ملفات خاصة

 
 
 

المخرج جووَل كوون منفرداً يقارع ماكبث

تصدّى لرواية شكسبير الأعنف

لوس أنجليس: محمد رُضا

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

الدورة الرابعة والتسعون

   
 
 
 
 
 
 

الصورة الأولى التي تظهر على شاشة «تراجيديا ماكبث» سوداء مصحوبة بدقات جرس بعيد. ثم يفتح الفيلم على سماء رمادية مع موسيقى خافتة وموحية لكارتر بورتَل. في السماء ثلاثة غربان (أو ربما عقبان) تحلق في شكل دائري. بعد قليل نشاهد ساحرة مجثية تتحدث إلى الكاميرا ثم الساحرات الثلاث اللواتي وردن في مطلع مسرحية ويليام شكسبير وخلال بعض فصولها.

هذه مقدمة آخر اقتباس سينمائي لمسرحية «ماكبث» التي قُدمت على المسرح أول مرة سنة 1606 ميلادية. ولو أحصينا عدد الاقتباسات التي أمتها السينما منذ العقد الأول من القرن الماضي فإن العدد يتجاوز 400 اقتباس مباشر من نحو 20 دولة، ونحو ذلك كاستيحاء بعناوين أخرى. بالنظر إلى أن هناك ألوفاً من الأفلام التي اقتبست عن كل مسرحيات شكسبير، فإن هذا الكاتب المسرحي الألمع ما زال أكثر رواجاً من كل كاتب مسرحي، أو روائي، آخر.

بناء مُحكم

لا يتوقع أحد أن تكون معظم هذه الاقتباسات جيدة. يمكن لمن يمضي نحو أسبوع من البحث أن يلتقط أفلاماً تنهل من المسرحية الحدث وتكتفي. قيمة الاكتفاء بنقل المسرحية كحكاية أقل من قيمة تلك الأفلام القليلة التي تقرأ جيداً مفادات ما وضعه شكسبير في دفتي عمله كالخيانة والجشع ودوافع الاغتيال ثم نتائجه. والتي تقرأ كذلك العلاقة الغريبة التي ربطت بين ماكبث وزوجته. تلك التي فسرها سيغموند فرويد بأن موضع غرابتها يكمن في أنهما بلا أولاد، مضيفاً أن هذه هي مأساة ماكبث الحقيقية.

لكن هذا تأويل لم يذهب إليه آخرون، وكذلك المتأثرون بعلم فرويد لم يتبنوه. مأساة ماكبث واضحة في مسرحية شكسبير وفحواها أن ماكبث سمع من الساحرات ما أزال ستاراً خافياً عن رغباته الدفينة في تحقيق ذلك النوع المدمر من الذات. قلن له إنه سيصبح «سيد أرض» (الكلمة Thane تُستخدم لوصف من ينعم بأرض يهديها إليه الملك وبذلك يرتقي من العموم إلى ما دون مرتبة النبلاء). تكمل الساحرات «… ثم سيصبح ملكاً».

في البداية لم يفكر ماكبث طويلاً في هذا الأمر لكن خروجه من المعركة ضد النرويجيين والآيرلنديين منتصراً دفع ملك اسكوتلندا دنكن لمنحه لقب «سيد الأرض» فعلاً ما دفع ماكبث للتفكير بذلك الجزء الثاني من النبوة. يخبر زوجته التي سيكون لها التأثير الفعلي لقيامه باغتيال الملك وتنصيب نفسه ملكاً عوضاً عنه. خصوصا أن الملك أعلن عن أن ابنه الأكبر مالكولم هو من سيخلفه. هذا الإعلان هز ماكبث. تستطيع أن ترى ذلك في مشهد موجز يعبر عنه بلمحة قصيرة على وجه دنزل واشنطن.

ردة فعل لحظية تمر ولا يمر أثرها. كل هذا هو البناء المُحكم لما سيلي في فيلم المخرج جووَل كووَن المنفذ بكاميرا فيلم (وليس ديجيتال) وبالأبيض والأسود (كما فعل أكيرا كوروساوا وأورسن وَلز حينما قاما باقتباس المسرحية كل لفيلمه). سيفضى بماكبث لنزعات الخوف وتأنيب الضمير. تحاربهما زوجته وهي تحثه على فعل القتل. وعندما يترك خنجره في غرفة الملك شاعراً بهول ما ارتكب، تركض صوب تلك الغرفة وتعود بالخنجر لكي تبعد عن زوجها الشبهات.

الفيلم، في معظمه، نقل أمين لما قرأناه بقلم المؤلف. القليل المحذوف، بالمقارنة مع ما أبقاه من أحداث، كان بهدف توحيد سياق العمل وتنفيذ رؤيته الفنية لمسرحية تحتوي - كما «هاملت» و«الملك لير» وسواهما - على تلك الأزمات الإنسانية الناتجة عن الصراع مع الذات ومع الغير. وماكبث، كما يؤديه بجدارة دنزل واشنطن، نموذجي في هذا التوجه.

في نص شكسبير لا يتحول ماكبث إلى رجل واثق من نفسه وأقوى شأناً مما كان عليه قبل ارتكاب الجريمة بل تزوره الأشباح ويقع في هلوسات النفس، ولا يجد في النهاية بداً من الاندفاع نحو نهايته المأساوية كما يصفها العنوان. مما حذفه كووَن (في أول خطوة إخراج بلا شراكة شقيقه إيتان) تلك المناسبات التي التقطتها أفلام سواه. تحديداً المعارك العنيفة في مطلع الفيلم (الحرب ضد الآيرلنديين والنرويجيين) وتلك اللاحقة عندما يهجم جيش مالكولم الراغب في استعادة المُلك قصر ماكبث.

لمن يريد مشاهدة المعارك وضراوتها يستطيع اللجوء إلى نسخة الياباني كوروساوا (1957) ونسخة الفرنسي رومان بولانسكي (1971) ونسخة الأسترالي جوستين كورزال (2015). في الأفلام الثلاثة عمد مخرجوها إلى المعارك بفاعلية كبيرة. «ماكبث» كما كتبها شكسبير واحدة من أعنف أعماله. المعارك بين المقاتلين واردة في النص المُلقى لكنها المناسبة المُثالية لتحويلها لمشاهد فعلية تستعرض الحروب الطاحنة بأدواتها الدموية من سيوف وفؤوس ورماح.

لا يُعتبر ذلك خروجاً عن النص أو النيل منه، بل هو فعل مُبرر كون السينما لديها القدرة على استنفاد الفرص المتاحة لها لخلق الفاصل المناسب بين المسرحية والفيلم.

كوون

أين يضع هذا التوجه فيلم جووَل كووَن؟ هل كان عليه أن يطرق الباب ذاته ويصور المعارك الدموية كما فعل سواه؟

فيلم كووَن هو كل شيء باستثناء اقتناص مثل هذه الفرصة. الأمانة للنص واردة لا عبر التمسك بالحوار كما كُتب فقط، بل بالكيفية التي كُتبت بها المسرحية بكاملها. المساحة المكانية للأحداث تقع ضمن جدران القلعة وغرفها الخالية غالباً. هناك مشاهد خارجية مفتوحة بين الحين والآخر لكن المكان داخل القصر هو ما تقع فيه معظم الأحداث من دون أن يفتر الاهتمام بما يدور أو يثير الأمر أي داع للملل.

التزام المخرج بالنص وشروطه لا يعني أنه ألغى العنف لأن العنف موجود في شرايين العمل أصلاً. لكن بما أن كووَن لن يؤلف جيوشاً ويدير معارك لإرضاء نزعة الاختلاف عن النص، فإن عليه التعامل مع العنف الدائر بين ماكبث وذاته وبينه وبين صراعاته وأزماته النفسية وتفاعلاتها. في النهاية هناك معركة وحيدة وبين رجلين (دنزل واشنطن وكوري هوكينز الذي يؤدي دور الفارس ماكدوف).

مرة أخرى، عوض أن يختار المخرج لها مكاناً رحباً داخل القصر أو خارجه يضع المتحاربان في الممرات الضيقة التي عادة ما يستخدمها الجنود للدفاع عنها. كان ماكبث قتل زوجة ماكدوف وأطفالهما ما جعل الثاني يسعى للالتحاق بجيش مالكولم. المسألة شخصية بالنسبة إليه، أما بالنسبة لماكبث فهي قناعة بأنه سيواصل الحياة كونه خالداً، كما نبأته الساحرات. حتى عندما أدرك أنه ليس خالداً واجه ماكدوف بكل قوة.

تصوير المعركة بينهما في مساحة تفصل جدراناً ضيقة رائع. نلاحظ أن المساحة الممنوحة لهما أضيق من أن تمنحهما حرية الحركة. لكن هذا هو وضع الكاميرا (تحت إدارة برونو دلبونل المحكمة) أيضاً. مساحتها المحدودة، لمن يراقب بإمعان، تزيد من توتر المشهد برمته.

اللحظة التي يقطع بها ماكليف رأس ماكبث تتم بتوال مدهش وسريع. ما زال العنف سيد الموقف لكنه ليس العنف للعنف بل يعد تجسيداً لذلك الذي يجيش بصدور المتحاربين.

واشنطن

في الوهلة الأولى اختيار الأفرو أميركي دنزل واشنطن للعب دور الاسكوتلندي ماكبث (وهوكينز للعب دور ماكليف) يبدو غريباً. لا نتحدث هنا عن شخصية عطيل (التي أداها الأبيض أورسن وَلز) لكن ما يبدو مثيراً لبعض الدهشة يتلاشى مع أسلوب واشنطن المدهم والواثق. هذا ممثل تستطيع تصديقه يؤدي شخصية شكسبيرية بعيدة عن لون بشرته لكنها ملتصقة بفنه. حتى فرنسيس ماكدورمند، في دور زوجته، توفر جهداً مماثلاً لإتقان دور صعب. العلاقة الدرامية بين الاثنين هي بؤرة العمل بأسره. يتجاوب كل منهما حيال الآخر على نحو طبيعي. يلتحمان في بعض المشاهد ويعكسان حنان المصير المشترك. كلا الممثلين من مدرسة مختلفة. بالنسبة إليها إلقاؤها مباشرة كمن يلقي درسه. جيدة في تعابير الوجه وجيدة في التزام السير ضمن خطين محددين لكنها تركز على الكلمات.

دنزل أكثر تحرراً. هو الممعن في تجسيد معنى الكلمات وليس فقط نطقها. ويستطيع دنزل اختصار مراحل نفسية متعددة ويفعل ذلك بالفعل. النقاط المرسومة بين كل تحول في شخصيته، يمر هذا الممثل عليها بثقة وإقناع.

النقطة الأولى هي تلك التي نتعرف فيها عليه في المشاهد الأولى. شخص واثق من نفسه. معتد من دون فخر ويميل إلى البساطة. متعب (كونه عائدا من قتال) لكنه مرتاح. من تلك النقطة هو في صعود مع تصاعد وتيرة الدراما التي يؤديها. قلق. نتابعه واثقاً ثم قلقاً ثم مجنوناً. وهو إذ ينتقل بين هذه المواقع يجسد في كل مرة قدراً من انهيار الأخلاقيات ويمنح كل فترة ما تحتاجه من موقف يعبر عنها تعبيراً أو حواراً.

على ذلك، أحياناً ما ندرك بأن واشنطن ينتمي إلى الحاضر بسبب صياغته للكلمات. وهناك مرحلة منتصفة من الفيلم فارغة من التوتر المسبق والمقبل. لكن كل هذا لا يتعدى الملاحظات في كينونتها الفردية. ما يطغي من المشهد الأول إلى الأخير هو نتاج فني لم يسبق لأي «ماكبث» سينمائي آخر أن حققه على هذا النحو.

هذا ليس لتقليل أهمية «تاج من الدم» لكوروساوا أو المنحى التجريبي لوَلز، ولا حتى وصم نسختي كورزال وبولانسكي المهمتين بشوائب النقد، لكن لا أحد من هذه الأفلام الجيدة وضع فن السينما ليخدم فن النص على هذا النحو. لا أحد التزم بجغرافية المكان وبتفاصيل الزمان وخلق منهما عملاً لا يعبأ بالتنازل عن جدية الاقتباس لإرضاء أحد. لا السوق ولا أعضاء لجان المناسبات السينمائية المقبلة.

 

الشرق الأوسط في

21.01.2022

 
 
 
 
 

سبنسر”: حرب الأيام الثلاثة

فيبي صبري

جمال لا يمكن إنكاره يأسر العين مع اللقطات الأولى لمساحات خضراء ممتدة، تمنح شعورًا مخادعًا بالحرية. إذ نرى سريعًا رجالًا متجهمين في ملابس عسكرية يسيرون بخطوات ثقيلة، ويحملون ما يبدو كحاويات أسلحة إلى قبوٍ فارغ بارد، بجدية المقبل على معركةٍ ما، ثم يتأكدون من جهوزية المكان ويغادرون، فقط لتنكشف حمولتهم عن الأطعمة المخصصة لعطلة العائلة الملكية، ونكتشف أننا بمطبخ القصر الذي تسلمه للتو فيلق الطهاة! الصمت السائد الثقيل مقصود، ففي منتصف الشاشة تمامًا نقرأ تنبيهًا مكتوبًا للعاملين بالمطبخ: “ابق ضجيجك في حده الأدنى؛ يمكنهم سماعك”.

 لا نسمع الموسيقى الأخاذة، الحزينة إلا مع ظهور ديانا في سيارتها، بينما تقودها بنفسها وتنظر في الخريطة، ولا نرى إلا الألوان الباردة الكالحة إلى أن تكسرها بألوان ملابسها الدافئة. شعرها المتطاير في السيارة المكشوفة هو آخر ما ستختبره من انطلاق قبل وصولها القصر.

 لذلك لا يبدو فقدانها الطريق وتأخرها بريئًا بالكامل ـ أول جملة حوارية على لسانها تعلن فيها أنها لا تعلم أين هي، وأنها قد تاهت ـ فمن قد يتعجل الوصول لمحبسه؟

تنتظرها هناك النميمة الشامتة، التي تدينها بالفعل لأنها لم تصل قبل الملكة. تعرف ديانا أنها اقتربت من منزل صباها المجاور للقصر عندما ترى فزاعة اعتادت اللعب حولها في طفولتها، فزاعة ترتدي سترة قديمة لوالدها.

تصطحب السترة المهترئة معها، كأنها تتزود بدرعٍ من ماضيها ليؤازرها في حرب الثلاثة أيام، فترة العطلةبمجرد دخولها عبر الباب تبدأ المعركة؛ يستقبلها رجل أمن سابق بوجه صارم، وعينين تخترقانها، لقد عين في مكانه خصيصًا لأجلها، ليتأكد أنها لن ترتكب حماقة ما، وأن “لا أحد فوق التقاليد”. يربح هو الجولة الأولى في نزال الإرادة بينهما، ويجبرها على الخضوع للوزن كجزء من تقليد خاص بعيد الميلاد

معضلتان تلاحقان أميرة ويلز وتحرقان أعصابها ببطء: غياب حرية الاختيار، وكتمان كل ما هو حقيقي، فملابسها تفرض عليها بترتيب محدد مسبقًا لا دخل له بمزاجها الشخصي، وقد يعتبر استبدال ثوب بآخر من قبيل التحدي للنظام. لا يمكن رفع التدفئة مهما زادت برودة الجو لأسباب غير مفهومة. بل تجبر على ارتداء قلادة من اللؤلؤ مطابقة لتلك التي اشتراها زوجها لعشيقته.

 طوال مدة الفيلم لا يجمعها إطار بأحد أفراد الأسرة إلا لتناول الطعام والتقاط الصور. لا تتبادل حوارًا حقيقيًا، يحوي شيئًا من التعاطف، إلا مع الخدم وولديها. لا أحد في القصر/ العائلة يكترث لرأيها أو مشاعرها، هناك دور مسند إليها عليها أن تقوم به كأي مؤدٍ محترف. هذه الاحترافية المفترضة تتجسد في البطاقات المثبتة على فساتينها، كأنها مخصصة لعمل فني، تحمل اسم الشخصية والمشهد: “أميرة ويلز. ثوب إفطار يوم العيد”. تحاول تذكير ابنها الأكبر بأنه يستطيع أن “يريد” أو لا يريد، فتسأله إن كان “يريد أن يكون ملكًا”، لكنه يجيبها برد واقعي ناضج: هل أملك خيارًا؟

آسف.. ظننتك تعرفين”. هذا ما ختم به تشارلز كلامه لزوجته في حوارٍ قصيرٍ كاشف، يحاكي في قسوته وأثره الطلقات النارية التي نسمعها في خلفية المشهد. يتحاشى النظر إليها مباشرةً، ويعلن ببرود أن عليهما القيام أحيانًا بما يكرهانه لأجل البلاد، ولأجل الناس. كأن الحياة المزدوجة لهما معًا، التي يعلنان فيها عكس ما يبطنان، هي بند أساسي في صفقة الانضمام للعائلة الملكية. لا أحد يريد الحقيقة، يجب أن تطمس ببساطة، وترخى دونها الستائر الكثيفة كما حدث مع نوافذ غرفتها. لهذا يتم إبعاد مساعدتها الخاصة حين تفضي إليها بما يعتريها من اضطراب، وتُخبَر مرة بعد أخرى ألا تتحدث لأحد بثقة، لأن كل ما تقوله “يمكن سماعه”.

تحاول ديانا استدعاء نفسها الأصيلة والتشبث بها بشكل يائس، بعد أن تم استبدال صور المجلات الرسمية بهويتها. تتسلل ليلًا لبيت عائلة سبنسر القديم المغلق، رغم المخاطرة في الظلام بين الأجزاء الآيلة للتحطم. هناك كانت سعيدة يومًا. لكن الأشباح تطاردها حتى إلى ملاذ طفولتها. بالتحديد شبح آن بولين. كان هذا أفضل استثمار لفكرة القصر المسكون والمحكوم بموتاه/ ماضيه، وأفضل تجسيد لمقولتها لابنها: “هنا لا يوجد مستقبل.. الماضي والحاضر هما نفس الشيء”.

تمت عائلة سبنسر بصلة قرابة لآن بولين، زوجة هنري الثامن، التي تم إعدامها عقب محاكمة مدبرة من الملك لأنه أراد الزواج بأخرى. ما أن تخبرنا ديانا بذلك، في شرحٍ لخوفها من انتهاء دورها، حتى نرى في المشهد التالي لوحة ضخمة تجسد هنري الثامن، وقد غطت نصف الحائط خلف أفراد العائلة الجالسين للعشاء. باتت ديانا ترى آن بولين في يقظتها وأحلامها، ونستطيع فهم الإحالة التي صنعها وعيها من الألم والقنوط. هذا لا يمنع ملاحظة الإفراط في استخدام تلك الإحالة من قبل كاتب السيناريو، إلى درجة تحول ديانا إلى آن بولين حرفيًا، هلوسة كانت أم تخيل واعٍ، في إحدى اللقطات.

حين تستسلم أميرة ويلز أخيرًا للحقيقة؛ أنها لا تملك أي فرصة للبقاء بتلك الشروط، وأنها بحاجة للانسلاخ من حياة لم تكن يومًا مؤهلة لها، لأنها” شخص عادي يحب شبح الأوبرا”، نراها وقد تخففت وانطلقت كطفلة، مستردة جزءًا من حريتها. تستمد الدعم اللازم لتلك الخطوة من الحب، مهما بدا ذلك نمطيًا: حب ولديها اللذين تصحبهما في هروبها، وحب مساعدتها الذي ينقذها من كآبة الرفض. مشاهد متتالية قرب النهاية لديانا وهي ترقص، في مراحل عمرية مختلفة.

وفي أثواب أيقونية عديدة، توحي بالضياع والسوداوية، وتنتهي بها وهي تجري، تهرب بأقصى سرعة لحياتها. نعرف أنها وجدت طريقًا ما حين نراها وقد تركت أحد فساتينها على الفزاعة بدلًا من سترة أبيها. الفستان الأصفر ـ القبيح في رأيي ـ والذي تم اختياره من قبل منسقة الملابس، معلق على جسد ميت من المعدن الصدئ، إيذانًا بنهاية تلك الحقبة من حياتها وبداية أخرى.

 الكلمة الختامية التي تأتي على لسانها في نهاية الفيلم، عندما يسألها عامل في مطعم وجبات سريعة عن اسم صاحب الطلب، تأتي موجزة، وتعلن انتصارها في تلك الجولة الأخيرة من الحرب، مصحوبة بابتسامة الخلاص والثقة وهي تقول: سبنسر.

كريستين ستيوارت في أدائها لدور ديانا أكثر من رائعة، مشاعر التيه والانحدار مطبوعة على وجهها وجسدها، وجمالها يبدو أسطوريًا حتى في أسوأ لحظاتها، كما يليق بأميرة، لا تمل من النظر إليه.

استخدام مبهر للصورة لنقل الإحساس بالوحدة والبرودة والتباعد عمومًا، والدفء الشديد في مشاهد الأميرين مع أمهما. تجعلك الإضاءة عالقًا في دراما نفسية سوداوية أحيانًا، وفي رعب قوطي عن الأشباح أحيانًا أخرى.

 مديرة التصوير كلير ماثون بطلة رئيسية، تركت بصمة ستبقى طويلًا في ذاكرتنا البصرية.

 سالي هوكنز برعت في دور ماجي مساعدة ديانا، كلما ظهرت شعرنا تلقائيًا بالراحة والحب. كذلك جاك فارثنج في دور تشارلز، بنظراته المجسدة للأزمة أغلب الوقت.

 أما كاتب السيناريو، ستيڤن نايت، فرغم ذكائه الملحوظ في بناء المشاهد واختياراته السردية، ودور الحوار البارز، عابه كثرة استخدام الكنايات والرموز المباشرة حين كان في أقل الحاجة إليها. التجربة إجمالًا ممتعة، غنية، زاد من ثرائها الموسيقى الشاعرية، المهيبة لجوني جرينوود، وتشجع حتمًا على البحث عن الأفلام الأخرى للمخرج بابلو لارين لمشاهدتها.

سؤال أخير أظنه طرأ على بال كل من شاهد إعلان الفيلم، ولا أحد يملك له إجابة يقينية: هل سيكتفي عالم الدراما أبدًا من تناول قصة أميرة القلوب، الليدي دي؟ وهل سنكتفي نحن من مشاهدتها؟        

 

موقع "عين على السينما" في

21.01.2022

 
 
 
 
 

فيلم «The Tragedy of Macbeth»: هل تضيف السينما لشكسبير؟

رحمة الحداد

كتب ويليام شكسبير الاسم الأشهر في المسرح العالمي العديد من قصص الملوك، عن مآسيهم وطبيعة حياتهم الدموية غير المستقرة، عن طبيعة السلطة وإغوائها الذي يصل حتى لأطهر وأشجع القلوب، واحدة من أشهر تلك القصص هي مسرحية مكبث التي وحتى بعد مرور أكثر من 400 عام على إنتاجها لا تزال مصدرًا للإلهام والاقتباس في الفنون المختلفة أشهرها السينما بالطبع، اقتبست السينما مسرحيات شكسبير آلاف المرات ربما يكون المؤلف الأكثر تعرضًا للاقتباس على الإطلاق، ونال مكبث نصيبًا كبيرًا خاصة بين المخرجين الأشهر في تاريخ السينما، هؤلاء الذي يتميزون بأسلوبية فائقة وتأثير واضح على الوسيط، تناولها أورسن ويلز في الأربعينيات ونقلها أكيرا كوروساوا لليابان في الخمسينيات وأضفى أسلوبه عليه رومان بولانسكي في السبعينيات ونالت اقتباسًا معاصرًا في الألفية على يد جاستين كورتزيل، لكن لم يتوقع أحد أن تبزغ للسطح من جديد في 2021 خاصة على يد مخرج يعرف بأعمال على الرغم من ثقلها إلا أنها تملك طابعًا ساخرًا من الحياة وعبثيتها.

لأعوام عمل جويل كوين بجانب أخيه إيثان تحت اسم الأخوين كوين، معًا صنعا بعض أكثر الأفلام تأثيرًا في الثقافة الشعبية الأمريكية والعالمية المعاصرة، أشرار أيقونيون مثل شيجور من لا بلد للعجائز No Country For Old Men وأبطال محبوبون مثل ليبوازكي الكبير The Big Lebowzki، في 2021 انفصل جويل عن إيثان لصناعة فيلمه الأول وحيدًا، «مأساة مكبث The Tragedy of Macbeth»، الاسم الأصلي للملحمة الشكسبيرية الشهيرة، اختار كوين صناعة فيلم غارق في الأسلوبية، دقيق التصميم ومخلص للنص الأيقوني الأصلي دون تغيير، واختار الممثل الأمريكي الشهير دينزل واشنطن للقيام بدور مكبث وفرانسيس مكدورماند لتكون السيدة مكبث، ربما يبدو ذلك خيارًا بعيدًا عن طبيعة أعمال كوين لكنه بشكل ما يكمل مسيرته في دراسة حتمية القدر.

نسخة متجردة من الدموية

تحكي مسرحية مكبث قصة بسيطة ذات مشاهد أيقونية، ساحرات ثلاثة مرعبات، ملك ينحدر إلى حافة الجنون، شبح يظهر على مائدة العشاء، امرأة تتخلص من حياتها تحت وطأة الذنب، كل تلك المشاهد والجمل الشعرية الشهيرة التي كتبها شكسبير تظهر في أي معالجة للمسرحية، لكن مع فروق بسيطة في التناول بين كل نسخة وأخرى، فالنص يملك مساحة هائلة للتأويل والشخصيات نفسها يمكن تمثيلها بآلاف الطرق والمشاعر المختلفة سواء على خشبة المسرح أو شاشة السينما، قصة مكبث ببساطة تبدأ من نبوءة الساحرات له بتولي الملك ولصديقه بانكو بامتلاك سلالة من الملوك، مكبث محارب قوي وشجاع يحترمه كل من يعرفه، تبدأ الأمور في أخذ منحى مرعب عندما يتشجع على تنفيذ قدره بيده بمساعدة من زوجته التي لا تملك إلا أن تطمح لحياة أفضل من خلال زوجها، يرتكب مكبث أول جريمة قتل دموية لابن عمه الملك وينتزع منه التاج، تساعده السيدة مكبث في إلصاق الجريمة بالحراس، لكنها تكتفي بهذا القدر أما هو فيجن جنونه لأن بانكو صديقه موعود بملك دائم متسلسل في دمه أما هو فبلا أبناء ومحكوم عليه بملك مؤقت، وجريمته الأولى تعد في خدمة ذلك النسل من الملوك وليس خدمته فقط.

يخطط بعد ذلك لقتل صديقه وابنه الصغير وهنا تبدأ الأحداث في أخذ منحى أكثر درامية، يفقد مكبث توازنه ويطارده الذنب والأشباح، يلجأ لنبوءات الساحرات مرة أخرى ويطمئن أنه محمي من الأذى إلا إذا حدثت بعض المستحيلات، ولأن المسرحية تعلي صوت القدر فإن المستحيلات تحدث بالطبع، ويصعد كل ملك فوق دماء الآخر، لا تنقل السلطة بسلام أبدًا حتى وإن وصلت للنبلاء الذين فور ما يسمعون عن التاج يبدأ نبلهم في التلاشي، فذلك النبل مفهوم بالغ الهشاشة أمام قوة مطلقة يصعب مقاومتها.

يتناول جويل كوين أحداثًا رآها العديدون، منا من يعلمها جيدًا ومنا من درسها في درس أدبي ما رغمًا عنه أو سمع عنها فقط، لكنه يرى أن نسخته الفيلمية هي مكبث لمن لا يعلم مكبث، يدمج كوين ما هو مسرحي وما هو سينمائي في مزيج واعٍ بذاته ومصدره الأصلي، فلا يلجأ بأي شكل لمناظر طبيعية بالشكل التقليدي أو استنساخ مبانٍ وقصور ملائمة للفترة التي تقع بها الأحداث، بل في فيلمه تبدو الفترة التاريخية وكأنها فترة مجردة يمكن أن تكون في أي وقت وأي مكان، مساحة شاسعة من الأضواء والظلال تقع في مبانٍ ضخمة ذات حواف قوطية حادة لكنها خالية من الزخارف أو التفاصيل المسرحية، بل إن تصميم المناظر الذي قام به ستيفان ديشانت تقليلي Minimal لأبعد حد على عكس الميل المعتاد لاتخاذ أسلوب تكثيري Maximalist لتأطير حياة الملوك الباذخة والفترة التاريخية التي تحوي تيجانًا مرصعة بالجواهر وملابس مطرزة وبيوتًا مذهبة، يتبع كوين منهجًا اختزاليًا في كل شيء، حتى تاج مكبث صغير الحجم وكأنه ليس ذا قيمة كبرى وقصره يبدو خاليًا من كل شيء عدا الجدران والأثاث المجرد.

يجعل ذلك التناول التعبيري من مكبث مساحة مجردة للتخيل ويأخذ من المسرح والسينما ما يحتاجه لإيصال المعاني بالصوت والصورة والضوء والتصميم، أكثر وصف لاصق نسخة كوين تلك هو التعبيرية الألمانية، المدرسة الشهيرة التي ميزت بدايات السينما في ألمانيا ثم تأثر بها العالم خاصة نوع الفيلم نوار الأمريكي، تتسم التعبيرية الألمانية بميل نحو الرعب المجرد، بالتلاعب بالنسب الآدمية والنسب البنائية، يتحرك البشر في مساحات ضخمة وحادة ومتعرجة وكأنهم يعيشون داخل عقولهم الباطنة، تناولت تلك الأفلام موضوعات ذات طابع مستقبلي، خلق بشر آليين أو ذات طابع سحيق القدم مثل هجوم مصاص دماء على بيت آمن، لكنها اهتمت بالأسلوبية بشكل رئيسي، بالظلال الحالكة والإضاءات الناصعة التي تجاورها، لا توجد مساحة كبيرة لما هو رمادي، كل شيء يمكن قطعه إلى نصفين، الظل والضوء، الخير والشر، حتى التصميمات المختارة للمنازل والمباني والملابس نادرًا ما تملك انحناءات ناعمة بل تبدو مقطوعة لكي تكون أكثر حدة.

أي شخص يمكنه أن يكون أي شخص

كوين ليس أول من تناول مكبث كقصة رعب تعبيرية فقد سبقه في ذلك أورسن ويلز في مكبث الخاص به عام 1948، جاء تناول ويلز تعبيريًا من حيث خيارات الإضاءة وزوايا التصوير لكنه لم يكن تقليليًا، بل استخدم مناظر مسرحية تكثيرية وخشنة، المثير في نسخة كوين هو اقترابها من نسخة ويلز أكثر من الاتجاه الأكثر واقعية الذي تبعه، بل وجعلها أكثر تجريدًا وتأثرًا بصناع سينما اختزالية مثل انجمار بيرجمان وغيره، بدلاً من تناول القصة تاريخيًا تناولها داخليًا، فعلى سبيل المثال آخر نسخة سينمائية من مكبث صدرت في 2015 اتسمت بأسلوب معاصر وواقعي كانت من إخراج جاستين كورتزيل، صنع كورتزيل مكبث دمويًا بشكل حقيقي، صور مساحات شاسعة من الأراضي الأسكتلندية والمناظر الطبيعية وصنع قصورًا وملابس ملائمة للفترة، في تلك النسخة نادرًا ما يظهر مكبث نظيفًا، بل إن أظافره مغطاة بالرماد والطين ووجهه مدمى من المعارك المتعددة والجرائم الدنيئة، في حين أن مكبث كوين نظيف تمامًا، مثل كل ما حوله، انفعالاته داخلية وهادئة، يجعل ذلك نسخة كوين أقل واقعية وأكثر تجريدًا من أي نسخة سابقة، وكأنها عرض رقص معاصر لا يهتم بعنف ودموية القصة على قدر ما يهتم بدواخل شخصياتها المعقدة.

يساهم في الشعور ببعد وتجريد تلك النسخة اختيار كوين للممثلين والطابع البصري للفيلم، فالفيلم بلا ألوان والممثلون كذلك، يمكن لأي شخص أن يصبح أي شخصية، بأي عمر وبأي لون، يلعب دينزل واشنطن الشخصية الرئيسية بهدوء مميز لكنه يطلق جمله الحوارية الداخلية بإيقاع موسيقي يعيد إليها طبيعتها الشعرية ويجردها من الأداءات المسرحية الجنونية، لا يعيب الأساليب الأخرى شيء بل ربما تكون مؤثرة أكثر لكن في إطار ذلك التناول الذي يشبه الحلم فإن إخراج كوين وخيارات ممثليه هي الأنسب، أطرت نسخة أورسون ويلز ونسخة مايكل فاسبندر في عام 2015 جنون مكبث وغضبه، يصرخ ويبكي ويصل لأقصى ما يسمح به النص من مغالاة، لكن واشنطن يغني النص ويجعله عنصرًا من عدة عناصر داخل الفيلم فيبدو وكأنه مكتوب فعلاً وليس صادرًا من شخص ذي لحم ودم، يجعل ذلك الفيلم أشبه بدراسة دقيقة لأساليب المسرح والسينما والأداء الحركي، فبجانب الأداء الرئيسي اختار كوين الممثلة المسرحية كاثرين هانتر لأداء دور الساحرات الثلاثة، تملك هانتر جسدًا مرنًا وطيعًا يمكنها من التعبير عن ذلك السحر بأغرب الطرق الممكنة، تطوي ذراعيها وتلف جسدها حول نفسه فنصدق فعلاً أنها شخص يملك قدرات ما ورائية، صنع كوين نسخة من مشهد الساحرات الثلاث الأيقوني سوف يصبح أيقونة في ذاته، لم يلجأ لأصوات الساحرات الحادة الشهيرة الكارتونية بل اختار التركيز على الجسد أكثر من الصوت فصنع مشهدًا لا ينسى.

تمتد الخيارات غير المعتادة إلى أعمار الممثلين في الشخصيات الرئيسية، يلعب كل من دينزل واشنطن وفرانسيس مكدورماند السيد والسيدة مكبث، تؤدي مكدورماند الدور الشهير بحرص ودقة نادرين فهي شخصية اشتهرت بشرها المطلق وجنونها لكنها تضفي عليها آدمية ضرورية للنسخة الحديثة، كلا الممثلين تخطيا الستين من العمر، فنحن هنا على حسب وصف كوين أمام مكبث في سن اليأس، واحدة من أهم عناصر المسرحية هي كون الزوجين بلا أبناء، لا يخبرنا النص بوضوح إذا ما كانا غير قادرين على ذلك، لكن يوجد إيحاء بأنهما فقدا ابنًا في يوم من الأيام، يعيش آل مكبث في أحزان متعددة، توتر خسارة الحكم وتوتر انعدام القدرة على توريثه، في نسخة كوين فإن الزوجين تخطيا حتى مرحلة التفكير في الإنجاب على عكس نسخ أخرى جعلت منهما شابًا وشابة يتمتعان بالجمال الشكلي والصبا والنضارة التي تضاد مع ما يسكن عقليهما من أفكار قاتلة، فإن كوين يجعلهما أكثر نضجًا وهدوءًا وقبولًا لواقع حياتهما، ويجعل الفيلم أكثر وعيًا بذاته، فهناك ذلك الميل لعدم انغماس الممثلين في أداء أدوارهم، ولظهور أماكن التصوير مصنوعة وليست طبيعية بل ويمكن رؤية بقعة الضوء التي يقف عليها الممثل وسماع الأجهزة تغلق حينما ينتهي الفيلم، صنع كوين رؤية صناعية ودقيقة تبدو نابعة من اهتماماته الشخصية أكثر من عمله كجزء من فريق، لكن أين يقع مكبث وسط مسيرة كوين السابقة واهتماماته التي شاركها مع أخيه؟

حكاية بلا معنى

يجب ألا تعطي بالا للأشياء التي يستحيل علاجها

تهدئ السيدة مكبث زوجها بتلك الكلمات بعدما يرتكب جريمته الأولى، فالأحداث التي وقعت لا يمكن تغييرها والقدر المحتوم لا يمكن تفاديه، تبدو تلك الكلمات مألوفة في عالم الأخوين كوين، فكل أعمالهما تتناول حدثًا لا يمكن تفادي وقوعه، لكن يترتب عليه الكثير من الأحداث الصغيرة، مسرحية مكبث نفسها بجانب تناولها للجشع والسلطة والانحدار إلى الجنون فإنها تتناول حتمية القدر، يتمثل ذلك القدر في صورة الساحرات فهن يرشدن مكبث لقدره ويتركنه يتصرف كيفما يشاء لكنهن على علم بأن المكتوب سوف يحدث أيًا كانت التصرفات الصادرة عن الأبطال، يحاول مكبث بكل الطرق أن يضمن قدره، يقتل ويعيث في الأرض فسادًا، يتحول من حاكم بلدة عادل ومقاتل نبيل إلى طاغية قاتل للنساء والأطفال وأقرب أصدقائه، لكن لا تمثل أفعاله أي تغيير لما هو مكتوب، في النهاية يهرب ابن بانكو الذي قدر له أن يكون أول خيط في سلالة ملكية ممتدة، ويصبح مكبث ملكًا لفترة وجيزة تجعل هزيمته وكونه بلا أطفال امتدادها مستحيلاً.

ليس ذلك بعيدًا جدًا عن كون شخصية شيجور في لا بلد للعجائز تمثل المحتوم، أليس كذلك؟ أو كيف يستسلم ليبوازكي الكبير للأحداث التي تقع حوله لأنه لا يملك القدرة على تغييرها، يعبر شكسبير عن طبيعة مسرحيته القدرية بجملة على لسان بطلها «الحياة هي حكاية يحكيها أحمق، مليئة بالصوت والغضب، ولا تعني شيئًا»، يستسلم مكبث بعد وفاة زوجته لعبثية الحياة بل وعبثية رغباته نفسها وتصرفاته التي لم توصله إلى أي شيء ولم تغير قدره، تجري تلك الدماء العبثية في مسيرة كوين من بدايتها حتى قراره أن يصنع فيلمه الشكسبيري وحده، الذي ربما يبدو كخيار غريب في البداية لكن يصبح منطقيًا حينما نصل إلى جوهر الحكاية التي لا تعني شيئًا.

مأساة مكبث نسخة جويل كوين هو تحفة بصرية ترهص لمسيرة جديدة لجويل بدون إيثان، تميل أكثر نحو الأسلوبية السينمائية وأقل نحو السخرية العدمية، لكن على الرغم من تأثيره البصري الذي لا يضاهى والذي يحوي بداخله تأثيرات بصرية وصوتية تمتد إلى بداية السينما فإنه يملك طبيعة بعيدة وباردة، فهو تناول ذو تصميمات دقيقة ونظيفة وشخصيات دموية لا تتلوث بالدماء، مما يجعله أقل في التأثير العاطفي من سابقيه من النسخ السينمائية لمكبث لكنه من أكثرها حداثة وتجريبية وتلاعبًا بطبيعة الوسيط وقدرته على احتواء الوسائط الأخرى.

 

موقع "إضاءات" في

24.01.2022

 
 
 
 
 

«بافتا» تلغي الجوائز الفخرية بنسخة 2022 بعد اتهام نويل كلارك بسوء السلوك

«سينماتوغراف» ـ متابعات

أعلنت الأكاديمية البريطانية للأفلام BAFTA أنها لن تمنح جوائز فخرية في حفل توزيع جوائز هذا العام، حيث تخطط لتنفيذ عمليات تدقيق جديدة بعد الجدل الذي أُثير حول الممثل البريطاني نويل كلارك العام الماضي.

وكشفت هيئة جوائز الأكاديمية البريطانية للأفلام “بافتا” أنه لن يتم منح جوائز فخرية خاصة هذا العام من أجل دمج التغييرات المتعلقة بكيفية اختيار الفائزين بشكل كامل، وجاء في بيان الهيئة: “خلصت آخر المراجعات إلى أن هذه الجوائز تظل وسيلة حيوية للاحتفاء بالتميز وإلهام الأجيال القادمة من المواهب عبر السينما والترفيه والتلفزيون، ونتطلع إلى تكريم المساهمات الاستثنائية في المستقبل.

أضاف البيان: “نظرًا للوقت اللازم لتنفيذ توصيات هذه المراجعة بشكل صحيح، فإن هذه الجوائز غير التنافسية، بما في ذلك الزمالة، لن تكون جزءًا من جوائز الأفلام أو حفلات توزيع جوائز الترفيه لهذا العام في 2022، لكننا نعتزم تقديم جوائز خاصة في حفل توزيع جوائز التلفزيون الخاص بنا في مايو”، وكجزء من التغييرات، سيتم حث الأعضاء على المشاركة بشكل أكبر في قائمة اقتراح المرشحين للنظر فيها، كما سيتم إنشاء لجنة جديدة لتحسين التنوع بين المرشحين.

حصل نويل كلارك على جائزة المساهمة البريطانية المتميزة في السينما في حفل توزيع جوائز بافتا 2021، على الرغم من إبلاغ المؤسسة بمزاعم الاعتداء وسوء السلوك ضده، وفي ذلك الوقت، قالت الأكاديمية البريطانية للأفلام إنه لم يتم تزويدها بمعلومات ملموسة كافية لاستعادة الجائزة التي تم الإعلان عنها بالفعل، لكن استمرت الهيئة في تنفيذ مراجعة شاملة لكيفية اختيار الفائزين الفخريين، وأكدت التقارير الإخبارية أن المؤسسة علمت بالادعاءات قبل أسبوعين تقريبًا من تسليم الجوائز.

اعترفت بافتا أنها تلقت رسائل بريد إلكتروني مجهولة المصدر وتقارير عن مزاعم عبر وسطاء، وقالت إنه لم يتم تقديم دليل ملموس من شأنه أن يسمح بإجراء تحقيق، لكن أوقفت المؤسسة مؤقتًا توزيع الجوائز الخاصة في يونيو 2021 من أجل إجراء مراجعة واسعة لعملياتها، وأنشأت لجنة لمراجعة جوائز المرشحين المقدمة من لجان الأفلام والتلفزيون قبل تمرير الأسماء إلى مجلس إدارة بافتا.

 

موقع "سينماتوغراف" في

25.01.2022

 
 
 
 
 

أحمد عمر يكتب:

“ماكبث” في زمن المنصات الرقمية

شاهدتُ فيلم “مأساة ماكبث The Tragedy of Macbeth” من بطولة العملاق دينزل واشنطن، فاستعدتُ شريطًا جميلًا من الذكريات؛ تذكرتُ أول مرة درستُ فيها المسرح، وكتاب Elements of Drama ومسرحيات شكسبير الأصلية، والبحث بين كتب مكتبة كلية الألسن في الطابق الأخير من مبناها الشاهق. تذكرت نفسي وأنا أردد عبارات ماكبث بإنجليزية بريطانية (كنتُ وما زلت أحرص عليها عند قراءة النصوص) في كل مناجاة (مونولوج).

ورغم أن “هاملت” هي مسرحيتي المفضلة دائمًا وأبدًا، لكن ولعي بمسرحيات شكسبير لا تنطفي جذوته.

قرأتُ النص الأصلي لـ”ماكبث” بإنجليزيته الكلاسيكية قبل 19 سنة تقريبًا (السنة الأولى أو الثانية بكلية الألسن، جامعة عين شمس)، وشاهدتُ المسرحية فيلمًا سينيمائيًا قديمًا منذ سنوات طويلة، وقبلها استمتعتُ بمشاهدتها في عرض حيّ على مسرح الجامعة الأمريكية بالفلكي (2003)، وكان عملًا غاية في الجمال والدهشة والروعة، وقبل كورونا شاهدتُ “ماكبث” في عرض أوبرالي إيطالي بالأوبرا السلطانية مسقط.

لكن في الحقيقة زادت مُتعتي وانبهاري بهذا الفيلم الجديد الذي أنتجته شركة أبل عبر منصتها الخاصة “أبل TV”.

وهذا يقودنا لتسليط ضوء كاشف على ما تحدثه المنصات الترفيهية من تأثير كبير، من خلال إتاحة المجال أمام المشترك لمشاهدة ما يروق له من أعمال، وإنتاجها بجودة تنافس تلك المعروضة في دور السينما. لكن في الوقت نفسه، سمحت هذه المنصات الرقمية للجمهور بإبداء رأيه بقوة أكبر، الأمر الذي يشير إلى نقلة في آلية تفاعل الجمهور مع الأعمال الفنية المقدمة، ولنا في فيلم “أصحاب.. ولا أعزّ” خير مثال.

عودةً إلى “ماكبث”، ومنذ الدقيقة الأولى وحتى نهاية الفيلم، شعرتُ أنني في قاعة المسرح بكل تقنياتها ومؤثراتها؛ حيث نجح مخرج العمل ومدير التصوير وهندسة الصوت وكل طاقم هذا العمل الرائع في أن يضع المشاهد داخل إطار مسرحي بحت، بعبقرية سينمائية قلَّت مثيلاتها.

لم أضبط كاميرا المخرج تتوسع خارج الإطار وزاوية الرؤية التي قد يراها المتفرج داخل قاعة المسرح، باستثناء مشهد الساحرات وهن يطرن في السماء المُلبدة بضباب كثيف وثلوج، غير ذلك ظلت الكاميرا بزاوية تركيز مركزية جدًا.

إحدى عبقريات الفيلم أنه بالأبيض والأسود، وهو تكنيك ساعد في تعزيز الشعور بالأجواء المسرحية؛ حيث عادة القاعة مُظلمة والإضاءات موظفةٌ في خدمة الأحداث التي غلب عليها الطابع الحزين الكئيب، بجانب المؤثرات البصرية، لكنني أزعم أن هندسة الصوت والمؤثرات السمعية كانت الأكثر تميزًا، مثل أصوات الساحرات، ورفرفة أجنحتهن، وصريخهن وأصوات غوايتهن لماكبث. أيضًا صوت الأسلحة مثل السيوف والخناجر؛ حيث يُسمع صوتها وهي تُستل من أغمادها. وكذلك دقات الطبول، خاصة في المشهد الأكثر شهرة، عندما يُقرع باب قصر ماكبث بعد قتل الملك بدم بارد، فيهتز قلب ماكبث ويرتعد خوفًا من انكشاف أمره مع كل قرعة، وكأنها نبضات قلب ماكبث من شدتها تُصدر هذا الصوت المخيف.

ليدي ماكبث” زوجة ماكبث أدت دورًا مميزًا بفضل ملامح وجهها الحادة وشعرها المصفوف وكأنه تاجٌ، في إشارة إلى أنها خططت ودبرت وتآمرت وساعدت ومهدت الطريق وهيأت نفسية ماكبث كي يصير ملكًا وتصير هي ملكة.

أما دينزل واشنطن فقد أدى دور ماكبث بكفاءة مذهلة، وكأن شكسبير جلس مع واشنطن وشرح له نفسية ماكبث الطمّاعة التي خضعت لغواية الساحرات وقرر تحقيق نبوءاتهن، مهما كلفه الأمر من زهق أرواحٍ. نجح واشنطن في تقمُّص شخصية ماكبث بذكاء، وساعده في ذلك بنيانه الجسدي، ليعكس هيبة المُقاتل صاحب الانتصارات المجيدة. لم يغفل دينزل واشنطن أن يوظِّف نبرات الصوت وطبقاته، وهذه منطقة يُجيدها بشدة، فرغم النبرة اللطيفة المعتدلة لواشنطن في معظم أعماله، إلا أنه أدخل تعديلات عليها لتبدو أكثر رَخامةً وعمقًا، عطفًا على توظيف الهمس وارتفاع وانخفاض مستوى النبرة، لا سيما في مشاهد المناجاة.

زوايا التصوير كما ذكرتُ اتسمت بإبداع مُلفت؛ حيث التركيز على جوهر المشهد دون إضافات تُشتت نظر المشاهد، تمامًا كما على خشبة المسرح؛ إذ لا مجال لرؤية مناظر خارجية أو تفاصيل خارج الإطار الذي يجمع البطل/ الأبطال.

 

موقع "إعلام.كوم" في

26.01.2022

 
 
 
 
 

إعلان ترشيحات جمعية المصورين الأميركية

مصورون تحدثوا عن تجاربهم في 5 أفلام

لوس أنجليس: محمد رُضا

أعلنت «جمعية المصورين الأميركية» قبل ثلاثة أيام ترشيحاتها لجوائزها السنوية لهذا العام. ستكون المناسبة السادسة والثلاثين التي توزع فيها هذه الجمعية المتخصصة جوائزها هذه. وتنطلق المناسبة في العشرين من شهر مارس (آذار) في حفلة فعلية (بحضور ضيوف) وأثيرية على النت في وقت واحد.

لطالما شغلت جوائز «جمعية المصورين الأميركية» الاهتمام لكونها من بين تلك الأكثر تخصصاً ومدعاة للاحترام. ليست الجمعية المتخصصة الوحيدة، لكن مجال تخصصها، وهو التصوير السينمائي، يجعلها من بين الأبرز في ميدان السينما، خصوصا أن معظم من فيها من المصورين لهم وزنهم في ترشيحات الأوسكار، وبالتالي معظم ترشيحاتها تصب في ترشيحات أكاديمية العلوم والفنون السينمائية، وكذلك الفيلم الفائز بينها.

ولا يُقبل انضمام عضو لهذه الجمعية إلا إذا كان مدير تصوير فعليا. العروض تنطلق للأعضاء البالغ عددهم 433 كامل العضوية، قبل نهاية العام. والاقتراح بحسب النقاط التي يفوز بها كل فيلم.

هناك خمسة أفلام في سباق جائزة تصوير أفضل فيلم روائي وأربعة في ميدان الفيلم التسجيلي. لجانب هاتين المجموعتين هناك جوائز للتصوير التلفزيوني مخصصة للأفلام المصنوعة لحساب التلفزيون (ستة أفلام) وللحلقات التلفزيونية التي يبلغ مداها ساعة واحدة وهذه منقسمة لاثنتين: تلك المعروضة على محطات تجارية والأخرى المعروضة على محطات غير تجارية (ستة أفلام لكل قسم).

بطبيعة الحال، ولأسباب تتعلق بالعلاقة الجوهرية بين التصوير وصناعة السينما، تستأثر المسابقة المخصصة للتصوير السينمائي بالاهتمام الأول. ليس فقط لأن أصحابها مرشحون للترشيحات وللجوائز اللاحقة فقط، بل أيضاً لكون فن التصوير السينمائي واحدا من أرقى فنون السينما والمضمار الذي عليه أن يتبع كل تفصيل لكل عنصر رئيسي آخر. هو ما يمنح الفيلم صورته وبصرياته والممثل وجهه والديكور مكانته والنوع الذي ينتمي إليه الفيلم جوه.

طبعاً، هذا إذا ما كان مدير التصوير متمكنا من فنه كحال المرشحين الخمسة الذين يقودون أفلامهم صوب احتمالات الفور وهم: برونو دلبونل وكريغ فرايزر ودان لاوستن، وآري وغنر وهاريس زامبارلوكوس عن «بلفاست».

هذا يعني غياب المجموعة المركزية التي يتردد اسمها في معظم المناسبات السابقة أمثال روبي رايان (المفضل لدى المخرجين سالي بوتر وكينيث لوتش)، روبرت رتشردسون (يعمل كثيراً مع مارتن سكورسيزي وكونتن تارنتينو من بين آخرين) وروجر ديكنز (عادة مع الأخوين جووَل وإيتان كووَن) وسواهم. التالي ملاحظاتنا على هذه النخبة من مديري التصوير ومقتطفات مما أعلنوه في جلسات جمعتني بهم، من بين آخرين، قبل إعلان النتائج ببضعة أسابيع.

> برونو دلبونل: «مأساة ماكبث» (The Tragedy of Macbeth)

لفيلمه الأول منفصلاً عن شقيقه إيتان، قام المخرج جووَل كووَن بالاستعانة بمدير التصوير برونو دلبونل الذي كان صور للأخوين سابقاً «داخل ليووين ديڤيز» (2013) و«أنشودة بستر سكروغز» (2018) والذي سبق له أن صور للفرنسي جان - جاك جونيه «إميلي» وللراحل بيتر بوغدانوفيتش «مواء القطة» (كلاهما سنة 2001).

الفيلم تجربة خاصة على أكثر من صعيد: مصور بالأبيض والأسود والكادر ضيق والديكورات بسيطة ما أتاح لمدير التصوير الفرنسي تتويج كل ذلك بملامح بصرية كلاسيكية وشعرية. يقول: «كنت قرأت شكسبير خلال دراستي لكني لا أدعي أنني فهمته. من الصعب ترجمة اللغة الفترة الإليزابيتية إلى الفرنسية. لذلك عمدت لسؤال جو عن فحوى «ماكبث»، وهنا حدد لي المخرج ما يريده تماماً. قال لي إنه لا يريد التصوير في اسكوتلندا ولا تصوير الفيلم كمسرحية. ما كان مهماً بالنسبة إليه هو الإيقاع.

الأمر الثالث الذي أصر عليه المخرج هو التصوير بالأبيض والأسود: «رأى إنه إذا كان الفيلم ملوناً فإن ذلك يعني تلوين الجدران والأبواب وغيرهما من الديكورات وهو لم يرغب في ذلك. ووافقته فوراً. في الفيلم لا تعرف الليل من النهار. كلاهما مصور بلون واحد تقريباً، ومع مطلع الفيلم تعتقد أنك تتطلع إلى السماء الرمادية بينما الكاميرا تصور لك الأرض الرمادية. وهناك وحدة إيقاع فعلية من خلال أسلوب التصوير وأسلوب جو في الإخراج».

> كريغ فرايزر: «دون» (Dune)

هذا هو الفيلم الخيالي - العلمي الأول لمدير التصوير (الأسترالي) كريغ فرايزر. أكثر من ذلك، لم يكن لديه هوس إنجاز رواية فرنك هربرت فيلماً كما كان حال المخرج الكندي دنيس فيللنييف «هذا كان هاجس المخرج منذ 40 سنة. أما أنا فكنت غريباً عن روح الرواية. لكننا جلسنا طويلاً خلال التحضير وأعطاني رأيه في الشكل الذي يتوخاه». ولم يفاجأ فرايزر برغبة المخرج تحقيق فيلم كبير بشاشة عريضة: «ذكرنا (لورنس العرب)، وتحدثنا عن أن الفيلم سيعرض في صالات آيماكس، لكن كان علينا أن نختار وسيطاً في نظم التصوير يصلح لتلك الشاشة الضخمة وللشاشات التقليدية أيضاً».

أحد الأمور المهمة التي تباحث فرايزر وفلنييف حولها طويلاً كيفية التعامل مع المشاهد الخارجية والداخلية والرأي استقر، كما يقول فرايزر، على الحل التالي: «قررنا أن نمنح كل المشاهد النظام ذاته من التصوير مع منح المشاهد الداخلية ألفة ودفئاً. بعض الكاميرات لديها خاصية تحقيق ذلك حتى ولو حافظت على نظام الصورة الكبيرة».

> دان لاوستن: «زقاق الكابوس» (Nightmare Alley)

هو الفيلم الجديد لغويلرمو دل تورو («شكل الماء»، «كريسمون بيك»... الخ) والمخرج يؤكد أنه ليس إعادة صنع لفيلم سابق قام إدموند غولدينغ بتحقيقه سنة 1947 من بطولة تايرون باور وجوان بلوندل، بل هو اقتباس من الرواية ذاتها كما كتبها ويليام لندساي غريشوم. بناء على ذلك قرر مدير التصوير دان لاوستن عدم مشاهدة ذلك الفيلم: «لم أشاهد الفيلم الأول، واكتفيت بتريلر فقط. تحدث معي عن هذا الفيلم قبل نحو سنة من بدء التصوير (الذي تم في كندا) والتقينا عندما قرر أن يكون «زقاق الكابوس» فيلمه التالي بالفعل، وتباحثنا في تفاصيل تصويره من كل الجوانب». ومن بين ما تحدثا بشأنه إذا ما كان من الأفضل تصويره بنظام سينما سكوب أو بنظام 65 مم. واستقر الرأي على النظام الثاني. عمد دان إلى عدة كاميرات من نوع Arri Alexa وبؤراتها المتنوعة: «لهذا الفيلم قررنا أن نصور من زاوية عريضة ومنخفضة عن المعتاد».

الزاوية المنخفضة لا تشمل مشاهد الفيلم إلا بنسبة الثلث تقريباً. إنها غالباً في المشاهد القريبة ومشاهدة ملاحقة سير شخصيات الفيلم أو في بعض تلك الداخلية. ما هو أكثر فاعلية اللعب بالإضاءة لإنجاز «لوك» متميز بعناصر إنتاجية ما زالت ترنو إلى الماضي.

> آري وَغنر: «قوة الكلب» (The Power of the Dog)

كنا تناولنا هنا بتوسع فيلما «مأساة ماكبث» و«قوة الكلب»، كلاهما ينتمي إلى فترة تاريخية وأصول أدبية مختلفة. «قوة الكلب» هو وسترن معاصر (كون أحداثه تقع سنة 1925) حول صاحب مزرعة يبدأ الفيلم به قوياً وينتهي به ضعيفاً. بالنسبة لمديرة التصوير آري وَغنر كانت الرغبة الأولى تحقيق فيلم «يدعوك لمشاهدته مرة ثانية أو تبقى مشاهده عالقة في البال».

التحضير لتصوير الفيلم كان مهماً من حيث إن رغبة المخرجة جين كامبيون التصوير في نيوزيلاند وليس في ولاية مونتانا (حيث تقع الحكاية): «اتصلت بي كامبيون قبل سنة وشهر من بدء التصوير وحدثتني عن المشروع. كان واضحاً لدي أن الانتقال من مونتانا إلى نيوزيلاند يفرض علينا تفاصيل تتعلق بالفصول الطبيعية والألوان كما بالمواقع. انطلقنا لمواقع تعرفها المخرجة كما تعرف كفها وحاولنا الإحاطة بكل العراقيل المحتملة بحيث لا نتعرض خلال التصوير لأي منها».

وتضيف «للتصوير الداخلي اعتمدنا أساساً على الإضاءة الطبيعية ما عدا الحالات التي كان علينا توزيع مصادر الإضاءة تبعاً لضرورات المشهد».

> هاريس زامبارلوكوس: «بلفاست» Belfast

«بلفاست» هو الفيلم الوحيد بين هذه الأفلام الذي يتداول سيرة ذاتية. لكنه الثاني بينها المصور (في معظمه) بالأبيض والأسود، كما حال «مأساة ماكبث» والثاني الذي استخدم نظام 65 مم. يقول مدير تصويره (من أصل قبرصي): «عملت مع كينيث برانا ثماني مرات حتى الآن (بدأ تعاونهما معاً في فيلم Sleuth سنة 2007) ولهذا المشروع قررت أن أستمع إليه أساساً؛ لأن المشروع يخص مرحلة من حياته. كنت أريد أن أعرف منه كيف ينظر إلى ذكرياته صبياً وذكريات المدينة التي وُلد فيها، بلفاست قبل أن أبدي رأيي. هذا ساعدني على تكوين فكرة فنية عن كيف سنقوم بمعالجة الموضوع».

لمثل هذا الفيلم متطلبات كثيرة كونه يُعود لمرحلة سابقة من مدينة بلفاست وعماراتها وملامح شوارعها آنذاك، لكن هاريس يتولى القول بأن التصوير خلال وباء كوفيد لم يكن أقل صعوبة: «بدأنا المشروع على الهاتف بعد أن أرسل لي السيناريو. تبادلنا الاتصال عن بعد. عندما انتقلت إلى بلفاست كنت سعيداً كون العديد من الأماكن ما زالت كما كانت حين كان برانا ما زال ولداً. الواقع أن الأماكن التي اخترناها للتصوير تساعدنا على إيجاد دفء العلاقة بين الفيلم وبطله وبينهما والمشاهد».

اعتمد زامبارلوكوس على نظام بانافيجين (Large Format System 65 Lenses) وهذا نظام قديم نوعاً ما تم استنباطه في مطلع التسعينات: «أفضل هذا النظام ودائماً ما أصور به. ولم يكن هناك داع للتصوير بكاميرا ثانية. في معظم الفيلم اكتفيت بكاميرا واحدة».

 

الشرق الأوسط في

28.01.2022

 
 
 
 
 

دينزل واشنطن ماكبث شكسبير الجديد في فيلم غير مألوف

طاهر علوان

"ماكبث".. نبوءات الساحرات والنزاع على التاج بالأبيض والأسود.

لا تكاد تتوقّف عمليات الإعداد والاقتباس عن أعمال الكاتب المسرحي الخالد وليم شكسبير، ويشمل ذلك العديد من اللغات حتى لا تكاد ثقافة أمّة من الأمم لم تتعرّف على واحد أو أكثر من تلك الأعمال. وقد انسحب الأمر على السينما التي شهدت منذ بواكيرها انجذابا كبيرا لأعمال شكسبير وخاصة تراجيدياته الرصينة وواحدة من أهمها على الإطلاق تراجيديا ماكبث التي نحن بصددها الآن للمخرج جويل كوين.

في البدء سوف يكون ملفتا للنظر بحق أن يدخل دائرة إعداد إحدى روائع شكسبير مخرج مهم من مخرجي هوليوود هو جويل كوين الذي أعد أخيرا تراجيديا ماكبث في فيلم جديد. ولسوف يثار تساؤل مباشر خلاصته ما الجديد وما الذي سوف يضيفه هذا المخرج للأفلام السينمائية والتلفزيونية والمسلسلات وهي بالعشرات تلك التي تكاد أن تكون قد استنفدت تلك الروائع، لكن المتفق عليه أنها أعمال تنطوي على أسرار ومهارات الصنعة، بحيث أنها لا تنضب ولا تعدّ مستهلكة بل إنّها تتجدد بمرور الزمن وتجد لها جمهورها العريض في جميع القارات.

وللمرة الأولى سوف نشاهد عملا سينمائيا مهما لجويل كوين من دون شقيقه إيثان، هذا الثنائي الذي لا ينفصل والذي قدم أفلاما سينمائية بعضها عُدّ من أهم ما قدّمته هوليوود، ولهذا كانت أفلامهما تجد طريقها إلى الجوائز الكبرى مثل جائزة بافتا وغولدن غلوب وصولا إلى الأوسكار التي حصلا عليها عن فيلمهما “فارغو” إنتاج 1986، ثم عادا فحصلا على أربع جوائز أوسكار في العام 2007 عن فيلمهما “لا وطن للرجال المسنّين”، وحيث يأتي فيلم تراجيديا ماكبث بمثابة “نزوة” شخصية عبّر عنها جويل وأنه ليس إيذانا بانفصال الشقيقين عن بعضهما البعض وعملهما كلا على حدة كما أشيع عنهما وحيث أنهما عرفا بالعمل معا على الدوام.

تراجيديا الصراع

الفيلم قدم لوحات عميقة الجمال والتعبير وخاصة تلك التي تحمل مناجيات ماكبث وصراعه مع نفسه وتحولاته

يشير أرشيف السينما الشكسبيرية إلى أن العام 1908 كان هو العام الذي قدمت فيه تراجيديا شكسبير إلى الشاشة للمرة الأولى من إخراج جيمس ستيوارت بلاكتون، وكان فيلما ينتمي إلى السينما الصامتة في تلك الحقبة، ثم تلاه فيلم فرنسي بعد ذلك بعام واحد للمخرج أندريه كالميت، وهكذا تتابع أعداد الأفلام المأخوذة عن مسرحية وليام شكسبير الخالد مكبث في المرحلة الصامتة حتى وصل إلى عشرة أفلام، حتى كان التحول من خلال رائعة المخرج والمؤلف والمنتج ذائع الصيت أورسون ويلز إذ أخرج وكتب السيناريو وأنتج ومثّل فيلما معدّا عن مسرحة مكبث، وفي هذا الفيلم أدى أورسون ويلز دور مكبث بينما جسدت شخصية الزوجة الممثلة جانيت نولان.

ثم أعيد تجسيد الشخصية وإعداد النص الشكسبيري مرات عدة، كان من أهمها أداء الممثل الكبير شون كونري شخصية مكبث ومن إخراج باول الموند.

ومن كبار المخرجين الذين أعجبوا بتراجيديا ماكبث المخرج رومان بولانيسكي الذي قدم الفيلم في العام 1971 وحيث جسد شخصية ماكبث الممثل جون فينش بينما أدت دور السيدة ماكبث الممثلة فرنسيسكا آنيس.

وقبل ذلك كانت النسخة اليابانية لمكبث التي نقلها إلى الشاشة المخرج الياباني الشهير أكيرا كوروساوا تحت عنوان “عرش الدم”، وذلك في العام 1957، وقد نال الممثل توشيرو ميفيوني جائزة أفضل ممثل عن دور هاملت بشخصية يابانية إلى جانب الممثلة ايسوزو يامادا.

وإذا أردنا أن نمضي في هذا السرد فإن هنالك المزيد من الأفلام وتجارب المخرجين التي اشتغلت على هذه المسرحية التراجيدية الوحيدة التي أراد لها شكسبير أن يجري تجسيدها على الأراضي الأسكتلندية، ومستمدة من التاريخ والتراث الأسكتلندي، حتى سمّيت بالمسرحية أو التراجيديا الأسكتلندية، وربما أيضا بسبب التطير من الاسم الذي حلّت به اللعنة وهو ماكبث، وهي قضية أخرى غريبة ارتبطت بهذا الاسم والدور، إذ صادف أن تعرّض لحوادث مميتة أو مات بعض ممن أدّوا دور ماكبث، وكما هو موثق للعديد من الحالات كما تذكر الباحثة لاورا شومان في موقع هيستوري دوت كوم.

ولنعد إلى تجربة المخرج جويل كوين فقد استند في عملية إعداده سينمائيا إلى عدد من المعطيات التي تلفت النظر، فمثلا عاد بنا إلى الأبيض والأسود والرمادي وإلى شكل الكادرات المربّع الذي يذكّرنا ببواكير السينما، وهنا غيّب كثيرا بل وطمس ملامح الحياة والحكم في أسكتلندا بقلاعها وقصورها ومساحاتها الخضراء وأفقها المفتوح، اختفت كل هذه العناصر البصرية وحلّت محلها أقبية وجدران عالية وسقوف ودهاليز من الكونكريت وتم تقليص الديكور والإكسسوار إلى أقل ما يمكن، وهنا لنا أن نتساءل عن فحوى هذه التجربة البصرية المختلفة وهل أراد المخرج أن يبقينا في دائرة الشخصيات وهي غارقة في الصراع والانتقام والتركيز على ذلك الحوار الشكسبيري الفخم والمحمّل بأعمق الدلالات الفكرية والفلسفية.

وفي هذا الإطار ها نحن نشاهد ذلك العمل المسرحي الذي عرض للمرة الأولى قبل أكثر من أربعة قرون، ومنذ ذلك العهد وحتى الساعة وماكبث حاضر، ولكنه هذه المرة ذو أصول أفريقية ويجسده الممثل المتميز دينزيل واشنطن، أحد نجوم الصف الأول في هوليوود والحاصل على الأوسكار والعديد من الجوائز الأخرى وقد عرفناه في العشرات من الأفلام المهمة.

رائعة شكسبير، التي هي واحدة من ثلاث من أهم تراجيدياته بالإضافة إلى هاملت وروميو وجوليت وبعضهم يضيف الملك لير، يصنفها الناقد روجر ايبرتمن خلال هذا الفيلم إلى نوع الفيلم نوار، حيث تعد من أكثر تراجيدياته قتامة وشراسة ودموية وفي ذات الوقت من بين أعماله الأكثر شعبية.

وفي موازاة دينزل واشنطن هنالك الممثلة المعروفة فرانسيس مكدوماند بدور السيدة مكبث وهي نفسها منتجة الفيلم وزوجة المخرج جويل كوين، ومعلوم ماذا يعني دورها مما تراكم في الأذهان في كونها المرأة الأخطر والأكثر شراسة، ها نحن نسمعها مع المشاهد الأولى وهي تستعد وتحرّض زوجها على الانتقام من الملك دونكان (أدى الدور الممثل بريندينغليسون) وهي تقول: تعالي أيتها الأرواح التي تعيش على الأفكار الفانية، غيري جنسي هنا. واملئيني في رأسي إلى أخمس قدمي حتى الطفح بالقسوة المرعبة. اجعلي دمي كثيفا؛ سدي المدخل والممر للندم، فلا تزورني أي عاطفة.

المخرج جويل كوين في سطور

مخرج أميركي من مواليد 1954 وهو من عائلة من يهود الأشكناز انتقلت من بريطانيا لتستقر في الولايات المتحدة.

لم يعرف قط مخرجا لوحده بل إن كافة أعماله السينمائية كانت مع شقيقه إيثان، ولهذا أطلق عليهما الأخوين كوين.

عرف عن الشقيقين التميز في شتى مجالات السينما من التأليف إلى الإخراج إلى الإنتاج ولهذا لاقت أفلامهما نجاحا كبيرا.

أخرج الأخوان حتى الآن 19 فيلما روائيا طويلا نال بعضها العديد من الجوائز العالمية ومنها الأوسكار عن فيلمهما "فارغو" 1986 ثم فيلمهما "لا وطن لكبار السن" الذي أنتج في العام 2007.

هذا الفيلم هو من إخراج جويل لوحده ولأول مرة من دون شقيقه.

هذا النسق التعبيري من الحوارات المليئة بالشراسة سوف يتوالى تباعا في هذا الفيلم ولهذا صرنا نتطلع إلى نوع من الممثلين الذين يعيشون تلك التراجيديا الكلاسيكية ويقدمون من خلالها ما هو مختلف وملفت للنظر وغير نمطي ولا متكرر مع أعمال أخرى.

بالطبع يحيل بعض النقاد هذا الفيلم إلى لمسات من المخرج السويدي الشهير إنغمار برغمان في رسم الكثير من المشاهد بالأبيض والأسود وهي التي برع فيها بمساعدة مدير التصوير ذائع الصيت سفين نيكفيست، أما في هذا الفيلم فجماليات الصورة وبراعتها تعود إلى مدير التصوير الفرنسي الشهير برونو ديلبونيل الحائز على جائزة السيزار ومهرجان سياتل وسبق وتم ترشيح العديد من الأعمال التي أدار تصويرها لجائزة الأوسكار.

ويمكن أن أضيف هنا لمسات المخرج الإيراني الكبير عباس كياروستامي في الفضاءات المفتوحة بالأبيض والأسود والطرق المتعرجة في وسط الحقول بالأبيض والأسود أيضا، وكلها حملت تجاربه الأسلوبية المميزة.

وبالطبع نستطيع أن نورد العديد من الأمثلة والنماذح البارعة بالأبيض والأسود التي حفل بها هذا الفيلم والتي شكّلت لوحات عميقة الجمال والتعبير، وخاصة تلك التي تحمل مناجيات ماكبث وصراعه مع نفسه والتحولات النفسية العميقة التي شهدتها شخصيته بتحريض من زوجته.

ولا يكاد يذكر اسم ماكبث إلا ويذكر معه الطمع المرضي في السلطة وأن الشخصيات المحركة للأحداث تدور في فلك ثلاث شخصيات وهي ماكبث نفسه ثم الساحرات اللائي وقفن في طريقه وهو عائد من الحرب ليحملن له نبأ تكريمه من الملك والأهم وهو ما صدمه بشدّة أنه هو نفسه سوف يصبح ملكا، أما الركن الثالث فهو الليدي ماكبث التي بمجرد أن وصلها خطاب زوجها محمّلا ببشارة نيل التاج حتى أخرجت من داخلها أبشع ما في الذات البشرية والأكثر شراسة وعدوانية وهي التي قررت أن ترتب مسرح الجريمة ليتولى ماكبث قتل الملك الذي كرّمه للتو وجاء للمبيت في قصره تكريما له.

يقول ماكبث عن أزمته الوجودية والإنسانية: أخشى أن يكون رداؤنا القديم أنسب لنا من الجديد الذي اكتسبناه، كل يوم ظلام فيا ليتني مت قبل هذه الفاجعة لكنت أسعد حالا لأنه منذ هذه اللحظة لم يبق ما يستحق الحياة، لم يبق سوى العبث، مات المجد وماتت الفضيلة، خمرة الحياة قد سكبت ولم يبق إلا الثمالة نتباهى بها.

بالطبع هنالك في عمق الذات والتاريخ ما يبرّر وحشية الليدي ماكبث من منطلق أنها كانت حفيدة ملك أسكتلندا الذي مات دفاعا عن التاج ضد الملك الذي حكم قبل دنكان والذي أمر بقتل أخيها الوحيد.

وكان شكسبير قد كتب المسرحية سنة 1606، كتعبير عن الشكر للملك جيمس الأول، الذي كان ملك أسكتلندا قبل أن يرث عرش إنجلترا سنة 1603. وكذا كان جيمس الأول راعي فرقة شكسبير المسرحية، ويعتقد أنه من سلالة بانكو هو الشخصية.

ويقدم الفيلم شخصية ملك أسكتلندا دانكان، الذي تصله أخبار قتل المتمرد ماكدونالند بيدي ابن عمه ماكبث وانتصار جيشه بقيادة ماكبث وبانكو (يقوم بالدور الممثل بيرتي كارفيل) على الجيش النرويجي واعتقال القائد الخائن أمير كودور، الذي انحاز إلى العدو.

بالطبع سوف تظهر شخصية بانكو ندّا ومنافسا جديدا يضاف إلى ابن الملك نفسه الذي نصّبه والده وليّا للعهد، لكن ها هي الألقاب تمطر على ماكبث في مشهد مهيب منها ألقاب: أمير جلاميس، وسيد كودور، وصاحب الجلالة أما بانكو نفسه فإنه عندما يسأل الساحرات عن مستقبله، يأتيه الجواب بأنه لن يصبح ملكا وإنما أبا لسلالة من ملوك أسكتلندا.

بالطبع سوف نمضي مع النبوءة إلى نهايتها وذلك بإقدام ماكبث بالتآمر على صديقه المخلص بانكو والتخلص منه، لكنه لا يستطيع التخلص من ابنه الصغير لأن ذلك هو القدر وما سوف يحمله من تحولات.

شخصيتان متكاملتان

على صعيد العمل الإخراجي، يستخدم المخرج مهارات تعبيرية متنوّعة لكي يزجّنا في عمق الصراع فهو في البدء يكسر النمطية السائدة والتي من المعتاد أن ينتظرها جمهور شكسبير وهو تقديم الزوجين الشابّين، بل وفي قمة الحيوية، والشباب وخاصة إغواء وإغراء الليدي ماكبث وغواياتها، أما هنا فنحن أمام الشخصيتين المذهلتين وقد وصلتا إلى حافة خريف العمر، ماكبث – دنزل واشنطن عمره 67 عاما- بينما الليدي ماكبث فرانسيس – ماكدورماند 64 عاما – ومن جانب آخر فإن ماكبث من أصول أفريقية بينما زوجته من أصول إنجليزية.

وخلال ذلك سعى المخرج لإزاحة الصورة النمطية المعتادة لشخصية الممثل دينزل واشنطن وطريقة نطقه وطريقة مشيه مما تراكم لدى المشاهد من خلال العشرات من الأفلام التي كان هو الشخصية الرئيسية فيها إلى صورة مختلفة تماما من ناحية كثرة المناجاة والصراع والصوت المختلف الذي ليس هو الصوت الإنجليزي العميق الذي تنتظره، وبحسب الناقد أوستين كولينز في موقع رولينغ ستون، فإن الميزة الملفتة للنظر أننا أمام فيلم أحداثه مصطنعة وعلى الأقل مكانيا.

اللامألوف المكاني والخروج على النمطية المكانية وتوظيف تقنيات التصوير كلها تظافرت من أجل تقديم نسخة جديدة فيها قدر من الاختلاف عن الصورة النمطية لماكبث التي شاعت وانتشرت في مرات سابقة وهي ميزة ملفتة للنظر وتشكل علامة مميزة في هذا المجال من خلال تقديم سلسلة الأحداث وبما في ذلك الساحرات أيضا في صيغة نمطية مختلفة وملفتة للنظر.

وهنا سوف نتوقف عند المشاهد الحوارية سواء بين ماكبث والساحرات أو بينه وبين زوجته التي تكمل واقعيا دور الساحرات، لكن ها هو يناقش معهن مستقبله وهن جالسات في الأعلى بينما يكون ذلك بمثابة كابوس يتناوشه ويضعه في موقف شديد الحرج أمام الحاشية، لاسيما وأنه يعيش كوابيس عودة ظهور بانكو في شكل شبح أو غراب، وهو ذات التحول الذي تستخدمه الساحرات الثلاث عندما يتركن ماكبث.

وأما على صعيد هذا النوع من الدراما والصراع الذي ميز ماكبث فإن نشوب الصراع ونتائجه تبدو معلومة ومكشوفة مقدما ابتداء من نبوءة اعتلاء العرش وما تلاها من استعداد الليدي ماكبث للتخلص من الملك والتحريض المصاحب لها.

نجح المخرج في إزاحة الصورة النمطية المعتادة لدى المشاهدين لشخصية الممثل دينزل واشنطن وطريقة نطقه ومشيه

هنا سوف نفتقد الحبكات الثانوية أو الفرعية وهي ميزة مختلفة في هذا العمل الشكسبيري وهو ما التزم المخرجون ومنهم كوين بالسير على مسار تلك الدراما وخطوط الصراع كما كتبها شكسبير.

 بينما نجد على سبيل المثال أن المخرج الأسترالي جوستين كورزيل الذي قدم فيلم ماكبث في العام 2015 من خلال الشخصيتين الشابتين اللتين أديا دوريهما الممثلان مايكل فاسبندر الألماني – الأيرلندي والممثلة الفرنسية الجميلة ماريونكوتيار بدور الليدي ماكبث، وتبدأ الأحداث منطلقة من قيام ماكبث بتأبين ابنه ودفنه مما لا أساس له في المسرحية ثم إنه يزج الملك دنكان في حرب أهلية انتقاما.

ربما كانت ميزة العمل الإخراجي لكوين هي المحافظة على الخطوط السردية الأساسية الرصينة التي شكلت في حد ذاتها ذائقة جمالية خاصة وهو هنا مزجها بنمط بصري قائم على فكرة النوستالجيا اللونية بعودتنا إلى الأبيض والأسود فضلا عن جعل الشخصيات وتحولاتها هو محور اهتمام الحمهور.

وفي موازاة ذلك كانت المعالجة السينمائية للأحداث فيها قدر من التوازن والمحافظة على ذاكرة مكانية ثابتة قدر المستطاع، فمكبث هنا لم يهنأ قط بذلك المجد الملكي بل هو الذي رثا نفسه وندم على ما قام به من قتل الملك، ولكن ندمه لا يشكل شيئا أمام شراسة زوجته ونزعتها العدوانية وها هي تقول له بعدما تم قتل الملك: يداي مثل يداك ملطختان بالدم لكنني أخجل أن يكون لي قلب طاهر مثل قلبك.

هنا تتجلى الفاصلة بين الشخصيتين وكما في التحليل الفرويدي فإن الشخصيتين تكمّلان بعضهما البعض وتكملان النقص في ما بينهما.

كاتب عراقي مقيم في لندن

 

العرب اللندنية في

30.01.2022

 
 
 
 
 

فيلم «The Hand of God»: يد الرب التي جعلتني مخرجًا

أحمد عزت

أنا دائمًا في الطريق إلي البيت، دائمًا في الطريق إلى بيت أبي.

اقتباس للروائي الألماني «نوفاليس» على لسان الشخصية التي يلعبها «بول دانو» من فيلم «youth».

مع بداية تفشي وباء كورونا والإغلاق الكامل الذي حدث في 2020 عاد المخرج الإيطالي باولو سورينتينو إلى بيت عائلته في نابولي بعد غياب طويل. كان الوقت آنذاك موسم العودة للبيت، عودة اضطرارية وسط أجواء مليئة بالهلع والخوف.  

منذ بداية مسيرته السينمائية وهناك حكاية واحدة تلح عليه أكثر من أي حكاية أخرى، لكن ربما لم تأتِه الشجاعة من قبل للاقتراب منها.  هذه الحكاية هي حكايته الخاصة: حكاية المراهق الذي  كان لحضوره مباراة كرة قدم لفريقه نابولي لمشاهدة مارادونا أن ينقذه من مصير والديه اللذين قضيا نحبهما باستنشاق أول أكسيد الكربون المتسرب من مدفأة بيتهما الجديد. الآن فقط فيما يبدو صار مستعدًّا ليفتح قلبه ويحكي عن خسارته الكبرى

بداية صيف 2020 أرسل سورينتينو رسالة لمنتجه لورينزو ميلي: هناك فيلم رغبت دومًا في صنعه سأحاول كتابته هذا الصيف. بعد أسبوعين من هذه الرسالة أرسل له سيناريو فيلمه the hand of god. نحن هنا أمام أكثر أفلامه ذاتية وحميمية، الفيلم الذي يفكر فيه منذ استحوذت عليه فكرة أن يكون مخرجًا سينمائيًّا. كما لو كانت كل مسيرته السابقة هي الطريق إلى هذه اللحظة التي يعود فيها إلى حيث بدأ كل شيء، إلى الجذور التي غذت شخصيته كإنسان وفنان

في فيلم سورينتينو «الجمال العظيم – the great beauty» تسأل الأخت ماريا -قديسة تجاوز عمرها المائة عام، تتغذى فقط على جذور النباتات- بطله جيب جامبارديلا: هل تعرف لماذا أتناول الجذور؟ يجيبها بالنفي، تخبره لأن الجذور مهمة. أعتقد أن هذه العودة لا تمنحنا فقط فهمًا لشخصية سورينتينو، بل لسينماه أيضًا:  منابع إلهامه، طبيعة شخصياته، أسلوبيته وما تمثله السينما بالنسبة إليه.

في حوار مع سورينتينو يقول: أنا مفتون بالعجائز، عندما أشيخ آمل أن أفتتن بالشباب. ربما شعر بالتعب من الكتابة عن الكاردينالات والأساقفة، من أن يضع العجائز في قلب أفلامه. هنا يضع نفسه مراهقًا باسم فابيتو سكيسا في قلب فيلمه. فابيتو/ الأنا الآخر لسورينتينو يتجول وحيدًا في الغالب بلا حب أو أصدقاء. إنه مهووس بمارادونا وبزوجة عمه المثيرة والمضطربة عقليًّا (باتريزيا)، وفي الخلفية عمارة نابولي وطبيعتها الخاصة، تابلوهات حية للحياة اليومية بالمدينة

لا توجد هنا حبكة بمعناها الكلاسيكي، لسنا أمام سرد مقود بحبكة ما، بل سلسلة من الذكريات يمتزج في نبرتها الهادئة بتناغم شديد ما هو كوميدي وما هو تراجيدي. طالما أولى سورنتينو الأهمية القصوى للمشاعر في أفلامه، للشخصيات وليس للحبكة، وهذا الفيلم أيضًا امتداد لذلك. يميل الفيلم سرديًّا ولونيًّا إلى أن يكون قسمين، تفصلهما تراجيديا الموت. باليتة الألوان في النصف الأول دافئة وذات مدًى لوني واسع  كما لو كانت استعادة لذكرى سعيدة عن العائلة. تخفت الألوان في النصف الثاني من الفيلم، تصير أكثر برودة وإعتامًا. بعد النصف الأول من الفيلم الأكثر خفة وإشراقًا وبعد تراجيديا الفقد تتبخر العائلة من حول فابيتو ليواجه هذا الفقد وحيدًا ومحطم القلب.

في أعمال سورينتينو دائمًا لا شيء يدوم، لا الجمال ولا السعادة. طالما كان الموت حاضرًا بقوة ضمن سرديات أفلامه كعنصر مهم في تكوين الشخصية وتحولاتها. يجبر الشخصيات على النظر بعيون جديدة للحياة ولذواتهم

سورينتينو والمنابع الأولى لإلهامه

يكشف لنا هنا سورينتينو بوضوح عن منابع إلهامه، يعود بنا في «the hand of god» إلى صيف 1984، الصيف الذي هبط فيه مارادونا على نابولي كمعجزة. الجميع في انتظاره، يخبر العم ألفريدو فابيتو: إذا لم يأتِ مارادونا إلى نابولي فسأقتل نفسي.  لا تخفى مكانة مارادونا عند سورينتينو على أحد، إنه لقاؤه الأول مع الفن، الفن كفرجة – spectacle- كعرض فاتن، كيف يصبح لاعب كرة قدم فنانًا والفن كسيرك بصري مثير وهو ما يقودنا أيضًا إلى فيليني، هل هناك اليوم من هو أكثر فيلينية من سورينتينو؟!

يعترف سورينتينو في أحد حواراته: «مهما حاولت التخلص من تأثيره فإنه يعرف كيف يتسلل إلى رأسي». يذهب الأخ الذي يرغب في أن يكون ممثلًا لمقابلة فيليني، ربما حصل على  دور ككومبارس في فيلمه القادم، لكنه يرفضه لأن وجهه عادي، يبدو الحشد الجالس في انتظار ملاقاة فيليني بغرابة أطوارهم كشخصيات فيلينية بالفعل.

يحضر أيضًا فيلم  المخرج الإيطالي سيرجيو ليوني «once upon a time in America» أكثر من مرة وهو الفيلم الذي يعتبره سورينتينو حبه السينمائي الأول. هنا  أتخيل عودة سورينتينو  بعد عدة عقود إلى مدينته نابولي كعودة نودلز بطل «حدث ذات مرة في أمريكا» إلى نيويورك، يعود ومعه مفتاح ساعة متوقفة منذ خمسة وثلاثين عامًا، ومع عودة نودلز/ سورينتينو من جديد إلى مدينته يعود سريان الزمن المتوقف مع فيض من الحنين والميلانكووليا المصاحب للزمن المستعاد.

يحضر أيضًا المخرج أنطونيو كابوانو. النابوليتاني الآخر الذي كان صاحب تأثير لا ينكر عليه في بداية مسيرته. أول عمل يؤديه سورينتينو في السينما هو المشاركة في كتابة سيناريو فيلم لكابوانو بعنوان رماد نابولي.

أعتقد أن لكل فيلم قلبًا، إذا لامسته يمكنك أن تدرك روحه. وقلب هذا الفيلم هو  مشهد لقاء فابيتو بكابوانو، المشهد أقرب إلى مشهد الاستجواب بين محقق ومشتبه به، يصارح فابيتو كابوانو برغبته في أن يكون مخرجًا سينمائيًّا، أن يهرب من واقعه المؤلم  إلى مملكة الخيال السينمائي. وكابوانو يرى ذلك غير كافٍ يريد أن يعري خجل هذا المراهق، أن يكشف جذر الألم الذي يحرك رغبته. يجيبه بعد ضغط متواصل: عندما مات والداي لم يسمح لي برؤيتهما.

السينما كمهرب/ السينما كخلاص

تلوح السينما لبطلنا عقب مأساة الفقد كخلاص محتمل. على لسان فيليني في الفيلم تأتي هذه العبارة  التي تعكس جوهر سينما فيليني ونهج سورنتينو شديد التأثر به: السينما ليست مهمة لأي شيء. إنها فقط إلهاء. إلهاء عن الواقع. الواقع مقيت. هذا هو ما يجذب فابيتو للسينما. ما يجذب سورينتينو أيضًا. أفلامه بها نوع من الاحتفاء والاحتفال بالسينما كفن هروبي، إنه أستاذ التمويه والإخفاء بمخيلته الباروكية (الميل للتكلف والتضخيم والتعقيد) وأسلوبه الفخم. كما تبدو شخصياته في سبيل هروبها من وحدتها وماضيها الأليم عالقة بالسطح البراق للأشياء واللحظات.

بين قوسي البداية والنهاية يتجلى الخيال كملاذ من واقع أليم. مشهد البداية حيث الكاميرا المحمولة بهليكوبتر مقتربة من نابولي، كل شيء في المشهد واقعي، شريطا الصوت والصورة يعكسان الواقع ، تقترب الكاميرا من سيارة ذات طراز  عتيق وستائر حمراء تصاحبها الكاميرا قليلًا كأنها تجذب انتباهنا إليها. تظهر نفس السيارة في المشهد التالي أمام باتريزيا ليتضح أن من يستقل السيارة هو القديس جينارو، القديس الحامي لنابولي الذي يصحبها إلى شخصية فلكلورية أخرى هي الراهب الصغير الذي حسب الحكايات يزور البائسين والفقراء ليمنحهم شيئًا من الحظ السعيد.

باتريزيا يائسة وبحاجة لأن تكون أمًّا يستدعي خيالها القديسَين ليمنحاها البركة. الخيال هنا هو ما ينقذها من السقوط في قبضة الجنون. لا فارق بين مشهدية الواقع والفانتازيا عند سورينتينو، بل نسيج واحد. أليس هذا هو جوهر السينما عند فيليني أيضًا، دمج اليومي بالخيالي المثير في مشهدية مذهلة. يظهر الراهب الصغير مجددًا عند نهاية الفيلم لفابيتو  في طريقه إلى روما كأنما يباركه، يتمنى له حظًّا سعيدًا في اللحظة التي قرر أن يركن فيها إلى الخيال لمواجهة الواقع. يضع سماعة الرأس ليختفي صوت الواقع. يسلك نفس الطريق الذي اختارته باتريزيا، وإن كانت قد فقدت نفسها داخل رأسها فإن بإمكانه أن ينجو من هذا المصير عبر السينما.

فابيتو: المراهق الذي سيصير كل أبطاله الوحيدين

اللقطات السابقة من أفلام سورنتينو تعكس وحدة وعزلة أبطاله، وهي بالترتيب (the hand of god- the great beauty- the young pope TV show- youth)

من خلال The Hand of God يمكننا أن نفهم شخصيات سورينتينو بأثر رجعي، نلتقي بطله هنا ما قبل لحظة الاغتراب عن الذات والغرق في حياة تضع مسافة دائمًا بينه وبين الواقع.

يمكنك أن تتخيل فابيتو هو المراهق الذي سيصير فيما بعد أبطاله الوحيدين، الخائفين من العالم ومن المشاعر الحقيقية. يتظاهر أبطال سورينتينو دائمًا باللامبالاة وغالبًا ما يساء فهمهم. يفضلون المضي مع تيار الحياة بدلًا من الانغماس والاستغراق في  تأمل الذات أو الإشفاق عليها.

لماذا توقف جيب جامبرديلا عن الكتابة بعد كتابه الأول؟ ربما  هربا من المشاعر الحقيقية من ألم الخيبة في الحب من مواجهة ذاته. الشخصية التي يؤديها (مايكل كين) في فيلمه شباب: يضع مسافة بينه وبين الأشياء  يعزل نفسه عاطفيًّا عمن حوله، حتى أقرب الناس إليه. يرى المشاعر أمرًا مبالغًا فيه مع أنه شخصية رومانتيكية وشديدة العاطفية. في IL divo، يضع جوليو أندريوتي بينه وبين الواقع مسافة عبر السخرية، يقول: السخرية هي العلاج  الأفضل لمواجهة الموت. يضع مسافة بينه وبين العالم وبين مشاعره عبر السخرية. يقول له أحد أصدقائه: 30 عامًا ولم تظهر أي عاطفة نحوي. فيجيبه: لكنني دائمًا ما دافعت عنك

 شخصياته دائمًا عالقة في دور المتفرج وكأنها ترفض المشاركة الحقيقية في الحياة، لديهم ماضٍ من الخيبات والأحزان يجبرهم على أخذ  مسافة من الواقع.

كأنه هنا ليس بحاجة إلى تمويه أو خداع، فقد قرر طوعًا أن يفتح قلبه ويبوح. لا حاجة لتعقيد الميزانسين ولا الإفراط في شكلانيته المعتادة، هنا اقتصاد واضح في حركة الكاميرا والممثلين، الإضاءة المسرحية والموسيقى. سورينتينو  هنا أكثر بساطة في أسلوبه من أي من أفلامه السابقة، أقل باروكية وأكثر طبيعية.  نحن هنا أكثر قربًا من شخصياته ومشاعرها من أي فيلم آخر، هذا فيلم يلامس القلب مباشرة.

سورنتينو  الذي يمثل بلا شك عودة لزمن مؤلفي السينما الإيطالية الكبار  فيليني، بازوليني، برتولوتشي وسكولا، يقدم هنا  بشاعرية واضحة حكاية عن الحب، الفقد، عن اكتشاف الذات، حكاية حميمية عن العائلة والقدر، عن الصداقة والسينما.

 

موقع "إضاءات" في

30.01.2022

 
 
 
 
 

Drive my car أحد أبرز الأفلام المرشّحة لاكتساح جـوائز الأوسكار:

ريوسوكي هاموغوتشي «يقودنا» إلى مملكة الأشباح المتعبة

شفيق طبارة

إنّه بلا شكّ أحد أبرز الأفلام في عام 2021. نحن أمام تحفة سينمائية، بتوقيع أحد أهم المخرجين وكتّاب السيناريو اليابانيّين وأكثرهم شهرةً في أوروبا. شريطه «قودي سيارتي» (2021 ـــ Drive my car) مرشّح قوي لفتك جوائز الأوسكار في 27 آذار (مارس) المقبل. سنركب تلك السيّارة الحمراء المتوجّهة إلى الماضي، كما إلى المستقبل. رحلة ثقيلة وشاعرية في معنى الحب والألم والذكريات والأحاسيس المُتعِبة الرابضة على القلب، وسؤال حول مواصلة الحياة رغم كل شيء.

«يجب أن نعيش حياتنا. نعم، سنعيش، خالي فانيا. سنعيش في موكب الأيام الطويلة التي سبقتنا. وخلال الأمسيات الطويلة، سوف نتحمل بصبر التجارب التي يفرضها علينا القدر؛ سنعمل مع الآخرين من دون راحة، سواء الآن أو عندما نتقدم في السن. وعندما تأتي ساعتنا، سنلتقي بها بتواضع مستسلمين. وهناك، بعد القبر نقول إنّنا تألمنا وبكينا، وأن حياتنا كانت مريرة، وسوف يرحمنا الله. وقتها، يا خالي العزيز، سنرى الحياة المشرقة والجميلة؛ سنبتهج وننظر إلى الوراء على حزننا هنا... وسنرتاح». بمونولوج سونيا من مسرحية «الخال فانيا» (1898) لتيشخوف، ينتهي فيلم «قودي سيارتي» (2021 ـــــــ Drive my car) للمخرج الياباني ريوسوكي هاموغوتشي (1978).

النص لا نسمعه، بل نقرأه على شاشة على خشبة المسرح بينما سونيا تقوله بلغة الإشارة. لغة نقلت ثقل هذه الكلمات علينا، وعلى الخال فانيا بينما تدمع عيناه وأعيننا. «قودي سيارتي» هو فيلم من كلمات: كلمات مكتوبة في نص، كلمات تُقرأ على شاشة، كلمات تنطق بالإشارات... كلمات تستخدم لابتكار قصص والاعتراف بالصدمات والأخطاء وإيجاد الذات. «قودي سيارتي» فيلم في رحلة سيارة لا نهاية لها، تحفر داخل روح الأبطال بكلمات قادرة على تفكيك وتحليل مدى إرهاق مخرج مسرحي عالق في ماضٍ لا يستطيع التعامل معه، وسائقة تقود فقط. الشخصيات والكلمات روح فيلم هاموغوتشي، من خلالهما يعكس الياباني قوة اللّغة وقدرتها على تجاوز حدود الواقع، وماهية الحب وصعوبة التواصل مع الآخرين، والانفتاح وقبول الخيارات التي تمّ اتّخاذها في الماضي. في «قودي سيارتي»، تُستخدم الكلمات قبل أي شيء كنهر نقي للبنية الإيقاعية للفيلم بينما يتدفّق الصوت الذي يُصبح سجادة خشنة للصور.

يوسوكي (هيدتوشي نشيما) ممثل ومخرج مسرحي، وأوتو (ريكا كيريشيما) كاتبة سيناريو. تزوّجا قبل أكثر من عشرين عاماً، علاقتهما يطاردها ماضيهما. عناقهما بارد، قبلاتهما بلا عاطفة ويمارسان الجنس فقط للبحث عن قصص تنساها أوتو في الصباح ويتذكرها يوسوكي. حبهما يشتعل لأسباب خاطئة ويستند إلى ذكريات بعيدة. لم يكن لدى يوسوكي الشجاعة لمواجهة زوجته التي تخونه، ربما خوفاً من انفجار فقاعة لا يستطيع الخروج منها ولا يريد ذلك. تستمر العلاقة حتى تصاب أوتو بنزيف في الدماغ، وتموت بمفردها في منزلها، بينما يقضي يوسوكي أيامه في الخارج لأنه يخشى المواجهة المحتملة لقصتهما... مواجهة لن تأتي أبداً.
مضى عامان ولم ينجح يوسوكي بالتغلّب على ماضيه وفقدان زوجته. في محاولة لتغيير حياته، يوافق على اقتراح من مهرجان هيروشيما بإخراج وتأدية دور الخال فانيا في مسرحية تشيخوف. في سيارة «صعب 900 توربو»، حمراء ينطلق صوب هذه المغامرة. في هيروشيما، يطلب الإقامة بعيداً عن المسرح لأنه يحب القيادة ومراجعة النصوص بصوت عالٍ من خلال الأشرطة التي سجّلتها زوجته. لكن إدارة المسرح تلزمه بموجب القانون أن يكون له سائق. سائقته الجديدة تدعى ميساكي (توكو مييورا)، شابة لا تتحدث كثيراً وتركز فقط على القيادة. في هيروشيما، ماضي يوسوكي يبقى يلاحقه، ليس فقط من خلال الذكريات أو صوت زوجته في المسجلة، ولكن أيضاً في أشخاص يدخلون حياته من دون استئذان. ماضي يوسوكي حتى قبل وفاة زوجته ثقيل جداً عليه، كذلك ماضي ميساكي. رحلة تلو أخرى، سيتمكن الاثنان من التحدّث وتدمير الجدران التي أقاماها طوال حياتهما، وسيسمحان للكلمات أن تتدفّق، وللأسرار أن تعلن، وللثقة أن تظهر بغية بناء علاقة يمكن أن تغيرهما إلى الأبد
.

تُستخدم الكلمات كنهر نقيّ للبنية الإيقاعية للفيلم بينما يتدفّق الصوت الذي يصبح سجادة خشنة للصور

ريوسوكي هاموغوتشي أحد أهم المخرجين وكتاب السيناريو اليابانيّين وأكثرهم شهرة في أوروبا (عضو لجنة تحكيم «مهرجان برلين» 2022)، ولو كرّس حياته للسينما بالكامل قبل بضع سنوات فقط. بعد سنوات عديدة في الأفلام الوثائقية، أخرج في السابعة والثلاثين من عمره، باكورته الروائية الطوئلة «شغف» (2008). وفي عام 2015، أخرج فيلمه الثاني «ساعات سعيدة» (مدّته خمس ساعات) من دون ممثّلين محترفين. وها هو يعود العام الماضي بفيلمَين عرضا دقّة الإخراج والعمق المذهل لسيناريواته: الأول «عجلة الحظ والفانتازيا» (دب برلين الفضي) والثاني «قودي سيارتي» (أفضل سيناريو في «مهرجان كانّ» وأفضل فيلم في جوائز «الغولدن غلوب»، ويتوقّع له أن يكتسح جوائز الأوسكار في 27 آذار/ مارس المقبل).

يعكس «قودي سيارتي» بشكل مثالي شاعرية مخرجه الخاصة. البنية الدّاعمة للسرد ليست الحبكة، بل الشخصيّات التي تدور حولها والعلاقات التي تخلقها في ما بينها. يكتب هاماغوتشي قصصاً بسيطة بحيث يترك مساحة واسعة لتعميق المواضيع التي ينوي التعامل معها من خلال الكلمات والحوارات. الفيلم الذي شارك في كتابته مع تاكاماسا أوي، مستوحى من قصّة للكاتب الياباني هاروكي موراكامي واردة في مجموعة «رجال بلا نساء» (2014). أخذ هاماغوتشي قصّة موراكامي ومزجها بأفكاره وأضاف إليها مسرح تشيخوف ومسرح صامويل بيكيت، خصوصاً «في انتظار غودو». هنا يُطلق المخرج لعبة التأمّلات والحوارات ليس فقط بين يوسوكي وميساكي، ولكن أيضاً بين الممثّلين الذين يشاركون في المسرحية التي يتحدّث كلّ منهم لغته الخاصة (اليابانية، الصينية، الفيليبينية، الماندارين، الألمانية، لغة الإشارة). بين رحلة السيارة ورحلات الممثّلين ومكان التدريب والمسرح، تفتح الشخصيّات على بعضها بعضاً. على امتداد الفيلم، تصبح الكلمات أكثر ثقلاً وإيقاع الصمت أكثر رعباً، كما أنّ ثلج هيروشيما يكتم كلّ صوت في وجه أنقاض الماضي.
في هذا الفيلم، يصقل هاماغوتشي أسلوبه المعتاد والأنيق المكوّن من مشاهد ثابتة طويلة ولقطات مقرّبة على الوجه، ويتخلّى عن النغمة الساخرة التي طبعت أعماله السابقة. يدخل في ألم وأوهام مجموعة من الشخصيات التي تجد حياتها في المواجهة والانفتاح. المسرح، وغرفة التّدريب والسيارة هي المواقع المثالية حيث تجد الشخصيّات ملاذاً، سواء في قراءة نص تشيخوف أو في المواجهة أو في العزلة الوقائية لأفكارها
.

على مدى ثلاث ساعات عاطفية، ننغمس في عزلة كل نظرة، نُعيد التثقّف بالحياة، نتعلم الاستماع، نظل أمام الشاشة مرتبطين بكلمة أو فكرة، ومن بعدها، ندرك أننا كنا أمام تحفة سينمائية لم نرَ مثلها منذ سنوات طويلة. التكرار الهوسي لنص تشيخوف في شريط زوجة يوسوكي التي يُسمع طوال رحلات السيارة، وطاولة القراءة في تدريبات المسرحية، أجبرت الممثلين على التخلص من أي عاطفة تجاه هذه الكلمات. قام هاماغوتشي بإفراغ متعمّد لمعنى الكلمات، بينما كلّ كلمة منطوقة بعيداً عن المسرحية بين الشخصيات تثقل كاهلها، كلمات لا تخرج بالسهل، كأنّ إخراج القلب أسهل من إخراج أي كلمة.

ينقسم الفيلم إلى أربع مراحل متداخلة: حياة يوسوكي مع زوجته حتى وفاتها، الخال فانيا والمسرحية، رحلات يوسوكي وميساكي في السيارة، والحقيقة. تهدف هذه المراحل المتداخلة إلى تحديد المراحل العاطفية لبطل الرواية والشخصيات. وتيرة الفيلم بطيئة جداً، وغالباً ما يسيطر النص على الكاميرا، وقبل أي شيء هناك لحظات صمت تلتقط المشاعر وتؤطّر العنصر الرمزي للقصة، تقاطعات الطرق مثل تقاطعات الوجود، مع كلّ وقفة في السيارة ولحظة صمت يبدأ طريق وجودي جديد.

مشاهد ثابتة طويلة ولقطات مقرّبة على الوجه، وتخلّي عن النغمة الساخرة التي طبعت أعماله السابقة

يتكيّف هاماغوتشي مع قصّة موراكامي ويكملها ويُعيد تركيبها ويتعمّق بها أكثر. صور الكلمات التي لم يكتبها موراكامي، نصّت بنقل الأفكار والمفاهيم وأيضاً المشاعر. هاماغوتشي مثالي لنقل موراكامي إلى السينما، لأنهما يعملان على مواضيع مشابهة. ينجح الفيلم أن يكون جميلاً ومؤلماً في آن، مسالماً في شكله ولكنه مضطرب في القصص التي يرويها وفي الأحاسيس التي تمر بها شخصياته. من خلال الفيلم، نكتشف كيفيّة تكوين هذا الشيء المسمّى بالحب من خلال الذاكرة والشعور بالذنب واستحالة الغفران والفن والمسرح والتمثيل والحياة. كلّ هذه الكلمات وحدها تبدو هائلة، لكن لا يمكن الاستهانة بقدرة السينما على احتوائها كلّها. السينما فن البطء والجمال والكلمة.

تمكن هاماغوتشي بذكاء ومهارة وتحايل، من الوصول إلى أعماق الأشياء بدون أن يشعرنا بذلك. فجأة نجد أنفسنا في جوهر شيء معين. أخذنا من دون دراية إلى ثلج هيروشيما وفجأة تُصبح هي الفيلم كلّه باعتبارها جغرافيا المعاناة والإنسانية والدّمار التي تتجدّد من خلال ذاكرتها، لكنّها تركّز على المستقبل. «قودي سيارتي» فيلم استثنائي، السيارة تصبح المكان المثالي للاعتبارات اللانهائية والثمينة. يلتقط الطريق المضاء ليلاً وهج الأشباح، فالسينما هي مملكة الأشباح المتعبة والوحيدة. ثلاث ساعات هزّ هاماغوتشي فيها شبكة أعيننا بفيلم جميل إلى درجة لا تُطاق أحياناً. لا مجال للهرب مع هاماغوتشي، حتى يوسوكي الذي يهرب من الذاكرة إلى العمل ويحاول عدم البكاء، يجد قطرات دواء عينيه المتعبتين تبكي بدلاً عنه. يقول يوسوكي: «أحياناً أنسى أنني في السيارة». وفي بعض الأحيان، ننسى أننا نشاهد فيلماً، لأنه يفتح أمام أعيننا بشكل غير عادي مثل الحياة. يُشبه تماماً عندما فتح يوسوكي وميساكي فتحة سقف السيارة أثناء القيادة في الليل، ورفعا أيديهم ممسكين بالسجائر واستمتعوا باللحظة من دون أن ينبسوا ببنت شفة، مدركين بشكل فردي أنهما بحاجة لمواصلة القيادة والعيش.

 

الأخبار اللبنانية في

31.01.2022

 
 
 
 
 

(الملك ريتشارد و DON’T LOOK UP) يتصدران ترشيحات نقاد هوليوود

الوكالات ـ «سينماتوغراف»

تزايدت حظوظ أفلام الملك ريتشارد، Don’t Look Up، ليكوريس بيتزا وNightmare Alley  في الفوز بالأوسكار بعد ترشيحها لجوائز نقابة الكتاب لعام 2022.

وتتضمن القائمة أيضاً أفلام كودا وديون وقصة الحي الغربي وتيك تيك بوم التي تنضم إلى Nightmare Alley في فئة السيناريو المعدل، إلى جانب Being the Ricardos” و The French Dispatch في فئة السيناريو الأصلي.

الغائب الأبرز هو فيلم سبايدرمان: لا سبيل للعودة الذي لم يتقدم للترشيحات في الموعد النهائي.

وتعتبر أفلام «بلفاست» و«قوة الكلب» و«الابنة المفقودة» على وجه الخصوص من الأفلام المرشحة بشدة لحصد جوائز الأوسكار.

وفي فئة الأفلام الوثائقية، تم ترشيح 3 سيناريوهات فقط: أنا كوستو، وفيلم «Exposing Muybridge» إلى جانب ترشيح سيناريو فيلم .«Like a Rolling Stone»

وتنضم ترشيحات نقابة الكتاب إلى جانب ترشيحات نقابات هوليوود الرئيسية الثلاث الأخرى، ممثلي الشاشة، المنتجين، وكتاب السيناريو.

وفي سياق متصل، بدأ أعضاء أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة التي تنظم حفل توزيع جوائز الأوسكار، التصويت لمرشحيهم.

ورشحت نقابة المخرجين الأمريكية كلاً من، كينيث براناه عن فيلم «بلفاست»، وجين كامبيون عن فيلم «ذي باور أوف ذي دوغ»، ودينيس فينوف عن «دون» وبول توماس أندرسون عن «ليكوريش بيتزا»، وستيفن سبيلبرغ عن “ويست سايد ستوري“.

وتظهر هذه الأفلام الخمسة كذلك في قائمة نقابة المنتجين الأمريكيين النهائية، التي تضم 10 أفلام.

وكانت المفاجأة تغيب عدد من الأفلام البارزة مثل ماكبث لجويل كوين، وهاوس أوف جوتشي لريدل سكوت بطولة ليدي جاجا.

الجدير بالذكر أن مهلة ترشيح جوائز هوليوود تم تمديدها بعد تأجيل حفل جوائز الأوسكار إلى 27 مارس المقبل حتى لا يتعارض مع دورة الألعاب الشتوية ومباراة السوبر بول الشهيرة في الولايات المتحدة الأمريكية.

وسيتم الإعلان عن الفائزين في حفل توزيع جوائز WGA في 20 مارس، قبل أسبوع واحد من حفل توزيع جوائز الأوسكار.

 

موقع "سينماتوغراف" في

31.01.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004