ملفات خاصة

 
 

إهانة الفلسطيني وسُمعة مصر:

أي خراب هذا؟ أي خنوع وبهتان؟

نديم جرجوره

الجونة السينمائي

الدورة الخامسة

   
 
 
 
 
 
 

يصعب التغاضي عن المسألة: أشباه نجوم، من ممثلين وممثلات، وعاملون في صناعة السينما المصرية، يشنّون حملة ضد "ريش" لعمر الزهيري، فور عرضه في الدورة الـ5 (14 ـ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" (جائزة نجمة الجونة لأفضل فيلم عربي روائي طويل، 20 ألف دولار أميركي)، لأنّهم يرون فيه "إساءة إلى سُمعة مصر"، أو مجرّد "فيلم تافهٍ"، والوصف الأخير خلاصة أوصافٍ تُشبهه، يُطلقها صنّاع أفلام (إخراجاً وتصويراً على الأقلّ)، لهم سيرة سينمائية حاضرة في التاريخ الحديث للفن السابع المصري.

لكلّ واحد رأي وأسلوب يعتمده في التعبير عن هذا الرأي، والأسلوب يعكس شخصيّته وسلوكه وتفكيره وتربيته وثقافته ووعيه. بعض قليل يريد نقاشاً جدّياً. بعضٌ آخر يتسلّح بوطنية مقيتة، أو بمفردات قريبة من الشتم، لأنّه غير معجب بـ"ريش"، وبأفلامٍ راسخة في ذاكرة السينما المصرية، تبقى أهمّ وأعمق وأجمل من سهولة الشتم، وتفاهة قائلين به.

هذا سجال سينتهي قريباً، كعادة السجالات الباهتة والبليدة في القاهرة.

المأزق الأخلاقيّ كامنٌ في مسألة أهمّ وأخطر، إذْ يتغاضى هؤلاء وغيرهم عن إهانةٍ يتعرّض لها سينمائيون فلسطينيون في مطار القاهرة، لسببٍ يُمنع الإعلان عنه رسمياً. سلطة عبد الفتّاح السيسي وجماعته منخرطةٌ في إهانة الفلسطيني، رغم تمكّن فلسطينيين آخرين من الدخول إلى مصر، والمشاركة في "مهرجان الجونة" نفسه، لأسبابٍ غير معروفة البتّة. هذا تناقض يبدو مقصوداً، كمن يريد تأديباً للفلسطيني من ناحية، وإظهار انفتاح عليه من ناحية أخرى.

هذا لن يحول دون السؤال عن سبب غياب تلك الأصوات، الصارخة فراغاً وضجيجاً من أجل لا شيء، عن مسألة تُهين مصر وشعبها، وتُسيء إلى سُمعة مصر وشعبها، وهؤلاء الصارخون جزءٌ من الشعب المُهان والمُساء إلى سُمعته، وهم صامتون وراضخون.

إهانة الفلسطيني لأنّه فلسطيني (لا سبب آخر يدعو إلى منع الفلسطيني من الدخول إلى مصر، أقلّه بانتظار جرأة نظام قاتل على إعلان السبب الحقيقي رسمياً) فعلٌ فاشيّ عنصريّ يتكامل وأفعال ذاك النظام، غير المتردّد أبداً عن إعدام شبابٍ بتهمة جُرمية، يتبيّن بعد أشهر قليلة فقط أنّهم أبرياء منها، وغير المتردّد عن سجن أناسٍ بسبب آراء لهم غير عنيفة، وغير محرّضة على قتل وسرقة وفساد ونهب، وغير متناقضة مع حبّ صافٍ وحقيقي وصادق للبلد ولناس البلد، بخلاف أولئك الصارخين جهلاً وغباءً عن سُمعة مصر وسُمعة شعب مصر.

إهانة الفلسطيني لأنّه فلسطيني غير مُسيئة إلى تلك السُمعة، التي يتفنّن نظام عبد الفتّاح السيسي وجماعته في صُنع كلّ ما يُسيء إليها، في أسوأ مرحلةٍ في التاريخ الحديث لمصر، كامتدادٍ لمراحل حُكمٍ تتفاوت أشكال إساءاته إلى مصر وسُمعتها، منذ "ثورة 25 يوليو" (1952) على الأقلّ. أمّا الفلسطيني، في المراحل تلك، فغائبٌ من كلّ اهتمامٍ، باستثناء لحظات ترتبط بمصالح هذا النظام أو ذاك، علماً أنّ السينما المصرية منحازة، بشكلٍ شبه كامل، إلى أفلامٍ عن حروب مصر ضد إسرائيل، أكثر بكثير من أي اهتمامٍ، ولو بسيط، بالفلسطيني، رغم استثناءات نادرة، أحدها "باب الشمس" (2004) ليُسري نصرالله، المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه (1998) للّبناني الياس خوري.

إهانة الفلسطيني غير مُسيئةٍ إلى سُمعة مصر وشعبها، بينما "ريش" وأفلام مصرية أخرى تُسيء إليها لتوغّلها في وقائع يعيشها مصريون كثيرون.

أيّ خرابٍ هذا؟ أيّ خنوع وبهتان؟

 

####

 

سارة الشاذلي وحميمية التصوير الوثائقي: أهذه عودةٌ أم رحلة خروج؟

نديم جرجوره

أوصافٌ نقدية عدّة تُقال في "العودة" (2021)، أول وثائقي طويل (76 دقيقة) للمصرية سارة الشاذلي. الحميمية والذاتية أبرز الأوصاف. هناك أيضاً العزلة والتعارف والتواصل بين أفراد عائلة واحدة، وصولاً إلى الاغتسال من ثقل أيامٍ وتجارب وعلاقات، بحثاً عن مرحلة جديدة من العيش، أو رغبة في مواجهة مرحلة وحالاتٍ سابقة، لفهمها، أو لكشف خفاياها، أو لتعرية شيءٍ منها، أو لسرد بعض منها.

لكنْ، هل ترغب سارة الشاذلي في هذا كلّه؟ أم أنّ رغبتها في لقاء والديها في القاهرة دافعٌ إلى تصوير لحظاتٍ، يغلب عليها الحميميّ والذاتيّ في التقاط جوانب مختلفة، في الماديّ (المنزل وفضاؤه، الجسد وحركاته، تفاصيل دقيقة لأشياء عدّة، الموسيقى، المشهد الخارجي، المنطقة حيث مبنى المنزل العائلي، إلخ.) والروحيّ (كلامٌ عن مرضٍ ووباء وتحدّيات وتساؤلات)؟

يكشف "العودة" هذا كلّه بأسلوب بسيط وهادئ، وبكاميرا صغيرة، وبعينين مفتوحتين على وسعهما لاكتشافٍ ونظراتٍ وتمعّنٍ في أحوال آنيّة، متأتية من سيرة مديدة. "العودة" يقول شيئاً من هذا بصُوَر ولقطات، بعضها طويل قليلاً، إذْ لا فائدة من دقائق عدّة عن رقصٍ أو غناءٍ أو طبخٍ، قبل التيقّن من أنّ الإطالة مندرجة في سياق بصري، يجمع هوامش كثيرة ليوثِّق عالماً أليفاً لأفراد عائلة واحدة.

للكلام، بين سارة الشاذلي ووالدها نبيل تحديداً، حضورٌ يكاد يتساوى والصمت الذي، بمساحته الخاصة في السرد البصري، يُصبح أشبه بكلامٍ تقوله صُوَر ومَشاهد. الوالدة، ماريان خوري، منعزلةٌ في غرفتها، بانتظار التأكّد من عدم إصابتها بكورونا (تصل سارة إلى القاهرة في مارس/ آذار 2020، من دون تحديد اليوم، مع بداية أول عزلة منزلية في المدينة). كلامٌ عفوي أمام كاميرا غير عفوية، إذْ تكشف عدستها تمكّناً من ملاحقة الأشياء والكلمات والمناخ، ودقّةً في توليفٍ (سارة الشاذلي، المُصوّرة وكاتبة السيناريو والمشاركة مع والديها في الإنتاج، إلى جانب "أفلام مصر العالمية")، يوحي ببساطةٍ لن تحول دون متابعة هادئة لسيرة تلك العائلة بعينيّ الابنة.

بعض تلك السيرة يُشكِّل نواة درامية للوثائقيّ "إحكيلي" (2019)، لماريان خوري. نواة ترتكز على حوار طويل مع سارة، في غرفٍ ومدنٍ وفضاءات مفتوحة على مسار وتاريخ وذاكرة وراهنٍ. كأنّ "إحكيلي" تحريضٌ للشابّة على استكمال جانبٍ آخر من السيرة، أو على قول شيءٍ حميميّ وذاتيّ منها، ينبثق من اختبار إمكانية تخزين حكايات وحالات وانفعالات في صُوَر متتالية، تبدو أولاً مجرّد صُوَر عائلية بحتة، لتصل إلى خاتمةٍ تقول إنّ "العودة" ـ المُشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، في الدورة الـ5 (14 ـ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ يُخرج العائليّ من عزلته وحميميّته وذاتيّته، إلى حكاية مفتوحة على هواجس وتساؤلات، كخروج أفراد العائلة أنفسهم من تلك العزلة إلى شاطئ وبحر ومدى واسع.

بساطة "العودة" في مقاربة مسائل وحكايات تقول إنّ كلّ ترميزٍ غير ملائم لهما (البساطة والفيلم). الخروج من العزلة عادي للغاية، بعد وقتٍ على التقوقع في منزل يُطلّ على جوانب من القاهرة، من علوٍّ يشي بإطلالة تلتقط فراغاً وهدوءاً، كالتقاطها وقائع عيشٍ يوميّ من دون عزلةٍ. بساطة مُريحة في سردها وتصويرها وتوليف مشاهدها، وفي كلامٍ وبوحٍ وتواصل، وفي عزلة يليها خروج إلى ذاك المدى المفتوح، كعينيّ سارة خلف الكاميرا، اللتين تريدان جمع كلّ شيءٍ دفعة واحدة، قبل غربلتها وانتزاع بعضها لتشكيل مسار درامي متماسك ببساطته الفنية والجمالية، وبعمق حميميته وذاتيته، وهاتان الحميمية والذاتية لن تحولا دون مرافقةٍ غير سهلة، رغم البساطة نفسها.

فالمرافقة مطالبة بالتنبّه إلى الحدّ الفاصل بين ما يُظنّ أنّه رتابة، وما يحدث أمام العدسة، وفي عمق ما يحدث أيضاً. تصوير عائليّ، مليء بالحميمية والذاتية، دافعٌ إلى تساؤل عن فائدة ذلك في سينما، يزداد تعمّقها في أحوال أفرادٍ مع عائلاتهم، وأحوال الأفراد والعائلات مع راهنٍ وماضٍ، وفي الراهن والماضي تساؤلات، معظمها غير محسوم. التعمّق السينمائي في حالةٍ كهذه ردٌّ على أولوية القطع مع ما يُظنّ أنّه رتابة، فهذا جزءٌ من لعبة بصرية، تمتحن المُشاهد لإدراك قدراته على التوغّل في الحميمي والذاتي، وإنْ يبتعدان عنه وعن انفعالاته وهواجسه وتساؤلاته الخاصّة. اللعبة البصرية تشي بأنّ اللاحق لهذه الدقيقة أو لتلك اللقطة مختلفٌ أو متشابهٌ، والمتابعة وحدها كفيلةٌ بكشف الآتي من صُوَر ولقطات وأقوال وحركات وسلوك ونبرة.

في ختام "العودة"، تكتب سارة الشاذلي أنّها، بعد 10 أعوام من العيش خارج الوطن، تشعر للمرّة الأولى بأنّ قرار عودتها إلى بلدها صحيح: "بعد فترة وجيزة على رحلتي الأخيرة مع والدي، أُقرِّر الانتقال من شقّة أهلي لأبدأ حياة جديدة لي في مصر". قولٌ كهذا يوحي بأنّ سارة ترغب في مشاركة آخرين في رحلة الخروج، لا العودة فقط، من عالمٍ، تريد تحرّراً منّه، أيّاً يكن شكل التحرّر ومُسبّباته، والأشياء الدافعة إليه. الحميمي والذاتي يعكسان سلاسة علاقة عائلية، تتناقض ورغبة التحرّر. لكن خطوة الانتقال من شقّة الأهل، بعد 10 أعوام من الاغتراب، غير سهلةٍ، رغم كلّ شيءٍ، وبسبب كلّ شيء أيضاً.

مع سارة الشاذلي، تُصبح العودة خروجاً يمتلك حساسية صورة، ونبض صمت، وجمال أفق مفتوح على احتمالات واختبارات.

 

العربي الجديد اللندنية في

27.10.2021

 
 
 
 
 

أبرز أفلام مهرجان الجونة 2021

مهرجان الجونة 2021.. أفضل الأفلام وجدت طريقها للجمهور رغم الأزمات

رامي المتولي

·        الجمهور يثني على مستوى الأفلام

·        مهرجان الجونة 2021.. أفضل الأفلام وجدت طريقها للجمهور رغم الأزمات

·        أفلام مهرجان الجونة 2021 لاقت استحسانا

·        مهرجان الجونة 2021.. أفضل الأفلام وجدت طريقها للجمهور رغم الأزمات

شهدت الدورة الخامسة من مهرجان الجونة السينمائي أحداث متعددة هددت سير فعاليات المهرجان، لكن في النهاية وصلت الدورة لخط النهاية بتتويج الفائزين في حفل الختام، حيث نال فيلمى The Blind Man Who didn't Want to   Watch Titanic ، و"ريش" نجمتي الجونة الذهبيتين كأفضل فيلم وأفضل فيلم عربي، وكلاهما أثارا الكثير من الجدل بسبب مساحة التجريب والأسلوبية المختلفة التي اتبعها المخرجان تيمو نيكي مخرج الأول وعمر الزهيري مخرج الثاني، وإن كان الأخير حظي بالجانب الأكبر من الجدل الذى وصل للهجوم وصنع حالة من الاستقطاب حوله لم يصل لها فيلم مصري منذ وقت طويل.

الفيلم الفنلندي The Blind Man Who didn't Want to Watch Titanic هو أول فيلم عرض في المهرجان والذي منذ لحظة عرضه الأولى أثار جدلاً إيجابيًا بين جمهور المهرجان، والسبب في ذلك بشكل رئيسي هو الرؤية البصرية للفيلم، التي اعتمدت كليًا على أحجام اللقطات القريبة وشديدة القرب وعند اللجوء إلى اللقطة المتوسطة يتحول الكادر في معظمه إلى ضبابي، بالكاد يمكن تمييز تفاصيله، وذلك حتى يعيش المشاهد حالة بطل الفيلم ياكو الذى يعاني من مضاعفات مرض تصلب الاعصاب، كفيفًا ومقعدًا يخوض رحلة صعبة للقاء حبيبته التي لم يقابلها في حياته وتقتصر علاقتهما على المكالمات التليفونية كونها تسكن مدينة اخري، ولكن عند تشخيصها بمرض مميت، يقرر ياكو السفر للقائها والسماح لها برؤيته وكذلك ليمنح لنفسه فرصة رؤيتها بالطريقة التي يستطيع من خلالها فعل ذلك عن طريق اللمس ومعرفة ملامح وجهها.

الفيلم المصري "ريش" سار على نفس الخط في تناول موضوعه من زاوية شديدة القتامة بمصاحبة الكوميديا السوداء بسخريتها المعتادة، لكن من نوعية الـ"ديستوبيا" أو أفلام ما بعد الكارثة، وفيما ذهب فيلم "الرجل الأعمى" لمناقشة قضية اجتماعية هي وضع متحدى الإعاقة في أكثر الدول تقدمًا في العالم في قالب واقعي، ناقش "ريش" قضية اجتماعية أخرى هي وضع المرأة المعيلة في دول العالم الثالث لكن في قالب خيالي مصورًا عالمه وقد أصيب بكارثة غير معروفة حولت كل معالمه لمجتمع صناعي شديد التلوث والقذارة يعاني الجميع من خلاله بشكل متساوي، وعلى الرغم من تفوق المخرجين في إظهار الجوانب البصرية في العملين واحتواء كلاهما على جرعة قتامة إلا ان عامل الخبرة صنع فارق ضخم، فالأول تعامل مع القسوة بشكل شاعري مفعم بالمشاعر وبالتالي منح فيلمه جواز مرور للجمهور وخفف جرعة القتامة.

على العكس بالغ الزهيري في الجرعة بشكل أكبر من المقبول، ولم يمنح المشاهدين الفرصة للتعاطف مع شخصياته التي قدمها على الشاشة هواة معظمهم لا يجيد التمثيل وفى الوقت ذاته لم يمنحهم عمر التوجيه الكافي للظهور الاحترافي على الشاشة، ومع ضعف عنصر مهم آخر وهو السيناريو مما انعكس على إيقاع الفيلم وتسبب في طول الفترة الزمنية في التعريف بالشخصيات وغياب التصاعد والمغالاة في وصف معاناة بطلة الفيلم من خلال تكرار مشاهد بعينها مما أصاب أكثر من ثلثى الفيلم بالترهل خلافًا للثلث الأخير الذي كان أكثر حيوية وتحديًا للغيبيات وانتصارًا للمرأة.

الفيلمان في النهاية يقتربان من بعضهما البعض في أسلوبيتهما والاعتماد على التفوق البصري في عناصر التصوير والمونتاج والملابس والتلوين والتكوينات بالإضافة لتصميم الإنتاج، وتتساوى الموهبة والإبداع عند كلا المخرجين، لكن كيفية خروج رؤية كلاً منهما للنور يُظهر فارق الخبرة.

وبعيدًا عن الصراعات التي شهدتها المسابقة الرسمية والجدل الذي تسبب فيه فيلم "ريش" والذي انتهى بتتويجه بنجمة الجونة الذهبية، شهد القسم غير الرسمي للمهرجان عروضًا لأفلام شديدة التميز، صنعت مع منافسات القسم الرسمي مساحة كبيرة للمشاهدة تصل أحيانًا للتضحية بأفلام لحساب أفلام أخري ومعظمها جيد جدًا، من أبرز هذه الأفلام فيلم الرسوم المتحركة Belle، الذي أُضيف في منتصف أيام فعاليات المهرجان بالشكل الذي يوحي بحجم المفاوضات الصعبة التي سبقت عرضه من قبل الإدارة الفنية للمهرجان والتي انتهت بالتنويه عن عرضه مرتين خلال المهرجان دون أن يكون مضافًا لمطبوعات المهرجان، والحقيقة أن الفيلم يستحق هذه الاهتمام بعرضه لحضور المهرجان، خاصة أنه يعتمد بشكل أساسي على قصة "الجميلة والوحش" الشهيرة والتي استلهمتها استوديوهات ديزني بفيلم رسوم متحركة يحمل نفس العنوان صدر عام 1991 وحقق نجاح ضخم، لكن مع تضخم التأثير الاقتصادي لديزني وسيطرتها حتى على استوديوهات أخرى كبرى في هوليوود، خرج الأمر من الدائرة الفنية إلى مرحلة فرض ذوق وكود على الجميع وذلك من خلال إعادة إحياء أعمالهم الكلاسيكية بصورة حداثية تشتبك مع القضايا الاجتماعية الحالية، لكن مع كل إعادة يتضح حجم الهوة الواسعة بين ما تقدمه ديزني واشتباك ما تقدمه مع القضايا الحداثية.

الفيلم الياباني Belle: The Dragon and the Freckled Princess تفوق على إعادة إنتاج فيلم 1991 باشتباكه الحقيقي مع قضايا حداثية مرتبطة بالثورة التقنية في مجال التواصل الاجتماعي وتأثير ذلك على التواصل الحقيقي بين البشر بالإضافة لمشاكل العنف الأسري، هذا دون أن يفقد الفيلم التفوق في عناصر الرسم والتحريك والأداء الصوتي والموسيقى والأغاني، وفى نفس القسم عرض الفيلم الفرنسي  Paris, 13th District والذى يحمل رؤية بصرية خاصة وشديدة التميز كون مخرجه جاك اوديار أختار أن تكون ألوانه بالأبيض والأسود، وأن يكون موضوعه مناهضًا للصوابية الاجتماعية، ويسمح للبشر أن يعبروا عن أنفسهم ويعطيهم حق الغفران على الأخطاء من قبل شركائهم، ويدين في الوقت ذاته التنمر والتنميط، وذلك من خلال اعتماد الفيلم على شخصيات تنتمى عمليًا لأقليات مضطهدة اجتماعيًا، لم يصورهم بشكل ملائكي ولا نضالي، بل مجرد بشر يحاولون الحياة واقتناص لحظات سعادة وراحة فقط.

منافسات القسم الوثائقي شهدت هي الأخرى صراعا قويا على الجوائز، لكن على الرغم من عدم تتويجه بأي جائزة ، ففيلم  This Rain Will Never Stop الذى اختارت مخرجته ألينا جورلوفا أن تعبر عن قضيته أيضًا بألوان الأبيض والأسود، وتشتبك مع قضية غاية في الخطورة وهي قضية اللاجئين السوريين التي اختلف تناولها حاليًا عن ما كانته قبل 10 سنوات، أصبح حاليًا هناك عند المبدعين لتناولها بشكل فنى وشاعري أكثر ويتضح من خلاله تفاعل المبدع مع القضية، هذه ما يمكن ملاحظته بشكل واضح مع فيلم "كباتن الزعتري" المتوج بنجمة الجونة الذهبية، وفيلم This Rain Will Never Stop الذى يتناول عائلة ممزقة حرفيًا بسبب النزاعات السياسية والحربية، العائلة نفسها لها وضع خاص، هي عائلة سورية، الأب كردي والام أوكرانية، ومع اندلاع الأحداث السورية تهرب الأسرة لأوكرانيا التي تتحول بدورها لبؤرة صراع، لتتشتت العائلة في اكثر من خمس دول، عبر الفيلم عن حجم التمزق الذى أصاب البشرية بشكل فني و بصرى مذهل.

 

مجلة هي في

27.10.2021

 
 
 
 
 

فيلم «The Worst Person In The World»: كوميديا رومانسية بنكهة وجودية

أحمد عزت

مرة واحدة ليست في الحسبان، مرة هي أبدًا. ألا تستطيع العيش سوى حياة واحدة، كأنك لم تعش البتة؟

كائن لا تحتمل خفته/ ميلان كونديرا

يرى ميلان كونديرا أن أرض البشر هي عالم انعدام التجربة. لم نجرب الحياة مسبقًا وبذلك لا وسيلة للتحقق من أي اختيار ومن ثم فكل اختيار له ثقل الأبد. نظهر على المسرح دون تدريب. التدريب الأول هو الحياة نفسها. هذا هو المأزق الوجودي الذي وقعنا فيه كبشر وهو نفس المأزق الذي تواجهه جولي/ رينات رينسيف الشخصية الرئيسية في فيلم المخرج النرويجي يواكيم ترير الخامس (The Worst Person In The World) الذي كتب نصه رفقة شريكه الدائم في الكتابة (اسكيل فوجت).

جولي فتاة لا تعرف نفسها ولا تعرف ماذا تريد من الحياة، وجودها قلق وفوضى أمام الخيارات المتعددة المتاحة أمامها. في الدقائق الأولى من الفيلم نراها تنتقل بين دراسة الطب، السيكولوجي ثم الفوتوغرافيا مثلما تتنقل بين عدة شركاء جنسيين وعاطفيين. في اثني عشر فصلاً ومقدمة وخاتمة نختبر مع جولي عمق مأزقها الوجودي وخصوصيته. لكن إذا كان مأزق جولي هو مأزق الحالة الإنسانية عمومًا، فما هو وجه خصوصيته؟

جولي في متاهة وجودها الهش

تنتمي جولي إلى ما يسمى «جيل الألفية» وهو الجيل الذي يضم مواليد الفترة التي تمتد من بداية الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات. هذا الجيل يمتلك -في ظل ثورة التكنولوجيا والمعلومات- خيارات متاحة أكثر بكثير من أي جيل آخر، في المقابل يمتلك ضغوطًا لا تنتهي من أجل تحقيق الذات، من أجل التحقق عمومًا على صعيد العمل والعلاقات العاطفية. جيل عالق وسط وفرة من الخيارات المتاحة مع حالة انعدام يقين سائلة تجاه كل شيء وهو ما يجعل كل خيار أكثر ثقلاً والمأزق الوجودي أكثر إرباكًا.

في واحد من مشاهد الفيلم تستعرض كاميرا «ترير» أسلاف جولي من النساء عبر صور تتوالى على الشاشة مع تعليق مقتضب عن العمر الذي عاشته، عن عملها وعائلتها. بعضهن عملن في عمل واحد طيلة حياتهن، البعض لم يعمل خارج حدود البيت. اختيار واحد بشأن العمل والزواج، عشن مع هذا الخيار الوحيد لبقية أعمارهن. ما يمنح بورتريه جولي قيمة أكبر من جانبه الوجودي وهو ارتباطه بالزمن الذي نعيشه، بمتاهة خياراته وثقل الحيرة والتشتت الذي نعانيه ما يجعلنا أكثر تعاطفًا مع بطلة ترير وتفهمًا لأزمتها. بورتريه جولي هو تأطير لانعدام اليقين الذي يستحوذ على هذا الجيل. إذا كنا نتحدث عن متاهة الخيارات الوجودية لجولي فالحب أهمها بالتأكيد. هناك علاقتا حب لجولى تستغرقان أغلب زمن الفيلم، ويطرح ترير عبرهما تساؤلاته الوجودية عن الذات والحب وعن الحياة والموت.

لمسات تجديد في نوع سينمائي قديم

علينا أن نصدق أنه بالإمكان خلق صور جديدة.

المخرج «يواكيم ترير»

هذا فيلم يصعب تصنيفه، في القلب هو فيلم كوميديا رومانسية، لكنه أيضًا وبنفس الدرجة فيلم دراسة شخصية (character study film) يقدم بورتريه سينمائيًا شديد الديناميكية، يرسم الملامح النفسية لشخصيته الرئيسية، يتتبع تيار الأفكار والمشاعر التي تستحوذ عليها عبر سرد دائري يبدأ وينتهي بها. يجنح حينًا نحو الرعب النفسي وحينًا آخر نجده تعليقًا على الفن والعلاقات في زمن الصوابية السياسي.

نقطة البداية في الفيلم هي الرومانتيك كوميدي. هذا النوع الفيلمي يعتمد بشكل رئيسي في سرده على قصص الحب التي تكلل غالبًا بالنجاح. يلتقي فتى وفتاة، يقعان في الحب ثم يفقدها نتيجة عائق ما قبل أن يستعيدها بعد تغلبه على العائق أو زوال العائق نفسه. هذه هي الصيغة الكلاسيكية لفيلم الرومانتيك كوميدي، بالطبع هناك محطات تمردت على هذه الصورة الكلاسيكية غير الواقعية مثل أفلام وودي آلن ونورا إيفرون. ينتمي فيلم ترير إلى فئة الأفلام التي تتمرد على الصيغة الكلاسيكية للكوميديا الرومانسية عبر واقعيته الشديدة في تناول العلاقات العاطفية وعبر الأسئلة الوجودية التي تتيحها ديناميكيات هذه العلاقات بين بدايتها ونهايتها والخلافات الدائرة بين طرفيها.

تلتقي جولي بمؤلف القصص المصورة أكسيل/ أندريس دانيلسون لي الذي يكبرها بعقد من الزمن، يقعان في الحب ورغم عاطفة الحب الصادقة والتفاهم بينهما فإن فارق العمر بينهما يخلق مساحة دائمة للصراع بينهما. ثم تلتقي أيفيند/ هيربرت نورك متزوج أيضًا وهناك غربة متنامية بينه وبين زوجته. هو في مثل عمرها وهناك انجذاب واضح من البداية بينهما قبل أن ينفصلا عن شريكيهما ويبدآ علاقة جديدة سويًا. يجعل ترير العائق المادي في أفلام الرومانتيك كوميدي الكلاسيكية سيكولوجيًا ووجوديًا في فيلمه.

فارق العمر بين جولي وأكسيل يضع كلاً منهما في مرحلة نفسية مختلفة من التطور والنضج. هو مثلاً يريد الإنجاب بينما هي لا تزال متشككة في قدرتها على أن تكون أمًا، خاصة في مرحلة لا تعرف فيها حتى ماذا تريد أن تمتهن. هو متحقق في عمله وأكثر ثقة في نفسه بينما تشعر جولي بانعدام الأمان تجاه ذاتها والآخرين، هشة نفسيًا، مضطربة ورؤيتها لذاتها سلبية على نحو ما. من هنا يأتي في الأغلب عنوان الفيلم، فهو حكم مجحف لذات تتشكك في قيمتها واستحقاقها لأي شيء. ترى أي فشل كحكم نهائي وكل تقصير أو خطأ يجعلك الشخص الأسوأ في العالم وهو ما ينطبق على شخصيات الفيلم الثلاث بدرجات متفاوتة.

ترى جولي أن هذه العلاقة رغم مزاياها تعيقها عن اكتشاف ذاتها، تشعر طيلة الوقت أنها تعيش في ظله، أو كما تعبر هي: (أشعر كما لو كنت شخصية ثانوية في قصتي الخاصة). في البداية، كانت بحاجة لحبه، لأن ترى عبر هذا الحب من قبل هذا الرجل الذي يكبرها وكأنه أب بديل بينما والدها الحقيقي كما نجد عبر السرد يتجاهلها أغلب الوقت. انشغال أكسيل بكتابته عنها ينكأ جرح إهمالها ونبذها في علاقتها بالأب.

في علاقتها الثانية هي أكثر حرية وأكثر فاعلية، هناك نوع من الحيوية والخفة المفتقدة في علاقتها الأولى. حتى في نوع سينمائي يكاد يكون مستهلكًا، هناك لمسات تجديد تخص ترير: تلاعبه بتوقعات المشاهد، وديناميكيته السردية وتبدل مزاجه النوعي.

سينما يواكيم ترير

يبرع «ترير» خلال أفلامه الخمسة في تقديم شخصيات مضطربة، ضائعة، ذات مزاج مظلم، تقف غالبًا على حافة اليأس الوجودي وكيفية التعبير عن حالتها النفسية والعقلية سينمائيًا. أوسلو دائمًا في خلفية حكاياته، شخصياته دائمًا تمتهن الكتابة أو ذات طموح فني.

لا يمكن الحديث عن أسلوبية مبتكرة بل عن بعض اللمحات الأسلوبية التي تتكرر من فيلم لآخر مثل التعليق الصوتي من خارج الشاشة الذي يعلق على حياة شخصياته، القفزات الزمنية، تعدد منظور السرد بين شخصية وأخرى مع دينامية وتعقد المشاهد. جمالياته هجين بين الأدب والسينما، فتقسيم الفيلم إلى فصول تكتب على الشاشة مع استمرار الراوي العليم عبر التعليق الصوتي الممتد في كل أفلامه، هذه جماليات أدبية في الأساس.

يحتوي كل فيلم من أفلامه على استبصارات سيكولوجية بشأن شخصياته عبر سرد شديد التعاطف مع أبطاله، لا يحاكم أو يدين بل يتفهم دائمًا هشاشتهم وتعقدهم النفسي. كل فيلم هو رحلة وجودية لأبطاله الذين يختبرون إحساس الفقد، الضياع واليأس. رحلة داخلية لشخصياته التي تعاني أزمة وجودية. تبدأ الرحلة وجولي في مكان شديد الفوضوية والقلق. يبدو تغير إيقاع الفيلم ومزاجه كصدى لتبدلات الشخصية الرئيسية، لذلك فالإيقاع المتسارع في البداية يناسب شخصية تبدل مجال دراستها بسرعة شديدة مع هدوء البطلة وتحققها يتمهل إيقاع الفيلم. تنتهي الرحلة بها أكثر سلامًا مع نفسها والآخرين، وحيدة نعم لكنها وجدت مكانًا يخصها في الحياة أكثر راحة وأقل صخبًا.

مشاهد تعلق في الذاكرة

يبدع يواكيم ترير في خلق مشاهد أو تتابعات تعلق بالذاكرة. على الأقل هناك مشهد منها في كل فيلم من أفلامه. تسمى هذه التتابعات ضمن سينما الأنواع (set- piece) وهي ببساطة مشهد أو تتابع له بداية ونهاية واضحة، يجذب الانتباه لنفسه. هو أشبه بفيلم داخل الفيلم، ذو تكثيف ولمسة مبتكرة. وغالبًا ما يمثل نقطة تحول في مسار السرد. قد يكون مشهد حركة في أفلام الحركة أو مشهد لقاء بين حبيبين لأول مرة (meet cute) في فيلم رومانسي. لدينا هنا تتابعان، لا نظن أنهما سيفلتان ذاكرة المشاهد طويلاً.

تتابع إيقاف الزمن حين ترغب في لقاء أيفيند بينما لا تزال في علاقة مع أكسيل. يتجمد الزمن والبشر في أوسلو بينما تعدو جولي لملاقاة أيفيند في لحظة متخيلة. يأتي هذا المشهد مباشرة قبل مواجهة أكسيل وانفصالها عنه كصدى لرغبتها في مراوغة الزمن، في أن تجرب خيارًا آخر في الحب دون أن تتخلى عن الخيار القائم. ونظرًا لاستحالة ذلك فإنها تقرر أن تنفصل عنه لتجرب خيارًا جديدًا دون أي ضمان بنجاحه من عدمه. التتابع الثاني هو واحد من أجل مشاهد اللقاء الأول التي شاهدناها في السنوات الأخيرة. تحت عنوان خيانة تلتقي جولي بأيفيند في حفلة لم تكن مدعوة لها. كلاهما متزوجان، لكنهما يدركان انجذاب كل منهما للآخر. يقضيان الحفل في استكشاف كل شكل ممكن من الحميمية دون ممارسة الجنس ثم يفترقان في الصباح، كل في طريقه.

ليس بالإمكان الحديث عن الفيلم دون الإشارة لممثلته رينات رينسيف التي فازت عن دورها في الفيلم بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان الماضي. يعترف ترير أنه كتب الفيلم لأجلها، حضور مدهش على الشاشة، أداء شديد الزخم والحيوية. نتابعها طيلة الفيلم تنتقل من مشهد لآخر وهي تتوهج جمالاً وانفعالاً.

 

موقع "إضاءات" في

27.10.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004