ملفات خاصة

 
 

برهان علويّة: سينما الغياب

بيار أبي صعب

عن رحيل الفنان

برهان علوية

   
 
 
 
 
 
 

بانطفاء السينمائي اللبناني برهان علويّة (1941 ــ 2021)، تُطوى الصفحة الأخيرة من حكاية جيل المغامرين والحالمين الذين أسّسوا «السينما اللبنانية الحديثة» في سبعينيات القرن الماضي، عشية الحرب الأهليّة، مستفيدين من الفورة الخصبة التي سبقت الانفجار الكبير، ومن زخم السبعينيات في بيروت، يوم كانت مختبر الحداثة والنهضة والفكر التقدمي الساعي للتغيير والعدالة الاجتماعية، والانخراط القومي تحت راية فلسطين... باختصار، العصر الذهبي للثقافة اللبنانية!

 

الأخبار اللبنانية في

10.09.2021

 
 
 
 
 

برهان علويّة... سينمائي المنفى والغياب والزمن الضائع

بيار أبي صعب

بانطفاء السينمائي اللبناني برهان علويّة (1941 ــ 2021)، تُطوى الصفحة الأخيرة من حكاية جيل المغامرين والحالمين الذين أسّسوا «السينما اللبنانية الحديثة» في سبعينيات القرن الماضي، عشية الحرب الأهليّة، مستفيدين من الفورة الخصبة التي سبقت الانفجار الكبير، ومن زخم السبعينيات في بيروت، يوم كانت مختبر الحداثة والنهضة والفكر التقدمي الساعي للتغيير والعدالة الاجتماعية، والانخراط القومي تحت راية فلسطين... باختصار، العصر الذهبي للثقافة اللبنانية!

برهان هو آخر الراحلين، بعد مارون بغدادي (1950ــ 1993)، ورندا الشهال (1953 ــ 2008)، وجان شمعون (1944 ــ 2017) وجوسلين صعب (1948 ــ 2019) الخ. اليوم ننتبه إلى أن هذا الجيل أخذ معه أحلامه ومضى، طريقة معينة في صنع السينما... أحلام ومعارك وخيارات، جعلت كلاً منهم لصيقاً بالمعنى الجسدي والفكري بكل إرهاصات هذا المجتمع، وبقضايا عصره... ننظر إلى هذا المنجَز اليوم من قعر الهوّة التي تغيّرت فيها ملامح العمل الثقافي وشبكات توزيعه، وتغيرت المراجع والأدوات والأهداف وآليات التمويل وثقافة المشاهدة. كل ذلك يجعل من برهان ورفاقه آخر الشهود على مدينة كانت... وعصر تصدّع وتهاوى من دون أن يترك أثراً. طبعاً ترك الجيل المؤسس ورثة استثنائيين، وواصل ما اصطلح على تسميته «السينما اللبنانية» ازدهاره وخصوبته وتنوّعه، لكن شيئاً ما، تصعب تسميته، فُقد إلى الأبد.

لقد فهم صاحب «بيروت اللقاء» ذلك منذ عقدين، فلاذ بالصمت ـــ بعد معاناة إنجاز فيلمه الأخير «خلص» (2006) ـــ وراح يراقب ابتعاد مدينته وزمنه بصمت من منفاه البلجيكي... قال «خلص» وانسحب... وتفرّغ لصراع طويل مع المرض الذي لا يمكن إلا أن نرى فيه مجازاً عن اليأس والهزيمة، وفشل المشروع النهضوي الذي حمله برهان ورفاقه... ولعلّ الراحل أبلغ من عبّر عنه من خلال أفلام وثائقيّة وروائيّة تحكي عن الحرب والمنفى والغياب وانهزام الأحلام. تحيّة ـــ لن تكون الأخيرة ـــ إلى الرجل الأنيق، صاحب القامة الفارهة، والشاربين المميزين، والنظرة الحزينة إلى العالم. لقد تحققت نبوءته، وحلت النهاية، وصار بإمكانه أن يمضي بأمان.

 

####

 

عن موت الروح، وسقوط الأوهام والحروب (المقبلة)

بيار أبي صعب

بعد ربع قرن على «بيروت اللقاء»، عاد برهان علويّة إلى الجرح نفسه الذي بنى عليه أبرز محطات تجربته الإبداعيّة. فيلمه الأخير «خلص» الذي انتظره الجمهور سنوات طويلة، خرج في عام 2006 إلى الصالات (وشارك في المهرجانات، ونال الجوائز). وأعاد «خلص» تسليط الضوء على إحدى أهمّ تجارب السينما اللبنانيّة. سينما طالعة أساساً من رحم الحرب الأهليّة التي لم نتخلّص بعد من أوزارها. وكان هذا العمل فيلم برهان الأخير الذي نعيد نشر مقالة واكبت انطلاقته في «الأخبار» عام 2007 (بعد تحديثها)

لا شكّ في أن برهان علويّة هو سينمائي الحرب اللبنانيّة بامتياز. سينمائي الضمير المعذّب والوعي الشقي، الباحث بين منافي الداخل والخارج عن معنى للانتماء والمدينة والوطن والقضيّة والإنسان والأفكار الكبرى... كل أفلامه، تدور حول تلك الحرب بمعناها الأوسع: بما فيها باكورته الروائيّة الطويلة «كفر قاسم» (المجزرة الإسرائيلية التي ارتُكبت عشيّة العدوان الثلاثي عام 1965، كيف يستعيدها عام 1974، في مناخات بيروت الخصبة والمتأجّجة على أبواب الحرب، مخرج لبناني شاب عائد من أوروبا حيث درس السينما في بروكسيل، معهد الـINSAS، وشهد ثورة الطلاب في أيار/ مايو 1968 في باريس؟)، ومروراً بفيلمه عن تجربة المعماري المصري حسن فتحي («لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» ــــ 1978)، ثم بعدها بسنوات إعادة النظر المؤلمة بحلم «السدّ العالي» («أسوان ــــ 1991)، وأخيراً «حرب الخليج... ماذا بعد؟»(1992 ـ 1993).

أفلام برهان الأخرى محطات مترابطة في تلك الرحلة السيزيفيّة الشاقة على جلجلة الحرب الأهليّة اللبنانيّة، بدءاً بفيلمه التأسيسي «بيروت اللقاء» (مع هيثم الأمين ونادين عاقوري، سيناريو أحمد بيضون ــــ 1982) الذي طرح للمرّة الأولى في السينما الروائيّة إشكالية تلك الحرب وتناقضاتها وتمزقاتها، من خلال الموعد المجهض بين حيدر المثقف الشيعي النقدي لممارسات «الأحزاب الوطنيّة» (هجّر من الجنوب إلى بيروت الغربية)، وزينة البرجوازيّة المارونيّة المتصادمة مع الوعي «الانعزالي» لبيئتها في بيروت الشرقيّة. يومها بنى الديكور الداخلي للحرب، من خلال فيلم فاسبندريّ الإيقاع (نسبة إلى السينمائي الألماني الشهير)، لا نرى فيه مشهداً حربياً واحداً. ثم جاءت سلسلة الرسائل التي رصدت آثار تلك الحرب، بين المنفى القسري، وعزلة الداخل اللذين تأرجح بينهما برهان علويّة طويلاً، على مستوى التجربة الشخصيّة: «رسالة من زمن الحرب» (1984)، «رسالة من زمن المنفى» (1990)، «إليك أينما تكون» (2001).

طوال أكثر من ربع قرن تفصلنا عن «بيروت اللقاء»، حاول علويّة القيام بجردات حساب مستحيلة، لا يبقى منها في المصافّ الأخير سوى تلك الحيرة، وذاك الضياع، ينضحان من شهادات متلاحقة على ذلك الانهيار العظيم. حين كان التفاؤل يغرق عدداً لا بأس به من المثقفين والمبدعين المستسلمين لنشوة ما بعدها نشوة، والمراهنين بثقة على طي صفحة الحرب وبناء «المستقبل»، كان صاحب «كفر قاسم» غارقاً في اليأس والتشاؤم، شاهراً أسئلته على شكل رسائل سينمائيّة ١٦ ملم، تشهد على الهوّة الفاغرة التي يرقص على حافتها لبنان، ومعه المنطقة بأثرها.

لذلك حين طال صمته، خفنا فعلاً أن تكون تلك الحرب الكامنة التي لم يُشفَ منها الضمير الجماعي، قد أسكتته نهائيّاً! قلنا برهان رمز لجيل ينسحب بخيباته، بعدما ضاقت المرحلة بأي فسحة لمواصلة المشاريع البديلة المخبّأة بعناية في أدراج السبعينات الذهبية... وقلنا فات الأوان وجاء جيل الفيديو بطروحات أخرى، فإذا بالزمن ينزاح وبالنقاش تتبدّل آلياته ومفرداته... لكنّنا أخطأنا لحسن الحظ: عاد برهان علويّة بأجمل حلله، وعند ذروة قدراته السينمائيّة، ولغته المازجة بين الشعريّة والسرياليّة والعبث الهادئ.

«خلص» هو عنوان الشريط الروائي الطويل الذي خرج أخيراً من أسر العلب... الفيلم الذي طال إنجازه، وصل متأخراً، ليجد أن كل شيء تغيّر في الاتجاه الذي كان يخشاه برهان علويّة. فإذا به يكتسب بعداً جديداً، غير متوقّع. لقد سبق الواقع استشراف المبدع، ما يجعل من «خلص» عنواناً للمرحلة الراهنة... فيلم عن موت الروح، وسقوط الأوهام، والعودة إلى نقطة البداية: على أبواب هزّة جديدة ليست سوى استئناف للحرب نفسها التي لم تنتهِ يوماً.

أفلام تشكّل محطات مترابطة في تلك الرحلة السيزيفيّة على جلجلة الحرب الأهليّة

يبدأ الفيلم بمجموعة كليشيهات مقلقة: الفتى الفقير ابن القنّاص دهسته سيارة ومات في المستشفى لأنه لا يملك فلوساً. الشاعر الفقير، المسكون بأطياف «الرفاق» و«الشهداء» يريد أن يعرف لماذا ماتوا، تتركه حبيبته لتتزوج رجلاً غنياً، فيمضي إلى صخرة الروشة... وماذا بعد؟ لكن السيناريو (شارك في كتابته غسّان سلهب) سرعان ما يأخذنا إلى بعد آخر، فندرك أننا ندور في فلك عالم مجازي ومؤسلب. نحن هنا في فيلم تشويق ومغامرة على طريقة أفلام جان لوك غودار القديمة. ندخل لعبة العنف المؤسلب من خلال انزلاق شابين تطاردهما أشباح الحرب، إلى جحيم بيروت في زمن «السلم الأهلي» والجمهوريّة الثانية. سينمائي وشاعر، مناضلان سابقان لم يخرجا من الماضي القريب، يحاصرهما اليأس والفراغ واللامعنى في زمن «الإعمار» الراهن، فيتحولان إلى «مجرمين»... علماً أن الإخراج يأخذ الصورة والأداء إلى منحى رمزي، بعيد عن الواقعيّة.

أحمد (فادي أبو خليل، لافت!) وروبي (ريمون حصني)، في ليل بيروت إياه، سينتقمان على طريقتهما. تاجر المخدّرات أولاً، ثم مدير المستشفى ومساعده اللذان تركا الطفل وسام يموت... من عمليّة سطو إلى أخرى، سيصبح مع الثنائي رُزم كثيرة من الدولارات. دولارات؟ إنّها المفتاح الوحيد للانتماء إلى بيروت ٢٠٠٠، مدينة الصفقات والفساد والفضائح الماليّة والكباريه الخليجي... أهكذا انتهت الحرب حقاً، تاركة وراءها شعباً من الذوات المجروحة، وكائنات ضائعة بلا قيم ولا مثل ولا مستقبل؟ القصاص الأجمل سيكون من نصيب المناضل اليساري السابق، والمرتزق الحالي وليم حلاوة الذي سيجبر على شرب زوم أحد كتبه الثوريّة حتى الاختناق. ويجيء دور الخواجة ريمون (رفعت طربيه) ثري الحرب ورمز محدثي النعمة الذين باتوا يملكون كل شيء إلا الذوق طبعاً. لكن في بيت الرجل الذي خطف عبير (ناتشا أشقر) من حبيبها أحمد، ستتوقّف سلسلة القتل المؤسلب، ونجنح إلى نهاية شبه سعيدة، في الحدود التي لا تزال السعادة ممكنة ضمنها.

طبعاً فيلم برهان علويّة في مكان آخر. في الشريط الصوتي طبعاً، في مشاهده ولقطاته وحواراته (ساهم في كتابتها محمد العبدالله). نشير إلى اللقطة الثابتة من سيارة الجيب (المسروقة)، وقد نزل منها أحمد وروبي: نراهما يبتعدان في سيارة أجرة صفراء على لحن إحدى أغنيات عبد الحليم. نذكر أيضاً مشهد عشاء القطط على عزف الكمان والشموع بين آثار وسط بيروت (حجر الأساس في المشروع الحريري). كأن أمير كوستوريكا يحوم في الجوار... مشهد روبي والكاميرا على كتفه لحظة ارتكاب الجريمة العاطفيّة التي لن تقع: يصوّر أحمد وهو يهمّ بقتل عبير في عزّ نومها... وهناك عناصر كثيرة: مشهد ليلي في بار Babylon الأسطوري الذي يعتبر من علامات مرحلة صعود الأوهام، تونس (تربط برهان بها علاقة خاصة)، والزجاجة التي رماها أحمد إلى البحر وفيها رسالة إلى أخته في أستراليا...

برهان علويّة هو سينمائي الزمن الضائع بامتياز... والأوهام الضائعة أيضاً. إنّه يختصر السينما اللبنانية بكل نقاط ضعفها، وبكل تجلياتها. من خلال شخصيتين هامشيّتين، يسلّط السينمائي نظرة سوداويّة، مُرّة، على سنوات الإعمار التي حقنت اللبنانيين (ومعهم العرب) بأحلام كاذبة عن السلام الأهلي. ويخرج من الأعماق شياطيننا الجماعيّة الكامنة في بلد الفساد والنسيان والكذب السياسي والتلفيق الأخلاقي. لو أنجز «خلص» في وقته، لكان نبوءة ــــ على طريقة كاسندرا في الأسطورة الإغريقية ــــ بالانهيار الوشيك لأوهام السلام والإعمار. لكن الفنّان الرائي وصل متأخراً. لعلّه فضّل الانتظار... مخافة ألّا يستمع إليه أو يصدّقه أحد.

(نشر في «الأخبار» بتاريخ 26 تشرين الثاني 2007)

 

####

 

عناوين تنبئ بكل شيء

شفيق طبارة

يكفي أن نقرأ عناوين أفلام برهان علوية لكي نفهم تاريخ لبنان والمنطقة. كان أكثر من مخرج سينمائي، كان مؤرّخاً. في «كفر قاسم»، عكس الهمجيّة الإسرائيليّة على العمال الفلسطينيّين، الفيلم كان بمثابة توثيق للحظة معينة، لا يقتصر على إدانة أو وقوف مع القضية الفلسطينية، كان يحثّنا على التّعرف إليها أكثر، أن لا نبكي فقط على فلسطين، بل أن نفكّر، أن نطرح الأسئلة ونحاول الحصول على أجوبة. وكما في كل أفلامه، كان يحثّنا على أن تكون لدينا قراءة نقدية للأحداث. عرف بيروت وعشقها. كان من أجمل السينمائيّين الذين عرفوا الحب وعاشوه وتكلّموا عنه. في «بيروت اللقاء» (1982)، يحاول العاشقان بين بيروت الغربية والشرقية التواصل بأدنى الإمكانيات. في المشاهد الأولى من الفيلم، فسّر لنا كل شيء من خلال الصورة والصوت، قبل النُّطق بكلمة. العاشقان يسجّلان يوميّاتهما، وزينة تلخّص كل شيء «ليش لازم يكون العجز هو أنسب اسم للبنان؟». بعد «بيروت اللقاء»، ضاع لقاء برهان ببيروت وقرّر الرحيل. برهان ماركسي بريختي، جرّدنا من نفاقنا، وكان من أصدق المخرجين اللبنانيين، اعترف بأن فيلمه الأخير «خلص» (2006) كان النهاية، والعنوان يكفي. لسينما برهان قوة وأداة تغيير، صوّر بيروت في الحرب وبعد الحرب، في «إليك أينما تكون»، (2001) نبّهنا بأن بيروت ليست بخير، بيروت قلقة، وهناك شيء غير طبيعي يحصل فيها ليلاً.

من غير المنطقي أن يرحل برهان علوية، هو الذي صنع السينما لتجبرنا على التفكير بمنطقية، أن نطرح الأسئلة النقدية وأن تكون هناك أجوبة منطقية على كل شيء. رحيل برهان علوية مفارقة كبيرة اليوم. هناك شيء غير عقلاني في رحيله يجعلنا نغضب. مع كلّ ما يحصل اليوم في لبنان، لم يعد لدينا إلّا الله، ولكن برهان قال لنا «لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» (1978).

حزينٌ كان برهان على البلد والسينما، وكان يثق في الجيل الجديد من السينمائيّين، الذي لم ينصفه. لذلك كانت لديه قناعة بأنّ عليه العمل دوماً. في النهاية، ما قالته زينة في فيلم «بيروت اللّقاء»، يوقفنا في مكاننا «منقول فلان مات، مش فلان وفلان يلّي ما بدنا أياهن يموتوا»، ولا نريد أن يرحل برهان علوية.

 

####

 

كفر قاسم» وشم لا يُمحى

خليل صويلح

انطفأ برهان علوية أمس، لكن أفلامه، ستضيء الشاشات على الدوام، خصوصاً فيلمه الروائي الأول «كفر قاسم» (1974)، الذي شكّل وشماً لا يمحى في تاريخ السينما العربية (التانيت الذهبي في «مهرجان قرطاج» 1974)، عن قرية «كفر قاسم» الفلسطينية، موثّقاً وقائع مجزرة معلنة ارتكبتها عصابة الهاغانا الإسرائيلية. تكمن حرارة هذا الفيلم في نبرته الوثائقية من جهة، وارتفاع منسوب التجريب في مقاربة المأساة الفلسطينية من جهةٍ ثانية. سيأسرنا إلى اليوم هذا النوع الهجين من السرد البصري، وتناوب الوثيقة والصورة المتخيّلة عنها.

قرار منع التجوّل الذي أصدرته سلطة الاحتلال الإسرائيلي قبل نصف ساعة من المجزرة، أعاق وصول العمّال الفلسطينيين إلى قريتهم في التوقيت المناسب، فلم يتمكنوا من العودة إلى الأبد. من هذه البؤرة الضيّقة جغرافياً، ستكشف وقائع الشريط أن الأمر لا يتعلق بهذه القرية فقط، إنما في البلاد كلها كأرضٍ مسروقة، على خلفية هزائم أخرى. اختار صاحب «لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» (1978) زمن الراديو للتعبير عن الصوت في المقام الأول، ففيما كان جمال عبد الناصر يعلن في خطابه تأميم قناة السويس، عشية العدوان الثلاثي على مصر، كان الإسرائيليون يرتكبون مجزرة جديدة، وستحضر الإذاعة الإسرائيلية لتسجيل رسائل صوتية للأهالي للتأكيد على أنهم على قيد الحياة.

وعلى المقلب الآخر، سنجد في المقهى مكاناً للهتاف والاحتجاجات والحسرة التي لا تتجاوز عتبة المقهى، في تأويل صريح لمعنى المواجهة. تكمن أهمية هذا الشريط إذاً، بأنه عابر للأزمنة بصرياً وسردياً في آنٍ، ووثيقة حيّة تتكئ على الفوتوغرافيا وقائمة أسماء الضحايا، والسرد الحكائي برؤية بديلة تدير ظهرها للخطابة، لطالما ميّزت أفلام برهان علوية في ذهابه إلى معالجات سينمائية آسرة محمولة على خلفية فكرية عميقة، تضع يدها على الوجع تماماً في تفسير أحلام وهزائم جيل، واحتضار تطلعاته، من دون بكائيات، كأن هذه السينما تعمل من منطقة الرثاء وحدها، بتمجيد الهامش وتعرية الوهم، وفضح أحوال الاحتضار. هكذا تشتبك سينما برهان علوية مع الأسئلة الشائكة بدمغة معرفية وفلسفية في تشكيل خريطة بصرية لم تخطئ بوصلتها يوماً. من هذا الباب سنتلقى فيلمه «رسالة من زمن الحرب» كوثيقة أخرى عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، مركّزاً على شهادات الناجين من الحرب، ونظرتهم لمعنى الهوية الوطنية، وأسباب التفكّك، وحطام البلاد، والميليشيات المتقاتلة، مؤصلاً أسلوبيته في صناعة مشهدية نافرة وطازجة ومشتهاة «لم يعد ثمة فارق بين السينما التسجيلية والسينما الروائية. ولقد بات هناك، ولا سيما مع انفجار عالم الصورة واتساع حضورها واستخدامها في مختلف المجالات، نوع واحد من السينما هو سينما الحقيقة. وأنا أحاول أن أجد المقاربات الفنية الملائمة لهذه السينما». هذه الخسائر الوجدانية المتلاحقة بما فيها مرض السرطان ستنأى به بعيداً، إلى أعمق طبقات فقدان الأمل، إذ سيهاجر إلى بروكسيل، المدينة التي درس الإخراج في معهدها، وهو ما سيعبّر عنه في فيلمه القصير «رسالة من زمن المنفى». في «خلص» (2006)، سيقتفي أثر الحرب الأهلية اللبنانية محاولاً تفكيك ألغامها: «لم أكن أستبق الواقع. كنت أتحدث عن جيل سار وراء السراب، ووراء الظن بأن الحرب ستحقّق أحلامه. كان هذا الجيل مقتنعاً بالتغيير، لكنه أصيب بالخيبة ووصل إلى الفراغ» يقول. «خلص» درس منهجي في الاعتراف بأن كل ما نحلم به «خلص»، وكان لابد أن يغادر هذا الجحيم.

 

####

 

غادر بخيبة أمل

شهادات/ هيثم الأمين

عام 1981، تعرّفت إلى برهان علويّة. كان شخصاً مميّزاً ولطيفاً وحسّاساً، إلى درجة أن حساسيّته أوصلتنا لأن نكون بعد خمس دقائق على هيئة صديقين منذ أكثر من عشرين عاماً.

لن أتحدّث عن برهان علويّة، وعن مواقفه السينمائية العربية واللّبنانية وحتى العالمية، فشهادتي به مجروحة، لكنني سأعرّج على مرحلة كنا نلتقي فيها يومياً تقريباً، وتحديداً في العام 2000، عندما كان يطلعني على أعماله، بعد عودته إلى لبنان. لكنه أصيب في هذه الآونة بخيبة أمل كبيرة، فلبنان بلد يدفن مواهبه، ليعود بعدها إلى بلجيكا، وينفّذ آخر أفلامه. في عام 2011، عزمت بأن التقيه في بروكسيل، بعدما حضرت إلى باريس، لكن ظرفه الصحي وقتها لم يسمح بهذا اللقاء. برهان كان أكثر من صديق وأخ لي، لكن للأسف بلدنا يدفن المواهب وهي حيّة، ولعلّه بعد وفاة علويّة يحاسب نفسه ويكرّمه حق تكريم، عن أفلامه التي حفرت تواريخ مميزة في السينما اللبنانية. إذ كان يجمع في أعماله ما بين المتعة والفائدة في عالم السينما.
*
شاعر وناقد وأستاذ جامعي لعب أيضاً بطولة فيلم «بيروت اللقاء
»

 

####

 

سلاماً... لن ننساك أبداً

شهادات/ محمد ملص

سلاماً برهان علوية وأنت تنسحب من عالمنا... لكنّ السينما السورية وأنا لن ننساك أبداً. وأنت من فرسانها الذين رحلوا أيضاً، من توفيق صالح إلى نبيل المالح إلى عمر أميرالاي؛ ما جمعكم بذاك هو الالتفاف العميق والأساسي في الرؤية والتفكير وفي توجّهكم إلى الواقع، بألوانه الحقيقية في موجة بهية من السينمائيين العرب في مصر والجزائر والمغرب، أسّست لنا ومن خلال «مهرجان دمشق لسينما الشباب» ما أسميتموه «بيان السينما البديلة» الذي صوّب لنا توجّهاً في العمل كجيل سينمائي. كان ذلك في زمن سعت فيه السينما السورية للبحث عن نفسها...

كانت الأفلام التي حققتموها لهذه السينما السورية أمثلة وبوصلة. وفيلمك «كفر قاسم»، وفيلم «المخدوعون» لتوفيق صالح بَدَوَا كـ «محرابين» أضاءا لنا درباً وفياً للسينما ومهمّاتها.

لا شك في أن العصف الذي حدث للسينما السورية والحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت في عام 1975، قاداك إلى المنفى وأخذا بك إلى فيلمك «رسالة من المنفى» وما قبله وبعده، كما لعب المنفى دوراً في توجّهك السينمائي إلى موضوعات أخرى مختلفة. لكنّها لم تُبعدك أبداً عمّا طمحت إليه دائماً وما أكّدته رؤيتك للواقع في السعي دائماً للتعبير عن القضايا التي تُشغل إنساننا في زمنه الراهن وفي تألّق البصيرة الذاتية للتعبير عن هذا الزمن، هنا أو هناك. وأرى أن فيلمك «لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» عن المعماري النادر حسن فتحي يضيء بعضاً من وفائك لروحك السينمائية.

تبقى تجربتك السينمائية يا برهان، المتحقّق منها والباقي على الورق لا يجد من ينتجه إلا برهاناً على ما آلت إليه هذه السينما اليوم، ليس في سوريا ولبنان فقط، بل في المنطقة العربية كلّها.

* مخرج سينمائي سوري

 

####

 

كم نرغب أن نصرخ معك: «خلص»!

شهادات/ هادي زكاك

اتّصل بي صباح أمس نجا الأشقر الذي كان فقد والده قبل يوم وأخبرني أن برهان علويّة قد غادرنا بدوره. وكأنّ الآباء يرحلون ويتركوننا أيتاماً في بلد لا يوجد فيه أب جامع يهتمّ بمواطنيه ويمنعهم من التحوّل إلى أموات أحياء كما في أفلام الرعب التي وقّعها جورج روميرو.

تليق ببرهان علويّة صفة الأب وتحديداً الأب الروحي لما نقدر أن نسمّيه السينما اللبنانيّة الجديدة، التي ظهرت في السبعينيّات وجاءت مواكبة للسينما البديلة التي تحاكي واقعها وتخرج من دهاليز الترفيه السطحي والتقليد. كان برهان رائداً في هذا المجال مع جيل ضمّ مارون بغدادي وجوسلين صعب وهيني سرور ورندا الشهال وجان شمعون وغيرهم.

عرف علويّة كيف يتناول الواقع الفلسطيني وكيف يُظهر مفاعيل الاحتلال الإسرائيلي وانعكاسه على المجتمع الفلسطيني وتكوينه، فجاء «كفر قاسم» (1974) كأحد أوّل وأبرز الأفلام العربيّة التي أخرجت القضيّة الفلسطينيّة من بازار البروباغندا والخطابات الخشبيّة.

كان انتماؤه العربي واضحاً وصادقاً من خلال اختيار مواضيعه، فأعاد تكوين قرية «كفر قاسم» الفلسطينيّة في سوريا في فيلم من إنتاج «المؤسسة العامّة للسينما»، وذهب إلى مصر حيث صوّر «لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» (1978) قبل أن يعود إلى بيروت مع «بيروت اللقاء» (1981) ليفتتح مع هذا الفيلم المحوري مراسلات مستمرّة مع المدينة ستمتدّ لسنوات وتغطّي زمن الحرب والمنفى وأخيراً العودة مع «إليك أينما تكون» (2001).

حاول أن يختتم مشواره السينمائي وعلاقته ببيروت مع «خلص» (2006) وكأنّه كان يعلن عن نهاية زمن الأحلام وعن هزيمة محتّمة قضت على فرص الحب واللقاء. وبقيت بعض القطط في المدينة لتناول العشاء فيما اصطدم البشر بالأفق المسدود.

طوال هذه المسيرة الطويلة، لم يكتفِ برهان بالأفلام فقط، بل حاول، منذ عودته في منتصف التسعينيّات إلى بيروت، أن يخلق صندوق الدعم للإنتاج السينمائي الذي عمل عليه بعض الزملاء الآخرين.

كنت في مطلع العشرينيّات، أتابع هذه الاجتماعات وأشهد على اندفاعه وما لبثت أن توطّدت علاقتنا، بخاصة بعدما أصبح برهان أستاذي في معهد السينما في «جامعة القدّيس يوسف-بيروت» والمشرف والداعم لفيلمي القصير «ألف ليلة ويا ليالي» (1999) الذي حرص أن أصوّره على شريط سينمائي بإنتاج من الجامعة وأذهب إلى بلجيكا لأتمم عمليّات الفيلم النهائيّة في المختبر الذي شهد على البعض من أفلامه.

بعد العرض الأوّل للفيلم، قال لي: «حان الوقت الآن أن تقرّر إن كنت تريد أن تصبح مخرجاً أم ناقداً». أجبته أنني أريد قبل أي شيء أن أكون مخرجاً وأن أحافظ على نقدي بدءاً بأفلامي. فالجلسة مع برهان علويّة كانت دائماً جلسة تُطرب الفكر من حيث تحليله للواقع وطرحه الأسئلة الجوهريّة. كأنّ السينما تعود أوّلاً إلى هذه الجذور قبل أن تلتهي بالتقنيّات وعرض العضلات.

كان يقول لي لا تنسى أن تخبر طلّابك عن أفلامي، فلم أتوقّف منذ أكثر من عشرين سنة أن أنقل تجربة هذا الجيل الرائد. رحل برهان ليلتقي بمارون وجان وجوسلين ورندا. وكأنّ رحيل هذا الجيل المؤسس يواكب رحيل وطن.

قام نجا الأشقر مع «نادي لكلّ الناس» بالحفاظ على إرث برهان علويّة والعديد من روّاد هذه السينما التي ألهمتنا. ونحن اليوم نختبر من جديد ما قاله، فيصعب علينا اللقاء في بيروت فيما المنفى ينادينا. كم نرغب أن نصرخ معك يا برهان ونقول: «خلص!» فيحطّم صراخنا زجاج قصور الطغاة ويتدفّق إلى دهاليزها.

* كاتب ومخرج سينمائي

 

####

 

«نادي لكل الناس»: باق في أعماله

أصدر «نادي لكل الناس» بياناً في رحيل المخرج برهان علوية ننشره كاملاً: «فارقنا أمس، في بروكسيل، بعدما أقعده المرض أعواماً طويلة، السينمائيّ اللبنانيّ الكبير برهان علويّة المولود في أرنون، جنوب لبنان، سنة ١٩٤١. درس الراحل السينما في بروكسيل وتخرّج من معهدها في سنة ١٩٧١. وكانت باكورة أعماله فيلم «كفر قاسم» (١٩٧٤) الذي أظهر موهبته بوضوحٍ ممهّداً له موقعاً بارزاً بين المخرجين الطليعيّين في دنيا السينما العربيّة. تبعَ هذا العمل، في ما يزيد عن ثلاثين سنةً، نحو من عشرة أفلام أخرى بعضها روائيّ وبعضها تسجيلي. وقد عرض معظمها في مهرجانات عالميّة ونال جوائزَ أو رُشّح لجوائز. وأبرز أفلامه الروائيّة، فضلاً عن «كفر قاسم» الفلسطينيّ المدار، «بيروت اللقاء» (١٩٨١) وتدور وقائعه في مناخ الحرب اللبنانيّة التي استأثرت بأعمال أخرى لعلويّة تتّسم كلّها، على الرغم من توزّعها بين النوعين التسجيليّ والروائيّ، بطابع وجدانيّ جامع يمنحها أفقاً إنسانيّاً عامّاً أرحبَ كثيراً من الموضوع المباشر لكلٍّ منها. نشير، على الخصوص، إلى «رسالة من زمن الحرب» و«رسالة من زمن المنفى» و«إليك أينما تكون» وإلى العمل الروائيّ الأخير لعلويّة وقد سمّاه، بما يشبه النبوءة، «خَلَص!».

هذا الحضور للبنان وقضيّته، في أعمال علويّة، لم يحُل البتّة دون ارتياد المخرج آفاقاً عربيّة وجد فيها بعضاً من مشاغل جيله البارزة. فبعد «كفر قاسم» الفلسطينيّ، كرّس علويّة اثنين من أعماله التسجيليّة لموضوعين مصريَّين: «لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» للمهندس المصري الكبير حسن فتحي ولمشروعه الإعماري والمعماري، و«أسوان» للسدّ العالي ووقعِه على محيطه البشريّ وبيئته.

من البدءِ، كانت أعمال برهان علويّة تدرِج نفسها في صفّ السينما الملتزمة بانشغالها بقضيّة الحرّيّة وبكشف القوى الغاشمة التي ترزح، على اختلاف مصادرها، على مصائر الأفراد والجماعات. ولكنّ هذا الالتزام يبقى بعيداً، عند علويّة، عن مجرّد الوعظ أو التحريض، إذ هو يحفظ، بوجدانيّته على التحديد، صفته الإيحائيّة الرهيفة وفرادة أشخاصه، مراعياً حرّية المُشاهد ومحافظاً على الطموح الجماليّ للعمل بأبعاده كافّةً.

في الأسلوب، امتازت أعمال علويّة، على الخصوص، بالتقريب ما بين الصورة السينمائيّة والصورة أو اللوحة المنتمية إلى فَنّيّ التصوير الآخرين: الفوتوغرافي والتشكيلي. فإنّ البطءَ الذي يطبع الشريطَ البرهانيّ يمنح الصورة ما يكفي من الوقت لتتّخذ لنفسها نوعاً من الشخصيّة القائمة برأسِها. هكذا تغدو مشاهدة الشريط شبيهةً، على نحوٍ ما، بزيارةٍ لمتحفٍ أو لمعرض...

يجد «نادي لكلّ الناس» نفسه شريكاً بين الأقربين في المصاب ببرهان علويّة. فإنّ اهتمام النادي بإعادة أعمال هذا السينمائيّ الكبير إلى التداول وبترميم بعضها قد أنشأ بين برهان علويّة وبين النادي وأعضائه علاقة محبّة شِبْهَ عائليّة. فنحن، بصفتنا هذه، نشارك عائلة الفقيد وسائر محبّيه وعارفي فضله وأهل السينما في النطاقين اللبنانيّ والعربي شعورهم بالخسارة.

برهان علويّة باقٍ بأعمالهِ، باقٍ في قلوب محبّيه»

 

####

 

عن ضجيج في الرأس عمره 15 عاماً

أمل عارف

في بداية فيلمي «رسالة من زمن المنفى» (1990) و«إليك أينما تكون» (2001)، تحدّث برهان علوية عن ضجيج في رأسه، عمره 15 عاماً، من عمر الحرب. هذا الضجيج، الذي تكلّم عنه، شاهدناه في أفلامه، ولم نسمعه فقط. منذ «بيروت اللّقاء» الذي صوّره عام 1981، وصولاً إلى «خلص» (2006)، لم يخرج هذا الضجيج من رأسه ولا من أعماله. ولم تخرج الحرب من عدسته ولا من كلماته.

بعث إلينا بثلاث رسائل، شكّلت ثلاثية أعمال المخرج اللبناني الذي درس السينما في بلجيكا، واتجه إلى ميدان سينما المؤلف. تلك الرسائل الثلاث، تشكّل سيرةً للبنان منذ اندلاع حربه الأهلية وصولاً إلى إعلان وقف إطلاق النار والدخول في مرحلة السّلم الزائف: «رسالة من زمن الحرب» (1984)، «رسالة من زمن المنفى» و«إليك أينما تكون».

لا تستطيع أن تنسى بسهولة الشخصيات التي تخرج من شاشة برهان علوية، من الوجوه الحائرة والتائهة، التي رصدها في المنفى الأوروبي، هاربةً من حرب لبنان، إلى الوجوه التي صوّرها في بيروت، بعد عشر سنوات على انتهاء الحرب في «إليك أينما تكون». المرأة التي لا تستطيع أن تنام وفي رأسها صورة إعدام شبان أمام منزلها. الأمّ التي تجلس تحت صورة ولدها المفقود، ولا يزال مصيرها ومصيره معلّقاً، كما كل شيء، والمقاتل القنّاص السابق الذي لا يظهر إلا في الليل.

هذا العمل الفريد الذي صوّر فيه شخصيات ترسم بورتريهاً لمدينة تعيش بين عالمين، العالم السفلي، أي الحرب ووجوهها وضحاياها، والعالم الآخر، حيث المدينة نفسها تحاول أن تدوس على الحرب وتمضي قدماً إلى عالم الأموال وإعادة الإعمار و«الازدهار»، غير آبهة بإرثها الدموي الثقيل.

خيط رفيع في أفلامه بين الوثائقي والروائي

ينطلق «إليك أينما تكون» من الضوء، من بيروت بلسان أنسي الحاج وأحمد بيضون، ويتجه إلى الظلام، إلى وجه مخفي من العاصمة. هناك خيط رفيع في أفلام برهان بين الوثائقي والروائي. وهو لا يحبّذ أن يميّز بينهما، لكننا نستطيع على الأقل تمييز ثلاثة أعمال خارج الثلاثية الشهيرة.

«كفر قاسم» (1974) في بداية السبعينيات، الروائي الذي يوثّق مجازر الاحتلال الإسرائيلي في قرية كفر قاسم الفلسطينية. «بيروت اللقاء» (1982) المستحيل في زمن الحرب بين حبيبين، معتمداً كعادته على الرسائل بينهما. يروي برهان سيرة بلد وعاصمة تمزقّهما الحرب منذ سنوات. لا ينسى أن يعرّج على المشكلة الطبقية الأساسية في اشتعال الحرب، وقد توارت خلف المعارك الطبقيّة. آخر أعماله «خلص» (2006) كأنّ برهان قال «كفى»، أتى كتصفية حساب المخرج مع الحرب، غاضباً ومنتقماً من بعض وجوهها: الحبيبة السابقة، المثقف والمنظّر اليساري الذي أشبع المقاتلين بالشعارات، وانقلب عليها في زمن السلم والبحبوحة والسلطة.

لعلّ المشهد الأبرز والأكثر سريالية في مسيرة برهان السينمائية، هو إقامة الصديقين في «خلص» وليمةً كبيرةً لعشرات القطط على أنغام الكمان، قبل أن يشرعا في رحلة الانتقام من الماضي. في وثيقة نادرة أيضاً لبرهان علوية، بعنوان «لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» (1978)، صوّر المهندس المعماري الشهير، حسن فتحي، في نهاية السبعينيات في مصر. هنا أيضاً إشارة إلى انحياز برهان إلى الإنسان، مثل بطله حسن فتحي.

«نادي لكل الناس» كان قد أصدر أعمال برهان وبعض المخرجين من هذا الخط، تكريماً لسينما تروي وتصوّر واقع البلد، وتنحاز للقضايا المحقّة، وفي انتظار أن تخرج أعمال أخرى، لم يتسنَّ لجمهور واسع أو للأجيال الجديدة مشاهدتها.

مع رحيل برهان علوية، تتسع الهوة أكثر بين السينما والناس، بين السينما وتاريخ لبنان الحقيقي وقضاياه الاجتماعية والإنسانية. هذه هي السينما التي رسم برهان طريقها مع أبناء جيله أمثال جوسلين صعب، ورندا الشهال، ومارون بغدادي وجان شمعون.

 

الأخبار اللبنانية في

10.09.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004