ملفات خاصة

 
 

«كفر قاسم» لبرهان علوية: سياقٌ روائي لأفلام الثورة التسجيلية

سليم البيك

عن رحيل الفنان

برهان علوية

   
 
 
 
 
 
 

في السبعينيات، في زمنهم الثوري، كان الفلسطينيون يتكشفون على تجاربهم السينمائية، وكانت لتجريبيتها وثوريتها وتعلقها العضوي بالعمل الكفاحي في زمن صعود الثورة، كانت وثائقية تسجيلية بالدرجة الأولى، وكان الحس الروائي إن وجد، متضمناً في السياق التسجيلي التوثيقي، الكفاحي، الدعائي في شكل منه. وقد كان متأثراً، لأسباب تفوق الفنية، ببواكير السينما السوفييتية، بأسلوب المونتاج المبتكَر في حينه، وبالريادي والمنظر في ذلك سيرغي أيزنشتاين، الذي كان للسياق الروائي في أفلامه الأولى، شكلٌ ومضمونٌ تسجيلي.

أفلام الثورة الفلسطينية لمصطفى أبو علي ورفاقه، فلسطينيين وعرباً وأجانب، كانت أفلام منظمات ثورية، وكان صناعُها فدائيين. ولم يكن للدخول في المجال الروائي، سينمائياً، مساحة آمنة في ضجيج المعارك على الأرض وفي الشاشات.

لكل نوع من الأفلام زمنه الخاص، والمد الثوري يستدعي أفلاماً من وحيه، تكون، لذلك، وثائقية في الدرجة الأولى، تسجل اللحظة، ولا يكون للروائي مساحةً هادئة آنذاك، لأسباب منها ظروف الصناعة المتشابكة في العمل الروائي ومنها، وهو الأهم، دور وضرورة الأفلام اللازم صناعتها في خضم المعارك، أو في زمن الثورة.

دخل الروائي إلى السينما الفلسطينية بحذر، بتناولات جعلت لمساحته مكانة آمنة ضمن الأفلام المصورة والمصورة للشعب، المبنية على مقابلات، في معظمها، يحكي فيها أفراد (هم تمثيل للجماعات) من هذا الشعب عن الكفاح المسلح، عن العنف الثوري ذي «القوة التطهيرية» كما سماها فرانز فانون في «معذبو الأرض» تلك القوة التي «تحرر الشعب من عقدة الدونية، ومن يأسه وخموله، ومن الخوف، وتعيد له احترامه لذاته». مَهمة أفلام الثورة الفلسطينية كانت كذلك، يُضاف إليها تلك التي تصور آثار الوحشية الإسرائيلية المثيرة للحنق، في مونتاجات تجعل من تلك الصور والشهادات محرضاً على الفعل/العنف الثوري.

بموازاة ذلك، دخلت السينما الروائية بخجل، إنما، متخذة لنفسها تناولات من وحي القضية الفلسطينية وإن لم يكن من وحي ثورتها، إذ كانت الأفلام نقلاً حكائياً لما سبق زمن الثورة، كأنها حاجةٌ سياقية لفهم الفعل الثوري الفلسطيني لحظتَها، وإن كان أبناء المخيمات يعيشون السياق ذاته، وامتداده، ولا تزال ذاكرتهم حيال ما مروا به في عامَي 48 و67 حية. كان السياق الحكائي المتتالي المتراتب على بعضه، لزمن الفلسطينيين آنذاك، بحاجة إلى استعادة روائية لما سبق زمن الثورة وأفلامها.

للوقائع أفلامٌ لا بد أن تسجلها، كما هي، في ذلك الزمن تحديداً، وللواقع حكايات سابقة له، لا بد من روايتها ليكون المسجل/الموثق في سياقه. فلا يكون الدخول إلى المجال الروائي خروجاً، آنذاك، من الزمن الراهن، بل شرحاً ضرورياً له.

الدخول فلسطينياً في المجال الروائي، سينمائياً، نجده في أفلام محدودة، أهمها في السبعينيات كان «المخدوعون» للمصري توفيق صالح، و«كفر قاسم» للراحل عنا قبل أيام اللبناني برهان علوية (الصناعة في الفيلمين كانت عربية من حيث الإنتاج وما قبله وما بعده). يليهما «عائد إلى حيفا» للعراقي قاسم حول عام 1981، وفيلم ميشيل خليفي الذي دخلت معه السينما الفلسطينية عام 1987 مرحلةً جديدة، هو «عرس الجليل». وتتالت من بعده الأفلام الروائية التي ينجزها فلسطينيون من خارج تجربة الثورة الفلسطينية، التي أفَلت خلال الثمانينيات، وقد كانت الصناعة السينمائية الفلسطينية في حينها (كما الصحافية والأدبية والقتالية) تقوم على عرب كما على فلسطينيين بالقدر ذاته. تتالت الأفلام، إذن، مع صناع فلسطينيين هم إضافة إلى خليفي (زمانياً) رشيد مشهراوي وإيليا سليمان، في التسعينيات.

يُحسَب للراحل برهان علوية المساهمة في فتح قناة باكرة للمجال الروائي في السينما الفلسطينية، وكان ذلك بقصة المجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في قرية كفر قاسم في فلسطين عام 1956. للفيلم أهمية تتخطى ذاته كعمل فني بميزاته كتابةً وتصويراً وأداءً، تكمن في – إضافة إلى «القناة الباكرة» – المساهمة في وضع أفلام الثورة الفلسطينية في سياقها لدى متلقي هذه الأفلام (الذاكرة وحدها لن تكفي) كأن الأفلام التسجيلية السبعينية التي حمل صناعُها كاميراتهم كما يحمل الفدائيون بنادقهم، كان لا بد أن تترافق بأفلام تروي ما سبق، لا أقول تبررها بل تضعها في سياقها التاريخي، مانحةً للمُشاهد فرصةً لإدراك متشعب، مكانياً وزمانياً، لا لأفلام الثورة وحسب، بل لحكاية الشعب الذي تصوره هذه الأفلام، ولثورة هذا الشعب التي توثقها هذه الأفلام.

للوقائع أفلامٌ لا بد أن تسجلها، كما هي، في ذلك الزمن تحديداً، وللواقع حكايات سابقة له، لا بد من روايتها ليكون المسجل/الموثق في سياقه. فلا يكون الدخول إلى المجال الروائي خروجاً، آنذاك، من الزمن الراهن، بل شرحاً ضرورياً له.

كاتب فلسطيني سوري

 

القدس العربي اللندنية في

16.09.2021

 
 
 
 
 

سنوات السينما

بيروت - اللقاء (1982) برهان علوية

محمد رضا

> رحيل المخرج اللبناني برهان علوية في الأسبوع الماضي يحيلنا إلى أعماله السينمائية التي رغم تعددها بين الوثائقي والروائي تبقى متفرقة بقدر ما بقيت حياته رمزاً للطموح الكبير الذي لم يتمتع بالظروف المناسبة لتحقيقه على نحو فاعل ومؤكد.

«بيروت - اللقاء» هو أحد أفلامه الروائية القليلة. تقع أحداثه في منتصف السنوات العصيبة التي شهدت الحرب الأهلية اللبنانية. لا يتابع الحرب بل يتابع شخصية بطله الشاب (هيثم الأمين) من تلك الفترة إلى ذلك المشهد الأخير الذي يوفر علامة استفهام كبيرة حول مصيره.

يفتح برهان علوية فيلمه على جدران وأصوات شوارع بيروت، لكنه من قبل ذلك، يمهد لإدخالنا إلى الفيلم بشريط صوتي يصاحب العناوين. صانعو الفيلم يتحدثون عن الفيلم الذي سنراه. يحللون جوانبه السياسية (على طريقة فيلم «مشاهد من حياة زوجية» لإنغمار برغمن) لكن منذ أن تدور الكاميرا ننسى هؤلاء (غالباً من دون إرادة المخرج) ونتابع حيدر الذي يسكن مع أخيه وزوجة أخيه في بيت خالٍ من الأثاث في عمارة ربما كانت على خط النار أو بقربه. بيروت في واحدة من راحاتها الأمنية.

يقرأ حيدر في الصحيفة أن الاتصالات الهاتفية المقطوعة بين المنطقتين الشرقية والغربية من بيروت قد عادت. ينزل إلى باب العمارة ويجرب حظه مع رقم هاتف صديقته الجامعية زينة (نادين عاقوري). يتفقان على موعد في النهار ذاته لأنها في صبيحة اليوم التالي ستركب الطائرة إلى أميركا. على الطريق يزداد الزحام ويعرقل الوصول في الموعد المحدد أكثر إصرار أحد عناصر الميليشيات على بيع صحيفته ثم البحث عن «الفكة». زينة من ناحيتها، وبما أن الموعد في الشرقية، تصل في الوقت المحدد لكنها لا تستطيع الانتظار طويلاً بسبب وجود مسلحين يلعبون «الفليبر» ويتعاملون فيما بينهم بلغات سوقية. حين يصل حيدر يكتشف الجو ذاته ويفهم أنها انتظرته فيعود أدراجه وقد فشل اللقاء الأول.

في اتصال هاتفي آخر يتفقان على أن يسجل كل منهما ما يود قوله للآخر على شريط كاسيت ليتبادلا الأشرطة في المطار. وهكذا يمضي كل منهما الجزء الأكبر من الليل يحكي لجهازه كل ما يود قوله على أمل اللقاء في الغد. هذه المرة يصل حيدر مبكراً، لكنه وبدافع يائس لدفن الماضي وبسؤال محبط عن جدوى اللقاء في ظروف كتلك، يترك المطار ويتلف شريطيه. تصل زينة وتبحث عنه في أرجاء المطار تتهاوى باكية حين لا تجده. الطائرة تقلع بها.

لا ينتهي الفيلم بمشهد الطائرة المبتعدة، بل ننتقل إلى حفلة مقامة على شرف الفيلم بمناسبة انتهاء تصويره. المخرج (ممثل آخر وليس برهان علوية) يناقش وممثلي الفيلم مسألة إضافة مشهد آخر نرى فيه حيدر وهو يُدفن بعدما أقدم على الانتحار. لكن حيدر ـ الممثل، يرفض مقتل حيدر ـ الشخصية. يقطع الفيلم بعد ذلك على مشهد الدفن وقد اجتمع الناس ينتدبون وإذ بحيدر ـ الممثل يهب واقفاً من القبر رافضاً أن يموت ومعه الرمز الذي يمثله. إنه يرفض النهاية التي أرادها له مخرج الفيلم. مع ذلك يقفل برهان علوية فيلمه على المقابر الممتدة...

لكن هناك مشهداً صغيراً من تلك المصنوعة لكي تبقى عالقة لمن ينتبه إليها. مشهد سير حيدر وحيداً على شاطئ البحر حيث يقف صياد عجوز يجهز شباكه. لا حيدر يستطيع السفر ولا العجوز لكن البحر الأزرق المفتوح أمام المدينة القديمة يلعب هنا معنى شاعرياً ورمزياً كبيراً.

 

الشرق الأوسط في

17.09.2021

 
 
 
 
 

"كفر قاسم" لبرهان علوية: سبقٌ سينمائيّ في التجديد البصري

نديم جرجوره

لقرية كفر قاسم لحظة تاريخية راسخة في وجدان وعقل وتأمّل، كفلسطين كلّها. ولفيلم "كفر قاسم" مكانة ثابتة في ذاكرة مخرج وتاريخ سينما وحكايات أناس وبلدان وبيئات.

رغم المكانة الكبيرة والعميقة والأساسية لبيروت في سينماه، لم يحصر برهان علوية (1941 ـ 2021) نفسه في جغرافيا واحدة وثابتة وجامدة، لانشغاله -الثقافي والفكري والاجتماعي والأخلاقي- بهموم وتساؤلات عربيّة، محاولاً عبرها إيجاد مشتركات مع هموم وتساؤلات لبنانية، تبقى السينما أبرزها، لغةً وبناءً ومسارات درامية. ورغم انهماكه في تحويل تلك الهموم والتساؤلات إلى أفلامٍ، روائية ووثائقية، تعاين وقائع، وتروي حالات وحكايات، تنعكس فيها أحوال أناس وبيئات وتفاصيل يومية؛ يظلّ سؤال السينما، وارتباطها بالواقع والذاكرة والتاريخ والاجتماع والناس والانفعالات، أساسيّاً، مع أنّ غلبةَ النصّ على الصورة واضحةٌ في أفلامٍ عدّة.

ومع أنّ انشغال برهان علوية بهموم وتساؤلات عربيّة قليلٌ، قياساً إلى موقع بيروت في ذاته وروحه ووعيه وأسئلته ونتاجه، تُعتبر "أفلامه العربية" (إنْ يصحّ التعبير) مرجعاً في كيفية مقاربة الجماعيّ عبر أفرادٍ وحكايات. انجذابه إلى مصر ظاهرٌ في "لا يكفي أنْ يكون الله مع الفقراء" (1978) و"أسوان" (1991)، فالأول معنيّ بالعمارة، في حوار وثائقيّ مع حسن فتحي؛ والثاني باحثٌ بصريّ في أحوال السدّ العالي، في التاريخ والجغرافيا والراهن، كما في علاقته بالناس، والمتغيّرات الحاصلة في حياتهم، إمّا بفضله (الإيجابيات) وإمّا بسببه (السلبيات).

غليان بيروت فلسطينيّ أيضاّ

لكن فلسطين أساسيةٌ في السيرة الحياتية والمهنية لعلوية، دارس السينما في بلجيكا، والعائد منها إلى بيروت مطلع سبعينيات القرن العشرين ومنصرفاً حينها إلى مواكبة الغليان متنوّع الأشكال والأساليب في لحظة مصيرية، تشهد لاحقاً تبدّلات جوهرية في الحياة والعلاقات. ومع أنّه ورفاقه، مارون بغدادي (1950 ـ 1993) ورندة الشهّال (1953 ـ 2008) وجان شمعون (1944 ـ 2017) وجوسلين صعب (1948 ـ 2019) وغيرهم القليل، منهمكون حينها في توثيق سيرة بيروت وناسها (مواطنون ومُقيمون)، في مرحلة نابضة بأسئلة الهوية والآخر والانتماء والنزاع الاجتماعي الاقتصادي، يبرز السؤال الفلسطينيّ كمنبع لتساؤلات أخرى، وكمصدر لعمل سينمائي يتوغّل في بيروت، اجتماعاً وعلاقات ومصائر، بحثاً في حيوية ذلك الغليان وأسئلته، وفي التزامات ومشاغل وصدامات.

عشية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، يُنجز برهان علوية "كفر قاسم" (1974)، مستعيداً فيه وقائع مجزرة إسرائيلية، ارتكبها جنود الاحتلال في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1956، بحقّ 49 مدنياً من أبناء قرية كفر قاسم (18 كلم شرق مدينة يافا)، بينهم 23 طفلاً ومراهقاً دون الـ18 سنة. تاريخ المجزرة سيكون اليوم الأول لـ"العدوان الثلاثي" (فرنسا وبريطانيا وإسرائيل) على مصر، المستمرّ لغاية 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1956، ردّاً على قرار تأميم قناة السويس، المُعلن في خطابٍ لجمال عبد الناصر، في 26 يوليو/ تموز 1956، يستمع إليه شباب كفر قاسم وشيوخها ونساؤها مباشرةً عبر الإذاعة، في مشهدٍ في فيلم علوية، يعكِس نبض القرية وشخصيات ناسها، وتفكيرهم وصراعاتهم وعيشهم والتزاماتهم وقناعاتهم في السياسة والفكر والاجتماع.

ستمرّ ساعة واحدة تقريباً (مدّة الفيلم 90 دقيقة بحسب النسخة الموجودة على "يوتيوب"، ونسخة "دي. في. دي." الصادرة عن "نادي لكل الناس" في بيروت) قبل بدء المجزرة. ساعة تكشف تفاصيل أساسية في حالة وعلاقات وتفكير وصدامات بين أبناء القرية، وهذا حاصلٌ في قرى فلسطينية كثيرة، بعد إعلان قيام الكيان الإسرائيلي كـ"دولة" (14 مايو/ أيار 1948) مُحتلّة لفلسطين، لأنّ فلسطينيين عديدين يرون في التعامل مع المحتلّ فائدة لهم، بحجّة تهدئة الأجواء بين الفلسطينيين والحاكم العسكري، أو للاستفادة من مال ووجاهة وسلطة. تفاصيل ترسم، بوضوح وشفافية، يوميات أناس، لبعضهم قناعات ناصرية، ولبعضهم الآخر عقائد يسارية مختلفة. عمّال يجهدون نهاراً كاملاً في أي عمل لدى أي "صهيوني" من أجل لقمة عيش، وقلّة تحصل على مال وفير من دون تعب. النزاع الطبقي يظهر في لقطة معبِّرة، إذْ يسأل ابن تاجر فلسطينيّ والده السماح له بالذهاب معه إلى العمل، فيجيبه الأب أنّ الوقت باكرٌ بالنسبة إليه للعمل، ما يحرِّض أحد العمّال على انتقاد هذا بلؤم وقهر: "ولماذا يعمل، طالما أنّ لوالده أموالاً كثيرة يجمعها من دون جهد".

التزام ثقافي وأخلاقي 

تفاصيل كهذه أساسية. فرغم فلسطينيّتها، يسردها برهان علوية انطلاقاً من التزام بهاجس ثقافي وفكري واجتماعي، تعرفه بيروت في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين ويعتبرها جوهر كل اجتماع، مع إضافةٍ تتمثّل بالاحتلال الإسرائيلي. هذا يعكس حيوية النبض الثقافي العام لعلوية، وقدرته السينمائية على إيجاد مساحات لها في حكاية قرية فلسطينية تشهد مجزرة إسرائيلية، من دون الانتقاص من وقائع حقيقية، فالانشقاقات والنزاعات الحياتية والاجتماعية واليومية حاصلةٌ في القرية نفسها، و"جينيريك" البداية يُشدّد على أنّ "كلّ مُطابقة أو مُشابهة مع أشخاص أو أحداث حقيقية ليست صدفة، لأنّ كلّ ما يعرضه هذا الفيلم مأخوذٌ من الوثائق التاريخية الأصلية".

"الانبهار" بالإسرائيلي، خوفاً أو تحايلاً أو فساداً في العقل والسلوك، يتمثّل أيضاً بشخصيةِ شابٍ يُصرّ على الانتقال إلى تل أبيب للعيش والعمل فيها، بعيداً عن فقر القرية ومستقبلها المعطَّل. لكن زيارته صديقاً يعمل في مقهى، يكشف له استحالة ذلك، خصوصاً أنّ الصديق مُجبر على اختيار اسم يهودي كي يعمل، وعلى تقبّل كلّ شيءٍ يُقال على ألسنة المحتلّين من دون نقاش. الصورة "البهيّة" تتحطّم، بينما تَعَامُل القلّةِ مع الصهيوني مستمرّ، ففيه فائدةٌ كبيرة لهذه القلّة المتملّقة، التي يحتقرها المحتلّ الإسرائيلي، إمّا بجعلها عميلة له (أحدهم ينقل أخبار الناس إلى الحاكم العسكري)، وإمّا بالكذب عليها، إذْ يؤكّد ضابطٌ لمختار كفر قاسم أنّ العاملين خارج القرية، الذين يعودون من عملهم بعد الساعة الخامسة، موعد بدء تنفيذ "القرار المفاجئ" بمنع التجوّل، سيُحافَظ عليهم، وسيُمنحون الإذن بالعودة إلى منازلهم، وهذا لن يحصل.

إعادة تشكيل قرية كفر قاسم سينمائياً، في قرية الشيخ سعد "التي ستلعب دور كفر قاسم في هذا الفيلم" (كما في الـ"جينيريك")، خيار فني وجمالي، يخدم التوثيق الذي يُشكِّل أساس فيلمٍ يؤرّخ وقائع مجزرة بالصورة والصوت والتوليف. كأنّ المطلوب، فنياً ودرامياً وجمالياً، من إعادة تشكيل المشهد برمّته، يكمن في إلغاء كلّ حدّ بين الوثائقي التسجيلي والروائي المتخيّل. فالثاني مُكتفٍ بممثلين وممثلاتٍ يؤدّون أدوار أناسٍ حقيقيين، في فيلمٍ يُحوِّل القصّة (عاصم الجندي) إلى صُورٍ، ويجعل التوثيق متتاليات بصرية تزخر بنبض وغليان وحيوية وتحدّيات وموت وجُرم، يُحاكَم مرتكبوه الإسرائيليون فيُسجنون لوقتٍ قليلٍ، لأنّ "صدى الحدث يُجبر الصهيونية على تقديم منفّذي مجزرة كفر قاسم إلى المحكمة". لكنّ الأحكام القضائية مُخالفة لعرفٍ صهيوني "سائد عام 1956، يحكم على قاتل شخص واحدٍ بالسجن المؤبّد" (كما يُكتب في سياق السرد)، بينما أطول مدّة حُكمٍ على هؤلاء غير متجاوزةٍ الأعوام الثلاثة.

تجديد مُبْتَكَر

سينمائياً، يسبق "كفر قاسم"، بأعوامٍ مديدة، نمطاً وثائقياً يُعرف لاحقاً: "دوكيو دراما"، أو الوثائقي الروائي، إذْ تتداخل أنواع سينمائية في فيلم واحد، يتناول موضوعاً أو شخصية أو حالة، بالاستناد إلى مستندات ووثائق مكتوبة ومسجّلة ومُصوّرة، مُضيفاً إليها فقرات تمثيلية مختلفة. هذا نوع من تجديد الاشتغال السينمائي الوثائقي لدى علوية، بالإضافة إلى اعتماد "جينيريك" مختلف، فأسماء العاملين في "كفر قاسم" تُكتب على الشاشة بشكلٍ متقطّع، بين مشهدٍ وآخر. بينما بعض أسماء شهداء المجزرة يُذكر عند تنفيذ القتل (كلّ اسم على لقطة لشهيد يؤدّي دوره ممثلٌ) في مشاهد متخيّلة سينمائياً، وبعضها الآخر يُذكر في نهاية الفيلم، المعقودة على مقاطع من قصيدة "مغنّي الدم" (عن كفر قاسم) لمحمود درويش.

ميزة أخرى لـ"كفر قاسم": إنّه صنيع إنتاج مشترك بين "المؤسّسة العامة للسينما" في دمشق و"المؤسّسة العربية للسينما" في بيروت، مع فنانين وتقنيين أجانب، كهنري مورِلّ (هندسة الصوت) وإليان دو بُوا (سكريبت مونتاج)، علماً أنّ السيناريو لبرهان علوية والحوار لعصام محفوظ والموسيقى لوليد غلمية. الإنتاج العربيّ المشترك نادرٌ، حينها وفي كلّ حين. لكنّ التجربة تقول بإمكانيته، إنْ تتوفَّر معطيات أساسية، أبرزها انفتاح الجهة المُنتجة، وقناعتها بأولوية المشروع وأهميته، لا بحسابات جغرافية ومناطقية ضيّقة.

أهمية "كفر قاسم" تكمن في توثيقه السينمائيّ لحدثٍ أساسيّ في سيرة الفلسطيني، وفي حكاية السينما العربية مع الهمّ الفلسطيني، كأناسٍ قبل القضية، أو معها. فيلم برهان علوية يقول إنّ القضايا مهمّة، لكن الأفراد أهمّ، أو أنّ التفريق بين الطرفين (القضية والناس) غير جائزٍ إطلاقاً. هذا ما سيفعله علوية لاحقاً، في "بيروت اللقاء" (1982): قصّة حبّ (لها في "كفر قاسم" حيّزٌ، وإنْ يكن متواضعاً للغاية) في لحظة اشتعال بيروت بحرب وخراب وانشقاقات وموت. قصّة يتسلّل منها علوية إلى مسام مدينة ونبضها القاتل، ويذهب رفقة حبيبين -يعجزان عن اللقاء، بسبب طائفة كلّ واحد منهما، فيستعينان بتسجيلاتٍ على أشرطة "كاسيت" لتواصلٍ متقطّع- إلى حياة معطوبة، وخيبات قاسية، وآلام مُثقلة بأسئلة وقلاقل.

لقرية كفر قاسم لحظة تاريخية راسخة في وجدان وعقل وتأمّل، كفلسطين كلّها. ولفيلم "كفر قاسم" مكانة ثابتة في ذاكرة مخرج وتاريخ سينما وحكايات أناس وبلدان وبيئات.

ناقد سينمائي من لبنان

 

مجلة رمان الفلسطينية في

21.09.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004