ملفات خاصة

 
 
 

الفيلم الفلسطيني "حمى البحر المتوسط": جمالية سينما تخطف "نظرة" كانّ

كان/ محمد هاشم عبد السلام

كان السينمائي الدولي

الخامس والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

بعد روائي أول لافت للانتباه، "أمور شخصية" (2016)، عُرض للمرة الأولى دولياً في برنامج "نظرة ما"، في الدورة الـ69 (11 ـ 22 مايو/ أيار 2016) لمهرجان كانّ السينمائي الدولي، عادت المخرجة الفلسطينية مها الحاج (1970) إلى البرنامج نفسه، في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) لمهرجان "كانّ" أيضاً، بفيلمها الروائي الثاني، "حمى البحر المتوسط".

في سيناريو (مها الحاج) مكتوبٌ بحِرفية وصدق (جائزة أفضل سيناريو في "نظرة ما" 2022)، ومع شخصيات حيّة مُقنعة ومرسومة بعناية، وخيوط حبكة تهتمّ بالتفاصيل الدقيقة، وفكرة عامة لا تخلو، بذكاءٍ، من الهمّ السياسي الفلسطيني، من دون تناول مُباشر، ولا من أبعاد فلسفية ذات عمق إنساني ـ نفسي أولاً، صاغت مها الحاج أفكارها بمهارة، ونجحت في اقتحام عالم الرجال، وطرح ماهية الصداقة بينهم، وكيف أنّ الضعف والهشاشة وعدم الاتزان من مكوّنات العالم الذكوري، في إطار عام يسبر معنى الحياة، وصعوبات الوجود والتأقلم معه، أو رفضه. وهذا كلّه من دون زيادات أو ترهّل أو ضعف، في الجوانب الفنية المختلفة، لتُرَسِّخ حضورها القوي كمخرجة، صاحبة مشروع صادق ومتنوّع، ورؤية لافتة للاهتمام، وتوجّه فني متميّز.

في "حمى البحر المتوسط"، تقدّم الحاج فيلماً كوميدياً أسود، مليئاً بالمفاجآت والانقلابات، وتبدّل المواقف، وتغيّر النفسيّات، وردود أفعال الشخصيات، في خيوط مُشوّقة، يصعب التنبؤ بها مُسبقاً، أو بأي اتجاه ستتطوّر وتنتهي. هناك اشتغالٌ ملحوظ في الحوار، الملائم جداً لكلّ شخصية، ويكاد لا يخلو أبداً من طرافة وكوميديا، رغم سوداوية الموضوع، ما ساهم في خلق حيوية وتدفّق، زاد منهما الاختيار الجيّد للممثلين، والإدارة الجيدة لهم.
تدور أحداث "حمى البحر المتوسط" في حيفا، مع وليد (عامر حليحل)، في منتصف العمر، روائيّ لم يكتب أول رواية له بعد، لكنّه يحاول، رغم تعثّره الواضح لأسباب عدّة، معظمها غير جليّ. يشعر وليد بأنّه يحمل ثقل العالم على كتفيه، وبأنّه في سجنٍ كبير (السجن الفلسطيني). منذ عامين، يُعاني اكتئاباً شديداً، يبدو مزمناً. لا يواظب على حضور جلسات العلاج، ويرفض تناول الدواء الذي تعطيه إياه طبيبته النفسية، لشعوره الراسخ بانعدام أي جدوى
.

رغم هذا، هو أبٌ مثاليّ في منزله. يعتني بنظافة المنزل، ويهتمّ بالطبخ، ويصطحب طفليه إلى المدرسة. أمورٌ تنشغل عنها زوجته، بسبب عملها الصعب ممرضة في مستشفى كبير. باختصار، إنّه رجل طيب وهادئ، يُحبّ زوجته وطفليهما، وعلاقته جيدة بوالديه، وليس هناك ما يوحي بغرابةٍ أو تطرّف أو عنف في سلوكه الحياتي، باستثناء مشاهدته الدائمة أخبار الداخل الفلسطيني، الباعثة على الحزن والكآبة، وتشدّده في تشجيع طفليه على التحدّث باللغة العربية لا العبرية، وجداله مع الآخرين بخصوص الهوية الفلسطينية.
نقيضه، جار جديد له يُدعى جلال (أشرف فرح)، انتقل حديثاً إلى الشقة المقابلة لشقّته. غير مهتمّ بالواقع الفلسطيني. يعشق المرح، ويعتنق اللامبالاة. رغم مُمانعة وليد وتحفّظه، في البداية، تعقد صداقة وثيقة بينهما، تدريجياً، مع أنّ اختلاف عالميهما واضح، فجلال، عامل البناء ظاهرياً، ينتمي إلى عالم الجريمة شبه المنظّمة، أي أنّه مصدر خطر. أمرٌ يجذب إليه وليد فور اكتشافه، بدلاً من أنْ يُبعده عنه. ذريعته كامنةٌ في رغبته في كتابة رواية عن عالم الجريمة والمجرمين، وجلال خير معين له في هذا
.

مع تطوّر الصداقة بينهما، تتضح الماهية الإنسانية الهشّة لجلال، أكثر فأكثر. بعيداً عن سلوكه الإجرامي وعالمه الخفي، وعن حياته المزدوجة، يبرز إخلاصه لصديقه الجديد وليد، وخوفه عليه وعلى حياته، وعلى وضعه المأزوم. تدريجياً، يُدرك جلال أنّ قصّة وليد تتغيّر باستمرار، وأنّ كتابة الرواية ذريعةٌ لشيءٍ أكبر وأعمق يُلح وليد في طلبه. تفشل المحاولات. لكنْ، بعد تعرّض جلال لضغوط مادية قوية، وضرورة تدبير مبلغ كبير في أسرع وقت، واكتشاف وليد أنه من محترفي صيد الخنازير البرية، وأنّه يبرع في استخدام بنادق الصيد، يواجهه بطلبه، ويُصرّ عليه لتنفيذه، كخدمة من صديق إلى صديق، لم يعد يرغب في الحياة.

يُشير عنوان الفيلم، "حمى البحر المتوسط"، إلى مرضٍ، تقول الطبيبة إنّ ابن جلال الأصغر مُصابٌ به. عندما سألها عن ماهية هذه الحمى، ردّت عليه بالقول إنّه موروثٌ، يقتصر على المنطقة التي يعيشون فيها، أي منطقة الشرق الأوسط. لا يهتمّ الفيلم بالمرض الجسدي للابن، فمرض حمى البحر الأبيض المتوسط، إجمالاً، إحالة أخرى إلى العبء السياسي والاجتماعي والنفسي لكون المرء فلسطينياً يعيش في حيفا خاصة، ومنطقة الشرق الأوسط عامة.

"حمى البحر المتوسط" إنتاج مشترك بين فلسطين، وقطر، وألمانيا، وفرنسا، وقبرص، وقد شارك في الإنتاج كل من:

ويشارك مجموعة من المنتجين في إنتاج الفيلم مجمعة من الشركات والمؤسسات بينها شركة ميتافورا، وثناسيس كرثانوس ومارتين هامبيل، ماريوس بيبريدس وجانين تيرلينج، كما أن العمل حاصل على دعم برنامج المنح التابع لمؤسسة الدوحة للأفلام.

 

العربي الجديد اللندنية في

30.05.2022

 
 
 
 
 

التحليل السياسى للجوائز ليس هو بالضرورة القراءة الصحيحة!

طارق الشناوي

أمس توقعت جائزة للفيلم البولندى الإيطالى المشترك (إيو)، وبالفعل حصل مناصفة على جائزة لجنة التحكيم الخاصة، حرص المخرج البولندى خفيف الظل مثل فيلمه جيرسى سكوليمسكى وهو على منصة مسرح (لوميير) أن يهدى الجائزة إلى الحمير (الست) الذين أدوا دور (إيو) وهم من نفس الفصيلة، اثنان من بولندا وأربعة من إيطاليا، وذكر أسماءهم الحقيقية كنجوم ينبغى الحفاوة بهم، كان المخرج قبلها عند افتتاح العرض الرسمى للفيلم، قد رفع على السجادة الحمراء صورة الحمار بجوار الأبطال مشيدا به، عندما ينجح المخرج عن طريق التصوير والمونتاج توظيف ردود فعل حيوان فى سياق السرد والتتابع، فهى قطعا أكبر شهادة ينالها على تفرده.

الفيلم الفائز بـ(السعفة الذهبية)، وهى الأهم، والتى تبقى طويلا فى الذاكرة، من نصيب الفيلم السويدى (مثلث الحزن) للمخرج روبن أوستلند بعد ان أشاد رئيس لجنة التحكيم الممثل الفرنسى الشهير فنسان لاندون بالفيلم الذى أجمع عليه كل أعضاء للجنة وهذه هى السعفة الثانية التى ينالها المخرج.

وتتابعت الجوائز، أفضل ممثلة كانت من نصيب بطلة الفيلم الإيرانى المعارض زارا أمير إبراهيم للمخرج على عباسى، (العنكبوت المقدس)، والفيلم تم تصويره خارج الحدود حيث يقيم المخرج فى الدنمارك وعدد من المشاهد الخارجية تم تنفيذها فى الأردن حيث تتشابه بعض الأجواء، المخرج الإيرانى أصغر فرهدى، عضو لجنة التحكيم، لا يملك قطعا توجيه الجائزة، كان لديه فيلم آخر إيرانى (ليلى وأخواتها) يتسابق معه ويحظى بمباركة الدولة الإيرانية، إلا أنه خرج خاوى الوفاض، والحقيقة أن الفيلم الذى تحميه مظلة الدولة، كان صاخبا فى حواره، يكرر المعلومة أكثر من مرة، إلى درجة الملل، ولا يستحق الجائزة، لأسباب فنية.

حرصت بطلة الفيلم الإيرانى المعارض زارا أمير على أن توجه جزءا من كلمتها باللغة الفارسية للشعب الإيرانى.

استحدث المهرجان جائزة اليوبيل الماسى (75) عاما، مثلما استحدث قبل 25 عاما جائزة اليوبيل الذهبى (50) عاما، وكانت من نصيب المخرج يوسف شاهين عن مجمل أعماله، وليست عن فيلم (المصير) الذى شارك وقتها فى التسابق، هذه المرة جاءت الجائزة للشقيقين البلجيكيين داردين (جون ولوك) هما يتشاركان معا فى إخراج كل أفلامهما، منحت لهما الجائزة عن فيلم (تورى ولو كيتا)، الذى يتناول قضية الهجرة غير الشرعية، لكن بزاوية أخرى وهى استغلال هؤلاء المهجرين من قبل عصابات تتاجر فى المخدرات واستغلال النساء، الفيلم يفضح بجرأة حق المهجرين فى حياة كريمة، بعيدا حتى عن صحة الأوراق، يتناول حياة صبى وأخته الكبرى يتعرضان لكل أنواع الابتزاز، والإذلال بسبب الخوف من مطاردة الشرطة.

الشقيقان (داردين) حصدا قبل ذلك (السعفة) مرتين عن فيلمى (روزيتا) و(الطفل)، وهما أكثر المخرجين فى العالم، ارتباطا بمهرجان (كان)، نحو عشر مشاركات فى المسابقة الرسمية، وقال المخرج جون داردين، على منصة التكريم، أنه استوحى فيلمه من شخصية حقيقية هاجرت إلى بلجيكا وذات صباح سأل عنها فاكتشف رحيلها ومن هنا بدأ الخيط الدرامى.

فاز أيضا الممثل الكورى الجنوبى سونج كانج بجائزة الأفضل عن فيلمه (بروكر)، أما الجائزة الكبرى والتى تلى (السعفة الذهبية) فى الأهمية، نالها مناصفة الفيلم البلجيكى (قريب) للمخرج لوكاس دونت والفيلم الفرنسى (نجوم الظهر) للمخرجة كلير دونى، هذه الأفلام وغيرها تستحق التوقف عندها فى مقالات قادمة، تبقى فى الحقيقة وقفة سريعة لنا عن تواجدنا بالمهرجان. فى بداية الحفل شاهدنا المخرج يسرى نصر الله صاعدا على المنصة يمنح جوائز الفيلم القصير فى اللجنة التى رأسها، وكان الناقد الشاب أحمد شوقى قد منح فى حفل آخر جوائز (الفيبرسكى) للنقاد، نترقب قطعا أن نتواجد بأفلامنا، وهو ما شاهدناه فى الأعوام الأخيرة مع أفلام (ريش) عمر زهيرى و(يوم الدين) أبوبكر شوقى و(اشتباك) محمد دياب، وعلينا ألا نسارع بتوجيه الاتهام للمخرج أو المنتج مثلما حدث العام الماضى مع (ريش)، وقبله أيضا مع (اشتباك)، الهجوم من الداخل على العمل الفنى لمجرد أنه يشير إلى سلبيات لا يخلو منها أى مجتمع، ليست قطعا لصالحنا. الجائزة التى كثر الحديث عنها فى (الميديا) هى أفضل سيناريو عن فيلم (صبى من الجنة) التى نالها المخرج سويدى الجنسية مصرى الجذور طارق صالح، الفيلم يمثل رسميا السويد بالمهرجان، من السهل أن تقرأ الجائزة سياسيا، وهو ما قد يفسر للوهلة الأولى، ولكنى لا أميل إلى تلك السهولة التى نشعر بعدها مباشرة بالارتياح.

قناعتى أن أضعف ما فى هذا الفيلم هو السيناريو لأنه غير قائم على رؤية واضحة للواقع وكان ينبغى دراسة وتوثيق كل المعلومات عن الأزهر الشريف، قبل الشروع فى كتابة السيناريو، يتناول الفيلم العلاقة بين مؤسسة الأزهر الشريف والدولة، باعتبارها علاقة متوترة بين قوتين، وهناك مبالغات متعددة، إلا أن هذا لا يعنى بالضرورة التعمد، أميل أكثر إلى غياب المعلومة عن لجنة التحكيم، ونكرر السؤال: هل الجائزة سياسية، ولجنة التحكيم انحازت لفيلم لأنه من الممكن توصيفه بالمعارض، أم أن هناك هامشا ما من الخطأ أن نتحمله جميعا وهو صورة مصر فى عيون الآخرين، هناك صورة ذهنية عند البعض، علينا تصحيحها.

قبل أقل من ثلاثة أسابيع شاركت فى مهرجان (مالمو) بالسويد واكتشفت من خلال أحاديثى العابرة أن هناك تشويشا على الصورة، لا ينبغى بالضرورة أن نتهم الآخرين بتعمد الإساءة، علينا أن نعترف بأن هناك تقصيرا إعلاميا شاركنا جميعا فيه، البعض مثلا يعتقد أن هناك رغبة فى السيطرة على قرار الأزهر رغم أن الدولة تريد الحرية للأزهر وتسعى فى نفس الوقت لتبنى وجهة نظر عصرية، بعيدا عن التشويش، الذى يلاحق الإسلام فى العالم.

نحن لا نقدم أنفسنا للعالم على الوجه الصحيح، علينا أن نعترف أولا بتقصيرنا، قبل أن توجيه الاتهام للآخرين، وهى قضية تستحق منا، كل فى موقعه، أن يعترف أولا بالمشكلة وبدوره فى إيجاد الحل.. ونواصل الأيام القادمة ما تبقى من رحلة (كان)!!.

 

المصري اليوم في

30.05.2022

 
 
 
 
 

مهرجان كانّ اختار الفائزين مخالفاً التوقّعات

كانّ - هوفيك حبشيان

انتهت أول من أمس الدورة الخامسة والسبعون ل#مهرجان كانّ ال#سينمائي (17 - 28 أيار). ولأن حدثاً مثل هذا لا ينتهى باختتامه، لا بل يبدأ مع وصول الأفلام إلى الجماهير العريضة والصالات المظلمة، فسنعود حتماً إلى تفاصيل تشكيلة غنية ومتنوعة من الأفلام التي لم نعاينها كلها، ولكن ما يهمّنا في هذه اللحظة هو لائحة الجوائز، وقراءة المهرجان بعيون أعضاء لجنة التحكيم بقيادة الممثّل فنسان لاندون الذين كرّموا عملاً للمخرج السويدي روبن أوستلوند مانحين اياه "السعفة الذهب" عن أحدث أعماله، "مثلث الحزن". هذا الفيلم نال استحسان اللجنة، على الرغم من عيبه المتمثّل في الجزء الأخير منه. تحلو لي أيضاً ترجمة عنوان الفيلم بـ"مثلّث التعاسة"، فالعالم الذي يصوّره المخرج تلفّه التعاسة من كل حدب وصوب، ولو أرادت الشخصيات انكاره أو اثبات عكسه بالكثير من التخبط الذي يتحول إلى سلسلة مهازل ويزيد جانبهم المضحك الذي يسلينا دائماً.

يبدأ "مثلّث الحزن" بزوجين أو حبيبين (الفيلم لا يحدد العلاقة) يعملان في عرض الأزياء. كلّ شيء بينهما يشي بأن العلاقة على شفير الانهيار. في هذا الفصل الأول الذي يحمل اسم هذين الشخصين، يباشر أوستلوند رسم بورتريه شديد التوتر لثنائي عصري، مع قدر من النيات المبيتة العزيزة على قلبه منذ "سائح". فجأةً، من دون أي علاقة بين الفصل السابق والفصل المقبل، نجد أنفسنا على متن يخت لكبار الأثرياء الروس وغيرهم من أصحاب الثروات التي لا تحرقها النيران، لكن قد تكون قابلة للغرق! سنتعرّف إليهم جميعاً، واحداً تلو الآخر. مَن اطلع سابقاً على سينما أوستلوند، لا بد ان يتكهّن ماذا يعني الابحار على متن سفينة مع مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال. بلى، رؤوس أموال، فهو لا يرى فيهم سوى مادة لصراع طبقي. فما بالك اذا كان قبطان السفينة نفسه (وودي هارلسون) ماركسياً!

لأكثر من نصف الفيلم، سنكون أسرى هذه السفينة التي ستبدو كأن لويس بونويل خطفها ليصوّر فيها "السحر الخفي للبورجوازية"، أو كأنه نسخة بحرية لـ"الوليمة الكبرى" لماركو فيريري، من دون ان يبلغ نزعات فوضوية تخريبية مشابهة. هذا كله يتحوّل تدريجاً إلى استعارة لعالمنا المعاصر، ويبحر في مكان ما بين تايتانيك وسفينة نوح. وبما ان الفيلم ساعتان ونصف الساعة ويحتاج بالتالي إلى مادة، فمصيبة تحدث (لن نكشفها) يضطر المسافرون على اثرها للجوء إلى الجزيرة. هناك يضعف الفيلم ويتعثّر ويفقد شيئاً من بريقه، نصّاً وإخراجاً وتمثيلاً وخطاباً، وخصوصاً ان لعبة أوستلوند تصبح مكشوفة: تبديل الأدوار. فمن كان خادماً على متن اليخت يصبح سيداً والسيد يصبح خادماً عندما تتساوى الحاجات البيولوجية بين البشر، والجميع يصبح عبارة عن أفواه.

***

فيلمان نالا "الغران بري" أو "الجائزة الكبرى": الأول "كلوز" للمخرج البلجيكي الشاب لوكاس دونت الذي ينجز فيلمه الثاني وهو في الحادية والثلاثين، علماً ان باكورته الروائية الأولى، "فتاة"، كانت قد نالت "الكاميرا الذهب" قبل بضع سنوات. فيلمه هذا نال استحسان جزء من الصحافة السينمائية، في حين بقي جزء آخر على مسافة منها. من خلال مقاربة ميلودرامية، يحاول دونت أن يلفت الانتباه إلى مسألة الاختلاف في المجتمع الأوروبي المعاصر، مستعيناً بقصّة طفلين يعانيان من النظرة السلبية تجاههما بسبب قربهما، أحدهما من الآخر. يصوّر دونت علاقتهما بالكثير من الجمال والعاطفة وصولاً إلى اللحظة التي لا عودة عنها والتي تتجسّد فيها مسألة الذنب والندم. يقول دونت ان الفيلم هو عن اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان ان لكل افعاله تداعيات ينبغي أن يتعايش معها إلى الأبد.

***

الفيلم الذي شارك دونت الجائزة هو "نجوم الظهر" للمخرجة الفرنسية كلير دوني التي تكبر دونت بنحو نصف قرن قدّمت خلاله عشرات الأفلام التي حملتها إلى أماكن عدة من العالم. هذه المرة قررت ان تموضع أحداث فيلمها في نيكاراغوا (صوّرته في بنما) بسبب عدم قدرتها على التصوير في المكان الذي تجري فيه الأحداث، لأسباب سياسية. يجد المُشاهد نفسه أمام مزيج غريب من الفيلم الإيروسي الثمانيناتي والـ"سيري ب" الذي كان رائجاً في مرحلة معينة، لكن دوني عرفت كيف تأخذه إلى مصاف آخر من خلال الصورة التي تولى التقاطها الكبير اريك غوتييه ومن خلال وجه الممثّلة مارغريت كوالي التي تصنع إيقاع الفيلم. أما الحكاية التي يستند اليها العمل، فهي عن صحافية أميركية تسرح وتمرح في مدينة يتنشر فيها العسكر عشية انتخابات، قبل ان تتعرف إلى انكليزي وتقيم معه علاقة تتطور إلى أشياء أخرى يمتزج فيها الاستخباراتي والعاطفي.

***

المخرج الكوري الجنوبي بارك تشان ووك استحق جائزة الإخراج بجدارة، هو الذي كان سبق ان نالها عن "أولد بوي". قال لي صديق فور خروجنا من الفيلم، إنه "إخراج بلا فيلم". وحسناً فعل المحكمون في رد الاعتبار إلى شغل واحد من كبار السينما الآسيوية. ففيلمه "قرار المغادرة"، يغرقنا حتى العنق في حكاية ملتبسة ومعقّدة يجرّها ووك لقطة بعد لقطة حتى الخاتمة. نعجب بمجمل ما يقدّمه من دون أن نفهم بالضرورة التفاصيل كاملةً، وهي كثيرة جداً ومتشعّبة جداً وغامضة جداً، باعتبارها تعود لترسم مسار الحكاية مرات ومرات. نعجب بالعناية بالشكل عند ووك، بالرؤية الفنية، بالهاجس الجمالي، بحسّ الإخراج، بخيار مواقع التصوير، بإشاعة مناخ من الغموض والترقب، وبمجموعة خيارات تنمّ عن ذوق رفيع في صناعة الفيلم. أما القصة فهي عن شرطي محقق ينجذب إلى مشتبه بها في قتل زوجها. فكيف سيتجاوز هذه المحنة الكبيرة على المستوى المهني؟

***

الجائزة التي صدمتنا هي تلك التي أُعطيت للمخرج السويدي من أصل مصري طارق صالح المشارك في المسابقة بـ"ولد من الجنة". عمل ضحل، مفتعل، متهافت، ذو بنية درامية مهزوزة، يحتاج إلى اعادة صوغ. تسنت لطارق صالح فرصة ان ينجز أول فيلم تدور أحداثه بالكامل في الأزهر، وهو المعقل الديني التاريخي الأبرز في العالم لنشر الإسلام وتعاليمه، لكن ما كان يمكن ان يكون مشروعاً يلقي الضوء على تفاصيل هذا العالم تمهيداً لقول أشياء لا نعلمها أو نطمح إلى رؤيتها على الشاشة، من مثل الصراعات العقائدية بين المتعصبين والمعتدلين في هذه المؤسسة التي بحسب الكثيرين تصنع الأصولية الدينية، حوّله صالح إلى فاصل ترفيهي على شكل ثريللر تجسسي يفتقر إلى الصدقية، متأثراً بـ"اسم الوردة". والأسوأ عندما قال في المؤتمر الصحافي انه يكره الإخراج!

***

الحمار كان "وجهه خيراً" على المخرج البولوني القدير يرجي سكوليموفكسي، اذ جعله ينال جائزة لجنة التحكيم عن فيلمه "هي هان"، العمل الغرائبي الذي يضع هذا الحيوان في قلب الأحداث، في تنويعة حديثة لـ"أو هازار بالتازار" لروبير بروسون، لكن العمل قد يكون ايضاً مانيفستو سياسياً، وهو في النهاية واحد من أجرأ الأفلام على الصعيد الشكلي. "الجبال الثمانية" للثنائي البلجيكي فليكس فان خرونينغن وشارلوت فاندرمرش، تشارك الجائزة بالمناصفة. الفيلم يحدث في إيطاليا ويروي المسار المشترك لشابين التقيا في الريف عندما كانا مراهقين ثم يلتقيان مجدداً بعد ثلاثة عقود لبناء بيت في المكان نفسه. عمل حساس نلمس فيه نزعة أدبية.

***

الجائزة التي استحدثتها لجنة التحكيم لمناسبة الدورة الخامسة والسبعين أُعطيت إلى المخرجين الأخوين لوك وجان بيار داردن اللذين يشاركان في كانّ للمرة التاسعة وينالان تاسع جائزة. بعد فيلمهما الضعيف، "الفتى أحمد"، يبدو ان الألهام عاد إلى أذهان الأخوين الملتزمين صاحبي مشروع اعطاء المهمّشين في المجتمع صوتاً وصورة. في جديدهما، "توري ولوكيتا" صوّرا محنة طفلين من بنين في بلجيكا المعاصرة. محنة ستشق طريقها إلى المأساة لأسباب كثيرة يكشفها الداردن بصراحتهما المعهودة وانسانيتهما التي لا يرتقي إليها الشك.

***

جائزة التمثيل واحدة من أكثر الجوائز المفتوحة على سباق الترجيحات. حتى في هذا، خالفت لجنة التحكيم التوقّعات، ففازت الإيرانية زار أمير إبراهيمي بجائزة أفضل ممثلّة عن دورها في "عنكبوت مقدّس" لعلي عباسي، في حين ذهبت جائزة أفضل ممثّل للكوري الجنوبي سونغ كانغ هو عن دوره في "بروكر" لكوريه إيدا.

***

في النهاية، معظم الجوائز ذهبت إلى سينمائيين من بلدين: السويد وبلجيكا. شمال أميركا خسرت، اذ لم ينل ديفيد كروننبرغ أو جيمس غراي شيئاً. الأخير كان يستحق على الأقل التفاتة. أما عمّا اذا كانت الدورة فخمة تليق بأول مهرجان يحتفي بعودة الحياة إلى طبيعتها في حقبة ما بعد الوباء، فهذا يحتاج إلى مشاهدة كلّ الأفلام في كلّ الأقسام التي تحوي أحياناً جواهر نكتشفها بعد حين في مهرجانات اخرى.

 

النهار اللبنانية في

30.05.2022

 
 
 
 
 

خاص "هي"- مهرجان كان 2022:

فيلم السعفة الذهبية "Triangle of Sadness".. انسَ كل ما شاهدته عن الطبقية

أندرو محسن - مهرجان كان

بنهاية مهرجان كان في دورته 75، قررت لجنة التحكيم برئاسة الممثل الفرنسي فينسينت ليندون، أن تضم المخرج السويدي روبن أوستلوند لنادي الحاصلين على سعفتين ذهبيتين، بمنحه الجائزة الأبرز في عالم السينما عن فيلمه "Triangle of Sadness" (مثلث الحزن)، بعد أن كان قد حصل عليها عن فيلمه السابق "The Square" (المربع) عام 2017، ليصبح المخرج التاسع الذي يحصل عليها مرتين.

في فيلمه السابق، أعاد أوستلوند النظر في مفهوم الفن المعاصر بشكل شديد السخرية وشديد الجرأة أيضًا، ليقف ببراعة شديدة بين الحد الفاصل من التقليل من هذه الفنون بشكل ركيك، وبين أن يترك المشاهد يعيد النظر بشكل مختلف فيها.

مثلما يبدو أن "المربع" يضع عنوانًا جانبيًا عن الفن المعاصر لكنه في الآن ذاته يتناول الإنسانية بشكل عميق من خلال هذه الموضوع، فإننا يمكن أن نضع عنوانًا آخر لـ "مثلث الحزن" وهو الطبقية. مرة أخرى يبدو موضوعًا حساسًا، وإن كان ليس موضوعًا بنفس طزاجة الفن المعاصر، بل نوقش كثيرًا من قبل. لكن هذا لا يسبب أي مشكلة لأوستلوند الذي يتناول هذا الأمر بأسلوبه الساخر فيجعلنا وكأننا نشاهد للمرة الأولى عملًا عن الطبقية.

كيف تنظر في إعلان الملابس؟

في المشهد الافتتاحي للفيلم، نشاهد مجموعة من عارضي الأزياء، في تجربة للأداء من أجل إعلان جديد. يتواجد شخص يُجري معهم عدة حوارات، ثم في النهاية يعرف الفرق بين نظرتك عارض الأزياء في الإعلان عندما يكون الإعلان لعلامة تجارية في متناول الجميع أو بيت أزياء يشتري منه عدد محدود. في الأولى يجب أن يبدو العارض مبتسمًا وينظر للكاميرا مباشرة، يدعو من يشاهد الإعلان للشعور بأن هذه العلامة مصنوعة له، ويُرغبه في الشراء للشعور بهذه السعادة البادية على وجهه. بينما في بيت الأزياء باهظ الثمن، لا ينظر العارض للكاميرا مباشرة ولا يبتسم، ويُشعر من يراه بأنه متعالٍ. في نهاية المشهد يطلب المحاور من العارضين أن يبدلوا الأوضاع بين ابتسامة المنتج العادي ونظرة العلامة الثمينة.

هذا المشهد هو تلخيص لفكرة الفيلم بشكل عام، مدخل لنظرة عميقة على مفهوم الطبقية والفارق في التعامل حتى في أبسط التفاصيل مثل إعلانات الملابس. ينقسم الفيلم لثلاثة فصول: الأول كارل ويايا، والثاني اليخت، والثالث الجزيرة، وفي كل فصل يفاجئنا أوستلوند بكيفية تناول الموضوع ببراعة.

من نقطة صغيرة، هي علاقة بين حبيبين، يعمل كلاهما في مجال عرض الأزياء، نبدأ في تناول فكرة الطبقية، كيف يتعامل كل منهما مع الآخر وكيف ينظران للعالم، ثم ننتقل في الفصل الثاني إلى نظرة أوسع، فحتى الأثرياء ينقسمون إلى طبقات، ويشعرون بالتفاوت والطبقية عندما يكونون في مكان واحد وهو ما نشاهده على اليخت الذي تكلف الرحلة عليه ثروة، فمن دفع ثمن التذكرة لا ينظر بتساهل إلى من حصلوا على رحلة مجانية. وفي هذا الفصل تتجلى أفضل مساحات الحرية والعبث في الفيلم، إذ داخل اليخت يجعل أوستلوند شخصياته من ذرة الفيشار التي تنفجر داخل قدر ذو مساحة محدودة على النار، جميعها تختلط ببعضها وتتقافز من مكانٍ لآخر. كانت اختيار الممثل الأمريكي الشهير وودي هارلسون في هذا الفصل تحديدًا بمثابة إضافة قوية لحالة الكوميديا في الفيلم.

في الفصل الأخير، الجزيرة، يضع المخرج تصورًا أخيرًا، هو كيف سيتعامل البشر الطبقيين بطبيعتهم مع وجود ضغوطات وعوامل استثنائية. لا يخلو الفصل الأخير من الكوميديا والتي تأتي بشكل أكبر هنا من الممثلة الفلبينية دوللي دي ليون، لكن ما يجعل الفصل الأخير أقل من سابقيه هو أنه من السهل توقع كيف ستؤول الأمور في النهاية، على العكس من بداية الفيلم.

كيف تصنع مشاهد خالدة؟

أكثر ما يميز أفلام المخرج السويدي -بجانب الكوميديا المختلفة- هي قدرته على صناعة مشاهد خالدة، تنطلق من أفكار شديدة البساطة ولا تبدو على الإطلاق بأنها تصلح لصناعة مشهد مختلف. في "المربع" نتذكر مشهد كَنس أحد العمال في المتحف لأحد المعروضات الموجودة على الأرض دون أن يعرف أنها قطعة من المعرض أساسًا.

في "مثلث الحزن" يصنع أوستلوند مشهدًا، لا أعتقد أنه سيفارق أذهان كل من يشاهده لفترة طويلة جدًا. يجلس كارل (هاريس ديكنسون) ويايا (شارلبي دين) على مائدة طعام في مطعم يبدو من المطاعم الفارهة. ينتهي الاثنان من تناول الوجبة، ثم يأتي وقت الحساب، وهنا يدور حوار سيمتد لدقائق طويلة تالية عن من يجب أن يدفع الحساب. هنا تتجلى براعة أوستلوند في صناعة حالة كوميدية لم نشاهدها من قبل من مجرد خلاف على من يدفع الحساب، ولا تتوقف عبقرية هذا التتابع عند طرافة الحوار، هذا الذي لا يزال يصب داخل الفكرة العامة للفيلم، لكنها أيضًا تتضح في كيفية صناعة تصعيد متواصل للمناقشة، في كل مرة نتوقع فيها أن الحوار انتهى ولا جديد يمكن إضافته هنا. يمكن القول إن هذا المشهد يجمع جينات الفيلم بأكملها.

هذه التفاصيل البارعة في بناء مشهد / تتابع، تتكرر بشكل أكبر في أحد مشاهد الفصل الثاني، اليخت، عندما يحضر ضيوف اليخت لعشاء على شرف القبطان، وهو ما ينذر في البداية ببعض الكوميديا بالطبع، لكننا مع نهاية المشهد سنعيد النظر في عبارة "بعض الكوميديا" إذ أن المخرج يحول هذا التتابع إلى كتالوج يضم أغلب أشكال الكوميديا الشهيرة، بين الفارص (المبالغة)، والكوميديا المقرفة (Gross out) التي تعتمد على عناصر مثل القيء لإثارة الضحك، وحتى البارودي (المحاكاة الساخرة)، إذ سنتذكر بشكل ما مشاهد من تايتانك.

رغم أن "مثلث الحزن" ربما لم يكن الفيلم الأفضل بشكل قاطع في مسابقة كان هذا العام، فإنه يظل أكثر الأفلام التي يصعب الخلاف على جودتها، وهو عكس الأفلام الأخرى في المسابقة التي ربما كانت أكثر جرأة في أفكارها وأسلوبها لكنها شهدت انقسامات حادة في الآراء حولها.

كاتب وناقد سينمائي

 

مجلة هي السعودية في

30.05.2022

 
 
 
 
 

«مثلث الحزن» للسويدي روبن أوستلاند: سفينة غارقة وفيلم تقطعت به السبل

نسرين سيد أحمد

كان ـ «القدس العربي» :بعد خمس سنوات من فيلمه «المربع» الذي فاز بالسعفة الذهبية عام  2017، عاد السويدي روبين أوستلاند إلى مهرجان كان (17 إلى 28 مايو أيار الجاري) ليتوج فيلمه  «مثلث الحزن» بالسعفة الذهبية لهذا العام، ولينضم أوستلاند لنخبة من المخرجين الذين فازوا بالجائزة المرموقة مرتين، مثل الأخوين داردن وكين لوتش.

كنا نتوقع من لجنة تحكيم يرأسها فانسان لاندون، الممثل اليساري الملتزم المهموم بقضايا العمال والعاملين في العديد من أعماله، أن ينحاز لعمل سياسي بامتياز، لاذع في انتقاده للأثرياء، وهذا تحديدا ما قدمه أوستلاند في «مثلث الحزن». منحت لجنة التحكيم أرفع جوائز المهرجان لفيلم يهزأ من كبار الأثرياء المتحكمين في مصائر البشر، ليرينا أن هؤلاء المتنعمين بأموالهم والمتحصنين بثرواتهم إن فقدوا مالهم لأصبحوا عالة على المجتمع، فلا مهارة لهم ولا قدرة على التعامل مع معترك الحياة.

في نهاية دورة حافلة، حصل على السعفة فيلم يتعامل مع قضايا تعبر عن روح عصرنا الحال، مثل هؤلاء ممن يطلق عليهم اسم «الإنفلونسر» أو المؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي، والذين يحققون ثراء فاحشا لا لمنفعة يقدمونها للعالم بل لمجرد حصولهم على إعجاب الملايين المتابعين.

في «المربع» قدّم أوستلاند رؤية ساخرة لاذعة الانتقاد للنخبة الثقافية في بلاده السويد، ولعالم الفن التشكيلي فيها. وفي فيلمه الجديد «مثلت الحزن» يواصل أوستلاند سخريته من الصفوة المادية والاقتصادية في العالم، من هؤلاء الذين يمضون أيامهم في ترف على متن اليخوت الفاخرة.

كنا ننتظر من أوستلاند فيلما على القدر نفسه من الذكاء والسخرية اللاذعة والحبكة المتماسكة التي شاهدناها في «المربع» أو على الأقل كنا نتوقع من أوستلاند الإجادة والقوة نفسها والتماسك نفسه الذي شاهدناه في فيلميه «المربع» و»قوة قهرية». لكن الفيلم جاء باهتا مكررا، مع بعض ومضات الذكاء والخفة والسخرية، التي كنا نأمل أن تكون الطابع المميز للفيلم بأسره.

يبدأ الفيلم بصوت مذيع لا نراه يجري حوارا مع عدد من الرجال العارضين لمنتجات العديد من دور الأزياء الكبرى وبعض سلاسل الملابس متوسطة المستوى. ثمة فارق كبير بين أسلوب العارضين في التعامل مع منتجات دور الأزياء الكبرى والمنتجات متوسطة المستوى، فارق يضحكنا بأسلوب أوستلاند الساخر المعتاد، من النظرة المتعالية المادية التي تهيمن على المجتمع. إثر ذلك ينتقل التركيز إلى أحد العارضين، وهو كارل وصديقته، وهي أيضا عارضة ونجمة من نجوم إنستغرام، لديها ملايين المتابعين، وتحصل على أموال طائلة مقابل الترويج لبعض المنتجات عبر صفحتها. ينشب خلاف بين كارل ويايا في أحد المطاعم الأنيقة، ويدور نقاش ذكي حاذق بين الاثنين، يتسم بسخرية أوستلاند المعهودة من النسويات وتعاملهن مع المال والرجال.

يسقط أوستلاند في «مثلث الحزن» في فخ المباشرة والتوعوية الأخلاقية، لكننا لا يمكن أن ننكر حس السخرية اللاذع لديه، الذي نرى منه ومضاته، التي تجعلنا نضج بالضحك ونتناسى ما في الفيلم من سقطات.

في تلك المرحلة من الفيلم كنا نتوقع أن أوستلاند يمهد لنا الطريق لفيلم يصوب انتقاده إلى عالم الأزياء والعارضين ومؤثري الإنستغرام، وليته كان قد اكتفى بالتركيز على هذا العالم، مثلما ركز على عالم الصفوة الثقافية في «المربع». لكن أوستلاند يقرر أن ينقلنا إلى مرحلة جديدة في الفيلم تدور على متن سفينة رحلات فاخرة تجوب البحار، وعلى متنها مجموعة من كبار الأثرياء في العالم.

تقل السفينة نماذج مختلفة من أثرياء العالم، من بينهم الروسي، الذي جمع ثروة طائلة من بيع روث الحيوان كسماد، وهو فوضوي عالي الصوت يكثر في الشراب. وهناك الإنكليزي الأنيق وزوجته، اللذان يتضح لاحقا أنهما حققا ثراءهما من صناعة القنابل والألغام الأرضية، وهناك أيضا قطب التكنولوجيا الذي جمع ثروته من إنتاج تطبيقات الهاتف المحمول. يقدم أوستلاند إذن نماذج مختلفة ممن يتحكمون في الثروة والسلطة في العالم، ويوضح لنا كيف يتعاملون مع الفقراء، متمثلين في طاقم الضيافة والتنظيف في السفينة. لا يحمل أوستلاند الكثير من الاحترام لهؤلاء الأثرياء، ويسخر من استغلالهم وجشعهم ومظاهرهم الزائفة.

يعري أوستلاند هؤلاء الأثرياء من هالة التمجيد والمهابة التي يحيطون بها أنفسهم محتمين بثرائهم الفاحش، فنراهم حرفيا متمرغين في الأوحال والفضلات والقيء. ويفضح أوستلاند أيضا ديناميكيات التعامل بين الأثرياء والعاملين على السفينة. فطاقم الضيافة على هذا اليخت الفاره يطيع الأثرياء وينفذ رغباتهم، ليس احتراما لهم، إنما للحصول على منافع مادية لخدمتهم. تتحول السفينة إلى صورة مصغرة للعالم بأثريائه الذين يأمرون فيطاعون، والفقراء الذين يحملون في قلوبهم غضبا دفينا من هؤلاء الأغنياء، حنقا يضع قناع الطاعة، وينتظر اللحظة المواتية للانفجار. يضع أوستلاند تلك السفينة تحت إمرة قبطان يساري سكير، يتهرب من قيادة السفينة التي تواجه عاصفة عاتية، كما تواجه صراعا طبقيا بين الركاب وطاقم السفينة.

ربما لو أنهى أوستلاند الفيلم على تلك الخاتمة، على السفينة التي تواجه الغرق، بينما يتصارع أثرياؤها وفقراؤها، لأصبح الفيلم أكثر قوة وتماسكا وألذع سخرية. لكن أوستلاند يصر على أن ينقل الفيلم إلى مرحلة جديدة، فيصبح الفيلم مترهلا ثرثارا ويفقد قدرا كبيرا من زخمه. هذه المرحلة الأخيرة في الفيلم هي الجزيرة، التي تتقطع السبل بركاب السفينة، من أثرياء وعمال، على أرضها بعد غرق يختهم الفاخر. في الجزيرة يؤكد أوستلاند، ربما لحد الملل، ما قاله في الأجزاء السابقة من الفيلم. يصاب الفيلم بالتكرار المعيب، ويفقد روحه الساخرة، ليصبح قصة متوقعة للصراعات بين من حطوا على أرض الجزيرة. تنقلب موازين القوة على الجزيرة، فمال الأثرياء لا ينفعهم أمام الافتقار للمهارات اليدوية من صيد وقنص وإيقاد نار، تلك المهارات التي يمتلكها من كانوا يعملون في الطهي والتنظيف على متن اليخت الأنيق. يتحول الفيلم لما يشبه الوعظ أو الدرس الأخلاقي من مخرج اعتدنا منه الذكاء والسخرية في إيصال رسالته.

يسقط أوستلاند في «مثلث الحزن» في فخ المباشرة والتوعوية الأخلاقية، لكننا لا يمكن أن ننكر حس السخرية اللاذع لديه، الذي نرى منه ومضاته، التي تجعلنا نضج بالضحك ونتناسى ما في الفيلم من سقطات.

 

القدس العربي اللندنية في

30.05.2022

 
 
 
 
 

إيران تعترض على منح جائزة لممثلة إيرانية في مهرجان كان

باريس/ العربي الجديد

أعلنت إيران، اليوم الاثنين، رفضها منح جائزة في مهرجان كان، الأسبوع الماضي، لفيلمٍ يدور حول قاتل متسلسل يستهدف عاملات الجنس في مدينة مشهد الإيرانية، ووصفت الجائزة بأنّها "منحازة وسياسيّة"، بحسب وكالة فرانس برس.

وكانت الممثّلة الإيرانية زهراء أمير إبراهيمي قد فازت بجائزة أحسن ممثلة في مهرجان كان السينمائي يوم السبت الماضي، عن أدائها في فيلم "عنكبوت مقدس" للمخرج الدنماركي الإيراني علي عباسي.

ومنحت الجائزة لإبراهيمي، التي غادرت إيران بعد حملة تشهير طاولت حياتها العاطفية، عن دورها كصحافية تحاول حلّ جرائم القتل المتسلسلة لعاملات الجنس في مدينة مشهد المقدّسة في إيران.

بحسب "فرانس برس"، انتقدت منظمة السينما الإيرانية، التابعة لوزارة الثقافة، خيار لجنة التحكيم، واتهمت المهرجان بـ"ارتكاب فعل سياسي منحاز عبر الإشادة بفيلم كاذب ومثير للاشمئزاز".

وقالت المنظمة في بيان رسمي، إنّ الفيلم يعرض "صورة مشوّهة عن المجتمع الإيراني ويهين علانية معتقدات المسلمين الشيعة".

ورأى البيان أن الفيلم "يتبع المسار نفسه الذي سلكه سلمان رشدي في الآيات الشيطانية"، في إشارةٍ إلى الكاتب البريطاني الأميركي من أصل هندي والحائز على جائزة بوكر.

وكان المرشد السابق لإيران آية الله روح الله الخميني قد وصف كتاب رشدي في العام 1989 بأنّه "تجديفي"، وأصدر فتوى تدعو إلى قتل كاتبه.

استوحى فيلم "عنكبوت مقدّس" أحداثه من قصّة حقيقيّة لرجلٍ من الطبقة العاملة واظب على ملاحقة عاملات الجنس في مدينة مشهد وقتلهن خلال السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، وصار يعرف باسم العنكبوت القاتل.

وكانت بطلة الفيلم زهراء إبراهيمي قد بدأت مسيرتها المهنيّة في إيران، لكنّها اضطرت إلى ترك البلاد بعد تسريب فيلم جنسيٍ زعم أنّها تظهر فيه مع صديقها على الإنترنت في العام 2006.

 

العربي الجديد اللندنية في

30.05.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004