ملفات خاصة

 
 

قال برهان "خلص" ومشى

محمد حجيري

عن رحيل الفنان

برهان علوية

   
 
 
 
 
 
 

أتذكّر آخر مرّة شاهدتُ فيلماً للمخرج برهان علوية، وكان فيلم "خلص". رأيت برهان خارجاً من الصالة، وكأنني كنت أنتظر صورته في الواقع كما رأيتها في الجريدة... برهان بشاربيه الكثيين ونظارته وشعره، كان صورة انتظرها. يومها لم أكن متحمساً لفيلمه ولا لكل الأفلام التي تحمل رسالة... كأني في خضم الأزمات والانقسام، كنت كارهاً لكل ما يمت بصِلة إلى الحرب، حتى الأفلام التي تدينها أو تصور مآسيها وما أوصلتنا إليه. ربما لأننا كنا لا نزال في قلب الحرب وتداعياتها، نتأمل في كل نشرة أخبار، كلام الدجل عن السلاح ومن يقود السلاح، ومن يواجه العدو.

فيلم "خلص" قصّة صديقَين حميمَين من أيام الحرب الأهلية (الشاعر فادي أبو خليل وريمون حصني الى جانب ناتاشا أشقر ورفعت طربيه) يتحوّلان إلى السرقة بعدما فشلا في تحقيق الآمال المعلّقة والأحلام الموعودة. أحدهما يعتقد أنه يستطيع أن يفعل كل شيء، بما في ذلك الانتقام من حبيبته، لكنه في الحقيقة لا يستطيع سوى الهرب، إليها حيناً، وبعيداً منها حيناً آخر.

كان هذا يشبه قصة علاقة الشاعر فادي ابو خليل، والكثير من المثقفين، بشارع الحمراء. المفارقة أنه، من بعد فيلم "خلص"، لم أعد أرى فادي، وقيل الكثير بشأن ابتعاده عن الأضواء والمسرح والشعر، وقيل الكثير أيضاً بشأن غيابه، وهو الذي لم يكن يفارق شارع الحمرا ولا مقاهي المودكا والويمبي والكافية دو باري. أقفلت المقاهي وتحوّل الشارع، وحتى "المعلّم كسبار رحل"...

أيضاً لم أعدْ أتابع المخرج برهان علوية، وقيل الكثير عن أنه أمضى سنوات حتى حصل على تمويل لإنتاج "خلص" الذي كان بمثابة رسالة وداع، وقيل إنه رثاء لجيل بكامله. وفيه يتحدث عن "جيل سار وراء السراب، ووراء الظن بأن الحرب ستحقّق أحلامه. كان هذا الجيل مقتنعاً بالتغيير، لكنه أصيب بالخيبة ووصل الى الفراغ". هُزم مشروع هذا الجيل. وثمة أشخاص هُزموا ووجدوا أنفسهم وقوداً للحرب التي أعطوها في البداية مشروعية...

"خلص"، بحسب برهان، هو تعبيرٌ عن واقع الحرب التي تجاوزت حدودها لتصبح على هذا القدر من البشاعة. قال برهان "خلص" أو "كفى"، لكن المعاناة بقيت، والحالة أًصبحت أسوأ من الحرب. من بعد الفيلم، قيل إن برهان عاد إلى بلجيكا، إلى المكان الذي انطلق منه. كانت أفلامه حاضرة وشخصه غائباً، وبدا ذلك واضحاً في الرثاء الذي كتبه مقربون منه. برهان الذي كان خلال سنوات الحرب، يعرض فيلمه، ويكون بين جمهور الفيلم ومع نقاده، في مرحلة اختفى، كأنه اختار المنفى الذي تحدث عنه كثيراً، ملاذاً له، في البلد حيث لطالما واجه أهل السينما مطبات وهواجس..

قال برهان علوية "خلص" ومشى، وهذه الكلمة هي أقل الممكن.

وبرهان درس في مدرسة عين الرمانة، وعمل كمساعد مصور ثم كونترول فيديو في "تلفزيون لبنان"، ودرس بعد ذلك العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، ثم بدأ رحلة خارج البلد أتاحت له زيارة دول إفريقية مختلفة منها مصر والسودان والكونغو، وعندما عاد إلى بيروت العام 1967، وقعت حرب الأيام الستة التي دفعته إلى مغادرة لبنان إلى باريس.

في كل مرحلة كان عليه أن يصطدم بحرب. بمعنى آخر، فتح عينه فوجد الحرب أمامه، الحرب كانت بدأت في العام 1948، ولم تتوقف العام 1956، وبلغت ذروتها العام 1967... هي الحروب المتعاقبة المتناسلة التي لم تقف عند حدود الدول، بل دخلت في الزواريب وفي الكلام وفي المنابر. وعلوية، مثل كثيرين، هاجر الى فرنسا باحثاً عن العلم. التحق بالمعهد الوطني العالي لفنون العرض وتقنيات البث "إنساس" في بروكسل ببلجيكا، وتخرج فيه العام 1973 بفيلم تخرج قصير بعنوان "ملصق ضد ملصق"، وبعدها قدم فيلماً آخر بعنوان "فوريار". وهو، مثل كثيرين أيضاً، عاد الى بيروت قبل أعوام قليلة من اندلاع حربها الطويلة والقاسية، ساعياً الى بلورة أفق متجددة لسينما لبنانية عربية تتمرّد على المألوف.

في بيروت، التقى برهان علوية عدداً من السينمائيين اللبنانيين، ذوي الهواجس المشتركة والميول اليسارية، ومع مارون بغدادي الذي عاد من باريس ومات في مصعد مبنى بشكل غامض، وجوسلين صعب وجان شمعون، ورندة الشهال التي خطفها السرطان وغيرهم. والمشترك بين هؤلاء جميعاً كان الوعي بقضية فلسطين وصدمة الحرب الأهلية، صارت الحرب قرينة كل فيلم جديد يقدمونه، وشكلت الهاجس اللغوي والصوري والوجودي للمخرجين... في البداية قدم برهان أفلاماً روائية ووثائقية عديدة، منها "كفر قاسم" العام 1975، وهو الفيلم الذي تسبب في شهرته عربياً، عن قصة عاصم الجندي، والذي يسرد في قصة ساعة ونصف الساعة عشية الهجوم الإسرائيلي على مصر في العام 1956، حينا أعلنت السلطات الإسرائيلية حظر تجول في المناطق العربية في فلسطين المحتلة من دون سابق إنذار للسكان. فيُفاجأ سكان كفر قاسم، لدى عودتهم من أعمالهم، بحصار من قبل الجيش الإسرائيلي الذي سيرتكب لاحقاً ما يُعرف تاريخيا بمجزرة كفر قاسم.

ثم أخرج علوية "لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء"، وتلاه الروائي الطويل الثاني "بيروت اللقاء"(كتابة أحمد بيضون) قبل عام واحد فقط من الاجتياح الاسرائيلي للبنان في حزيران 1982، ما دفع علوية، الذي بقي في بيروت حتى لحظة الاجتياح هذه، الى خيار الهجرة الى باريس، حيث أنجز "رسالة من زمن الحرب"(1984) و"رسالة من زمن المنفى" (1989). ولم تتوقف الحرب عند الأهلية أو الحرب الاسرائيلية العربية، فعام 1990 كانت حرب الخليج الكونية بعد غزو صدام الكويت لتزيد الطين بلة، وأثرها سيرتد على المنطقة كلها من لبنان الى فلسطين وسوريا. ولم تكن هذه الحرب بمنأى عن هواجس برهان، ففي العام 1992 أخرج فيلم "وفي ليلة ظلماء" عن حرب الخليج مع مجموعة من المخرجين العالميين. في العام 2000، أخرج رسالته الثالثة والأخيرة "اليك أينما تكون" وقد وجهها من لبنان بعدما عاد من المنفى، العام 2006. أنجز علوية فيلمه الروائي الثالث "خلص"، الذي قال كثر إنه كان بمثابة "رسالة وداع"، مع أنه تابع عمله من بعده لكن بشكل خجول.

بمعنى آخر، ونحن نكتب عن سيرة برهان علوية، نجد أننا في منطقة حيث لا بد أن لم نكون في خضم حرب أهلية، أو حرب عربية اسرائيلية، أو حرب كونية، كأن قدر الشرق الاوسط أن يبقى في حرب دائمة، وما على الأفراد إلا التشاؤم، أو التوهم. وعدا ذلك كانت حياة برهان علوية هجرات ومنافي وهواجس لم تنته فصولها، وكان مخرجاً متمردا يواجه المآزق بالصورة والحوار.

 

المدن الإلكترونية في

10.09.2021

 
 
 
 
 

برهان علوية في عيون مخرجين من أربعة أجيال

حسن الساحلي

فارق برهان علوية الحياة، منذ أيام، صاحب "بيروت اللقاء" وأحد أبرز مخرجي الموجة الجديدة التي ظهرت في لبنان في بداية/منتصف السبعينيات. ضمت هذه الموجة، بالإضافة إليه، كلاً من مارون بغدادي، جوسلين صعب، رندة الشهال، جان شمعون، وآخرين. يعتبر كثيرون أن أفلام هذه المجموعة بقيت في الحرب، من دون أن تؤثر في المخرجين المنتمين إلى الجيل الأصغر، بينما يرى آخرون أن حضور هذه الموجة لا يمكن إلا أن يستمر (ولو بشكل غير مباشر)، بسبب مساهمتها في تشكيل المشهد الثقافي المحلي بأكمله خلال السبعينيات والثمانينيات، وإجابة أصحابها على أسئلة ما زال المخرجون اللبنانيون يطرحونها حتى اليوم.

لم يتوقف التساؤل حول تأثير هذه الموجة منذ انتهاء الحرب الأهلية، لكن من دون إجابات حاسمة. لذلك، نعيد اليوم طرح التساؤلات نفسها، لكن مع التركيز هذه المرة على برهان علوية، وتوجيه الأسئلة إلى مخرجين ينتمون إلى أربعة أجيال: بهيج حجيج (أصغر منه بسبع سنوات)، المخرج المعروف الذي جايل علوية لكنه تأخر في دخول مجال الإخراج السينمائي حتى انتهاء الحرب الأهلية. غسان سلهب الذي بدأ صناعة الأفلام خلال التسعينيات، ويعتبر من الأسماء المؤثرة في المخرجين المنتمين إلى الأجيال الأصغر. أحمد غصين الذي دخل المجال في العقد الأول من الألفية الثالثة، ويعتبر من رواد السينما الذاتية التي ظهرت خلال العقد الأخير. ونور عويضة التي صنعت فيلمها الأول قبل سنوات قليلة، وتنشط اليوم في مجالي النقد السينمائي وتنسيق الأفلام

بهيج حجيج: كان قائدنا الفني والسينمائي

كان برهان علوية بمثابة الأب الروحي لنا، نحن مجموعة الأصدقاء الذين عدنا من أوروبا بعد بداية الحرب. أتحدث هنا عن مجموعة مخرجين مثل مارون بغدادي، جان كلود قدسي، وجان شمعون (عمل بهيج حجيج كمساعد مخرج لعلوية في فيلم "بيروت اللقاء"). كان برهان علوية مخرجا ذكياً ومثقفاً، لم يتوقف عن إلهامنا ونفخ تلك الرغبة فينا بصناعة سينما جديدة، تعبّر عن مشاعرنا اليومية وحياتنا ومشاكلنا، وتحترم عقول المشاهدين. لطالما حلمنا بصناعة هذه السينما التي أردناها منتمية إلى سينما المؤلف، وكنا قد شاهدنا نماذجها الأولى مع مخرجين كبار مثل إنغمار برغمان، مايكل أنجلو أنطونيوني، وفيدريكو فيليني.

كان برهان علوية مثقفا عربياً بقدر ما كان لبنانياً، انطلق من خضمّ موجة عالمية التزمت بثورات الشعوب المقهورة، وتأثرت في الوقت نفسه بالثورة الطلابية في فرنسا. لذلك، يمكننا القول إن هذه الخلفية سمحت له بلعب دور القائد الفني والسينمائي لنا، نحن الجيل الأصغر  منه. أتذكر أني حين شاهدت فيلمه "كفر قاسم"، أعجبت كثيرا ًبه، فهو أول فيلم حقيقي أشاهده عن الثورة الفلسطينية، وأحد أول نماذج الدوكيو-درامية المستندة إلى وثيقة تاريخية، وفي الوقت نفسه تمتلك لغة روائية استثنائية.

في العام 1981، حين طلب مني الراحل العمل إلى جانبه في "بيروت اللقاء" كمساعد مخرج، شعرت بالفخر والسعادة، فأنا أعتبر نفسي من جيل برهان، وبالنسبة اليّ، هو لم يكن سينمائياً فحسب، بل كان أيضاً كاتباً وروائياً، يمتلك قوة فكرية توازي قوته السينمائية. لكن "بيروت اللقاء" كان فيلماً صعباً من الناحية الإنتاجية، عانينا كثيراً لإنهائه بسبب ظروف القصف العشوائي الذي شهدته بيروت خلال تلك المرحلة. في الوقت نفسه، كانت تجربة جديدة وغير مسبوقة في لبنان، تعلمت منها الكثير، وشكلت لي ملامح السينما التي أحب أن أصنعها في المستقبل.

المهم في الفيلم أن برهان ظهر كمخرج لبناني، رغم حجم تأثير السينما الأوروبية فيه، مخرج يمتلك خطاً أصيلاً وهموماً ترتبط ببيروت بالتحديد، وبالتواصل واللغة، وعدم القدرة على اللقاء بين أبناء المدينة.

غسان سلهب: من الخطأ مقارنته بمارون بغدادي

لا أعتقد أن لبرهان علوية تأثيراً مباشراً فيّ، لكن هذا لا يعني أني لا أحب أعماله. "بيروت اللقاء" الذي لم يُقدَّر في لبنان كما يجب، ليس فيلماً جميلاً فحسب، بل هو أيضاً من أهم الأفلام التي صنعت وقدمها البلد لفن السينما. حين شاهدته للمرة الأولى، في الثمانينيات، شعرت أنه يضع السينما اللبنانية في زمن الحداثة، وهو شعور انتابني حين شاهدت فيلماً لكريستيان غازي قبله. يأخذ الفيلم رواية بسيطة عن شخصين، يعيش كل منهما في جزء من المدينة. يمكن لهذه القصة أن تأخذ شكلاً تقليدياً أو ميلودرامياً مع أي مخرج آخر، لكن برهان علوية قرر أخذ إتجاهات راديكالية، فتعامل مع القصة ليس فقط كرواية، بل أيضاً كلغة أكثر تعقيداً... لعب في المساحة التي تعطيها ظروف المنع وعدم القدرة على اللقاء، وسمح للمشاهدين بسماع الكاسيت بأكمله عوضاً عن إعطائهم مقتطفات منه، كما كان سيفعل أي مخرج آخر...

يتميز برهان علوية بأنه من ذلك النوع من المخرجين الذين لم نعد نجدهم اليوم كثيراً، أي الذين يمتلكون ثقافة كبيرة، ليس فقط سينمائياً، بل أيضاً تاريخياً، روحياً، فلسفياً، وإنسانياً... حين كنت أجلس معه، كان يمكن أن أتحدث معه في الموسيقى او الأدب أو الفلسفة، وليس فقط في السينما. لو تبدلت الظروف أعتقد بسهولة أنه كان سيصبح كاتباً. من هنا، أرى أن المقارنة التي كانت تحصل خلال الحرب، بينه وبين مارون بغدادي، هي مقارنة غير عادلة، لأن الأخير كان من الواضح أنه يريد أن يكون جزءاً من "عالم السينما"، أما برهان علوية فكان الأهم بالنسبة اليه ليس ما يحصل خارجه، بل ما يحصل داخله، وما يشكله كإنسان... ولذلك أشعر أنه أقرب إلي من باقي أفراد هذه المجموعة، الذين في كل الأحوال أعتقد أنه من الخطأ وضعهم في كيس واحد.

أحمد غصين: اللعب بين الوثائقي والروائي

حين دخلت المجال السينمائي في بداية الألفية الثالثة، واجهت صعوبة في إيجاد أفلام برهان علوية ومخرجي ذلك الجيل، وبقيت لسنوات غير قادر على تحديد إن كان "بيروت اللقاء" مثلاً لمارون بغدادي أو له! طبعا سيتغير هذا الواقع تدريجياً، وسأتمكن بفضل أشرطة VHS أو العروض التي كان يقدمها "مسرح بيروت" و"نادي لكل الناس" أن أشاهد هذه الأفلام، لكن ذلك سيحصل متأخراً قليلا عن الوقت الذي كان يفترض أن يحصل فيه.

من الصعب ألا أكون قد تأثرت بهذه الموجة الرائدة في السينما اللبنانية، والتي وضعت الأساسات لما سيأتي لاحقاً، سواء بالتصاقها بالقضايا الإنسانية والفكرية والإيديولوجية، أو بانحيازها للهامش والفرد والإنسان. أتحدث هنا عن خطوط عريضة، مثل اللعب على الفارق بين الوثائقي والروائي، أو الإقتراب من اليومي وفي الوقت نفسه الإتصال بين هموم الفرد والهموم العالمية التي نعايشها، بالإضافة إلى الإهتمام بالقضايا السياسية والثورات. في حالتي، يمكنني أن أتحدث مثلاً عن استخدام الكاسيتات في "أبي لا يزال شيوعياً"، وهو ما يتقاطع مع كاسيتات "بيروت اللقاء" التي كتب عنها بالمناسبة جيل دولوز.

نشهد اليوم اختفاء لمزايا سينمائية كانت مهيمنة مع تلك الموجة، مثل الشاعرية، الوجدانية والبكائيات على المدينة ودمارها. طبعاً المشهد السينمائي بأكمله، بشكله السابق، لم يعد موجوداً، والمهرجانات التي كانت تأخذ أفلاماً عمرها سنوات، توقفت عن ذلك، كما أن هذه المهرجانات لم تعد متمركزة بين المعسكرين الشرقي والغربي في آن (كانت المشاركة في مهرجان موسكو مثلا تكتسب أهمية معنوية كبيرة عند المخرجين في تلك الحقبة)، بالإضافة إلى ظهور توجهات سينمائية يمكن رؤيتها اليوم، كانقلاب على توجهات سابقة مثل موجة الأفلام الذاتية التي بدأت بالتزايد منذ العام 2011.

ورغم بذل مخرجين من جيلي، مجهوداً، لخلق صلة وصل مع مخرجي تلك المرحلة، إلا أن الغالب في السينما اللبنانية اليوم هو القطع أو البتر مع الماضي (ليس موت برهان علوية في المنفى بلا تكريم سوى دليل على ذلك). فنحن نعيش دائماً في الزمن الطارئ، والمخرجون المنتمون إلى الجيل الأصغر، نجدهم يصنعون أفلاماً كأنهم أول من صنع أفلاماً في لبنان، من دون الأخذ في الإعتبار أن الجدران التي يصطدمون بها، والأسئلة التي يطرحونها، يمكن أن إيجاد بعض من أجوبتها في أفلام الأجيال السابقة

نور عويضة: أخرَج المدينة من الكارت بوستال إلى صُور تحولاتها

يكتسب فيلم "بيروت اللقاء" أهمية شخصية اليّ ولكثير من المخرجين والمخرجات من جيلي، لأنه يظهر لنا صورة عما يمكن للسينما أن تكون عليه، أي شبيهة فعلاً بالمدينة التي نعيش فيها. لا يحصل هذا التماهي مع المدينة كثيراً، حين أشاهد أفلاماً من حقبات سابقة، أعني أن أتعرف على الشوارع والأزقة الفرعية، وليس فقط شارع الحمرا أو وسط المدينة. هذه العلاقة الشخصية التي استطاع الفيلم خلقها معنا، أعتقد أنها بوابة لفهم سياق صناعة الفيلم في الأساس، أي ضمن رغبة التعبير عن إحساس جيل بأكمله كان يحاول تجريب لغة تشبهه أو تشبه الواقع الذي يراه. قبل الحرب، كانت السينما تحاول أن تظهر بيروت كما يراد لها أن تكون، أو كما تظهر في السينما المصرية أو العالمية، أي في صورة جامدة تبدو أقرب إلى كارت بوستال.

أما مع الجيل الثاني من المخرجين، مثل برهان علوية، فقد ظهرت المدينة معهم وهي تعيش تحولاً مستمراً، وهي قابلة للإنقلاب من حالة إلى أخرى في أي لحظة. لذلك نجد اليوم كثيرين يستعيدون مشاهد من الفيلم، لأن هذه الصورة للمدينة المتحولة تبدو فعلاً شبيهة بالحاضر: هل المدينة إلى زوال؟ هل علينا أن نغادر؟ أم نبقى قليلاً لنرى ما سيحصل؟

لكن هل لتجربة برهان علوية استمرارية في مرحلة بعد الحرب؟ لا أعتقد ذلك. عندما نقول بيروت، ليس أول ما يخطر في بالنا "بيروت اللقاء"، بل ربما ما زال أثر البطاقة البريدية، مهيمناً. هل لأنه قدرنا ان نعيش باستمرار هذا البتر مع الماضي؟ وأن نطرح، بلا توقف، الأسئلة نفسها التي طرحها الجيل السابق؟ ربما هنا يمكنني أن أفهم دوافع أساتذة السينما الذين يصرون على ضرورة أن تكون هذه الأفلام جزءاً من التاريخ السينمائي والعقل الجمعي للطلاب.

أشعر أيضاً أمام "بيروت اللقاء" وعدد من الأفلام المنتمية صنفه نفسه، أن عليّ أن أعيد مشاهدتها كل فترة، لأن هناك أشياء مخبأة، عليّ اكتشافها فيها، لا بد ستظهر تباعاً أمامي. المثير للإهتمام أني في كل مرة، أكتشف شيئاً جديداً، أشعر بنوع من النشوة، وهو شعور يزيد من ارتباطي المعنوي بهذه الأفلام بالطبع، لكن من دون أن يعني ذلك أن تصبح مؤثرة في طريقتي في صنع الأفلام... 

 

المدن الإلكترونية في

11.09.2021

 
 
 
 
 

برهان علويّة.. سينما الألم والتمزّق الاجتماعي

أشرف الحساني

برحيل المُخرج اللبناني برهان علويّة (1941 ـ 2021) في منفاه البلجيكي، تكون الساحة السينمائية العربيّة فقدت قامة في صناعة سينمائية جعلت من الإنسان العربي مركزًا في تحوّلات سياسيّة واجتماعية وثقافيّة شهدتها الساحة العربيّة منذ ستينيات القرن المنصرم. ورغم صغر فيلموغرافيا برهان علويّة الوثائقيّة والروائيّة من حيث الكمّ، بالنظر إلى بعض الأسماء العربيّة، إلاّ أنّ الرجل لم يكُن من الذين ينجزون أفلامًا للتّباهي بها داخل مهرجانات عالمية، أو حتّى الركوب واستغلال موجات القهر والعذاب التي تطال الفرد العربي في علاقته بالسياسة والآخر الأجنبي، بل إنّ أفلامه ظلّت بمثابة مُختبر بصريّ لبلورة أفكار ورؤى وأحلام وتطلّعات وهزائم وانتصارات وإعادة تدويرها وتوليفها في فضاء سينمائيّ، بما يجعلها مُؤثّرة وذات حساسية بالنسبة للأنظمة داخل العالم العربي. لا شك في أنّ القليل من المخرجين العرب يتوفّرون على هذه القدرة في جعل الفيلم ينضح بأسئلة مُؤرقّة حول مصير مُجتمع في مرحلة زمنيّة مُعيّنة، لأنّ الفيلم وبسبب سيرته اللامرئية، يظلّ أكثر وسيلة إبداعية/ فنيّة، لا تقف عند حدود وسياجات ترسمها المجتمعات العربيّة وعاداتها وتقاليدها وتاريخها وذاكرتها ودينها وسياستها، إنّها تتنطّع دومًا إلى البحث عن الهَجين والمُدهش في اجتماعنا العربي، عبر طرح أسئلة شائكة تتعلّق بالمكان والوجود والجسد والهويّة والأرض. كل هذا ساهم في جعل سينما علويّة تفتح طريقًا لكثير من الأفلام داخل سوريّة والمغرب ومصر والجزائر، ورغم أنّ كثيرًا من المُخرجين لا يعترفون بدرس علويّة في السينما العربيّة، إلاّ أنّه بقي واضح المعالم البصريّة والرؤى الفنيّة والمُنطلقات الجماليّة، خاصّة داخل المُنجز الوثائقيّ العربي، حيث كان سبّاقًا للتجريب البصريّ القائم على مزج الصورة بالصوت، والصورة الفوتوغرافية بالسينمائية، والتاريخ بالذاكرة والوثيقة. ولم تكُن هذه الاكتشافات المُذهلة مُجرّد بذخ جماليّ لدى علويّة، وإنّما جاءت كتجريب سينمائيّ لبناني جديد يبحث له عن خصوصيات بصريّة داخل السينما العربيّة إبان السبعينيات. استطاعت سينما علويّة أنْ تُوجّه أفلامًا عديدة إلى ضرورة الانفتاح على الجسد الإنساني لحظة التشظّي الذي يطبع حياته داخل الحرب.

"الرجل لم يكُن من الذين ينجزون أفلامًا للتّباهي بها داخل مهرجانات عالمية، أو حتّى الركوب واستغلال موجات القهر والعذاب التي تطال الفرد العربي في علاقته بالسياسة والآخر الأجنبي"

بهذه الطريقة يُعيد علويّة إحياء الإنسان داخل السينما العربيّة بعد الخطاب البصريّ الغنائي الخشبي، الذي رافقها في رومانسية مُصطنعة وساذجة خلال الخمسينيات، حيث شكّلت السينما مادّة ترفيهية وملاذًا آمنًا يرنو إليه المُشاهد. صحيح أنّ هذه المنطقة شكّلت بداية حقيقية للسينما العربيّة المُنفتحة على نماذج وأشكال وتصوّرات وأساليب ومدراس، لكنها تبقَى البداية الحقيقية للسينما، لحظة رهانها على الإنسان العربي وجسده وأفكاره وتطلّعاته وأحلامه إبان السبعينيات، حيث ستُوقع هذه السينما بيانًا قويًّا في لبنان عُرف بـ"السينما البديلة"، التي كان علويّة أحد رموزها وروّادها الذين سيفتحون قارة مجهولة داخل سينما نازلة من سماء الأحلام والرومانسية واليوتوبيا، التي بلورتها السينما المصرية، صوب جحيم العَالم الأرضي وعذاباته وما يعيشه الناس داخله من شقاء وألم ومعاناة وتنكيل وتهجير وإبادة وإجرام. لقد بدت هذه السينما وهي تنحت أوّل مفاهيمها الفيلموغرافية في علاقتها بالواقع العيني المُباشر وكأنّها تُغيّر بشكل كلّي مفهوم السينما، باعتبارها وسيطا بصريًّا ترفيهيًا إلى كونها مُختبرًا للتحليل والتفكير والتوعية والأسئلة والتخييل والالتحام مع الواقع. لكن هذا الانتقال في البداية ظلّ حقيقة مُلتصقًا أكثر بمفهوم "الصورة" التي غدت اجتماعية وسياسيّة، يرصد عبرها علويّة سيرة قصص وحكايات في علاقتها بالجسد والسياسة والفضاء ومعنى الانتماء إلى الجغرافيا العربيّة خلال مرحلة تُهدي سياسيًا واجتماعيًا.

إبداع بصريّ و"سينما بديلة"

لكن داخل السينما اللبنانية يعثر المُشاهد والمُتتبّع لأطوار نشوء هذ النموذج السينمائي على صورة أكبر وأعمق لبرهان علويّة، لأنّها غير بعيدة عن أصلها وعائلتها وسياقها التاريخيّ الذي ساهم في إبرازها وبلورتها. هنا نجد علويّة مُلتحمًا بعائلته السينمائية، مثل هيني سرور، وجان شمعون، ومارون بغدادي، ورندة الشهّال، وجوسلين صعب، حيث للصورة السينمائية مناخات شاسعة من الحكي والرصد والتحليل والتخييل والتوثيق للواقع اللبناني، بكل حمولاته وأعطابه وزلاّته وأحلامه ومآسيه على حافّة حرب أهليّة لبنانية (1975 ـ 1990) لم يندمل جُرحها إلى حدود اليوم. ورغم المَشاغل نفسها التي شكّلت مُنطلق هذه التجربة السينمائية البديلة، إلاّ أنّ الأعمال ظلّت تختلف فنيًّا وجماليًا من فيلم إلى آخر، تارة عن طريق واقعية سحرية، أو شعرية، وتارة أخرى عن طريق صورة واقعية ضاربة في جذور الاجتماع السياسي اللبناني، ولكنّها تلتقي جميعها في خاصيّة الابداع البصريّ القائم على انزلاق الواقع المُزري وتاريخه داخل الصورة. عند علويّة يظل الفعل السينمائيّ أكثر تفكيرًا، ليس فقط في التجريب والتوليف والتوثيق والتخييل، وإنّما في أسئلته المُعلّقة، وما تنحته من أبعاد فكريّة في وجدان المُشاهد. إنّها تستبدل مفاهيم التذوّق والحدس والمُتعة والتلقّي والتخييل، بأخرى تتّصل بالتفكير والخرق والتصوّر والخلق. وهي مفاهيم فكريّة مأخوذة من حقول اجتماعية وإنسانية، يتم توظيفها في حقل الصورة السينمائية، بحكم نجاعتها وقدرتها على تقديم متن بصريّ مُغاير ومُخلخل وأكثر حدّة في تشابكه مع السياسة داخل الاجتماع اللبناني، حيث الصّورة اجتماعية وسياسية أكثر منها فنيّة وجمالية، وتبني خطابها بجعل الصورة وثيقة تاريخيّة عن وطن جريح على أهبة الرحيل.

"أفلامه ظلّت بمثابة مُختبر بصريّ لبلورة أفكار ورؤى وأحلام وتطلّعات وهزائم وانتصارات وإعادة تدويرها وتوليفها في فضاء سينمائيّ، بما يجعلها مُؤثّرة وذات حساسية بالنسبة للأنظمة داخل العالم العربي"

وكما صاغ روّاد الشعر العربي الحديث بيانًا قويًّا يثور على التقاليد الشعريّة الكلاسيكية، عمل أصدقاء السينما اللبنانية على صياغة بيان سينمائيّ رمزيّ لسينما بديلة/ مُستقلّة قادرة على فهم تطلّعات الفرد اللبناني ومعاناته تجاه واقعه وبلده. الرغبة في تجاوز القديم، عاملٌ مُؤسّس في تشريح "البديل/ المُستقّل" لأنّه يُضمر في طيّاته ثورة داخلية على كل الأشكال السينمائية السابقة، لا كمفهوم الثورة على الأب، وإنّما بسبب تحوّلات الواقع الذي يجعل من النصّ السينمائيّ لا يُراعي خصوصيات هذا الواقع وميكانيزماته سريعة التحوّل والتبدّل، أمام واقع حرب أهليّة تفرض استبدال قديم بجديد. رغم أنّ الأوّل مُلتصق بعادات وأفكار ومسام عيش الثاني، لكنّه في لحظة الصراع والمُقاومة تحلّ مفاهيم البرغماتية/المنفعة وتسقط القيم الأخلاقية والدينية والإثنية والقبلية. إنّ مفهوم البديل في سينما برهان علويّة أعمق ممّا نعتقد، ويُمكن تناوله دلالاته بالفحص والنقد وفق ثلاثة مستويات تتعلّق بالواقع والتاريخ والصورة. بما أنّ الواقع مُعطى فيزيقي مُجرّد لا يُمكن القبض عليه، أو إعداده وصياغته، إذْ تتدخّل في عملية تشكيله دوافع سياسية واجتماعية، فإنّ علويّة يقوم باستبداله بواقع آخر "بديل" أكثر التحامًا بهذه الدوافع، فهو لا ينأى عنها سينمائيًا، بقدر ما يقبض على مُتخيّلها اليوميّ داخل سلط ومؤسّسات وتاريخ وأفكار وتصوّرات ومشاغل. إنّه بطريقة ما يهدم الواقع المُجرّد الخالي الذي لا يُعوّل عليه. وذلك بجعل الكاميرا تدخل بيوت الناس وترصد قلقها من السياسة والاجتماع. وهو ما يُمكن تسميته بـ"الواقع البديل" الرافض للوضع الأوّل والسُلطة القائمة لصالح آخر جديد، رغم أنّه يظلّ مُتخيّلًا فقط، لأنّه في الحقيقة لا وجود لواقع/ مجتمع مُكتمل يعيش في حريّة وأمان. وحتّى داخل المجتمعات الغربية دائمًا ما نعثر على واقع مترد ومُرتبك ومُتأزّم بفعل عوامل داخلية أو خارجية.

فطنة برهان علويّة بأنّ الواقع اللبناني يحتاج إلى ثورة داخلية جعله يستبدل الواقع الحقيقيّ بعدّة "وقائع" سينمائية. لأنّ المُتخيّل هنا يغدو واقعًا، أو وطنًا يحتمي به الإنسان من أعاصير الحياة اليوميّة ومطبّاتها. أما في الصورة فإنّنا نعثر على تأكيد قويّ لهذا البديل المُستقّل على مستوى النسق والموضوع والشكل والأسلوب والكاميرا والإنتاج. إنّه يُحوّل الظاهرة السينمائية إلى بُعد سياسيّ، حيث الموضوع ثائرًا، والشكّل مُكسّرًا، والأسلوب إبداعيًا دفاعيًا، والإنتاج رافضًا لكل دعم رسميّ. في هذه الخصائص والمُكوّنات الجامعة يبرز وعي علويّة بمفهوم سينما جديدة بديلة تأخذ على عاتقها إمكانية الاستقلال عن السُلطة والعشيرة والوزارة، حتّى تُبدع وتكتب وتُصوّر ما لا ترغب فيه السُلطة أنْ يكون في حيّزها الجغرافي (الوطن). على هذا الأساس، جاءت سينما علويّة ثائرة في مضامينها وقوالبها، ومُخلخلة للأفكار القديمة، ومُكسّرة لأفق وتطلّعات المُشاهد، فـ"البطل" في سينماه هو إنسان لبناني، أو فلسطينيّ عادي، لا تحده الحدود والمرافئ لتحقيق حلمه، أو مقاومته، أو دفاعه عن قضية، سياسية كانت أم اجتماعية، ما يُعطي لسينما علويّة بُعدًا حقيقيًا في نسج علاقة مع الذات والواقع والذاكرة والتاريخ. إذْ تنتقل الكاميرا ببطء من الواقع وسيكولوجية الشخصيات إلى نظرة عامّة تُدين التاريخ وجُرحه. لأنّه إطار جامع للتفكير السينمائيّ لدى علويّة، بل إنّه يُوجّه أفق الكاميرا ويجعلها تخترق بنية مكبوت الاجتماع اللبناني وتُعرّيه وتجهر بحقائقه وخفاياه. كما أنّه يستبدل صورة التاريخ الرومانسية النوسطالجية التي نعثر عليها داخل السينما المَغاربيّة (المغربيّة والتونسية على الخصوص) بأخرى مُستفزّة ومحمومة بنوع من الإسقاط والزئبقيّة تجاه الحاضر.

مؤرّخ الصورة

نظرًا لهذا التعلّق الأنطولوجي للتاريخ في سينما برهان علويّة، فإنّ العديد من النقّاد انتبهوا إلى كونه مُؤرّخًا للصورة، بحيث إنّ أنماط صوره تبدو كأنّها وعاء سينمائيّ استوعب تحوّلات التاريخ، ومقالب الذاكرة. لكنّه لا يتعامل مع التاريخ كباقي المُؤرّخين، فهو يرصد الهَامشي والعَابر والمَنفيّ والمُنفلت من قبضة التفكير. فإذا كان المُؤرّخ يتعامل مع مادّة الواقع بشكل رسمي من خلال إعطاء الأهميّة للوثائق الماديّة والتأريخ من خلالها لتاريخ سياسيّ مُفتعل، فإنّ علويّة وبارتكازه على هذه الوثائق مكتوبة وبصريّة منها، ينأى عن التاريخ السياسيّ الرسمي بالاعتماد على الواقع العيني المُباشر لسيرة الأمكنة والفضاءات والناس ومشاغلهم البسيطة على درب الألم. ففي فيلمه الروائي "كفر قاسم" (1974) حيث يُوثّق المذبحة الإسرائيلية لعمال قرية كفر قاسم عام 1956 عشية العدوان الثلاثي، وبالرغم من أنّ الحادثة شغلت الرأيّ العالمي في ذلك الإبان، إلاّ أنّها بقيت منسّية داخل المُنجز السينمائي العربي، حتّى عمل برهان علويّة بشجاعة على إدانة هذا الفعل الإجرامي وتوثيق جزئيات صورة ترصد أوجاع القرية الفلسطينيّة من خلال متن سرديّ بصريّ مُكثّف يحتفي نقديًا بالتفاصيل، ويُعيد تطويعها داخل قالب حكائي، حيث الواقع سيّد الصورة، رغم أنّه لم يكتف بنقله، لأنّ طبيعة السيناريو السينمائيّ تجعل الذات المُبدعة تتدخّل في حيثيات الواقع، لا سيما حين يتعلّق الأمر بالقضية الفلسطينيّة، وفي مرحلة هامّة من تاريخ العرب الحديث، فإنّ علويّة يُراكم نقدًا لاذعًا للاحتلال الإسرائيليّ الغاشم حول هذه المذبحة العصيّة على النّسيان داخل التاريخ الحديث.

"عند علويّة يظل الفعل السينمائيّ أكثر تفكيرًا، ليس فقط في التجريب والتوليف والتوثيق والتخييل، وإنّما في أسئلته المُعلّقة، وما تنحته من أبعاد فكريّة في وجدان المُشاهد"

إنّ الصورة هي ما يُحرّض النصّ، ويجعله يتشعّب ويتجاوز مَلامحه الأولى، لأنّه بقدر ما يتلاحم النصّ والصورة في العمل السينمائي، فإنّهما يفترقان ويتباعدان في لحظة التصوير، ثم المونتاج. في "كفر قاسم" ـ العمل الأذكى والأشهر عند علويّة ـ يمزج الصورة السينمائية والفوتوغرافية بالوثائق المادية، عبر معلومات مُضمرة في السياق البصريّ للصورة. أليس هذا بمثابة ذكاء سينمائي بالنسبة لعام 1974، والحداثة السينمائية بدأت مسارها أدبيًّا، ولم تتبلور بعد سينمائيًا؟ رغم أنّ هواجسها التجريبيّة ستبدأ بالتشكّل آنذاك. قدّم علويّة في فيلمه المُبكّر هذا درسًا سينمائيًا بليغًا، لا ينصاع للخطاب السياسي، وإنّما يعمل على تذويبه داخل صورة تتعاكس مع ما يُحيط بها من تقنيات ووسائط فطن إلى أهميّتها في إضاءة الفيلم السينمائي وجعله وسيطًا بصريًا، يقوم على تكريس التفكير والتجريب، بدل أنْ يغدو مادّة للترفيه.

 

ضفة ثالثة اللندنية في

12.09.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004