ملفات خاصة

 
 
 

يوميات فينيسيا (3):

“باردو” رثاء الذات وغمز الواقع!

أمير العمري

فينيسيا السينمائي الدولي التاسع والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

اليوم الثاني في المهرجان. بالنسبة لي موزع على أربعة أفلام. يبدأ على الساعة الثامنة والنصف صباحا، بفيلم “باردو” Bardo للمخرج المكسيكي اليخاندرو جونزاليس إيناريتو، وهو يحمل عنوانا ثانيا طويلا لا أجد له أي معنى سوى التحذلق والافتعال وإضفاء الغموض، وهو “سجل زائف لحفنة من الحقائق” False Chronicle of a Handful of Truths، وينتهي بعرض العاشرة مساء بفيلم المخرج الأمريكي المخضرم فردريك وايزمان “زوجان” A Couple.

فيلم “باردو” يبلغ زمن عرضه نحو 3 ساعات (174 دقيقة). وهو أيضا من أفلام “نتفليكس” التي مولت إنتاجه بميزانية ضخمة، وأول فيلم لمخرجه يصوره في بلده المكسيك وينطق بالإسبانية منذ فيلمه الأول “أموريس بيروس” Amores Perros (الحب ابن كلب) الذي عرض عام 2000، وحقق نجاحا كبيرا، ثم جاءت أفلام التالية لتؤكد موهبته الكبيرة وحصدت الكثير من الجوائز بما فيها الاوسكار، ومنها “بابل” و”بيردمان” و”العائد”. و”باردو” هو أيضا اول فيلم يخرجه منذ “العائد” أي بعد 7 سنوات.

وكان ينتظر أن يرتفع هذا الفيلم فوق سائر أفلام مخرجه، خصوصا بعد ما حظي به من دعاية كبيرة سبقت عرضه في مسابقة مهرجان فينيسيا. إلا أن النتيجة جاءت بكل أسف، مخيبة للآمال كثيرا. فما الذي حدث؟

يروي إيناريتو قصة يريد أن يجعلها تبدو كما لو كانت قصة حياته أو جزءاً من حياته على الأقل، أي نوعا من “السيرة الذاتية”. ولكنه اختار أن يجعل بطلها ليس مخرجا للأفلام الروائية الخيالية، بل صحفيا ومخرجا للأفلام التسجيلية مشهورا جدا في بلده رغم أنه هاجر من المكسيك قبل 15 عاما وذهب الى لوس أنجليس حيث حقق ما حققه هناك من شهرة كبيرة، وهي أولا، حيلة غير مقنعة لأن مخرجي الأفلام التسجيلية لا يحظون عادة بشهرة كبيرة خاصة لو عملوا خارج بلادهم. والاستثناء الوحيد لمخرج الأفلام التسجيلية النجم هو في حالة مايكل مفقط ولا أعرف غيره.

بطل فيلم “باردو” يعود الآن الى بلده المكسيك لكي ينال جائزة كبرى تمنحها له الدولة وتقيم تكريما خاصا له، وهو حدث يقول لنا الفيلم إنه يستقطب أنظار الجماهير وأجهزة الإعلام شيء أقرب إلى الاحتفال القومي بابن بلدهم (غير مقنع أيضا!). لكن ليست هذه هي المشكلة.

إيناريتو يريد أن يربط بين بطله والواقع، السياسي والاجتماعي، فيجعله مخرجا لأفلام “الحقيقة” وصاحب قضية وموقف سياسي، يوجه نقدا شديدا طوال الوقت للمكسيك وما انتشر فيها من فساد على الصعيد السياسي وكل الأصعدة، ويستعرض فترات حاسمة من تاريخها ويستدعيها، إلا أنه يوجه أيضا نقدا لا يقل شدة للولايات المتحدة وللسياسة الأمريكية، وهو في كلتا الحالتين، نقد يصل إلى مستوى المباشرة الفجة كما عندما يقول للسفير الأمريكي مثلا: “أنتم لم تشتروا نصف ولايات المكسيك بل حصلتم عليها بالحرب والقوة المسلحة”.. وعبارات كثيرة من هذا القبيل.

هذا الصحفي/ المخرج التسجيلي “سيلفيريو جاما”، يسترجع حياته وتاريخه الشخصي وذكرياته الحميمية في بلده، داخل بيته القديم، مع زوجته، ومع ابنائه، في مشاهد طويلة مرتبكة، بحيث تختلط الحقيقة بالخيال، وتتداخل الصور وتمتد المشاهد وتتمدد كثيرا. ويجعل أيضا بطله يرتد إلى طفولته ثم يتلصص على نفسه وهو طفل وهي حيلة سبق أم استخدمها إيليا كازان في فيلم “الترتيب” The Arrangement قبل أكثر من خمسين سنة.

 ويؤدي تداخل الصور والانتقالات العشوائية من الذاتي إلى الموضوعي، أو من الخاص إلى العام، إلى اضطراب الرؤية بسبب الترهل الذي يصيب الإيقاع، والارتباك الناتج من اعتماد على سيناريو غير محكم دراميا، مع ترك المجال أمام الممثلين للثرثرة التي تبدو مرتجلة، والتي تمتد لدقائق عدة داخل المشهد الواحد، فيغلب الحوار الصورة، ويطغى على اللقطات التي تتحرك خلالها الكاميرا حركات طويلة.

عنوان الفيلم لا صلة له بالممثلة الفرنسية الشهيرة بريجيت باردو بالطبع، بل بمفهوم في الثقافة البوذية يطلق عليه “باردو” يعكس حالة الوجود بعد الموت وانتظار إعادة البعث مجددا، وهو ما يقتضي أيضا شرحا تفسيريا للمتفرج في هذا الفيلم المرهق جدا ذهنيا وبصريا. ولاشك أن اختيار عناوين الأفلام مسألة لا تتم طبقا لرغبة المخرج فقط بل يجب أن تكون مفهومة لدى الجمهور ولابد ان عنوان هذا الفيلم الأساسي والفري سيلعبان دورا في فشله بالإضافة بالطبع الى طوله المفرط وترهل ايقاعه. صحيح أنه سيعرض على نتفليكس لكن نسب المشاهدة لا أتوقع ان تكون كبيرة، أضف إلى ذلك كثرة احوار وتداخله مع بعضه البعض وهو ما يجعل متابعة الفيلم من خلال الترجمة المطبوعة أمرا شاقا. ولو تابعته على نتفليكس عن طريق الدوبلاج في نسخة ناطقة بالإنجليزية سيفقد روحه ومغزاه ويصبح عملا معلبا!

على الرغم من شعور “سيلفيريو” بالاعتزاز بنفسه، إلا أن لديه أيضا شعورا برثاء الذات، ورفض لما هو سائد في المجتمع اليوم من قيم. وأمام مذيع تليفزيوني يستضيفه في مقابلة مباشرة على الهواء، يمتنع عن الإجابة على أي سؤال من الأسئلة التي يوجهها له المذيع. الصمت موقف. لكن لماذا قبل من الأصل الظهور على التليفزيون؟ ربما لتسجيل هذا الموقف الذي ينجح المذيع في تحويله الى مادة للضحك، والجمهور يضحك على أي شيء لأنه جمهور تافه تم افساده، وهذا ما يقوله لنا المشهد بوضوح!

وفي الحفل الذي يقام له يتوارى عن الأنظار ويدخل دورة المياه ليسبح في ذكرياته وخيالاته فيتخيل أنه أمام والده المتوفي، الذي يبدي اعتزازا وتقديرا لما حققه وهو الذي كان يقسو عليه في الماضي. لكن عذاب بطلنا يظل غير واضح تماما مع غلبة غمز الواقع ورثاء الذات والعالم الذي يراه ينحدر، مع الإفراط كثيرا في استعراض المشاهد الاكزوتية الغريبة المثيرة، دون أي إشباع.

وهو يشعر بالتعاطف مع والدته المسنة، ويتساءل عن وضعه كأب لأبناء يشعر انه أصبح بعيدا عنهم، ومخرج يتشكك في قيمة ما قدمه رغم اعتداده بنفسه، يتذكر ويستدعي القمع الكاثوليكي الذي تعرض له في طفولته لمحرد تفكيره في الجنس ولكن حتى هذا المشهد يتم تنفيذه بطريقة مباشرة فجة.

هناك دون شك، طموح فني كبير في تقديم فيلم غير تقليدي، عمل فني حر، يقوم على التداعيات، وهناك مشاهد جيدة جدا في حد ذاتها، منها المشهد الذي نراه في بداية الفيلم عندما يعود إلى بيته ويأخذ في استدعاء ذكرياته مع زوجته المثيرة وهو يطاردها من حجرة إلى أخرى، يريد ان يطارحها الغرام، بينما هي تهرب منه باستمرار وهي تشاغبه وتضحك، ثم يظهر ابنه وهو طفل صغير. وفي هذا المشهد يستخدم ايناريتو الحركة الطويلة المحسوبة للكاميرا التي عرف بها (نتذكر جميع المشهد الطويل في فيلم بيردمان) التي تتسلل بين غرف المنزل وتجول في أرجائه في إيقاع بطيء وحركة بطيئة توحي بأجواء الحلم. إلا أن هذه المشاهد تظل مشاهد متفرقة لا يربطها سياق فني متين نتيجة الرغبة في قول كل شيء عن كل شيء، وبالتالي تلك الانتقالات الحادة المستمرة بين الصور: أمريكا والعنصرية حتى بين أبناء المهاجرين الى أمريكا، والسلطة والسياسة والعالم والفن والزوجة والأسرة والاصدقاء الذين أصبح بعيدا عنهم، والأقارب الذين يهرب منهم.. الخ

يفتقد “باردو” إلى السحر الذي كان المحرك الخفي وراء كل تفاصيل مشاهد وتداعيات البطل “جويدو” في فيلم فيلليني العظيم “8 ونصف” (1963). والمقارنة بين الفيلمين تبدو نوعا من العبث، ورؤية سطحية تجرد فيلم فيلليني من رونقه سحره، وتضفي على فيلم إيناريتو ما ليس فيه.

ويضيف إلى ثقل الفيلم وعدم نجاحه في خلق علاقة تفاعل مع المتفرج (غادر الكثيرون العرض الصحفي تذمرا!) سوء اختيار الممثل (دانييل جيمنز كاشو) الذي اسند إليه إيناريتو دور البطولة، فهو يفتقد إلى أي نوع من الكاريزما أو الشخصية الجذابة التي كان يمكن أن تضيف وتعمق وتجعل الشخصية قربة منا. وجه باهت تماما يثير الرثاء أكثر من التعاطف!

أعجبني تعليق أحد النقاد الذي قال إن “باردو فيلم من 3 ساعات لكنه يجعلك تشعر كما لو كان من 17 ساعة”!

 

موقع "عين على السينما" في

13.09.2022

 
 
 
 
 

«نائحات إنشيرين» لمارتن ماكدونا: أو هكذا تُقتل الصداقة

نسرين سيد أحمد

‏البندقية ـ «القدس العربي»: تُرى كيف يتبدل الحال وتموت صداقة العمر؟ كيف يتحول الصديق الصدوق إلى شخص نتحاشى لقاءه؟ بل كيف يتحول في نهاية المطاف إلى عدو؟ كيف يبرر المرء لنفسه إخفاقاته في الحياة؟ هذه هي بعض التساؤلات التي تدور في الأذهان حين نشاهد «نائحات إنيشيرن» للمخرج الأيرلندي مارتن ماكدونا، الذي فاز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان البندقية السينمائي في دورته التاسعة والسبعين، التي اختتمت أمس.

منذ أعوام وأعوام اعتادت جزيرة إنيشيرن الصغيرة النائية، الواقعة قبالة سواحل أيرلندا على أن الأربعيني الطيب بادريك (كولين فاريل في أداء مميز حاز جائزة أفضل ممثل في مهرجان البندقية) هو الصديق الصدوق لكولم (برندن غليسن) الذي يكبره بعدة أعوام. الاثنان لا ينفصلان، لا يُرى أحدهما دون الآخر، لا ينقضي صباح أو مساء دون لقائهما في الحانة الصغيرة في جزيرتهم البعيدة. لكن على حين غرة، ودون سابق خلاف، يقرر كولم إنه لا يريد أن يكون صديقا لبادريك، بل لا يريد التحدث إليه قط. ليس الأمر رغبة عابرة في الاختلاء بالذات عدة أيام، بل هو قرار لا رجعة فيه.

نتساءل ما الذي حدث حتى تنتهي صداقة أعوام بتلك القسوة الباترة؟ أتراها كانت حقا صداقة؟ أم تراها كانت مجرد معرفة بين اثنين جمع بينهما مكان واحد، وخالها الناس صداقة؟

بادريك، الأصغر سنا، طيب حلو المعشر، يرضيه من الحياة القليل. غاية مراده هو كأس شراب مع صديقه في الحانة، وطعام تعده شقيقته شوبون، وبعض الثرثرة الودودة. أما كولم فباغته فجأة ذلك الشعور أن العمر يمرّ وينقضي وهو لم ينجز شيئا يبقى ويخلد. هو رجل يحب الموسيقى والعزف على الكمان، وتولدت لديه تلك الرغبة الملحة في تأليف مقطوعات موسيقية تخلد في الذاكرة بعد وفاته.

هكذا فجأة ودون مقدمات، تستيقظ الجزيرة الوادعة ذات صباح عام 1923 على قرار كولم إنه لا يريد أن يكون صديقا لبادريك، بل لا يريد أن يتحدث إليه قط، بل إنه يعلنها أمام بادريك وأهل الجزيرة أنه سيبتر إصبعا من أصابع يده، كلما حاول بادريك التحدث إليه، ويبرر ذلك قائلا إنه لم يعد يحب بادريك، هكذا ببساطة.

لكننا نرى أنه ربما ليس الأمر بتلك البساطة، أترى كولم يشعر بالإخفاق وعدم التحقق والإنجاز ويسقط هذا الشعور على بادريك؟ هل تكون التضحية بصداقة بادريك، الذي يتهمه بإهدار الوقت والعمر، مجرد كبش فداء لشعور كولم بالنقص الداخلي؟ نرى بادريك راضيا بحاله، لا يرغب في الحياة أكثر مما لديه في تلك الجزيرة البعيدة. أما كولم فلديه تطلعات وآمال بالخلود، يستمع إلى موتسارت ويحلم بأن يحقق خلوده، ولكن هل يعتقد كولم في أعماقه أنه لا يمكن لهذه الموهبة الداخلية أن تمكنه من التحقق فيعلق خيباته على بادريك؟

«نائحات إنشيرين» فيلم يحمل من الشجن الكثير، ويتسلل إلى أعماقنا في هدوء. نحب تلك الجزيرة الصغيرة ببحرها الفسيح وخضرتها وبيوتها الصغيرة العتيقة، ونميمتها، وثرثراتها الصغيرة، ولا يطرأ في بالنا قط أن تكون تتحول فيها صداقة إلى عداء، وأن يتحول فيها الحب إلى إحساس بالظلم والجرح والعداء. لكن هذا ما يحققه ماكدونا بذكاء وحساسية كبيرين، وبسيناريو يحمل فهما كبيرا للنفس البشرية وإخفاقاتها وألمها وطموحها، ويحمل فهما عميقا للمكان، لهذه البقعة النائية على سواحل أيرلندا.

بعد عدة أعوام من فيلم «ثلاث لوحات خارج إبينغ، ميزوري» الذي فاز بجائزة السيناريو في مهرجان البندقية عام 2017، يعود ماكدونا بفيلم يضاهي، بل يفوق، براعة سيناريو فيلمه السابق. «نائحات إنشيرين» فيلم يبدأ وادعا هادئا وتتصاعد وتيرة العداوة والضغينة فيه لتصل إلى درجات ما كنا لنتخيلها. في خلفية الأحداث في الفيلم أنباء عن الحرب الأهلية في أيرلندا، أنباء تصل الجزيرة النائية، فهل هذه العداوة بين الصديقين السابقين نذير بتلك الحرب؟ ربما يود الفيلم أن يخبرنا أن الصداقة ليست بالأمر اليسير، وأن إنهاءها لا يتولد عنه إلا الكثير من الألم النفسي والجسدي. قرار كولم الذي تقطر منه الدماء، حيث نفذ وعيده ببتر أصابعه إذا تحدث إليه بادريك مجددا، يكون الشرارة التي تبدد هدوء الجزيرة وسكينتها. الجميع يعلمون أن بادريك طيب ودود حسن المعشر، ولكنه لا يتمتع بذكاء كبير. هو يقنع بحب حماره الصغير، وبما كان يخاله صداقته مع كولم. لا نراه يقرأ كتابا أو يطمح في جديد. نرى كولم في منزله محاطا بكتبه ونوتته الموسيقية وكمانه، وربما كان هذا العداء المفاجئ من كولم تجاه بادريك يعود إلى إحباط كولم من مجتمع جزيرته، الذي يراه مصغرا في شخصية صديقه، فهم بالنسبة له أناس ضئيلون مثرثرون، لا يفكرون إلا في الشراب والنميمة، بينما هو يريد أن يحقق خلودا فكريا ومعرفيا، لا نعرف إن كان يملك مقوماته.

ربما لا يتفهم رغبة كولم في الابتعاد وفي تحقيق الذات أكثر من شقيقة بادريك، شوبون (كيري كوندون). هي امرأة ذكية، تفرغ من قراءة كتاب، لتبدأ في قراءة غيره. هي تحنو على شقيقها بعد وفاة والديها، وتقوم بإعداد الطعام تنظيف المنزل، ولكنها في قرارة نفسها تحلم بما هو أرحب وأعمق. تعقد شوبون العزم ألا تمضي بقية أيامها وأعوامها وسط ضآلة الجزيرة الصغيرة. تحب شقيقها وتحنو عليه، ولكنها لا تترد لحظة واحدة للوصول إلى عالم أرحب وأكثر ثقافة وفكرا، حين تلوح لها فرصة لذلك. جزيرة إنشيرين جزيرة بديعة الجمال، ببحرها الذي يمني بسواحل بعيدة، ولكنها جزيرة لا تحمل الكثير لمن يحلم بالأفضل.

ربما ما كان للفيلم أن يكون بهذا العمق والإنسانية دون سيناريو ماكدونا في المقام الأول، ودون أداء كولين فاريل المرهف لشخصية بادريك. بين ليلة وضحاها يفقد بادريك صديقه الصدوق. تتابع على وجه فاريل الكثير من التعبيرات والمشاعر الملتبسة، بين عدم الفهم وعدم التصديق، بين الحيرة والعجز والغضب، بين الرغبة في البكاء تارة، والرغبة في إيجاد أي ذريعة للحديث إلى صديقه تارة. قد يكون بادريك الشخص الطيب البسيط الذي لا يلوي على شيء، لكن أداء فاريل يضفي على الشخصية بعدا تراجيديا وإنسانيا كبيرا.

كعادة الأفلام الجيدة لا يقدم ماكدونا في فيلمه حلولا جاهزة، بل يفتح لنا الباب للتساؤل: ترى ما هو المخرج من مأزق الإحساس بعدم التحقق؟ كيف يمكن للمرء أن يحلق بعيدا عما يحده عن تحقيق آماله وأحلامه، دون أن يتسبب في الجرح والألم لمن يحبهم؟ يجعلنا الفيلم أيضا نتساءل عن ماهية الصداقة: هل الكثير من الصداقات التي نراها ونخبرها في حياتنا صداقات حقيقة، أم مجرد لقاءات عابرة نظنها صداقة؟ ترى كيف يرى الأصدقاء بعضهم بعضا؟ هل يضمرون المحبة والاحترام لبعضهم؟ أم هل يظهرون خلاف ما يضمرون؟ ويجعلنا الفيلم نتساءل كيف يمكن أن نتقبل نهاية الصداقة دون أن نشعر بالإهانة والخذلان والألم؟

 

####

 

فيلم «نزوح» للسورية سؤدد كعدان: قد لا يسع الوطن نساءه في بعض الأحيان

نسرين سيد أحمد

‏البندقية ـ «القدس العربي»: مهرجان البندقية ليس غريبا على المخرجة السورية سؤدد كعدان، فبعد أربعة أعوام من فوز فيلمها الأول «يوم أضعت ظلي» بجائزة أسد المستقبل، عادت كعدان إلى المهرجان بفيلمها «نزوح»، الذي عُرض في قسم «أوريزوني بلاس». كما هو الحال في «يوم أضعت ظلي» نجد سوريا والحرب التي تستعر على أرضها حاضرة بشدة في «نزوح»، لكن الاختلاف في التناول واضح، فالتركيز الرئيسي في «نزوح» هو المرأة وسعيها للتحرر من سطوة الرجل وتسلطه وسط الحرب وما تسببت فيه من دمار.

يبدأ الفيلم برجل ورب أسرة يُدعى معتز (سامر المصري) يحاول إصلاح مولد كهرباء داخل بيته، علّه يتمكن من تشغيله للحصول على تيار كهربائي لمنزله الذي انقطعت عنه الكهرباء، لكن ابنته الصبية (هالة زين) تخبره إنه حتى لو أصلحه، فمن أين سيأتي بالمازوت لتشغيله. يبدأ الفيلم إذن برؤيتين للأمور، رؤية الأب الذي يود البقاء، رغم الظلام، والابنة التي تحاول أن توضح لأبيها أنه واهم لظنه أن بإمكانه إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب.

الأسرة التي يُدخلنا الفيلم إلى منزلها مكونة من الأب والأم (كندة علوش) وابنتهما الصبية هي إحدى أسرتين بقيتا في المنطقة، بعد نزوح كل سكانها جراء القصف. يرفض الأب الرحيل، لأنه يأبى على نفسه وعلى أسرته أن يكون نازحا. هو رجل يعتد ببيته ومكانه، ولا يود أن يكون نازحا بلا مأوى. نعلم من السياق لاحقا أن للأسرة بنات أخريات تزوجن ونزحن مع أزواجهن إلى مناطق أكثر أمنا في سوريا، أو خارج البلاد، لكن الأب تأبى كرامته أن يضيع في المدن تاركا منزله الذي يفاخر أنه من أجمل منازل الحي. يبدو لنا الأب كما لو كان يعيش في واقع موازٍ، فهو يرى الدمار والخراب المحيط بمنزله ويرفض قبول أن عليه المغادرة. نجده ينقب في مطابخ المنازل المهجورة، ربما يجد ما قد يجعل الحياة شبيهة بالحياة العادية التي كان يعرفها في السابق. نحن إلى هذا الحد نتفهم رغبته في البقاء، فهي رغبة إنسان لا يريد أن يُقتلع من جذوره ويأبى على نفسه أن تتقاذفه الأراضي والمدن. ولكن على حين غرة يأتي ما لم يكن في حسبان الأب، فقد كان يسعى جاهدا لأن يعوض شح الطعام والماء والكهرباء في منزل جدرانه قائمة، ولكن برميلا متفجرا يسقط على المنزل فيحدث فجوة كبيرة في سقفه ويقوض جدرانه. يبقى الأب على حاله، يحاول تغطية الفجوات التي خلفها البرميل بالشراشف وأغطية الأسرة، بينا تبدأ الأم في الإعراب عن رأيها في أن على الأسرة الرحيل. كانت الأم والأبنة دوما مطيعتين لأوامر الأب ممتثلتين له، لكن سقوط هذا البرميل المتفجر كان بمثابة نهاية لصمت نساء الأسرة. أصبحت الأم ترى أن في بقائها في هذا البيت المهدم خطرا عليها وعلى ابنتها، وأصبحت ترى أن عليها الرحيل، حتى إن كان زوجها لا يريد ذلك.

ينتقل الأمر في الفيلم إذن من تناول ما حل بالوطن وبالدمار الذي يشهده إلى صراع جندري بين رجل متسلط ذكوري، على الرغم من طيبته البادية، وأم تحاول التخلص من هذا التسلط وابنة تحلم بالحب والحرية. يصبح ما يحدث على أرض سوريا خلفية لصراع آخر هو صراع المرأة للتحرر من قبضة الرجل الخانقة. لكن كعدان لم تمهد لنا بما يكفي لهذا التغيير المباغت في تناول الفيلم للأمور، فبدت مسألة الجندر والتسلط الذكوري مقحمة غير مقنعة.

يرى الأب في الفجوة التي أحدثها البرميل صدعا عليه ترميمه وإصلاحه، أما ابنته فتجد فيه سبيلا لرؤية النجوم ليلا، وللحلم بما هو أجمل، وطريقا للقاء ابن الجيران الوسيم الذي يقاربها سنا. الأب مشدود للماضي ويرفض مغادرته، بل يحاول تزويج ابنته الصغيرة من رجل يكبرها بأعوام كثيرة ليحميها من الحرب، والابنة تحلم بالمستقبل والحب. نشاهد الفيلم دون حماس كبير لغضب الأم التي تريد الرحيل والتحرر من براثن الأب، لأن الأب لم يبد لنا قاسيا أو ظالما. كان من الأولى لو ركزت كعدان اهتمامها على الخراب الذي أحدثته الحرب بدلا من محاولة إقحام قضية الجندر وحقوق المرأة إقحاما غير مبرر.

تحمل الأم بعد مغادرتها بيت زوجها مع ابنتها وقرارها للنزوح كيسا أسود يحوي أغراضا تعز عليها، من بينها حذاء أحمر بكعب عال، تتخلى الأم عن هذه الأشياء التي تعوق مسيرتها الواحد تلو الآخر. صورة التخفف من ثقل الماضي تلك نراها صورة مكررة، لاسيما أن الأم هي التي اختارت حمل هذه الأغراض بعينها، ولم تجبر على حملها. يبدو لنا في نهاية المطاف أن كعدان التجأت إلى العديد من الصور والاستعارات التي بدت مقحمة وغير مبررة فأفقدت الفيلم قدرا كبيرا من مصداقيته وزخمه.

 

القدس العربي اللندنية في

13.09.2022

 
 
 
 
 

يوميات فينيسيا (4):

يوم اللحم والعظم وكل شيء!

أمير العمري

اليوم الثالث من أيام المهرجان. شاهدت أربعة أفلام. بدأت المشاهدة من الثامنة والنصف صباحا بالفيلم الأمريكي “عظام وكل شيء” Bones and All للمخرج الإيطالي “لوكا جوادانينو” في أول تجربة له في أمريكا، ثم الفيلم الفرنسي “أثينا” Athena للمخرج رومان جافراس إبن المخرج الشهير كوستا جافراس وهو من أصل يوناني بالطبع لكن فيلمه ليس عن أثينا اليونانية بل عن الاضطرابات والمواجهات بين الشباب من أصول عربية وافريقية والشرطة الفرنسية (سيأتي مقالي عنه فيما بعد)، ثم فيلم “مونيكا” Monica للمخرج الإيطالي أمريا بالاورو، وهو من الإنتاج الأمريكي أيضا، وأخيرا فيلم “كل الجمال والدم المراق” All the Beauty and the Bloodshed، وهو الفيلم التسجيلي الطويل من إخراج لاورا بويتراس الأمريكية صاحبة الأفلام التسجيلية الشهيرة.

اليوم إذن، كان مشحونا بأفلام ثقيلة، منها ما هو فني تماما مثل “كل الجمال والدم المراق”، ولا يمكن وصفه بانه مجرد فيلم تسجيلي (أو وثائقي) فهو فيلم تشكيلي كامل يجمع بين القصصي والتسجيلي والتعبيري. وله بالطبع وقفة خاصة. وأما “مونيكا” فهو من أكثر أفلام المهرجان غرابة وغموضا وله بالتأكيد علاقة بشخصية بطلته الأمريكية “تريس ليسيت” المتحولة جنسيا من رجل الى امرأة ومع ذلك أصبحت مليئة بالأنوثة والجاذبية الجنسية الطاغية!

تريس ليسيت بطلة فيلم “مونيكا

أود الآن التوقف امام الفيلم الأول “عظام وكل شيء” الذي صدمني كثيرا، بل وصدمني أكثر من الفيلم نفسه، ذلك الاستقبال الحار من قبل جمهور الشباب حد الهوس: في أي عالم نحيا اليوم؟ وما هذا الجمهور؟ وكيف يمكن أن يجد الكثيرون فيلما كهذا عملا فنيا رفيعا جديرا بالاحتفال، وجديرا بالعرض داخل مسابقة مهرجان دولي كبير مثل مهرجان فينيسيا (هل لمجرد انه لمخرج إيطالي مشهور!)، وثانيا أن يجد فيه الجمهور شيئا يستحق أن يؤخذ على محمل الجد، وأن يعامل كعمل فني رفيع!

صحيح أن الفيلم مصنوع بمهارة من ناحية حرفية الإخراج السينمائي: خلق الجو، تحريك الشخصيات، تحقيق الإثارة من خلال الترقب الدائم لما سيحث فيما بعد، التمثيل البديع سواء من جانب الممثل الانجليزي المخضرم “مارك ريلانس”، أو الممثلة الشابة الناشئة “تايلور راسل”. وقد يكون موضوعه تعبيرا رمزيا هما آلت إليه الأمور في عالمنا اليوم. ولكن هل أصبحنا فعلا نأكل بعضنا البعض؟

أظن أن فيلما كهذا سيصبح مما يسمى cult movies أي الأفلام الصادمة التي تجد صدى لها عند الجمهور المولع بأفلام الرعب والصدمة، الأفلام القاسية التي تتلاعب بالصورة وبالمشاعر.

إلا أن هناك نوعا من الأفلام يعرف بـ”أفلام التقزيز” سبق أن كتب عنه كثيرا صديقنا الناقد المعتزل مدحت محفوظ. وأظن أن هذا الفيلم ينتمي لهذا النوع أكثر. فنحن أمام فيلم عن آكلي لحوم البشر في عالمنا المعاصر في قلب الولايات المتحدة وليس بين قبائل قديمة متوحشة في مجاهل افريقيا، فيلم مليء بالدم والأحشاء والنهم لالتهام اللحم البشري والأعضاء الداخلية بكل شراهة وشراسة، ومع هذا، يحيط المخرج فيلمه المقتبس عن رواية أمريكية ذائعة الصيت، بقدر من الرومانسية والنغمة الحزينة التي ترثي لبطلته التي جاءت إلى العالم على هذا النحو، واصبحت مدفوعة دفعا لما تفعله بدوافع قدرية، لكنها تبدأ أيضا في التشكك وطرح الأسئلة ربما رغبة في الكف عما تفعله رغما عنها.

مارك ريلانس

هي فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، تدعى “مارين” تعيش مع والدها، والدها يحبسها ويوصد الباب عليها. ونحن لا نعرف السبب لكننا سرعان ما سنعرفه. وهي طالبة في المدرسة العليا، تقبل دعوة من زميلات لها لقضاء الليلة معهن، وتتسلل بطريقتها من المحبس، لتقضي الليل مع الفتيات لكنها عند أول فرصة تتاح لها تقضم إصبع احداهن وتأكله ثم تفر عائدة الى والدها والدماء تغطي صدرها ووجهها وفمها. ليست هذه هي المرة الأولى طبعا فالرجل يسألها: هل فعلتها مجددا؟ احضري أغراضك ولنغادر خلال 3 دقائق قبل وصول الشرطة.
وينتقلان فعلا الى بلدة أخرى في الوسط الأمريكي. وسرعان ما يهجرها أبوها بعد أن يترك لها شريط تسجيل عليه رسالة صوتية منه، وشهادة ميلاد والدتها
.

نحن في أمريكا أوائل الثمانينيات. عصر رونالد ريجان. انتشار البطالة والهائمين على وجوههم والمهمشين. وطبعا لم يكن العالم قد عرف الهواتف المحمولة ولا شبكة الانترنت. ودون شك يبرع المخرج في تصوير أجواء الثمانينيات، كما يجعل الصور تصطبغ باللونين: الأحمر القاني والبني الداكن.    

تايلور راسل

ستجد الفتاة نفسها بمفردها. ويصبح شغلها الشاغل هو العثور على والدتها لكي تعرف منها أصل هذه الحالة الغريبة التي دفعتها إلى الانتقال من مكان إلى آخر بل إن والدها يقول لها في رسالته الصوتية إن أول اعتداء منها كان على جليسة الأطفال، أي وهي بعد في مهدها! الأم هي المصدر الأصلي لتلك الحالة. والواضح من السياق أنها كانت أيضا كذلك. وهي لاتزال على قيد الحياة ولكن اين؟

من هنا نصبح أمام فيلم من أفلام الطريق. مارين تسير على غير هدى فيقابلها رجل يدعى “سولي” Sally (يقوم بالدور بأداء خاص فريد ومثير للرعب والضحك في آن، الممثل الإنجليزي مارك ريلانس). يقول لها إنه تعرف عليها من رائحتها عن بعد، فهو يستطيع أن يشم الذين ينتمون إلى نفس الفصيلة التي ينتمي إليها هو أيضا، أي فصيلة آكلي لحوم البشر. ويخبرها أن هناك الكثيرين مثلها ومثله، لكنه يطمئنها بالقول “نحن لا نأكل بعضنا البعض أبدا”.

في بيته، أو المنزل الذي يزعم أنه بيته سيلقنها درسا في التهام الجسد الانساني بالكامل، أي باللحم والعظم وكل شيء. ويقول إنه لا يقتل، بل ينتظر فقط الانسان المشرف على الموت، ويساعده على إدراك نهايته ثم يأكله. ولديه في المنزل جسد سيدة ماتت لتوها، يدعو مارين لالتهام الجثة معه بحيث لا يبقى منها شيء.

ما يفعله هذا الرجل بكل هذا الثبات والاقدام بعيدا عن أي تساؤل بل يبدو أنه يستمتع أيضا بما ساقه إليه القدر، يدفع مارين للفرار لكي تلتقي بشاب من جيلها، هي التي تكتشف أنه ينتمي إلى نفس فصيلة أكلة لحوم البشر. وتنشأ بينهما علاقة رومانسية، ويرتبطان ببعضهما، ويشتركان في شعورهما بالعذاب بسبب حالتهما التي لا يملكان لها دفعا. ومرة أخرى ستغادر مارين لكي ترى أمها التي عرفت مكانها أخيرا داخل مستشفى للأمراض العقلية. وهناك لن تكون النهاية جيدة.

تيموثي شالاميت

من الواضح أن جوادانينو، من خلال هذا الفيلم، يريد أن يصدم المتفرج، وأن يخدش بقوة لدى جيل الشباب، الصورة الرومانسية الشائعة في المسلسلات والأفلام التي تجعلهم يعيشون وهم الحلم الأمريكي الرقيق الناعم، وهي الفكرة الأساسية في الرواية الأصلية. وهو يجعل بطلته الشابة نموذجا تعيسا، فهي تشعر بأزمتها، لكنها لا تستطيع لها دفعا، تريد ان تكون مثل غيرها، لكنها مضطرة للاستجابة لغريزتها، وهي ترفض بشدة العودة مع “سوللي” الذي يعود للعثور عليها مجددا ويدعوها للعودة معه. هل وقع في حبها رغم فارق السن الكبير بينهما؟ إن ميله إليها ينبع في الحقيقة، من شعوره القاتل بالوحدة، ورغبته في التشارك مع فتاة على شالته، يعلمها كيف تتعامل مع هذه الحالة، وكيف تستمتع بها أيضا.. لكنه يبدو بائسا حزينا، ضائعا.

هناك إيحاءات تشير إلى نوعية هؤلاء المهمشين والهائمين والفقراء والذين يعجزون عن التعايش مع هويتهم بل يفتقدون الهوية ويبحثون عنها وعن الانتماء. فمارين (التي تجسدها ببراعة تايلور راسل) هي على أي حال، من الأقلية السوداء في المجتمع الأمريكي. والشاب الذي ترتبط به لفترة وهو “لي” (يقوم بدوره تيموثي شالامت) شاب مقطوع الصلة بعائلته، يهيم على وجهه باستمرار، يمارس السرقة والانتحال وتدخين المخدرات ولا يعرف له مستقبلا ولا مصيرا.

ورغم كل المبررات التي يمكن أن نستشفها من بين ثنايا القصة المرعبة، تظل مشاهد الدماء والقتل والفتك والتهام الجثث والدماء الذي تسيل فتغرق الملابس، هي كل ما يبقى في أذهاننا ونحن نغادر قاعة العرض السينمائي. لكن قطاعا من الشباب من مدمني أفلام الرعب، سيعجبهم ولا شك، مثل هذه المغالاة في تصوير التهام اللحم والعظم.. وكل شيء!

 

موقع "عين على السينما" في

14.09.2022

 
 
 
 
 

فيلم "جنائن معلّقة"... لا فرق بين أزمنة الوجع العراقي

عُلا الشيخ

استطاع المخرج العراقي أحمد ياسين، في شريطه الروائي الطويل الأول "جنائن معلّقة"، أن ينقل حكايةً عراقيةً خالصةً بكل تشرذماتها الاجتماعية والسياسية والدينية مع مخلّفات الغزو الأمريكي، ولا يوجد أدق من مكب لطمر النفايات في نقل هذه العلاقة، المكان الرئيسي لأحداث الفيلم الذي عُرض مؤخراً في الدورة 79 الفائتة من مهرجان ڤينيسيا السينمائي الدولي.

في هذه التجربة الأولى للمخرج ياسين، نستطيع لمس قدرته على إدارة عناصر الفيلم مع المخرج (أول مساعد) وارث كويش، وخياراته في من يمثّل الحكاية التي كتبها بنفسه وشارك في كتابة السيناريو الخاص بها، إلى جانب مارغريت جلوفر.

يُفتتح الفيلم في مشهد عريض لمكب للنفايات في العاصمة بغداد، وهو مكبّ ضخم، تقصده مجموعة من الناس ليسترزقوا من خلاله، عبر نفايات من كل صوب وجانب، لكن أهمها من الناحية المادية عند بيعها، هي المخلّفات التي تركها الجنود الأمريكيون، مثل الملابس، الأكسسوارات، ودولارات منسية في جيوب بنطال جينز، كل هذا في حضرة دبابة بالية ساكنة في مكانها في ذلك المكبّ، وتصبح لها دلالات أخرى بعد تطور الأحداث.

إن بُعد هذا الوجع والاهتمام به، يتعلقان ربما بكميات المآسي التي تعيشها أقطار عربية عديدة، بحيث أصبح العراق في غياهب النسيان

أحداث الفيلم تدور في عام 2021، وهو عام قريب إلينا، وكأنها إشارة إلى أن لا فرق بين زمن وزمن مع الوجع العراقي. وبُعد هذا الوجع والاهتمام به، يتعلقان ربما بكميات المآسي التي تعيشها أقطار عربية عديدة، بحيث أصبح العراق في غياهب النسيان.

هذه الأحداث أيضاً مبنية على قصة حقيقية بطلها طفل عمره 12 عاماً، واسمه "أسعد"، أدى دوره بإحكام حسين محمد جليل. هذا الأسعد هو المحرك الأساسي لكل ما سيحلّ على الفيلم من ويلات درامية مضحكة، ربما إلى حد البكاء قهراً. ولأنها من خلال طفل، فالتأويل فيها يتمركز بنظرة طفل إلى كل ما يحدث حوله، والتعبير لا يكون إلا من خلال ردات فعل طفولية، وهنا العمق الدرامي في كل الحكاية التي أدارها بنظرة ثاقبة مخرج العمل، فليس من السهل أن تحمل فيلماً كاملاً على كاهل طفل إلا إذا كانت بالفعل لدى المخرج دراية كاملة بآلية التوظيف، وهذا ما ستتم ملاحظته، في كل مشهد في هذا العمل المميز، الذي يضعنا في مواجهة مكب نفايات يتحمل العالم كله جزءاً منه.

في المقابل، وبعيداً عن مكب النفايات، تعريف بالشخصيات التي تظهر في الفيلم، وتبدأ بعلاقة "أسعد" بشقيقه الأكبر "طه"، الذي يمثل دوره وسام ضياء، وهي علاقة جافة لا تخلو من بضع حنّية من حين إلى آخر. أسعد ينظر إلى طه كشقيق أكبر، ويحاول أن يثير إعجابه، تحديداً بعد مشهد تلصصه على جارتهم، وهنا الإشارة إلى الكبت الجنسي المقترن بالفقر. في تلك الأثناء أيضاً، يتم التعرف على شخصية الحجي، صاحب العمامة المسؤول عن شراء النفايات، والآمر الناهي، الذي يهدد ويتوعد من يخالف شرع الله. لكن هذا لا يتوافق معه تحديداً عندما تتنبّه إلى نظرته الجنسية تجاه الأطفال الذكور، ولا يتوافق مع جماعته التي تستسقي صفحات المجلات الإباحية. كل هذا مع أسعد الشاهد على كل هذا التناقض.

كان لا بد من هذا التعريف حول ظروف الشخصيات التي تعيش في الفيلم، لأنها ستكون حاضرةً ولها تأثيرها عندما تنتقل الأحداث إلى الحبكة الرئيسية فيه، والتي تتلخص في عثور أسعد على دمية جنسية شقراء ترتدي البيكيني الملوّن بعلم أمريكي.

فيلم له رائحة نشعر بها من حين إلى آخر، وكأننا فعلاً نستنشق الروائح التي تخرج من ذلك المكب المليء بحكايات من وطن كامل

علاقة "أسعد" مع هذه الدمية لا تشبه علاقة البالغين معها. هو يتعامل معها بطريقة إنسانية، ويخاف عليها، تحديداً بعد أن كشف شقيقه طه وجودها في المنزل. وتبرير أسعد كان أن جاء بها إليه، كي يكفّ عن التلصص على جارته. من هذا المشهد يختلف كل شيء في الفيلم، ويصبح أسعد مع دميته الشقراء الأمريكية في مواجهة كل الشخصيات في الفيلم، ومن ضمنها صديقه الذي يقنعه بتحويل هذه الدمية إلى مشروع تجاري، وإعطاء فرصة للمحرومين جنسياً من الشباب المراهقين وحتى الكبار في السن، من ممارسة الجنس معها مقابل مردود مادي، ويبدأ مع هذه المهمة كشف المستور عن كل الشخصيات في الفيلم التي لم تكن عابرةً أبداً، بل كان لكل شخصية تأثيرها على التعريف على المشهد العام الذي وصل إليه العراق. لكن أسعد وحده هو الذي حاول التمسك بطفولته، فالدمية لا تثيره جنسياً، فهو لم يبلغ بعد، لذلك تراه حانياً عليها، ينظّفها باستمرار، ويتشاجر مع من يتعامل معها بعنف. لكن هذه البراءة لم تنقذه في حضرة كل هذا الغضب والقهر والحرمان والتستر بالدين، في كل شخصية تظهر وتختفي.

أسعد الذي لم يعرف الإجابة عن سؤال صديقه عن حلمه، لأنه لا يعرف معنى الأحلام، حاول التمسك بهذه الدمية قدر استطاعته، لكنه في النهاية تذكر ربما أن الدمية الجنسية تحمل ملامح وعلم من تسبب بحرمانه من والده. هكذا كبر أسعد فجأةً وقرر بطريقة تراجيدية أن ينهي اللعبة كلها وينتقم، لكن هذه المرة ليس بحسّ طفولي.

يطغى على الفيلم اللون القاتم في أغلب مشاهده، ونعيش معه كمشاهدين تفاصيل حياتيةً للفرد العراقي، في ظل الخوف والفقر والحرمان وسيطرة الخطاب الديني، فيلم له رائحة نشعر بها من حين إلى آخر، وكأننا فعلاً نستنشق الروائح التي تخرج من ذلك المكب المليء بحكايات من وطن كامل. رافقت كل هذا موسيقى قادرة على استيعاب كل هذا التناقض، من تأليف سعاد بشناق، التي من الواضح أننا سنرى اسمها كثيراً في الفترة القادمة بعد تجارب مهمة في أفلام عربية عدة. هذا الفيلم من تمثيل حسين محمد جليل، ووسام ضياء، وأكرم مازن علي بدور، وجواد الشكرجي وغيرهم.

تفاصيل كثيرة في هذا الفيلم الذي تقترب مدته من الساعتين، كفيلة بأن تترك المتلقّي كي يفكر قليلاً في ذلك الوطن المقهور، وكفيل بأن يترك في النفس غصةً، وكأنها تستجدي "أسعد" ألا يكبر أبداً

شاركت في دعمه وإنتاجه مؤسسات عربية وعالمية، فهو من إنتاج هدى الكاظمي، عشتار العراق للإنتاج السينمائي، ومارغريت غلوفر من بريطانيا، ومي عودة، عودة للأفلام / فلسطين، ومحمد حفظي ودانيال زيسكيند من شركة فيلم كلينك/ مصر، وسيشكّل حالةً انتقاليةً في صناعة الفيلم العراقي، خاصةً أن الكثير من الحكايات لم تُروَ بعد.

في "جنائن معلّقة"، عنوان لا يشبه بشاعريته أبداً أحداث الفيلم، الذي ستقف محتاراً أمام مشهد جثة طفل ملقاة في ذلك المكب، وخداع من الحجي المستمر لفرض السيطرة، ومشاجرات لها علاقة بتعريف العار، حتى لو كان من خلال دمية، وقيمة المرأة التي من الممكن أن تُدفن باسم ذكر؛ تفاصيل كثيرة في هذا الفيلم الذي تقترب مدته من الساعتين، كفيلة بأن تترك المتلقّي كي يفكر قليلاً في ذلك الوطن المقهور، وكفيل بأن يترك في النفس غصةً، وكأنها تستجدي "أسعد" ألا يكبر أبداً.

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

 

المصرية في

15.09.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004