكون"، للبريطاني المغربي فيصل بوليفا: فيلم درامي بسيط وصادق وغير مُتكلّف، حبكة وأداءً وتشويقاً وحيوية. رحلة الأم المتمرّدة والمتحرّرة فاطمة الزهراء (عائشة تباع)، وابنها المُراهق سليم (عبد الله الحجوجي)، شبه أوديسية، تجعلهما يمرّان في مدن وأماكن كثيرة، وصولاً إلى طنجة. فيها، يتعرّف أحدهما على الآخر عن كثب، ويلمس أحدهما مدى زيف وقسوة وأنانية الآخر، في انكشاف صادق وصادم، يُزيل كلّ الأقنعة، ويُبرز مختلف التناقضات والمسكوت عنه. كلّ هذا، في تقديم جديد وجريء وأصيل لعلاقة غير مُعتادة بين أم وابنها.

يُركِّز "الملعونون لا يبكون"، أكثر، على العلاقة الشائكة جداً بين الأم العاهرة والابن المصدوم، والمُتنازِل عن ضميره، والمدفوع إلى التعهّر بسبب الأوضاع والظروف؛ وأيضاً على أمٍّ تحاول لملمة حياتها، واستعادة ما تبقى منها عبر زواج يفشل قبل اكتماله، وابن يحاول ألاّ ينزلق، أكثر وأكثر، إلى التعهّر وحياة الجريمة والسجن. هناك توازن وتضاد بين عالمين شديدي الحساسية؛ وتقابل بين الشخصيات ومصائرها غير المُتقاطعة، ما مَهَّدَ، مع كلّ خطوة، للمصير المحتوم، الذي آلت إليه الأمور في النهاية.

فكرة الفيلم المصري القصير "صاحبتي"، لكوثر يونس (المعروض في قسم "آفاق للأفلام القصيرة"، ضمن 12 فيلماً قصيراً)، تكاد تكون نسخة مُطابقة من الفيلم المصري القصير "ستاشر" (2020) لسامح علاء، الفائز بـ"السعفة الذهبية للأفلام القصيرة"، في الدورة الـ73 لمهرجان "كانّ" السينمائي، التي كان يُفترض بها أنْ تُقام بين 12 و23 مايو/أيار 2020، قبل تحويلها إلى 3 أيام (27 ـ 29 أكتوبر/تشرين الأول 2020) بسبب تفشّي كورونا.

في "ستاشر (الرقم 16 بالعامية المصرية)"، كان مُبرّر تخفّي البطل بزيّ نسائي مُقنعاً جداً، ليتسنّى له زيارة حبيبته المتوفاة مؤخّراً، وإلقاء نظرة وداع على جثمانها. في "صاحبتي"، يتخفّى عاليا (مارك حجار) في هيئة فتاة كاملة الأناقة والمكياج، ليتمكّن من زيارة حبيبته سارة (إلهام صفي الدين)، وتمضية ليلة معها في حجرتها. هذا لم يتجاوز فكرة التخفّي/التنكّر بحدّ ذاتها إلى ما هو أبعد وأعمق في المستوى الحسي، أو أقلّه في الخصوصية بين الحبيبين. وهذه الخصوصية/الحميمية لم تُستَغلّ حتّى في الحجرة المغلقة عليهما.

 

العربي الجديد اللندنية في

26.09.2022

 
 
 
 
 

يوميات فينيسيا-11: مأساة سورية وكارثة سينمائية!

أمير العمري

عندما انتهى عرض فيلم “نزوح” للمخرجة السورية الأصل، الفرنسية الجنسية، التي حصلت على تمويل لفيلمها هذا بلدان مختلفة وهو أمر طبيعي شأن غالبية ما ينتج من أفلام في العالم اليوم، تطلعت إلى الناقد الأمريكي الذي كان يجلس بجواري فابتسم ابتسامة خجولة وقال شيئا معناه “لا بأس” وكأن لسان حاله يقول “ماذا يمكنني أن أقول؟ فهذا مستواكم ومستوى أفلامكم، ونحن نشجع مثل هذا النوع من الأفلام لابد أن نشجعه، من دون أن نقارنه بأفلامنا حتى لا نظلمه”!

أصابني هذا الفيلم بصدمة حقيقية. كان فيلم سؤدد كعدان السابق “يوم أضعت ظلي” رغم هزاله، أكثر طموحا وجدية على الأقل. أما هذا الفيلم فكارثي بكل المقاييس الفنية. لكن أحدا لن يتوقف أمامه، لأن هناك رغبة في التأييد والتشجيع والدعم والتضامن. وربما يجد البعض فيه ما لا نراه.. فمن يدري. ونحن نتعلم!

مشكلة سؤدد كعدان كمخرجة محدودة الموهبة تماما، أنها تفكر في الفيلم السينمائي بطريقة نظرية تماما، أو بطريقة الشعراء، الذين يستخدمون الكلمات، أي أن أكثر ما يهمها هو الكلمة والمغزى والرمز المستتر الذي ينتج عن الفكرة النظرية، ولا يهمها كثيرا الدراما والبناء الدرامي وبناء الشخصيات، وتصوير مواقف يمكن أن تكون مقنعة، وتصرفات لشخصيات لا يمكننا أن نتماهى معها، لذلك ففيلمها هذا أضعف واقل كثيرا من فيلمها الأول رغم أنه كان بدوره محدودا ويراوح مكانه درامياً، فالفيلم الجديد “نزوح” يميل أيضا، إلى التنميط، والاكتفاء بلمس موضوعه من الخارج، من السطح، من خلال شخصيات غير مقنعة، تتكلم كثيرا جدا ولا تفعل شيئا، وعندما تفعل يصبح ما تفعله هزيلا وهزليا، وممتدا كثيرا في الزمن بحيث لا تبدو له نهاية!

وعندما نقول إنها مخرجة محدودة الموهبة جدا، فيكفي أن ندلل على أنها بكل أسف، لا تستطيع حتى إخراج وتصوير مشهد واحد بسيط يتلخص في جذب فتاة من داخل حفرة (أو شقة مهدمة) إلى أعلى بواسطة حبل، فبدلا من أن نشاهد رفع الفتاة بالحبل في لقطة واحدة، نشاهدها على لقطتين، لقطة لها وهي تربط بالحبل، ولقطة أخرى بعد أن تكون قد وصلت فعلا إلى السطح، ناهيك بالطبع عن هبوط الإيقاع بصورة محبطة للغاية، وتشتت الموضوع، وتكرار الفكرة، وهزال الصورة، ونمطية التمثيل، واستحالة أن يكون الحوار حقيقيا أو مقنعا، واختلاق مشاهد داخل نفق أو فوق حطام، مع مطاردة هزيلة أو ظهور شخصية قد تتسبب في الضرر،  بهدف زيادة جرعة الإثارة” البوليسية، من دون أي إثارة بالطبع وليتها كانت هناك!

رغم وجود مديرة تصوير معروفة لديها خبرة جيدة في تصوير أفلام جيدة، هي الفرنسية “إيلين لوفار”، فألوان الفيلم تبدو وكأنها نزفت من الشاشة، فأصبحت الصور كلها غائمة باهتة تعاني من فقر الدم ونقصان الروح على نحو فادح، وكأن الصورة اصطبغت بلون واحد فقط هو اللون الرمادي. ولا أعرف سر هذا الفقر اللوني والبصري الذي يعاني منه الكثير من أفلامنا العربية، هل يرجع هذا إلى التصوير والإضاءة، أم أنه مقصود تحت تصور أنه ضروري لإضفاء الجو العام الكئيب على الفيلم؟ ولكن ليس هذا ما نراه في أفلام أخرى تتناول مواضيع أكثر قسوة من فيلمنا هذا، أفلام من أمريكا اللاتينية مثلا، فالاهتمام بالتكوين والألوان وأساسا- بنقاء ووضوح الصورة السينمائية، عنصر شديد الأهمية فليس من الممكن مشاهدة عمل يبدو وكأنه مصور بكاميرا هواة، وإضاءة سطحية فقيرة للغاية.

لكن لا بأس، طالما ظلت هناك مهرجانات كبيرة ترحب باستقبال هذا النوع من أفلام العالم السادس، ولو جاءت فقيرة في الصورة وفي عناصر الإخراج وتتصف بسذاجة البناء والشخصيات والمواقف المسرحية المكررة التي تعرضها وتعيدها وتكررها طول الوقت. فالبرامج والأقسام الفرعية في المهرجانات الكبرى (كان وبرلين وفينيسيا) ترحب بمثل هذه الأفلام، لا لقيمتها الفنية، ولكن أساسا، لأنها ترغب في تنويع أفلامها حتى لا تتهم بتركز اهتمامها على الأفلام الأوروبية والأمريكية، أضف إلى هذا أنها ترحب بالطبع، بأفلام نسائية (من صنع مخرجة- ذات نزعة نسائية- فيمينست) خصوصا لو كانت بطلتها امرأة تعاني من القمع الذكوري وتسخر منه، فقد أصبحت مثل هذه المواضيع، عملة رائجة هذه الأيام لدى المهرجانات الأوروبية، ومن لا يرحب ويشجع ويصفق لها، يكون قد خالف مباديء وأوليات الاستقامة أو الصوابية السياسية political correctness .

ليس من الممكن لنقاد الغرب بالطبع وضع مثل هذا الفيلم وما يشبهه، في مقاربة مع أفلام الانجليزي مايك لي، والإيطالي باولو سورينتينو، واليوناني يوجيس لانتموس، والسويدي روي أندرسون، وغيرهم، كأمثلة فقط بالطبع، ولا حتى مع المبتدئين في سينما أمريكا اللاتينية (مثل فيلم 1976 للمخرجة الشيلية ماتويلا مارتيللي البديع) فهؤلاء النقاد والصحفيين الغربيين، لا  يهتمون كثيرا برصد وتحليل العناصر الفنية، بل بالفكرة والموضوع، وطالما أن الموضوع هو مأساة الوضع الإنساني في سورية مثلا، فلابد أن يلقى الفيلم اهتماما كبيرا، تماما مثلما أصبح أي فيلم من الدرجة الثالثة، يأتي من أوكرانيا الآن، عن الوضع الأوكراني في مواجهة روسيا، حتى لو كان مصورا بكاميرا الموبيل، في صورة مشوشة لا نتبين فيها شيئا، يلقى اهتماما كبيرا ويتم الاحتفاء به، في سياق الاهتمام بالظاهرة السياسية لا بالفيلم في سياق الظاهرة الفنية. وهي معضلة قديمة ثابتة تتسبب في الإعلاء كثيرا من شأن أعمال سينمائية ضعيفة، ثم تمتد الحفاوة أيضا إلى الكثيرين ممن يكتبون عن الأفلام في العالم العربي، مع تأثرهم كثيرا بما ينشر في الصحف الغربية، ولا يتصورون بالطبع أن يكون فيلم قد أثنت عليه مجلة سينمائية شهيرة في الغرب، فيلما ضعيفا؟ وهي معضلة ذات علاقة بعلم النفس، أكثر مما لها بالنقد السينمائي.

في هذا الفيلم، لدينا أسرة صغيرة: رجل (معتز) وزوجته (هالة) وابنتهما المراهقة (زينة)، يقطنون شقة في دمشق أو ضواحي دمشق، لا يهم، دمرت تماما كما دمرت البنايات المحيطة بها في المنطقة، وأصبحت هناك فتحة في السقف بفعل قنبلة سقطت فوق سقف العمارة، والوضع بأكمله ينذر بالخطر. فالمسلحون الذين لا نعرف لهم هوية، احتلوا الشوارع ويستعدون لمقاومة قوات الجيش السوري الذين شرعوا كما نعرف من خلال الحوار، حملة للقضاء على البؤر المسلحة، وأنهم يقتربون من الحارة التي ظلت فيها الأسرة الصغيرة بينما غادر جميع سكان الحي.

هناك استثناء واحد فقط: هو شاب صغير مراهق أيضا يدعى “عامر” هو ابن الجيران الذين يسكنون فوق شقة زينة، غادرت أسرته لكنه بقى، ولا نعرف السبب، أو أن السبب الذي يسوقه تافه، وغير مقنع، تماما مثل شخصيته السطحية الهزيلة، والحوار الساذج الذي كثيرا ما يبدو فارغا من المعنى، الذي يردده على مسامع الفتاة، أضف إلى ذلك ضعف وهزال مستوى أداء الممثل، لكنه على أي حال، يقيم علاقة ما مع زينة، ويصورها ويعرض لها أيضا فيلما صوره، فهو أحد عباقرة الميديا الحديثة، تتوفر لديه جميع الأجهزة التكنولوجية الحديثة، من الكاميرا إلى التليفون المحمول إلى جهاز العرض إلى الطائرة الدرون التي سيطلقها في أحد المشاهد ويمكنها التصوير من الجو (كذا، بكل بساطة في وضع مثل الوضع السوري)!

الأب “معتز” أقرب إلى مهرج من أولئك المهرجين الذين يظهرون في مسرح الكوميديا الهزلية يقدمون الفقرات أو “النمر” (الفودفيل)، يرتجف ويرتعش ويتظاهر بالسعادة والزهو، مصرا على عدم المغادرة فقط لأنه يرفض أن يكون لاجئا (يا عيب الشوم!)، وهو سبب هزيل غير مقنع دراميا، ورغم ما وقع من دمار لمسكنه فهو يصر على أنه قادر على إصلاحه بنفسه لأنه أصلا ميكانيكي أو نجار (لا يهم)، ولكن يأتي وقت عندما يقرر الاب فجأة تزويج ابنته الطفلة من مقاتل شاب لكي يحميها من الاعتداء والتحرش والاغتصاب على أيدي جنود الجيش طبعا!) تصر نهلة على الرحيل مع ابيتها تريد التوجه الى شاطئ البحر، حيث يمكن بالطبع ركوب قارب للفرار بعيدا عن سورية.. ولكن الرجل يعارض ويرفض، وبعد مضي ما لا يقل عن ساعة من زمن الفيلم داخل الديكور الواحدـ والحوار الذي لا ينتهي، ولا ينقل الفيلم خطوة واحدة إلى الأمام، تقرر هالة الرحيل مع ابنتها فيلتقيان- ويا للصدفة الجميلة- بالصبي عامر، عبقري الاتصالات والأجهزة الحديثة، ويتعرضان لبعض المواقف السخيفة، إلى أن يتمكنا من الوصول إلى البحر الذي كان حلما عند “زينة” باستمرار.

هناك كما أشرت، الكثير من المشاهد المفتعلة ذات الطبيعة الرمزية، مع المبالغة للإيحاء بالطبيعة الشعرية للفيلم من دون نجاح، بل ويجعل الفيلم يعاني من تضارب الأساليب، فهي تخترع مشاهد خيالية أو حلمية، تبتعد عن الواقع، ثم ترتد إليه من دون أن تتمكن من سبر أغواره، فلا نحن نعرف ابدا ما هذه الحرب، من يحارب من ولماذا، ومن هؤلاء المقاتلون، ولماذا يقاتلهم الجيش السوري، وأين ذهب السكان، وهل أصبحت دمشق خالية من سكانها كما تقول هالة فعلا، وهل نحن أمام فيلم عن الحالة الإنسانية في سورية، أم عن تفتح وعي صبية على الحب والتحرر والانعتاق، ورغبة امرأة (هالة) في النجاة من الهيمنة الذكورية البطريركية؟

الفتاة تتطلع إلى النجوم في السماء من خلال فتحة الصقف وتحلم، والصبي يعرض عليها فيلما صوره لسورية خالية من الحرب والعنف والموت.. وكلها أفكار مظرية لا تصنع دراما ولا عملا سينمائيا متماسكا وتبقى أفكارا مبعثرة مفتعلة للإيحاء بالشاعرية في سياق ممطوط كثيرا، ومواقف يغلب عليها الحوار حتى يحنق المتفرج.!

هذا خليط من الأفكار المرتبكة، توضع قسرا داخل بناء هزيل لسيناريو يعاني من التكرار والرتابة وتغليف المواقف الضعيفة بالإضحاك والتهريج والمبالغات اللفظية. الرجل مثلا يرقص ويتمايل ويهتز في حركات مقززة، بجسده المترهل الضخم، ويغني وزوجته وابنته ترددان خلفه، بعد أن ينجح، أو يتصور أنه نجح، في تشغيل جهاز تبريد الهواء المنقول، الذي سرعان ما يتعطل مجددا بسبب نفوذ الوقود. وعندما يخرج، سواء في تلك المرة أو في غيرها (فهو يخرج أكثر من مرة لكي يسمح بمشاهدة علاقة الابنة مع الشاب ابن الجيران) لكي يأتي بالوقود (لا نعرف من أين) تلقي الابنة بالأحجار في الشارع دون أي هدف سوى ادخال شخصية جديدة لرجل صديق الزوج- الأب، ينصحه بتزويج ابنته، أو يأتي شباب من المقاتلين يدقون الباب ولكنهم طيبون لا ينوون شرا بل يريدون رحيل العائلة حماية لها من المخاطر.. وهكذا. نصبح امام مسرحية، مشاهد الهزل والاضحاك فيها، ثقيلة الظل، والإخراج متعثر، والسيناريو متخبط. ولكن هناك جمهورا جاهزا للتصفيق، لأنه جاء متعاطفا من قبل أن يشاهد الفيلم، مع “القضية”، ومع “المرأة” الضحية، والابنة التي يريد أبوها إرغامها على الزواج.

شخصيا، أفضل كثيرا فيلما اجتماعيا كوميديا من كوميديات مخرج مثل عبد اللطيف عبد الحميد، على مثل هذه الأفلام كثيرة الادعاء، التي يظل لها وجود خارجي، في المهرجانات فقط، نتيجة الترويج والتسويق التي تقوم بها الشركات الغربية المساهمة في الإنتاج، لكن دون تأثير حقيقي. وأنا هنا لا أتخذ أي موقف سياسي فلا يوجد لدي أي شك في ان هناك نظاما ديكتاتوريا قمعيا يمارس القتل في سورية لكن الأفلام السياسية لا تصنع طبقا للنوايا الحسنة!

ولأن شخصيات الفيلم الرئيسية أصبحت شخصيات رمزية أكثر من كونها “حقيقية” فقد غلب على الأداء التمثيلي الطابع السطحي تماما، أداء من الخارج، تشعر فيه بالافتعال والمبالغة: سامر المصري (الاب)، كنده علوش (الأم هالة)، هالة زين (وينة)، ولكن المشكلة الأكبر في أداء الشاب نزار العاني  في دور “عامر”، فهو في حاجة إلى تدريبات مكثفة على الأداء، وخصوصا نطق الكلمات ومخارج الحروف. إن نفع التدريب بالطبع!

 

موقع "عين على السينما" في

27.09.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004