ملفات خاصة

 
 
 

ما أحوج "كان" الأعرق عالميا إلى مزيد من التكنولوجيا

جوائز لا يرضى عنها النقد وأفلام افتتاح غير مقنعة وإصرار على تجاهل "نتفليكس"

هوفيك حبشيان

كان السينمائي الدولي

الخامس والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

تحديات كثيرة يواجهها مهرجان "كان" السينمائي في ضوء الراهن والتحولات التي يشهدها، وفي ظل الجديد الذي يخاصم القديم. صحيح أن المهرجان الفرنسي المنعقد في شهر مايو (أيار) من كل عام، والمستمر منذ عام 1946، لا يزال معبد الفن السابع، ولكن البقاء في الطليعة والحفاظ على هذا الموقع يحتاجان إلى عمل متواصل وجهود مستمرة، وأيضاً إلى  مزيد من التفاعل مع الواقع الذي يشهد تطوراً غير مسبوق في عصر التكنولوجيا. غداة اختتام الدورة الخامسة والسبعين وتوزيع الجوائز التي لم يرض عنها كثير من النقاد، لا بد من الإشارة إلى بعض المسائل مما بات يثير التململ أو القلق، وربما حان الوقت للحديث عنها، علماً أننا نفهم جيداً أن الكلام سهل عندما لا يكون الإنسان داخل إدارة أعظم حدث سينمائي في العالم، مع ما يعني ذلك من صعوبات لا يتخيلها العقل في التنسيق بين ما هو مالي وتجاري وتسويقي من جانب، وما هو فني وجمالي وثقافي من جانب آخر.

معضلة فيلم الافتتاح

أول الانتقادات الموجهة إلى "كان"، التي هي دائماً في محلها: فيلم الافتتاح. الدورة المنتهية للتو افتُتحت بعمل (اقطعوا! لميشال أزانافيسيوس) وأقل ما يقال فيه إنه بائس سينمائياً، وإن كان من إنجاز سينمائي محترم سبق أن أتحفنا بـ”الفنان”، وفاز عنه يومها بالـ"أوسكار". لكن جديده مقزز، فارغ، تعيس. عمل لا يليق باسم مهرجان كان وتاريخه المجيد. فيلم الافتتاح واجهة المهرجان، ومع ذلك نفهم أن يتم اختيار أعمال جماهيرية لأسماء مكرسة ومواضيع تهم أكبر عدد، لكن هذا لا يعني أنه يجب النبش في سلة المهملات. في أي حال، هذه ليست المرة الأولى يفتتح فيها "كان" بفيلم دون المستوى. قبل 16 عاماً، جرى الافتتاح بـ"شيفرة دا فينتشي" الذي أثار زوبعة من الانتقادات لمستواه السيئ فنياً. ومذ ذاك من سيئ إلى أسوأ، مع أفلام مثل "غريس دو موناكو"، أو "غاتسبي العظيم"، أو "الرأس مرفوعاً". حتى جيم جارموش عرض واحداً من أسوأ أعماله، "الميت لا يموت"، في افتتاح "كان" قبل ثلاث سنوات. بأفلام لا تشرف الفن السابع، يفتتح "كان" منذ بضع سنوات، خلافاً لتاريخه العريق الذي شهد افتتاحيات مع أفلام كبيرة مثل "أحلام" لكوروساوا أو "هير" لميلوش فورمان أو "أماركورد" لفيلليني. 

إلى متى "لا لنتفليكس"؟

مقاطعة "نتفليكس" لا تزال تلقي بظلالها على كان، وإن على نحو أقل من السابق. القانون الداخلي للمهرجان يفرض على أفلام المسابقة أن تعرض في الصالات. وهذا منطقي، لأنه لا يمكن لفيلم نال أهم جائزة سينمائية في العالم أو مرشح لها أن يعرض فقط على منصة إلكترونية للبث التدفقي. فهذا شيء مضحك ولا يقبله عقل. وكما نعلم، فإن فرنسا من خلال قوانينها الصارمة وما يسمى"كرونولوجيا الميديا"، وحرصها الشديد على الدفاع عن المشاهدة الجماعية، هي آخر حصن منيع أمام الغزو المنصاتي للسينما. لماذا "الآخر"؟ لأن مهرجان البندقية تجاوز المشكلة ولا يعير أهمية كبيرة لها، على الرغم من بعض الأصوات المعترضة، لا بل نال "روما" لألفونسو كوران الممول من "نتفليكس" "الأسد الذهبي" قبل 4 أعوام. لكن السؤال: ماذا لو زاد الاعتماد على هذه المنصات؟ وماذا إذا انتقلت السينما كلها إلى المنصات؟ سينمائيون كبار مثل سكورسيزي لجأوا إلى "نتفليكس" وأخواتها لتمويل أعمالهم التي رفضتها الاستوديوات الكبيرة. هل يمكن لـ"كان" أن يغمض عينيه تجاه هذا الواقع الجديد الذي سيسحب البساط من تحت أقدام الصالات عاجلاً أم آجلاً؟

سينما فرنسية أو بأموال فرنسية

يأخذ بعضهم على المهرجان ضم كثير من الأفلام الفرنسية أو الممولة جزئياً بأموال فرنسية إلى البرنامج، وهذا صحيح، لكن ينسى المنتقدون أن الفرنسيين هم أرباب سينما المؤلف، وعدد لا يحصى من أفلام دول العالم الثالث بما فيها الدول العربية، هو نتيجة الإنتاج المشترك مع فرنسا. إذاً، القول إن المهرجان يغرق تحت وطأة أفلام شركات الإنتاج الفرنسية، وهو (المهرجان) ما عاد دولياً بل  أصبح محلياً، هو قول نصف الحقيقة والنظر بعين واحدة. تكمن المشكلة في اختيار أفلام سيئة، فقط لأنها فرنسية، ولكن هذا يحتاج إلى دليل لا نملكه. هل هناك فعلاً في إدارة أعظم حدث سينمائي في العالم مَن قد يختار فيلماً فرنسياً ضعيفاً لأسباب شوفينية؟ في المقابل، ماذا عن سطوة شركات التوزيع الفرنسية؟ إلى أي مدى لديها تأثير في تشكيل برنامج "كان"؟ أسئلة لا أحد يمكنه الرد عليها بجواب حاسم، وكل ما قد يقال في هذا الشأن عبارة عن تحليلات واستنتاجات.  

حجز التذاكر  

نأتي إلى مسألة حجز التذاكر التي أغضبت كثيرين من المشاركين في مهرجان "كان" هذا العام. سابقاً، لم نكن نحتاج إلى حجز مسبق، كل ما كان علينا أن نفعله هو التوجه إلى الفيلم فندخله بالبادج. صار الحجز إلزامياً منذ العام الماضي. إلا أن الصفحة التي كنا نحجز عليها، كانت تعاني من خلل تقني ولم تكن تعمل بشكل طبيعي في الأيام الأولى. ناهيك أن الحجز وإن بلا مشكلات، يعيق عمل الصحافيين، إذ يطلب منهم أن يعلموا أي أفلام سيشاهدونها قبل أربعة أيام من دون أي اعتبار للتغييرات التي قد تطرأ على جدول أعمالهم. هذا علاوة على أنه من المفروض النهوض في الساعة السابعة صباحاً (موعد افتتاح شباك التذاكر الإلكتروني) كي يتسنى لنا الحجز، وإلا تنفد البطاقات في غضون دقائق. هذا إضافة إلى تفاصيل كثيرة اختبرناها وتشير إلى أن النظام السابق المعمول به الذي كان يضمن كرسياً لمَن يسبق غيره في القدوم، كان الأفضل والأكثر فعاليةً. أخيراً، فإن هذا النظام الذي ابتُكر العام الماضي، للحد من الزحمة والاختلاط على أبواب الصالات، في زمن تفشي وباء كورونا، ما عاد له مبرر، خصوصاً أنه أثبت أنه لا يخفف من نسبة الانتظار في الطوابير، بالتالي الاحتكاك والتدافع.  

نهاية عهد تييري فريمو؟ 

هناك بعض التململ من بعض الأوساط من المدير الفني والمفوض العام تييري فريمو وخياراته، والنحو الذي يدير به كل شيء داخل المهرجان، وقد بدأ يتزايد في السنوات القليلة الماضية. الرجل (60 سنة) في منصبه منذ نحو عقدين، وبعضهم يرى أنه آن الآوان لاستبداله. فبعض الفوضى (لكن في نطاق محدود طبعاً) الذي شهده المهرجان هذا العام، قد يتم توظيفه للمطالبة برحيله، علماً أن رئيسة جديدة هي إيريس كنوبلوك انتُخبت قبل الدورة الأخيرة وستتولى الرئاسة بدءاً من العام المقبل. في المقابل، علينا أن نسأل ماذا قد يتغير عند رحيل شخص مثله، ما عدا بعض المسائل الإدارية التي لا قيمة لها؟ فالأشياء كلها صارت معلبة، والتغيير ما عاد يتوقف على الأفراد. 

لجان تحكيم بلا نقاد

لجان التحكيم في "كان" تتضمن أسماء ليس كلها من أهل الخبرة والذوق الرفيع في مجال السينما. تستعين الإدارة ببعض النجوم والمشاهير للترويج، وهذا ينعكس سلباً في الجوائز أحياناً. فنرى أفلاماً لا تستحق أن تنال أرفع الجوائز وقد تم الرفع من شأنها. إلى اليوم، لم يأتِ "كان" بنقاد سينما إلى لجنة التحكيم إلا في ما ندر، مع العلم أن هؤلاء هم أكثر مَن يفقهون بالسينما، وعلى الرغم من ذلك يصر المهرجان على الوجوه المعروفة لاستقطاب اهتمام الإعلام والجمهور. متى تدرك الإدارة أخيراً، بعد سنوات من الإجحاف، أن على اللجنة أن تضم نقاداً كرسوا حياتهم في سبيل السينما، أقله لخلق بعض التوازنات؟

أغلب الظن أن السينما، فناً أو صالة، تخسر المكان الذي كانت تشغله سابقاً، شأنها شأن المهرجانات التي صنعت أسماء كبيرة باتت جزءاً من ذاكرتنا الجماعية. مع تطور أساليب العرض والطرق التي يصل فيها الفيلم إلى الجمهور، سيتغير معه كثير من التقاليد والأعراف التي كانت سائدة في عالم المهرجانات. ولن نكون شديدي التشاؤم كحال البعض الذي يتنبأ بانقراض المهرجانات، ذلك أن البشر في حاجة ماسة إلى أن يلتقوا بعضاً ببعض، داخل صروح ثقافية تذكرهم بماضيهم وتضعهم في قلب الحدث وتحول المشاهدة العادية إلى احتفالية. لكن في المقابل، وكما كتب دي لامبيدوزا جملته الشهيرة، "على كل شيء أن يتغير كي لا يتغير شيء".

 

الـ The Independent  في

31.05.2022

 
 
 
 
 

كانّ 75 - "أشكال" ليوسف الشابي: حرائق قرطاج

هوفيك حبشيان

كانّ...

في تونس ما بعد الثورة، المخرج يوسف الشابي، المولود قبل 38 عاماً، يموضع كاميراه. وما أدراك ما هي تونس بعد بن علي؛ خزان قصص لا بداية لها ولا نهاية. أمرٌ ما حدث هنا، يصعب على الفيلم تأطيره في فكرة أو مشهد أو حتى كلمة تخرج من أفواه الممثّلين. كلّ شيء في الأجواء. لكن يبقى المكان، حدائق قرطاج، الحضن الذي يهجر اليه الفيلم. حدائق قرطاج هي كلّ شيء في "أشكال" (شاهدناه في #مهرجان كانّ السينمائي الأخير داخل قسم "اسبوعا المخرجين")، فهي تبث إحساساً بالغربة؛ الشعور الذي دهم الشابي حينما كان يمر من هناك، لتشكّل لاحقاً نقطة انطلاق باكورته هذه.

المشروع السكني الفخم الذي انطلق في عهد بن علي وتوقّف مع الثورة، يجسّد الكثير: الفراغ، الخيبة، الفشل، انعكاس لبلاد تخطو إلى المجهول بخطى أكيدة. ما كان مفترضاً ان يجسّد الثراء والحداثة بات مع تغير الأولويات كتلا اسمنتية وفراغا وبقعة مهجورة. مدينة أشباح يعرف الشابي كيف يعطيها حضوراً لتتحول في النهاية إلى شخصية مركزية تهدد بوجودها، من دون ان تفعل شيئاً لأحد، وهي قبل كلّ شيء ديكور لفيلم بوليسي يستلهم السينما الأميركية حيث شرطيان سيحققان في ظاهرة اضرام بعض الناس النار في أجسادهم.

الفيلم كله عن المكان، إلى درجة يسحق شخصياته وهذا مطلوب. المكان هو النظام القائم. هو برج مراقبة، يتفيأ تحتها الفساد والعنف. للشابي مراجع سينمائية مختلفة، يذكر منها كيوشي كوروساوا. لكنه أذكى من أن يجعلها واضحة. كلّ شيء في الفيلم خفيّ، ينسحب إلى سره، لا يعلن. علينا البحث والترقب. "أشكال" كان واحداً من ثلاثة أفلام تونسية عُرضت في كانّ هذا العام، ويمكن النظر اليها كنوع من طمأنة لصحة هذه السينما الجيدة. اللافت في "أشكال" انها ليست ما يشغل المخرج، رغم تحرر الكلمة.

في الآتي، مقابلة "النهار" المصوّرة مع الشابي، أُجريت في مهرجان كانّ السينمائي.

https://www.youtube.com/watch?v=zENDAEziohU

 

####

 

كانّ 75 - ما هي أفضل أفلام المسابقة وأسوأها بحسب أحمد شوقي؟

هوفيك حبشيان

كانّ...

ما هي أفضل أفلام مسابقة الدورة الماضية من #مهرجان كانّ السينمائي؟ بأي كلمات يمكن وصف عودة كبار السينمائيين إلى الكروازيت، من كروننبرغ إلى سكوليموفسكي؟ هل تجاوز بعض الفائزين بـ"السعفة"، من مثل روبن أوستلوند وهيروكازو كوري إيدا والأخوين داردن أعمالهم السابقة؟ ما هي المآخذ على بعض الأفلام التي كنّا ننتظر منها المزيد؟ نستطيع الحديث عن المهرجان بعبارات عامة وشاملة ومختزلة تقيّم الدورة ككلّ، ونستطيع تفنيد كلّ فيلم من أفلام المسابقة الـ21 على حدة، وهذا ما فعلناه مع الناقد المصري أحمد شوقي الذي ترأس لجنة تحكيم الـ"فيبريسي" في هذه المقابلة المصوّرة.

https://www.youtube.com/watch?v=KEjDZvVstKo

 

النهار اللبنانية في

31.05.2022

 
 
 
 
 

صبي من الجنة.. طارق الشناوي: لا مشكلة في افتراض وفاة شيخ الأزهر..

والفيلم حصل على جائزة لعدم الدراية

هديل هلال

قال الناقد الفني طارق الشناوي، إنه شاهد فيلم «حادث النيل هيلتون»، للمخرج طارق صالح، الذي حصل على جائزة أفضل سيناريو عن فيلم «صبي من الجنة»، ذلك في ختام مهرجان كان السينمائي الدولي في دورته الـ75.

وأضاف خلال لقاء لبرنامج «حديث القاهرة»، الذي تقدمه الإعلامية كريمة عوض عبر فضائية «القاهرة والناس»، مساء الاثنين، أن «حادث النيل هيلتون» مستوحى من واقعة حقيقية، لكن المخرج قدمها على الطريقة الأمريكية، ما جعله بعيدًا عن الحالة المصرية أو العربية.

ولفت إلى أنه لا يرى مشكلة في الافتراض الدرامي بفيلم «صبي من الجنة»، والذي يفترض فيه المخرج وفاة شيخ الأزهر، مؤكدًا أنه أمر «مباح» في الدراما، فيمكن لأحد أن يبني عملًا فنيًا حول امتلاك كوكب الشرق أم كلثوم لأبناء، رغم عدم حدوث ذلك في الواقع.

وأوضح الناقد الفني، أن مشكلة الفيلم تكمن في عدم دراسة الأزهر ومعرفة كيفية عمله، متابعًا: «في الدستور لا يستطيع أي رئيس جمهورية إنهاء عمل شيخ الأزهر، إما يستقيل أو يتوفاه الله وذلك حفاظًا على حيادية المؤسسة».

وذكر أن أغلب الممثلين المشاركين في الفيلم فلسطينيون ولبنانيون، قائلًا إن الفيلم لم يظهر الأزهر بشكل صحيح، خاصة أن الالتحاق بتلك المؤسسة يتطلب شروط عدة، أبرزها حفظ الشخص أكثر من جزء للقرآن الكريم، واختباره ثم الموافقة عليه.

واستنكر طريقة تجنيد ضابط المخابرات في الفيلم لطالب في جامعة الأزهر، إذ رأى بأنها طريقة قديمة لا تتناسب مع الفترة التي يحاكيها الفيلم، مؤكدًا في الوقت نفسه أن مشكلة السيناريو ليست سياسية.

وأرجع حصول الفيلم على جائزة من مهرجان «كان» إلى «عدم الدراية»، مشيرًا إلى أن لجنة التحكيم غير مؤهلة للشعور بالفروق الخاصة بمفردات الحوار غير المصرية.

وذكر أن الدولة تطلب من الأزهر الشريف الانفتاح وتقديم رؤية عصرية للدين وحرية أكبر ونظرة أبعد ومرونة، وهو ما لم يتناوله الفيلم، مشددًا على أهمية توجه الإعلام للخارج، من أجل تقديم الحقيقية للآخرين.

وحصل المخرج المصري، طارق صالح، على جائزة أفضل سيناريو عن فيلم «Boy From Heaven» أي «صبي من الجنة»، ذلك في ختام مهرجان كان السينمائي الدولي في دورته الـ75، في قصر المهرجانات بمدينة كان الفرنسية.

 

الشروق المصرية في

31.05.2022

 
 
 
 
 

سعفة "كانّ" لـ"مثلث الحزن": سخرية سينمائية موجعة ومُقلقة

كان (فرنسا) - محمد هاشم عبد السلام

بفوزه بجائزة "السعفة الذهبية"، في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، عن "مثلث الحزن"، ينضمّ السويدي روبن أوستلوند (1974)، إلى 9 مخرجين آخرين فاز كلّ واحدٍ منهم بالسعفة نفسها مرّتين. أوستلوند ـ الذي كشف بلطفٍ عن الأنانية البشرية والنفاق، وتحديداً عن عيوب الأب، والخلل الوظيفي في العائلة، في رحلة تزلّج، في فيلم الدراما الأسرية القاسية "قوّة قاهرة" (2014) ـ انتقل إلى عالم الفنّ، في "المربع" (2017)، الفائز بأوّل "سعفة ذهبية" له، وفيه نبرة تهكّمية واضحة، تسخر وتفضح الفني والتجاري في عالم الفن المعاصر ونخبته، في استعارة جليّة عن القيمة والمعنى في المجتمعات الأوروبية الحديثة، وفنونها.

في "مثلث الحزن" (2022)، يشنّ أوستلوند هجوماً أشرس، وأكثر سخرية ومرارة، على الأثرياء وأشباههم من ذوي السلطة والجاه والنفوذ. ورغم حدّته الهجائية الثقيلة، المكتوبة بحِرفية شديدة، يفتقر الفيلم إلى قوّة فيلميه السابقين وجدّتهما؛ مع أنّ "مثلث الحزن" أكبر وأكثر طموحاً منهما.

"مثلث الحزن"، الأول لأوستلوند باللغة الإنكليزية، مُمتع للغاية، ومُبهر بصرياً، وقوي سياسياً. السيناريو (أوستلوند) مُضحك وذكي، هدفه الاستفزاز والإهانة، والنيل من غطرسة المال والجمال والقوّة. يُدين، بلا رحمة، قسوة أثرياء العالم وأشباههم، وثقافة الموضة المُبتذلة، وتفاهة وسائل التواصل الاجتماعي. في الوقت نفسه، يُطلق العنان للسخرية الاجتماعية، وتشريح الهرمية الاجتماعية المُعوجة، ويُنذر بتغيير هيكلي مقبل للعالم الذي نعرفه. لعلّ هذا الفيلم ما يحتاج إليه العالم الآن، لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، قبل فوات الأوان.

عنوان الفيلم يُشير إلى مُصطلح في عالم الموضة، عن التجعّد العميق الذي يظهر بين الحاجبين، مع الإجهاد والتقدّم في السنّ، ولا يُمكن إصلاحه إلّا بقليل من الـ"بوتوكس"، كما في تعليقٍ ساخر في الفيلم، المؤلَّف من 3 فصول، تُشكِّل أضلاع مُثلثٍ. لكلّ فصل إطار خاص، يتقاطع مع الآخَرَين: أحداث الأول تدور في عالم الأزياء وعروضها والـ"موديل"؛ فيه حبيبان شابان، كارل (هاريس ديكنسون)، ويايا (شارلبي دين كريك). يحتوي هذا الجزء على أحد أفضل التسلسلات السينمائية، عن العلاقات المادية الوضيعة والأنانية بين الرجال والنساء، ويناقش الجمال المظهري، لأننا نعيش في عالمٍ المظهر فيه مهمّ للغاية، وأكثر من قبل، خاصة في زمن الصُوَر الرقمية. يُساعد الجمال المظهري على الارتقاء في المجتمع، وإنْ لم يكن للمرء مالٌ أو تعليمٌ، ما يفضح مدى قُبح الجمال الراهن، وتسليعه.

لأنّ يايا تحظى بعدد كبير من المتابعين على "إنستغرام"، حيث السوق الرقميّة الأكبر لتقييم الجمال وتسليعه وبيعه وشرائه، تنال رحلة سياحية فارهة، على متن أحد أكبر اليخوت الباذخة، مكافأة لها. في الرحلة، يبدأ الفصل الثاني، على يختٍ يعجّ بأثرى أثرياء العالم، فيُكرّس فريق العمل فيه، باستثناء القبطان توماس سميث (وودي هارلسون)، جُلّ طاقتهم لتدليل الضيوف، ورعاية نزواتهم وتفاهاتهم. الرحلة البحرية، شديدة السخرية والطرافة والسوداوية، لوحةٌ سافرة عن الامتيازات المجنونة للأثرياء، الذين لا يستطيعون رؤية ما وراء احتياجاتهم، والغارقين في نزقهم وأنانيّتهم.

في الرحلة، يعرض الأوليغارشيّ الروسي ديمتري (زْلاتْكو بوريتش)، بائع فضلات الحيوانات كأسمدةٍ، شراء اليخت من القبطان الماركسي، الذي يحتقر جميع المدعوّين، ويرفض مُخالطتهم. يدخلان معاً في مبارزة سياسية، لا تُضاهَى في طرافتها، عن الشيوعية والرأسمالية، وتجاوزاتهما؛ بينما تُصرّ زوجة الملياردير الروسي، فيرا (ساني ميلْس)، على أنْ يتخلّى طاقم الضيافة عن مسؤولياتهم، والانضمام إليها للسباحة. هناك أيضاً زوجان عجوزان إنكليزيان (أوليفر فورد ديفيز وأماندا ووكر)، جمعا أموالهما من بيع القنابل اليدوية وأسلحة أخرى، وملياردير التكنولوجيا، السويدي الوحيد والمُحبط (هنْريك دورسِن).

تتعرّض سفينة الحمقى هذه إلى كارثةٍ مُحدقة، مع هبوب عاصفة قوية تجعل اليخت يتمايل، في حفلةٍ ليلية أقامها القبطان. بسبب مأكولاتٍ بحرية، راقية ولزجة، ودوّار البحر، تخرج السوائل الجسدية المُختلفة بدفقاتٍ لا تتوقّف من القيء والإسهال، حتّى تنفجر مراحيض اليخت، باذخة الترف، وتفيض مياه الصرف الصحي، فتلوّث الجميع بالفضلات البشرية الطافحة. تغرق الرحلة في فوضى عارمة، تفوح منها رائحة الدمار والقاذورات، فتُعَذّب الشخصيات المُنغمسة في ذواتها، وينتهي الأمر ببعض الركّاب في جزيرة مجهولة، بعد غرق اليخت.

في الجزيرة، يبدأ الفصل الثالث، الأضعف في الفيلم. لا جديد يُرى، ولا جديد يفعله أوستلوند، يُخالف به المُعتاد والمتوقّع. سريعاً، يُدرك الناجون أنْ لا أحد بينهم لديه المهارات اللازمة للبقاء في البرية، ولو لأيام قليلة. يصل قارب نجاة، به الفيليبّينية أبيغل (دولّي دو ليون)، عاملة المراحيض في اليخت، التي تُتقن الطبخ واصطياد السمك، ما يجعلها زعيمة مجتمعهم المؤقّت الجديد، الذي لا تُفيد فيه ساعات الـ"رولكس" والحُلي، ولا تُنقذ فيه المليارات الكثيرة أصحابَها من الجوع والعطش.

ليس لهؤلاء المنبوذين شيءٌ مُفيد لتقديمه، باستثناء كارل الوسيم، الذي يخضع لنظام المقايضة: الطعام والمأوى والراحة مقابل تقديم الخدمات الجنسية لأبيغل. قبل ساعات قليلة، كان كارل يتصفح خاتم خطوبة، ثمنه 25 ألف دولار، ليُقدّمه إلى حبيبته يايا. أمرٌ مُضحك، لكنّه قاسٍ. معظم المواقف تمضي على هذا النحو.

في "مثلث الحزن"، لا يهتمّ روبن أوستلوند بتخريب النظام الاجتماعي، بقدر رصده الواقع الكائن، والتنبؤ بالمقبل. إجمالاً، يُضحك الفيلم بشدّة وصدق، في قلب المأساة. ويدفع إلى التفكير بعمقٍ ونضج، وإلى الخشية مما يُحذِّر منه.

 

العربي الجديد اللندنية في

01.06.2022

 
 
 
 
 

الدنيا تتغير.. والأبجدية اختلفت.. ولانزال نسأل عن الهدف!

طارق الشناوي

ما الذي صار يجذب لجان التحكيم، وقبلها لجان الاختيار، لتفضيل فيلم عن آخر للمشاركة في المهرجان، ثم بعدها اقتناص الجائزة؟!.. إنها اللغة المقدم بها الفيلم، وهكذا حصل فيلم (مثلث الحزن) للمخرج السويدى روبن أوستلوند على السعفة مجددًا بعد خمس سنوات، ليدخل ضمن قائمة محدودة اقتنصت الجائزة مرتين طوال تاريخ المهرجان. البعض يبحث عن المغزى الذي ينبغى أن يحمله العمل الفنى، ولا أدرى ما سر إضافة ينبغى، فلا توجد حتمية في الفن، ولكننا عادة نبحث ونتوقف أمام الفحوى.

الشريط ظاهريًا يفضح تناقضات المجتمع بين فاحشى الثراء وطبقة المكافحين، ولا أقول الفقراء.. وهكذا تجمعهم سفينة أو يخت فاخر مترامى الأطراف.. (تيتانيك) للمخرج جيمس كاميرون هو أول ما يتبادر إلى ذهنك كخط عام، حيث حمل الفيلم معنى مباشرًا لصراع الطبقات، استحوذ الأثرياء في (تيتانيك) على كل فرص النجاة، بينما العمق هو الحب والتضحية، وهو ما منحه كل هذا الزمن من البقاء، بينما المخرج روبن أوستلوند في (مثلث الحزن) قدم وجهًا مغايرًا لتلك المباشرة، و(المثلث) الذي يعنيه هو قسوة الحزن واكتمال عناصره، ورغم ذلك كانت الطرفة حاضرة في سياق عدد من اللقطات لتخفيف الوطأة.

تتغير لغة السينما كل حقبة زمنية، ويحاول عدد من المبدعين في بلادنا المُلاحقة، بينما الأغلبية لا يزالون محلك سر، لم يحدّثوا بعدْ أدواتهم الفنية.. كثيرًا ما يسألون لماذا ترفضنا مهرجانات السينما العالمية ولا ترحب بأفلامنا؟ والإجابة التي صارت مثل السلاح سريع الطلقات الذي يوجهونه للمهرجانات الدولية أنهم يرفضوننا لأسباب سياسية.

راجع قليلًا معى الأفلام المصرية التي شاركت في مهرجانات «كان» أو «برلين» أو «فينيسيا» خلال السنوات الأخيرة، ستكتشف أن السر في اللغة العصرية التي حملها الشريط.

أفلام مثل (اشتباك) محمد دياب و(يوم الدين) أبوبكر شوقى، و(سعاد) أيتن أمين، و(ريش) عمر زهيرى، ما الذي يجمعها؟.. مساحات الفراغ التي تعنى الجزء المشترك بين صانع العمل الفنى والجمهور، الشريط السينمائى لا يقول كل شىء، مساحات صمت تكملها أنت كمتلقٍ، بينما نجد بعض المخرجين كل طاقاتهم مبددة في عرض الفيلم (كعب داير) على المهرجانات وعادة بعد الرفض لا يعترف أبدا بأنه يقدم لغة سينمائية تجاوزها الزمن، التجربة أيضا أكدت لى أن بعض المخرجين فقدوا حتى الشغف بمشاهدة الأفلام، يفضلون سهرات المهرجان على أفلامه.

(مثلث الحزن) كخط درامى عام هما عارضان للأزياء، بينهما علاقة عاطفية، نتعرف عليهما في لقاء تليفزيونى، هما حبيبان حققا قدرًا من الشهرة، الفيلم ليس على الموضة والأزياء ولا عن المناوشات بين حبيبين في مقتبل الحياة، ولا هو أيضا كما يبدو للوهلة الأولى يتعرض للمجتمع المخملى، ولكنه يضعك بعد مشاهدته في دائرة أسئلة عامة عن علاقتك أنت بالحياة.

ونكمل حكاية الفيلم.. الحبيبان ينتقلان إلى يخت ضخم، لم يقدم المخرج، وهو أيضا كاتب السيناريو، كيف انتقلا لليخت الذي تجد فيه الأثرياء يحتلون أغلب الغرف والأجنحة ومظاهر الثراء تتجاوز كل الخيال، لماذا لم يقدم لك كمتفرج إجابة لسؤال كيف انتقلا لليخت؟، لأنك كمتلقٍ لديك أكثر من إجابة، ولن تفرق معك.

أسلوب (تاتا.. تاتا خطى العتبة) في السرد السينمائى لم يعد له وجود حاليًا إلا لدى عدد من مخرجينا، والقاعدة هي ألا تضيع الوقت في تفسير ما هو مفسر في السياق العام.

عشاء فاخر على شرف القبطان، يبدو مكانا لائقا لفضح الطبقة الثرية، بأسلوب ساخر حيث تبدأ السفينة في الغرق، وتنفجر في لحظات كل قدرتها على المقاومة وبينما القبطان السكير لا يتوقف عن الهذيان، نصل مثل أغلب تلك المعادلات السينمائية المشابهة إلى الجزيرة التي تنقذ من تبقى على قيد الحياة، عندها تتبدل ملامح القوة والسيطرة.. من يملك المفتاح: هل من تجيد الصيد من البحر حتى تطعم الجميع أم من تملك الماء أو السلاح؟.

ما هو مطلوب من الفيلم ليس تقديم إجابات كما تعودنا ولا حتى إثارة أسئلة مُلحة، ولكن أن تخرج من العرض وأنت محمّل بطاقة يفرضها عليك الشريط السينمائى، والعديد من التفاصيل تترك دائما هامشًا آخر من التفاصيل.

ونرى حرفية المخرج في القدرة على الضبط، إنه الميزان السحرى، مثلًا مشهد التقيؤ الجماعى مع بداية الإحساس بدوار البحر على السفينة، أو تفجُّر دورات المياه لتخرج ما بها إلى ردهات السفينة.. تفاصيل متعددة من الصعب التعامل بها ببساطة دون أن تصيبك كمتلقٍ بالنفور، إلا أن المخرج كان يدرك بالضبط أين يتدخل المونتاج لتصل الرسالة دون إزعاج أو في الحدود الدُّنيا بأقل جرعة ممكنة من الإزعاج.

هناك العديد من الأفكار التي طرحها الفيلم، مثل انتقاد قائد السفينة السكير الذي لا يدرك خطورة ما ينتظر الركاب من دمار، وأيضا السلطة والقوة ومن يحكم، ولكن يبقى أنه يفتح الباب للتفكير، لا تعنيه الإجابات، وهو غير مطالب بأن يقدم لك كل شىء (على بياض)، عليك أنت أيضا واجب.

استحق المخرج السويدى روبن استولوند السعفة الثانية في مشواره لينضم إلى كل من الأخوين (داردين) وكين لوتش، وهو إنجاز خلال 75 دورة حققه ثلاثة فقط من المخرجين، وهو ما سيظل حتمًا في الذاكرة لمثلث الحزن الذي صار مثلثًا للإبداع في اليوبيل الماسى لمهرجان (كان)!!.

tarekelshinnawi@yahoo.com

 

المصري اليوم في

01.06.2022

 
 
 
 
 

هل تعرف السلطة الإيرانية أن السينما والفن سياسة

محمد ناصر المولهي

المس بالمقدسات حجة جاهزة لكهنة المعابد منذ ما قبل الميلاد.

منذ القدم اشتبك الإبداع البشري بالسياسة، ولم يتوقف في حدود التفاعل العاطفي أو التأملات الفردية. فما سمي لاحقا الفن لأجل الفن لم يجد الحضور المؤثر واختنق سريعا بضيق أفقه، وفي النهاية لا يبدع المبدعون لأجل الإبداع، فهذا اعتباط بشكل أو بآخر، فالإبداع ليس طارئا إنه مشروع.

يحتم مشروع الإبداع على كل مبدع أن يتشابك مع قضايا فكرية وجمالية واجتماعية ونفسية، وبالتالي قضايا سياسية، الإبداع سياسة بشكل أو بآخر، لا بالمعنى الضيق للكلمة التي لم يقصّر السياسيون في تشويهها.

قرن كامل مر منذ ولادة السينما، لم تغفل فيه هذا الفن، الأكثر انتشارا اليوم، التشابك مع القضايا السياسية. نالت السياسة نصيبا واسعا من الأعمال السينمائية، إما بشكل مباشر من خلال تفكيك قضايا السياسة والجوسسة والحروب والصراعات والمؤامرات والثورات وغيرها الكثير من الأحداث التي لا يتوقف احتدامها منذ القرن الماضي إلى هذه الألفية الثالثة الأكثر جنونا في تقلباتها وتطوراتها وأحداثها.

تتويج مهرجان كان للإيرانية زهرا أمير إبراهيمي بجائزة أفضل ممثلة أعاد جدل السينما والسياسة وأغضب سلطات بلادها

السينما والشمولية

تمكنت السينما في عمرها القصير نسبيا مقارنة بالفنون الأخرى من أن تتسيد المشهد بوصفها فنا وثقافة وأداة اجتماعية ونقدية فعالة، بالتالي صارت وسيلة السياسة الأولى للترويج للخطابات، ووسيلة المبدعين الأولى لنقد السياسات، ومساحة هامة تتلاحم فيها كل الفنون الأخرى وتتصادم بالفعل السياسي.

فتح جيل كامل من السينمائيين الإيرانيين على رأسهم المخرج عباس كيارستمي أعيننا على شعرية سينمائية فريدة من نوعها، ساهمت في خلق سينما إيرانية مميزة عالميا، سينما لها بصمتها وهي تحوك رموزها وتتشابك مع واقع بلد لم ينزل عن “الصفيح الساخن” منذ استحواذ الإسلاميين عليه.

الكثير من الأفلام الإيرانية خيّرت الترميز والبقاء في مساحة النقد المجتمعي والقصص الصغيرة والهامشية واستنطاق التفاصيل وتحويلها إلى مواد للتأويل، وهو أسلوب ترسخ في ظل سلطة سياسة لم تتوقف يوما عن ملاحقة المبدعين والسينمائيين بحجج مختلفة، أخلاقية وسياسية من تخابر وغيرها من تهم لم تمل الأنظمة الشمولية من استعمالها منذ قرون إلى اليوم.

ملاحقة السينمائيين لم تتوقف يوما، إما بالتحقير والتهميش أو البطش، وأخيرا استنكر مخرجون وممثلون إيرانيون، بينهم المخرجان جعفر بناهي ومحمد رسولوف، في كتاب مفتوح اعتقال عدد من زملائهم في الأيام الأخيرة في إيران.

يعتقل سنويا كتاب وشعراء وفنانون وسينمائيون من معارضي النظام الملالي في إيران، النظام الذي يفرض نفسه بقوة اللون الواحد وآلات القمع والتنكيل على شعب لطالما كان أرضا خصبة للإبداع والفنون.

وكان من الغريب أن تنتقد طهران، في بيان أصدرته منظمة السينما الإيرانية المرتبطة بوزارة الثقافة والتوجيه الإسلامي، الإثنين منح مهرجان كان السينمائي في دورته التي اختتمت منذ أيام جائزة أفضل ممثلة لبطلة فيلم “العنكبوت المقدس” زهرا أمير إبراهيمي، اللاجئة في فرنسا منذ 2008، عن جرائم سفّاح متسلسل قتل بائعات هوى في مدينة مشهد المقدسة، معتبرة إياه “منحازا ومسيّسا”.

واعتبرت المنظمة الفيلم الذي أخرجه الدنماركي من أصل إيراني علي عباسي “عملا منحازا ومسيّسا من خلال تقدير الفيلم الخاطئ والسخيف”، مضيفة بأن الفيلم يقدم صورة “مشوّهة عن المجتمع الإيراني وجَرَح مشاعر الملايين من المسلمين الشيعة”.

واعتبرت أن العمل الذي جرى تصويره في الأردن بعد عدم منحه إجازة للتصوير في إيران “يسير على نهج رواية ‘آيات شيطانية‘” للمؤلف البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي، وهو بالمناسبة الكاتب الذي أصدر مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله روح الله الخميني فتوى بهدر دمه بسبب الرواية التي اعتبرها مسيئة للإسلام، ما اضطره للعيش سنوات متخفيا باسم وحياة مستعارين.

السينما، رغم عمرها القصير نسبيا، تمكنت من أن تتسيد المشهد بوصفها فنا وثقافة وأداة اجتماعية ونقدية فعالة

بعيدا عن مستوى الفيلم أو الممثلة اللاجئة بعيدا عن بلدها، شأنها شأن الكثير من المبدعين الإيرانيين، يحاول النظام الشمولي عادة تقليم أظفار أي فن، بمحاولة فصله عن السياسة، وتعليبه في فترينة

الجماليات” التي يراها النظام مناسبة أو أخلاقية، بالمعنى الذي يناسبه هو للأخلاق. هي في حقيقتها أنظمة لا تتوانى عن الاستعمال السطحي الدين أو الأخلاق أو أي معطى آخر لتعميق جذورها على ظهور “رعاياها”.

الغريب في نقد النظام من خلال مؤسسته السينمائية المسيسة بطبعها، والتي من المفروض أن تكون في خدمة السينمائيين لا النظام، أن ننقد فيلما لأنه يمس بمشاعر المتدينين، لا من خلال معايير فنية أو فكرية أو جمالية، بل المهاجمة تكون فقط من باب الأخلاق، وحجة المس بالمقدسات، ويا لطول قائمة المقدسات الفضفاضة، وهي فكرة جاهزة لم يتوقف عن استخدامها كل الحكام باسم كل الأديان، من كهنة المعابد القديمة ما قبل ميلاد المسيح إلى كهنة المعابد الجديدة. مشاعر المؤمنين في خطر دائما، هذا ما ترسخه الأنظمة المنغلقة في وجدان شعوبها بأي شكل كان ولو الافتراء، المهم أن تخلق لهم العدو الوهمي والخطر الذي لا يحاصرهم كطاحونة دونكيشوت.

واستعملت هوليوود السينما لبث رسائل سياسية عديدة، جانب كثير منها الحقائق، ولنا أن نتأمل مثلا صورة العربي المسلم كإرهابي بأنف معقوف وشهوة لا تخمد، أو صورة الروسي المنتقم والبارد، أو صورة الهنود الحمر المتوحشين أو اللاتينيين المجرمين وتجار المخدرات، أو حتى تصوراتها لأحداث تاريخية حقيقية ترسخ النصر الأميركي والبطل الأميركي، أو تخيلها لمعارك وأحداث في نفس التوجه.

السياسة قضية الجميع، ولا يمكن لسينمائي أو أي مبدع كان، أن يتخاذل عن دوره السياسي الأساسي

الفن سياسة

السينما لا تخلو من تسييس، قد يسقط في المغالطات والانحياز بشكل مباشر، لكن هل يبرر ذلك التنكيل بالأفلام ومنجزيها؟ هل يبرر الرقابة القطع والملاحقة التي تنتهجها كثير من بلدان العالم الثالث لا إيران وحدها؟

ربما يكون في التركيز على فيلم “العنكبوت المقدس” رهان سياسي ما، لكن هل الإجابة تكون بهكذا طريقة، بالحط من شأن الفيلم بحجج بالية؟ ألم تتعلم الأنظمة الشمولية من التاريخ الحديث أن “قبضة الحديد” التي تحاول إحكامها على رقاب المبدعين مصيرها إلى الصدأ والتآكل أمام قوة الفن؟

الفن حر ولا يُجاب على الفن إلا بالفن أو النقد الفني والثقافي والتحليل الفكري إن لزم الأمر، لكن أن ينعت فيلم ما بـ”السخيف” بكل ذلك التحقير لمجرد أنه تناول قضية ما برؤية مخرجه السياسية، فهذا يخفي ما هو أعظم. فلنسأل مثلا ماذا لو كانت الممثلة المتوجة في إيران اليوم؟ ربما ستولد لها تهمة ما، وتفتح أمامها ظلمات السجن الطويلة.

السياسة قضية الجميع، ولا يمكن لسينمائي أو أي مبدع كان، أن يتخاذل عن دوره السياسي الأساسي في اعتقادي، فدوره إيقاظ البصائر والتحفيز على التفكير والنقد والتساؤل والمساهمة في تكريس التنوع الرؤيوي والفكري والثقافي. الفن في النهاية فعل حضاري يفتح الذاتي على الجماعي ويذوب الجماعي في الذاتي، لأجل رهان الإنسان فكرة وجسدا وشعورا وتاريخا.

السياسة قضية المبدع الأولى والأهم إذن، وإلا انتهى إلى تهويمات فردية في عتمة ذاته، لكن دخول المبدع إلى السياسة وتقاطعاته معها لا يجب في أي حال من الأحوال أن تكون بأقدام السياسي، أو يسقط في خطاب أجوف.

ويبقى أن نشير إلى أن السينما العربية تبشر بدورها من خلال أعمال كثيرة مبتكرة في العشرية الأخيرة بولادة بصمة مختلفة، وربما كان ذلك بسبب الانفتاح التحرري والتشابك بشكل أجرأ مع الشأن السياسي والمجتمعي.

كاتب تونسي

 

العرب اللندنية في

01.06.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004