ملفات خاصة

 
 
 

عندما يعرض المهرجان فيلمًا لثلاثة فقط من الجمهور!

طارق الشناوي

برلين السينمائي الدولي

الدورة الثانية والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

كثيرا ما أعتذر عن تلبية دعوة العروض الخاصة، لإحساسى أن من فى صالة العرض ليسوا هم الجمهور المستهدف، شرعية المشاهدة جزء حيوى فى تلقى واستيعاب الفيلم، بينما جمهور العروض الخاصة هم مجموعة يتم انتقاؤها غالبا من الأصدقاء، بطبيعة الأمر وبدون حتى تعمد، هم منحازون لكل المشاركين فى العمل الفنى، وهناك أيضا نوع آخر من العروض، وهى المحدودة جدا المقصورة على المخرج وربما فريق العمل، مع عدد منتقٍ من المتخصصين، يسترشد بآرائهم، وتلك أيضا تفتقد نكهة المشاهدة.

ويقف كحلقة متوسطة عروض المهرجانات التى تجمع بين الجمهور الخاص وهم ضيوف المهرجان، وأغلبهم من الصحفيين والنقاد والإعلاميين، وجمهور أهل المدينة، والقسط الأكبر منهم، قطعا، من عشاق السينما المتيمين، شاهدت فى قسم المنتدى الفيلم الألمانى (الموت مع أمى) للمخرجة جيسكا شوماخر.

الفيلم حميم جدا عن علاقة بين امرأة وأمها، حيث تقف الأم على حافة الموت وتطلب الموت الرحيم، والابنة تطالب به رحمة بأمها، لكن القانون لا يسمح، إلا طبقا لشروط محددة علميا لا تتوافق مع حالة الأم. قبل أن أواصل معكم الفيلم أتوقف عند قضية شروط المشاهدة، فى هذه الدورة التى أراها استثنائية بكل المقاييس.

قبل أن يسمح لك بدخول الصالة عليك أن تقدم ما يفيد الحجز عبر (النت)، والتأكد من نتيجة المسحة بخطاب موثق يشير إلى سلبيتك، بعد ذلك أمامك طابور آخر لتضع سوارا يتجدد لونه يوميا وتاريخه يتيح لك التحرك بحرية، فى كل ردهات المهرجان 24 ساعة فقط، ورغم ذلك قد لا يكتفى بمقارنة اسمك على الكارنيه مع جواز السفر يجب أن تكون دائما جاهزا بالأوراق، كل شىء معد بالتفصيل الصف ورقم المقعد ولا شىء أبدا للصدفة، يطلبون الحضور قبلها بنصف ساعة، لكنى تواجدت قبل العرض بربع ساعة فقط، وتوقعت الزحام، دخلت الصالة ولم أجد غيرى، ورغم ذلك التزمت برقم الكرسى، وقبل دقيقة واحدة حضر فقط شخصان، بينما مقاعد السينما فى الحدود الدنيا تتجاوز رقم 500، من الذى اختار دار عرض بهذا الاتساع، حيث إن هناك دار عرض أصغر تصل فقط لـ100 كرسى، واضح أن تعليمات إدارة المهرجان صارمة تقضى بضرورة العرض ولو لمتفرج واحد، هذا ما أكدته لى الموظفة المسؤولة عن تنظيم العروض، لا يلغى الفيلم إلا فى حالة واحدة وهى أن يأتى الموعد ولا يحضر أحد. المشاهدة على هذا النحو تبدو مضللة جدا وغير صحية، السينما كوسيلة مصنوعة من أجل المشاهدة الجماعية التى تشكل على الأقل 50 فى المائة من متعة تلقى العمل الفنى، التفاعل ليس فقط بينك وبين الشاشة، لكن هناك العنصر الثالث، وهو الجمهور، وعندما يغيب المتفرج تغيب المتعة، هناك تواصل لا شعورى تفرضه الصالة المظلمة على الجمهور المتباين فى مشاعره وأفكاره، لكن لغة الشاشة هى التى يتوحد عندها الجميع.

(القتل الرحيم) قضية عالمية بعض الدول أقرت بها بشروط، فى عالمنا العربى محرم شرعا، الأسباب قطعا مفهومة وأيضا مقدرة.

فى مستشفى يستقبل الحالات الحرجة تعيش الابنة مع أمها ونرى عشرات يقفون على نفس الحافة، يظل هناك أمل، يلوح من بعيد، الأم والابنة يطلبان المورفين لتخفيف الألم، ويبدأ الطبيب بشريط لاصق على موضع الألم، وكما فهمت من سياق السيناريو أنها خطوة أولى، وعندما ينتصر الألم يبدأ السيناريو الثانى الحقن بدرجات تصاعدية فى قطرات المورفين، الموت قد يراه الطبيب قريبا بعد دقائق أو ساعات، سر الحياة والموت أكبر من تقدير كل العلماء.

حتى اللحظة الأخيرة لا يتوقفون عن محاولة إعادة الشغف بالحياة. على بعد خطوات من حجرة بطل الفيلم نرى صالة بها آلات إيقاعية تقدم ضربات صاخبة وكأنها تستدعى من خلالها روح الحياة توقظها من غفوتها، والكل يشارك فى الرقص، وبالطبع هم لا يستطيعون الحركة، واقعيا، تشعر بنظرات بعيونهم ترقص، حتى من هم على المقاعد المتحركة، يلوحون بأيديهم مع الإيقاع، الجسد يقاوم الموت بالرقص، نعم إنها حقيقة ـ ولهذا تتداخل الأصوات التى نراها فى الصالة مع بطلة الفيلم ويتحول فى النهاية العنوان من (الموت مع أمى) إلى أغنية تتردد بكل بهجة وسعادة (الرقص مع أمى).

اختارت الأم كل تفاصيل الجنازة، حتى الصندوق الأسود كان استجابة لطلبها، الموت هل يعنى النهاية؟ هذا هو السؤال، تعثر على الإجابة فى (تتر) النهاية والموسيقى تدعونا جميعا للحياة، فهى أقوى سلاح يواجه الموت. وانتهى الفيلم وبقى فى ذاكرتى تلك اللمحة التى لا تنسى، هل كانت تفرق لو وجدت الصالة ممتلئة بالجمهور؟ نجحت المخرجة أن تنسينى تماما أننى شبه وحيد فى دار عرض، ولو كانت الجماهير حاضرة فلن أشعر أيضا بوجودها أمام حميمية هذا الشريط، الذى ضرب فى مقتل كل قواعد المشاهدة التى اعتقدنا أن الفيلم يفقد شرعية وجوده بدونها!!.

tarekelshinnawi@yahoo.com

 

المصري اليوم في

13.02.2021

 
 
 
 
 

عد إلى الرماد”.. الشقاء والحب والموت

أمير العمري- برلين

يظل أجمل الأفلام وأكثرها بقاء في الذاكرة من تلك التي شاهدناها حتى الآن من أفلام مسابقة مهرجان برلين السينمائي (10-20 فبراير) هو الفيلم الصيني “عد إلى الرماد” Return to Dust سادس أفلام المخرج لي رويجون Li Ruijun (38 سنة). إنه بمثابة إحياء لتيار السينما الصينية الجديدة الذي بدأه في الثمانينيات، تشين كايجي (الأرض الصفراء)، وجانغ ييمو (الذرة الحمراء)، ووصل هذا التيار إلى ذروته في التسعينيات. إنه ينتمي بالكامل إلى الإنتاج المستقل في الأفلام الصينية بعيدا عن الأفلام التجارية التي تصنع للضخ في شبكات العرض السينمائي الضخمة في المولات التجارية في المدن الكبرى. إنه عودة إلى سينما الشعر، كما أنه يعبر أفضل تعبير، عن سينما المؤلف صاحب الرؤية الفنية بملامحها الخاصة.

من جهة أخرى، يعتبر الفيلم أيضا عودة إلى الصين التي لا يعرفها أحد، إلى الريف الصيني في منطقة نائية تقع في شمال البلاد. وأهم ما يميز هذا الفيلم البديع حقا، ذلك المستوى الإنساني الذي يجعله يلمس مشاعر الناس في كل مكان، فهو يخاطب كلا العقل والعاطفة، ويكثف الحس الإنساني، ويعبر بمفردات الشعر السينمائي: التكوين والصمت، الحركة البطيئة للكاميرا والموسيقى، الاختيار الدقيق للأماكن، مع وجود الإنسان باستمرار داخل اللقطة الواحدة، جنبا إلى جنب مع الحيوان (الحمار) ومع الدجاج والكلاب والخنازير والعصافير، والأهم في قلب الطبيعة، فالإنسان نفسه هو جزء من الطبيعة، وبطل الفيلم، ذلك القروي الصامت الحزين المقهور عبر القرون، عندما يتحدث فهو يتحدث عن أهمية عدم إيذاء الطبيعة، ويسعى جاهدا إلى إنقاذ أعشاش الطيور الصغيرة من الدمار.

ورغم أن الفيلم يدور حول العلاقة الإنسانية بين رجل وامرأة في ظروف شاقة، إلا أنه في الوقت نفسه، تعبير بليغ وشجي عن الاحتجاج، ضد القهر وضد التفرقة وضد هدم القديم لصالح الجديد الذي يخدم شركات المقاولات ويضر بالفلاح. وليس من الممكن استقبال الفيلم سوى على أرضية ما يجري من “تحديث” في الصين حاليا، على حساب الكثير من الضحايا، كما أنه يوجه نقدا مستترا بعض الشيء، للبيروقراطية الحكومية، ويكشف على نحو ما، ارتباط المصالح بشبكة الفساد والتربح على حساب كل قيمة إنسانية.

النقد الاجتماعي والسياسي يوجد هنا على هامش الموضوع الرئيسي أو الفكرة الأساسية، وهي حاجة الإنسان إلى التواصل، وكيف يمكن أن ينشأ الحب بين شخصين لا يبدو أن هناك ما يجمعهما، ثم كيف تخلق التجربة الشاقة، كل ما ينمو من تعاطف إنساني نبيل ورفقة إنسانية، من خلال البناء والإبداع معا، والدخول في علاقة جدلية شاقة مع الطبيعة نفسها وترويضها وتحويلها إلى تربة خصبة صالحة للإنتاج.

إن “مايوتي” هذا الفلاح الفقير البائس الذي يتمتع رغم بؤسه، بنبل حقيقي، هو آخر من بقى من أفراد أسرته من دون زواج، وقد مات جده ووالده وشقيقاه اللذان يطلق عليهما الذهب والفضة، أما مايوتي فاسمه الرمزي حسب التقاليد الصينية، هو “الحديد”. يتم ترتيب زواجه من فتاة هي “شاو غوينغ” تجاوزت سن الشباب لكنها أيضا، شبه معوقة، تعرج بساقها وتسير بصعوبة، كما أنها تعاني منذ طفوتها من التبول اللاإرادي. إنها الأشد فقرا في عائلتها. بينما مايوتي هو ذلك الشخص المنطوي بسبب ما تعرض له كثيرا في الماضي من الإيذاء والسخرية. يتم الزواج بين الاثنين. ويعيش الزوجان معا حياة شبه صامتة في البداية. يعملان معا ويشقان طريقا صعبا في الحياة، مع الطبيعة، ومع الأرض. ثالثهما هو الحمار الوحيد الذي يمتلكه مايوتي ويسخره في النقل والانتقال والحرث والحصاد، وهو موجود في غالبية مشاهد الفيلم كشخصية رئيسية، ينظر ويرنو ويستمع وينصت ويتعلم ويطيع ويحزن.

يذهب الاثنان معا، إلى مقابر عائلة مايوتي: يحرق الرجل أوراقا ترمز إلى أوراق النقد، يهديها إلى الراحلين لإنفاقها في الحياة الآخرة، في تقليد صيني سنوي قائم بالفعل، يصعد الاثنان إلى قمة تلة من الرمال، يقاومان البرد الشديد في الليل، تأتيه هي بالماء الساخن وهو يعمل، ليشرب. لكنه يصر أن يجعلها تشرب قبله. التعاطف الإنساني يقرب بينهما. هنا مشاعر صامتة، لكنها عميقة صادقة. إنهما يرقدان بجوار بعضهما لكن لا تلامس يحدث ولا جنس بل فقط مشاعر الحنان والتضامن الإنساني والود والاحساس المتبادل والحب العميق.

مسؤول الصحة في القرية يجمع الأهالي ثم يخبرهم بأن الرجل الثري الذي يعمل لحسابه الفلاحون في أرضهم التي يؤجرونها له على أن يتقاسموا الريع، على وشك الموت في المستشفى، وهو في حاجة إلى نقل دم، وأن مايوتي الطيب القلب المنطوي الخجول، هو الوحيد في القرية الذي تصلح فصيلة دمه للنقل إلى ذلك الثري. يثور الأهالي، فكيف يطلب منهم انقاذ الرجل الذي رفض أن يمنحهم حقوقهم. يأتي ابنه الشاب ويزعم أن الحصاد كان سيئا كثيرا هذا العام ولم يتمكنوا من بيع المحصول حتى الآن، ويعد بإعطاء كل ذي حق حقه عندما تتحسن الأمور.  يوافق مايوتي على أن يذهب معه للتبرع بالدم لوالده وهو ما يتكرر كثيرا فيما بعد.

مايوتي يريد أن يشتري لها معطفا من البلدة القريبة، لكن البائعة تطلب مبلغا ليس في حوزته. يلمحه ابن الرجل المريض يشتري المعطف ويصر على أن يعطيه له لكن مايوتي يؤكد له أنه سيعتبره على سبيل القرض. وهو يذهب ويقترض بعض المال أيضا لكي يبني بيتا يليق به وبزوجته، ثم يقترض عشرة بيضات. وعملية بناء المنزل من أهم مشاهد الفيلم حيث يشترك الاثنان معا في كل شيء. مايوتي يعجن الطين ويصبه في القوالب الخشبية ليصنع منه قوالب الطوب، ثم يرصه حتى يجف ولكن تهب عاصفة وتسقط الأمطار الغزيرة، فتسرع تشاو لتغطية الطوب بأكياس بلاستيكية، في صراع مع غضب لطبيعة.

بعد أن يكتمل بناء البيت، تريد السلطات هدم البيوت القديمة وتعويض السكان بملغ مالي، على أساس انها تريد انشاء بيوت جديدة حديثة للفلاحين. يتم إزالة المنزل وينتقل مايوتي وتشاو إلى منزل مؤقت، ويمتلكان قطعة الأرض التي يزرعانها ويحصدان القمح، ويحملان القش فوق العربة الخشبية التي يجرها الحمار المسكين الذي يقوم في صمت بكل الأشغال الشاقة عبر الفيلم كله، في صمت بليغ حقا. يربيان الدجاج، والخنازير، ويعيشان حياة أفضل عن ذي قبل، وهكذا تستمر عجلة الحياة، ويزداد الشعور بالود ويتحول إلى حب شديد، وتمسك وقبول وتحمل لكل طرف من جانب الطرف الآخر.. وعندما يقبض مايوتي المبلغ الذي تمنحه له الحكومة تعويضا على بيته الذي هدمته، يذهب لرد المال مو العلاقة وعندما يبيع حصاد القمح الى ابن الرجل الثري (شبيه الاقطاعي في القرية) يطلب منه خصم ثمن المعطف الذي أعطاه له، ويقبل الرجل بكل برود رغم دهشته. فهو وغيره أيضا، يعتبران مايوتي شخصا أحمق.

خلال مسار الفيلم، لا يتجاهل مخرجه قط، الاهتمام الشديد بالجماليات. إنه يستخلص أقصى ما يمكن أن يمنحه المكان، من حيث الضوء والصمت، الظلام والمطر والعواصف والرمال. إنه يصل إلى درجة الشعر في السرد وفي خلق العلاقة البصرية بين الرموز والإنسان، بين الحياة والموت، وبين الحب والصمت والتعبير البليغ من خلال نمو العلاقة في هدوء ورصانة وتحمل.

يجعل المخرج بطله الممثل العملاق “رنلين وو” في دور “مايوتي”، يهبط التلال ويحمل المشاق فوق كتفه، يخوض في الطين والوحل والبرك المائية، ويأكل من التراب فعندما تسقط قطعة من الطعام على الأرض تنهره زوجته عن تناولها لكنه يلتقطها ويقول لها إن التربة هي أصل كل شيء، ولا يجب أن ننفر منها بل يتعين أن نعاملها بحب لكي تحبنا وتغدق علينا. إنها الحكمة الصينية القديمة.

كذلك تتحمل الممثلة البديعة “هايك وينغ” عبئا ثقيلا تحمله على كتفيها طوال الفيلم في ظروف شاقة، وهي التي قامت بدور “تشاو غوينغ” المتلعثمة المضطربة التي بدت في البداية صامتة، عاجزة عن التعبير، ثم تدريجيا اكتسبت ثقة في نفسها بعد أن شعرت بحب مايوتي لها وعطفه الكبير عليها وتعاطفه الإنساني الودود معها. إن الحب الحقيقي الذي يترجم في مواقف إنسانية نبيلة.

السلطات تعرض شقة حديثة على مايوتي لكنه يتساءل: وأين سيذهب الحمار والخنازير والدجاج والأرض؟ وكيف سيمكن لفلاح مثله أن يعيش في شقة من الأسمنت المسلح في عمارة سكنية حديثة بعيدة تماما عن الطبيعة وعن المجال الذي يوفر له العيش. و”كيف يمكن أن يعيش الفلاح من دون الأرض؟”. ولكن الحياة مقابلها الموت. وموت تشاو في الفيلم يأتي موتا عبثيا عرضيا لا معنى له شأن معظم النهايات. وبعد موتها لا يعود لحياة مايوتي معنى. فهو ينزل الصورة الرمزية الذي علقها على الجدار تكريما لها ويضع بدلا منها صورتها مجللة بالسواد، يطلق سراح الحمار، ثم يرقد دون أن ينهض. وسيأتي قريبه الوحيد صاحب التطلعات الطبقية لكي يتخلى عن البيت للسلطات تهدمه مقابل حصوله على الثمن.

يستخدم المصور اللقطات البعيدة للإحاطة بجمال المناظر الطبيعية وتبدلها عبر الفصول، فالفيلم يعبر عن تواتر فصول السنة من خلال التغير في مزاجية الصورة ألوانها وتكويناتها.. وتعتبر الطبيعة جانبا رئيسيا في قلب الفيلم نفسه، وكما أنه ليس من الممكن تجريد الطبيعة من الانسان، كذلك لا يمكن تجريد الفالح من الطبيعة.

ربما تكون الملاحظة السلبية الوحيدة من جانبي تتعلق باستخدام الموسيقى وهي هنا موسيقى غربية كلاسيكية، وكان الأفضل دون أدنى شلك، استخدام الموسيقى الشعبية القروية بالآلات التقليدية، فهي الأكثر انسجاما مع طبيعة الفيلم. وليس معنى هذا أن الموسيقى المستخدمة لم تنجح في خلق الإحساس بالمشاعر في مواجهة النفس ومواجهة الطبيعة.

إننا أمام تحفة بصرية وتمثيلية جديرة بالجائزة الكبرى في مهرجان برلين. ولكن الأفلام العظيم ليست هي التي تقتنص-عادة- الجوائز في مهرجان برلين بكل أسف.

 

موقع "عين على السينما" في

13.02.2021

 
 
 
 
 

مهرجان برلين 2022 ـ

فيلم Rabiye Kurnaz vs. George W. Bush.. تصور مخفف لآلام غوانتانامو

أندرو محسن

رغم مرور أكثر من 20 عامًا على تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، فإن آثارها لم تزل باقية إلى الآن، ولا يبدو أننا سنتوقف عن زيارتها سينمائيًا. في العام الماضي عرض مهرجان برلين في قسم البانوراما الفيلم الألماني "Copilot" (طيار مساعد) إخراج آن زهرة بيراشد، والذي تابع التحول المفاجئ لشاب جامعي ينتهي به الأمر لأن يصبح أحد المشاركين في تنفيذ تلك الهجمات.

في مسابقة دروته 72، يضم مهرجان برلين فيلم "Rabiye Kurnaz vs. George W. Bush" (رابي قرناز ضد جورج دبليو بوش) للمخرج الألماني آندريس دريسدين، والذي يتناول شخصية أخرى قريبة من أحداث 11/9.

أحداث الفيلم مبنية على قصة حقيقية. مُرات قرناز كان أحد المشتبه فيهم بعد تفجيرات مركز التجارة العالمي، واقتيد لاحقًا لمعتقل غوانتانامو، سيئ السمعة. رغم عدم وجود إدانة ضده فإنه ظل معتقلًا لأكثر من 5 سنوات، قبل أن يُفرج عنه في عام 2006. خلال أحداث الفيلم نتابع رحلة أمه، رابي قرناز، تركية الأصل التي تحيا في ألمانيا، وتتواصل جهودها للإفراج عن ابنها بمصاحبة المحامي برنارد دوكر.

الفيلم في بعض مشاهده أشبه بأفلام المحاكم (Courtroom films) بخلاف أننا لا نشاهد إلا القليل جدًا من المشاهد داخل قاعات المحكمة، لكننا نحتفظ بأجواء جمع الأدلة ومقابلة الكثيرين لتصعيد القضية بشكل مستمر لحين الحصول على البراءة.

عادة في هذا النوع من الأفلام، إذا كانت القضية معروفة والحكم فيها وقع بالفعل، فإن ما يقدمه صناع الفيلم هو دراما كواليس القضية، والتحولات التي تحدث طوال الوقت لحين اللفظ بالحكم، وهو الأمر الذي يكون جذابًا للمشاهد. تبدو المهمة الأصعب أمام كاتب السيناريو في هذه الحالة هي محاولة تبسيط المصطلحات والإجراءات القانونية المعقدة لنقلها إلى أكبر قدر ممكن من المشاهدين، مع الاستفادة منها دراميًا في الآن ذاته لتصبح مشوقة.

يعتمد "رابي قرناز" على قزات عديدة في الزمن، للانتقال بين أحداث القضية، لكننا عند نقطة معينة نشعر أننا ندور في نفس الدائرة، رغم تغيير الأماكن والانتقال من ألمانيا إلى الولايات المتحدة في بعض المشاهد، فإننا نشعر أننا نكرر نفس الكلام دون جديد يذكر إلا من إضافة جهة جديدة أعلى ستُصعّد القضية إليها، مع وجود بعض اللحظات المؤثرة من الأم بطبيعة الحال.

إذ يظهر اسم "رابي" في عنوان الفيلم، فإننا نعلم أن دورها في الأحداث سيكون كبيرًا ورئيسيًا. يختار المخرج تناولًا مختلفًا للشخصية إلى حد كبير. من المعتاد في هذا النوع من الأفلام أن تكون الأم التي تفتش عن ولدها، حزينة ومكتئبة طوال الوقت، بينما شاهدنا رابي في الفيلم على النقيض، هادئة وحماسية وتعد الطعام وتهتم بإطعام المحامي أيضًا في أغلب الوقت. أكسب أداء الممثلة ميلتيم كابتان جاذبية للشخصية، إذ تؤديها بتلقائية مميزة، ونشعر أنها توحدت معها. لكن يبقى التصور العام للشخصية هو المشكلة.

بانتصاف الفيلم، وخاصة بعدما تعلم الأم بانتقال ابنها إلى غوانتانامو، نشعر أنها أم تنتظر عودة ابنها من رحلة عمل طويلة وشاقة، وليس من اعتقال وتعذيب في أحد أبشع المعتقلات في العصر الحديث. يصنع هذا حاجزًا قويًا بين إمكانية التعاطف مع رابي خلال النصف الثاني من الفيلم، حتى أن مشهد بكائها وهي تلقي كلمة في أحد التجمعات يبدو غريبًا للوهلة الأولى، بعد أن اعتدنا مشاهدتها أكثر بهجة في البداية.

مع التركيز على رابي والمحامي، تتضاءل بقية الشخصيات الأخرى داخل الفيلم، وهو ما لم يكن في صالح العمل الذي تمتد مدته إلى ساعتين، خاصة مع رتابة التحقيقات كما ذكرنا، بل إن بعض الشخصية تبدو في بعض الأحيان كأنها موجودة دون أن تشكل إضافة حقيقية يمكن الوقوف عندها، مثل شقيقة رابي التي ظهرت في عدة مشاهد دون أن نشعر لها بتأثير حقيقي، وزوجة مُرات، التي كانت مشاهدها وصلات من البكاء عليه.

فيلم "Rabiye Kurnaz vs. George W. Bush" يلفت النظر إلى جانب ربما يكون جديدًا في ما لأسر معتقلي غوانتانامو، لكنه يفتقر إلى العمق، ويقع في فخ التكرار بشكل واضح في نصفه الثاني، فلا يبقى إلا أداء الممثلين يدفع الفيلم إلى الأمام.

 

مجلة هي السعودية في

13.02.2021

 
 
 
 
 

عروض الدورة الثانية والسبعين تُعيد الروح إلى برلين | البرليناله:

هدية أوزون المغشوشة... وانفجار بيروت!

شفيق طبارة

روح البرليناله عادت إلى المدينة: الطرقات أُغلقت والشوارع المؤدية إلى قصر «مهرجان برلين السينمائي الدولي» لبست الأحمر. عاد الجمهور ولو بأعداد قليلة إلى السجادة الحمراء. هتف للنجوم وطلب التواقيع. الفارق الوحيد بين «مهرجان برلين» قبل كورونا وبعده، هو حاجز جديد قبل دخول الصالة: فحص الكورونا وشهادة اللّقاح. جميع الحاضرين في المهرجان والعاملين والجمهور مُجبرون على تقديم نتيجة سلبية كلّ يوم. فحص الكورونا إلزامي كلّ يوم، حتى قبل الفطور. نتيجة الفحص تظهر بعد 15 إلى عشرين دقيقة، وبعدها يمكن الدخول إلى العروض، لتتكرّر العملية نفسها في اليوم التالي. باصات ومراكز الفحص متوافرة على جميع الطرقات المؤدّية إلى الصالات وأمامها. أصبح فحص الكورونا أساسياً كالأفلام. الصالات تستقبل فقط 50% من قدرتها الاستيعابية، نصف المقاعد مهجورة، ما أدى إلى فقدان حميميّة صالات السينما، والإحساس بالغرابة في الجلوس في صالة، خصوصاً في مهرجان مثل «برلين»، من دون «ندماء» يحوطوننا من الجانبين. خيّم الحضور السياسي على الدورة الثانية والسبعين التي تستمرّ حتى 16 شباط (فبراير) الحالي. السياسيون تفوّقوا عدداً على النجوم. حضور تُرجم في الكلمة التي ألقتها وزيرة الثقافة الألمانية كلاوديا روت ويمكن اختصارها بجملتها «السينما بأي ثمن». المهرجان ناجح إلى الآن، والتنظيم ممتاز، رغم الكارثة التي حدثت خلال عرض الافتتاح. نتحدّث عن «بيتر فان كانت» لفرنسوا أوزون. في هذا الشريط، حاول المخرج الفرنسي إعادة الميلودراما الألمانية التي برع فيها رينر فيرنر فاسبندر. قدم شريطاً يشبه أفلام فاسبندر، لكنه تعثّر كثيراً، كما تعثر العرض الأول للفيلم. إذ توقف الشريط بعد 15 دقيقة من بدايته بسبب عطل تقني، ثم عاد واستمر، لكن من الدقيقة الخطأ، ثم بعدها توقّف وأُعيد إلى الوراء، من الدقيقة التي توقّف عندها للمرة الأولى، ثم مضى بشكل صحيح. في كل الأحوال، العروض مستمرّة، والترقّب على أشدّه للمفاجآت السارّة.

للوهلة الأولى، بدا فيلم فرنسوا أوزون كأنه هدية (مغشوشة). عاد المخرج الفرنسي الأكثر إنتاجاً في السينما الفرنسية إلى برلين بفيلم يكرّم فيه المخرج الألماني رينر فيرنر فاسبندر (1945 ــــ 1982). اقتبس أوزون شريطه «بيتر فان كانت» من فيلم «الدموع المرة لبيترا فون كانت» (1972). استخدمه كما استخدم صورة عيون فاسبندر في أول الفيلم. بعد ذلك، ابتعد عن كلّ شيء يتعلّق بما أراد فاسبندر إظهاره. لا يترك الفيلم أدنى شك في أنّ فاسبندر هو مَن يتحدّث عنه أوزون: صورة لفنان رقيق، يطوق للحب ولا يجده، ويتلاعب بالجميع للحصول عليه. يدور الفيلم حول السينمائي بيتر فون كانت (دوني مينوشيه في أداء عظيم)، فنان يحلم بالحب غير المشروط، لكنّه يعرف أنّه غير موجود. مع ذلك، يقع في حبّ الشاب العربي أمير بن سالم (خليل بن غربية). وبعد أشهر من الجنس والدولشي فيتا، لم يعد أمير هو العاشق، بل أصبح نجماً سينمائياً يهجر بيتر، ما يوقع المخرج في دوّامة من اليأس والحزن، لا مخرج منها. من المحتمل أن تكون قصة فاسبيندر الرومانسية الحقيقية مع الممثل غونتر كوفمان هي التي يعرضها أوزون هنا. افتراض سائد لأنّ فاسبيندر نفسه أسقط علاقاته المثلية على شخصيّاته النسائية في فيلم بيترا فون كانت.

كما هي الحال في الفيلم الأصلي، كل شيء يحدث في فيلم أورون مكان واحد، منزل بيتر. يأتي الجميع إلى بيتر إما يزور غرفة نومه أو مكتبه. والجميع يحتاج إليه، أولهم سيدون (إيزابيل ادجاني) صديقة بيتر الذي عرف كيف يحولها نجمةً سينمائيةً. «بيتر فان كانت» فيلم مفرط في كل شيء يقدّمه، حاول فيه أوزون اللّعب على الميلودراما التي خلقها فاسبيندر، لكنه فشل. أفلام أوزون رسمية جداً، لا تُشبه أفلام فاسبيندر. وهذا الفيلم بدا كأنه مزيف. أغرقنا أوزون في القبر والكلمات والدموع من دون نتيجة. أفلام أوزون كثيرة، لكنه يبدو هنا كأنه مخرج مبتدئ، لا يعرف أو لا يريد التقدّم. أوزون قدّم عملاً جديداً غير ناضج، ميلودرامياً صريحاً، حاول خلق علاقة بين أسلوبه السينمائي وأسلوب فاسبيندر، لكنه غاب عن باله أنّه لا يملك أسلوباً خاصاً به في الأصل، فخرج بفيلم يشبه الفن البلاستيكي، أجمل ما فيه أداء الممثل مينوشيه وعودة الممثلة الألمانية الكبيرة هانا شيغولا نجمة أفلام فاسبيندر.

تحيّة إلى غودار

على الرغم من أنه لم يغادر منزله في رولي، في سويسرا منذ سنوات، إلّا أنّ المخرج الفرنسي الكبير جان لوك غودار (1930) يبدو كأنه بروسبيرو الساحر الذي تخيّله شكسبير في «العاصفة»، الذي يظهر من حين إلى آخر في أعجوبة جديدة. يظهر غودار في «مهرجان برلين» مرّتين، أولاً في معرض لفيلمه «كتاب الصور» (2018) وثانياً في فيلم المخرجة الإيرانية ميترا فاراهاني (1975) الذي يحمل عنوان «أراك يوم الجمعة، روبنسون». في فيلم فاراهاني، غودار ليس وحده، بل معه إبراهيم غلستان (1922)، أحد أهم المثقفين والمخرجين والكتّاب، وأحد روّاد الصناعة السينمائية في إيران. في أوائل الثمانينيات، حاول غودار وغلستان الالتقاء من دون جدوى. وقبل سنوات، حاولت ميترا فاراهاني صديقة الاثنين جمعهما، لكنّ الأمر انتهى بتبادل الرسائل الإلكترونية بين العملاقَين كلّ يوم جمعة. غلستان يرسل بريداً إلى غودار يوم الجمعة، وغودار يرد عليه يوم الجمعة من الأسبوع التالي. والنتيجة وثائقي يُظهر عبقرية الاثنين في فيلم مثير للقلق وللتناقض ومحفّز للأفكار. تصوّر ميترا، غلستان في قصره المهيب. يبدو المخرج البالغ 99 عاماً شديد الوضوح، يعرف ما يريد، ثم يضيع بعدها ويضيع في العبارات الغامضة التي يرسلها غودار إليه، إلى أن يجد الاثنان طريقتهما في التعبير. يصبحان صديقين بطريقة أو بأخرى، وكل منهما ينتظر رسالة الآخر الإلكترونية.

ما بدأ برسائل عادية، أصبح بعد ذلك شاشة عرض كبيرة تظهر عبقرية الاثنين وعمقهما الثقافي والسينمائي. الشريط مليء بتجارب الاثنين الأسلوبية: يبعث غلستان رسالة من كلمات، فيردّ غودار بمقاطع فيديو وصور واقتباسات. كل شيء يرسله الاثنان يصبح ذات قيمة فلسفية بسبب الأفكار الكثيرة التي يتشاركانها. تكلّم الاثنان عن كل شيء تقريباً، الفن والسينما والدين والثورات والسياسة. وللمرة الأولى، سمح غودار لشخص بتصويره في بيته بهذه الحميمية. «أراك الجمعة، روبنسون» صندوق كنز ثمين يُظهر عمق وفكر أحد أهمّ المخرجين العالميّين.

«الهجّاء» أورليتش سيدل

نظرة المخرج النمساوي أورليتش سيدل (1952) إلى الإنسان وبؤسه، تجد بُعدها المثالي في المناخات المتطرفة، إما في الحرارة الشديدة مثل أفلام «ثلاثية الجنة»، أو في ضباب وشتاء ريميني كما هي الحال في فيلمه الجديد «ريميني». «ريميني» عاصمة المرح الصيفي، تبدو في الشتاء مهجورةً باستثناء بعض السكان والنازحين العرب والأفارقة والسيّاح البورجوازيّين المسنّين من النمسا وألمانيا. ريتشي برافو (مايكل توماس)، نجم بوب ناجح يُطارد شهرته الباهتة القديمة في ريميني الشتوية. يموّل أسلوب حياته المسرف وإدمانه على الكحول والقمار من خلال الحفلات الصغيرة الموجّهة للسيّاح والخدمات الجنسية لمعجبيه. يبدأ عالمه الصغير بالانهيار أكثر عندما تُظهر ابنته من جديد في حياته، لتطلب المال الذي لم يقدّمه لها خلال حياتها كلها. يجسد ريتشي برافو عالم سيدل المنحط بأكمله: معطف فرو ضخم وقميص مفتوح، وشعر أشقر مصبوغ، وشقة مليئة بالذكريات من سنوات المجد.

اللقاء بين جان لوك غودار وإبراهيم غلستان يتفرّع إلى أحاديث في السياسة والثورة والدين والفنّ

من جديد، يستخدم سيدل أكثر أدواته السينمائية التي يستخرج منها كل شيء يريده: اللقطة الثابتة، لا موسيقى خارجة عن الطبيعة، لا شيء يشتّت المشاهد عن أفعال الشخصيات وسخافة كل منها. هناك مشهد لكل موقف، لشخصيات وأجساد متعبة ولوجوه مرسومة الهزيمة على جبينها. لا مجال للعاطفة هنا، ولا حتى للانفعالات الدرامية. الطريقة الوحيدة لقراءة أفلام سيدل هي تفسيرها من منظور الهجاء. سيدل هو «ناقد اجتماعي» أو كما يسمّي نفسه «مصور اجتماعي إباحي». يُريد دوماً الاستهزاء بمفاهيمنا عن الذات والآخرين، وأفكارنا الغامضة عما يعنيه العيش خارج دولة الرفاهية، وتوقّعاتنا عن الكرامة في سن الشيخوخة أو ربما الكرامة على الإطلاق. كل مشهد في «ريميني» يضحك في وجوهنا، وفي حال كنا نأمل أن نجد تلميحاً من الحنان، كلمة مطمئنة، سيكون خطأنا الكبير كمشاهدين هو الاعتقاد بأنه يمكننا التعاطف مع شخصية مثيرة للشفقة مثل ريتشي، أو الانتظار من سيدل أن تكون له نظرة حنونة إلى الجنس البشري. أورليتش سيدل لديه مهارة سينمائية هجائية تُفسَّر في كثير من الاتجاهات، ودائماً ما تتخذ في أفلامه قرارات غير مفهومة لكن عظيمة.

كلير دوني... ما وراء الأقنعة

على الرغم من أن «بحبّ واستماتة» صوِّر خلال الجائحة، وأنّ الممثلين يلبسون أقنعة الوجه رغم المسافات الآمنة، إلّا أنّ شخصيّاتها تتصادم بقوة. فيلم كلير دوني الجديد هو عن مثلث حب، عن الكذب والشجاعة التي يتطلّبها الاستسلام للغرام... هذا الشعور الجميل والمؤلم والخوف من الهجر الذي يمكن أن يكون عميقاً، إلى درجة أنّ المرء يفضّل المغادرة، قبل أن يتركه الآخر. أكثر من ذلك، هو فيلم عن الروابط الأسرية والعلاقات الاجتماعية، عن بيروت وانفجار الرابع من آب (هناك مشهد في أول الفيلم حيث تعرض دوني الانفجار بينما تتحدث امرأة لبنانية على الراديو عن الانفجار والأزمة الاقتصادية التي تحلّ في البلاد)، عن فرانز فانون والرجل الأبيض والعرب والسود. تتمتع سارة الصحافية الإذاعية (جولييت بينوش) وجان (فنسان ليندون) براحة مستحقة، يحصلان عليها لأنهما وحدهما. في الواقع، يبدو أنّه لم يتبقَ أحد على هذا الكوكب.

«بحبّ واستماتة» أجمل أفلام المسابقة لغاية الآن

في أول الفيلم، يبدو جسدهما في البحر، مجرّد بقعتين وسط هذه الضخامة الزرقاء، كآخر بقايا البشرية. تلقي المياه النقية الصافية الضوء على جسدين في وئام تام. لكن سرعان ما ينتهي المشهد وتنقلنا المخرجة الفرنسية إلى نفق يسير فيه القطار بأقصى سرعة. تنقلنا إلى باريس الشاسعة والمزدحمة، حيث الجائحة تهدّد الناس. في طريقها إلى وظيفتها في محطة إذاعية، تلتقي سارة بفرنسوا (غريغوار كولان) شريكها السابق، وصديق جان المقرّب منذ زمن بعيد. بسرعة عالية، تنهار علاقة الزوجين المتناغمة في مواجهة ظهور عنصر مزعج.

تغرقنا دوني في عكارة المتاهات الميلودرامية، حيث يفقد المرء رباطة جأشه بسهولة تامة. تفقد الكلمة المنطوقة قوّتها في الحوار وتصبح خليطاً من الثرثرة وأنصاف الحقائق والمراوغات. الجميع يريد أن يعبّر عمّا في داخله لكن الكلمات لا تُنطق، تجد الشخصيات كلها صعوبة في إنهاء جملها. يعمد «بحبّ واستماتة» إلى التكلّم إلى حد كبير بأصوات أناس يحاولون معالجة مشاعر معقدة جداً، حتى إنّهم لا يعرفون كيفية التعبير عن مشاعرهم ولا يبوحون بما في داخلهم بطريقة جيدة. من اللقطات المقرّبة إلى الوجوه طوال الوقت، تنتقل كاميرا دوني إلى التفاصيل، بدءاً من أيدي الممثلين، تلتقط تشنّجاتهم العصبية، وإيماءاتهم، وعلامات جروحهم. ليس هناك سوى الغيرة وعدم الثقة والانتظار. أجمل أفلام المسابقة إلى الآن يشنّجنا من اللحظة الأولى، يرعبنا، ولا يعطينا وقتاً للتنفس تحت أقنعة وجوهنا.

هل تقع الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟

 

الأخبار اللبنانية في

14.02.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004