ملفات خاصة

 
 

فيلم «ريش»..فخر السينما المصرية

عصام زكريا

الجونة السينمائي

الدورة الخامسة

   
 
 
 
 
 
 

يستحق فيلم «ريش» للمخرج عمر الزهيري الجوائز التي حصل عليها من مهرجان “كان” الماضي، كأفضل فيلم في مسابقة أسبوع النقاد، وجائزة لجنة تحكيم النقاد الدوليين (الفيبريسي)، فهو واحد من أفضل وأجمل وأغرب ما أنتجته قريحة السينما المصرية في السنوات الأخيرة. ولن يكون مفاجئا أن يفوز بجائزة كبرى من مهرجان “الجونة” الذي يشارك في مسابقته الرسمية حاليا.

المدينة غير الفاضلة

هذا فيلم جديد، طازج. يجمع بين الواقعية والسيريالية والكوميديا السوداء بأسلوب خاص، فريد، يدشن مولد فنان سينمائي مصري ربما يكون له شأن في السينما العالمية قريبا، إذا سار على نهجه المتميز، ملقحا إياه بمزيد من الأفكار اللامعة ومنقحا إياه بمزيد من جودة التنفيذ.

منذ اللقطة الأولى يبني الفيلم عالما قائما بذاته، يشبه الواقع أكثر من الواقع نفسه، ولكنه ليس نسخة منه. شاشة سوداء، وصوت إشعال نيران وصرخة طويلة، ثم تظهر الصورة على رجل يحترق بين مباني مصنع قديم. يشبه مصانع الأسمنت المنتشرة على النيل، والتي تبث غبارها السام على العمال والسكان والقاهرة بأكملها، ويظهر أن الرجل انتحر بإشعال النار في نفسه لسبب لن نعلمه، وغالبا له علاقة بالظروف السيئة التي تعيش فيها الشخصيات اقتصاديا وبيئيا.

لا علاقة لقصة وشخصيات الفيلم بالمشهد الأول. ولكنه مشهد مؤسس لعالم الفيلم، الشبيه بقصص نهاية العالم، أو قصص الديسيوتوبيا (المدينة غير الفاضلة)، أو أسلوب “الجروتسك” الذي يرسم الواقع بالإفراط في تشويهه. أو أسلوب الكوميديا السيريالية السوداء الذي يميز سينما أوروبا الشرقية، لكن “ريشا” ليس تقليدا لأي من هذه الأساليب، وإنما امتداد لها ببصمة مصرية خالصة.

لغة سينمائية

قصة الفيلم بسيطة: زوج وأب تقليدي يتحول، نتيجة سحر أو لعنة ما، إلى دجاجة!

سبق أن شاهدناها في مسلسل رمضاني خفيف اسمه “ربع رومي” تحول فيه بيومي فؤاد إلى خروف وعدة حيوانات أخرى. في الفن لا أهمية للقصة في حد ذاتها، ولكن المعالجة هي كل شيء. وشكسبير استمد كل مسرحياته من قصص شعبية ومسرحيات معروفة. ولننظر إلى العناصر واللغة السينمائية التي عالج بها عمر الزهيري قصته: لا يوجد ممثلون محترفون هنا، ولكنهم أناس من الواقع يتحدثون بلهجة المصريين البسطاء ولغتهم المفككة المهشمة المعتادة. لا يوجد ممثلون، ولا تمثيل، هنا، ولكنهم أناس حقيقيون خرجوا من قلب الطبقة الشعبية في مصر، يعيشون حياتهم على الشاشة.

الأماكن التي يدور فيها التصوير واقعية، بمعنى أنها تعبر تماما عن رؤية المخرج للواقع: مبان قبيحة مهدمة مطمورة في الغبار الأسمنتي الكوني، وبيوت شبيهة بالخرائب كل تفصيلة فيها تبوح بكم الفقر المدقع الذي تعيش فيه الشخصيات، وحتى البيوت الأكثر ثراء قبيحة غارقة في دماء الحيوانات والذوق الرخيص المبتذل.

الصلاحية المنتهية

كل تفصيلة هنا تعبر عن “الصلاحية المنتهية”: النقود كلها مسودة ومكرمشه من كثرة الاستعمال. أثاثات البيت متهالكة وقذرة، السرير متسخ ببقع البول والأطعمة والمراتب والمخدات تفرز أحشاءها كجثث متقنة. التليفزيون قديم تطل أسلاكه ومفاتيحه خارج جسده، الأحذية توحي بأنها سارت آلاف الكيلومترات على مدار عشرات السنين في طرق صخرية متربة. والملابس كلح لونها وتمزقت أنسجتها لا أمل في نظافتها حتى وهي خارجة للتو من الغسالة اليدوية القديمة.

التصوير والإضاءة والألوان المستخدمة، كما في أي عمل سينمائي حقيقي، أشبه بلوحة فنية تعبر في حد ذاتها عن دراما ومضمون العمل وتتكامل مع أسلوب السرد والتمثيل والحوار. الصورة في “ريش” تذكر ببعض رسوم فان جوخ الواقعية، مثل لوحتي “آكلو البطاطس” و “الحذاء” مثلا، ومن بعض لوحات جيروم بوش لنهاية العالم و “صرخة” إدوارد مونش.

تقنيات غير واقعية

يعرف عمر الزهيري بعض الأسرار النادرة في الفن، التي لا يفهمها سوى الموهوبين الحقيقيين. مثل أن التعبير الأمثل عن الواقع يحتاج إلى تقنيات غير واقعية. وأن توليد الإحساس المطلوب يأتي أحيانا عن طريق التباين والتناقض بين العناصر الفنية، وليس بالتكرار الرتيب لها. وأبرز ما يوضح ذلك هو اختياره للأغاني والموسيقى المصاحبة للمشاهد، ومعظمها من ذلك النوع الخفيف المرح الذي ساد السبعينيات. والتي يبدو أنها تتناقض مع الموضوع والصورة تماما، ولكنها على العكس تبرزهما وتشيع فيهما إحساسا هائلا بالبؤس!

رؤية المخرج

رؤية المخرج هنا ليس لها علاقة بالواقع، ولا بمكان أو زمان محددين، ولكنها رؤية شخصية، فنية. يمكن أن توجد في أي بلد وأي زمن. رؤية تتجاوز الواقع الزائل التافه، لتمتد إلى العالم بأسره، والتاريخ بأكمله. رؤية تعاطف وحنان تجاه المعذبين في الأرض. ورؤية ترثي بطريركية انتهى عمرها الافتراضي، تحول فيها الأب إلى جسد بلا روح، وروح في جسد دجاجة. عالم يتيم وبشر فقدوا عائلهم، ولكن من تحت الركام والرماد، تنهض المرأة الأم وتواصل الحياة وبث الأمل. رؤية تمجد المرأة والأمومة، وتذكرنا بمقولة الشاعر الفرنسي آراجون: “المرأة مستقبل العالم”!

 

موقع "باب مصر" في

19.10.2021

 
 
 
 
 

ريش” الفيلم الذي يسيء لسمعة كوكب الأرض

مصطفى الكيلاني

تجربة مشاهدة فيلم “ريش” تحتاج كما يقول إبراهيم الجارحي في فيديوهاته “مشاهدا من نوع خاص”، ولأن الحكم على فيلم مثل “ريش” لن يتأتي لأشخاص ليس لديهم خبرة مشاهدة كبيرة، فلا أظنه يسيء لمصر نهائيا، ولكنه فعليا يسيء لكوكب الأرض.

تصنيف “ريش” قد يكون أقرب للفنتازيا، وبه كوميديا سوداء من النوع الأعمق والأغمق، وصناعه بذلوا مجهودا كبيرا في إضحاكنا على الخراب الذي نراه يوميا في أنفسنا وفي ذلك العالم الذي على وشك الانهيار، فالفيلم لا يمكن أن يعبر سوى عن كوكب كامل بفساده وشهوته وأمراضه وشحوبه وتلوثه.

حياة كل أبطال فيلم “ريش” الذي عرض في الدورة الخامسة لمهرجان الجونة السينمائي في خرابة كبيرة ملحقة بمصنع، فأبطاله الذين جمعهم المخرج عمر الزهيري بدون أي خبرات تمثيل سابقة، يعيشون في تلك الكآبة المتجسدة في مكان لا يصح للحياة الآدمية، بدون تحديد زمان أو مكان.

لا تتحرك كاميرا عمر الزهيري، فهي دائما كادر ثابت، كالبقعة الزمنية الموحلة التي أوقعنا فيها، نري الزوج الذي فقد في لعبة ساحر أتى به لعيد ميلاد طفله، وبقي مكانه في الصندوق دجاجة بيضاء، تهتم بها الزوجة المكلومة الصامتة دائما، اعتقادا منها أن الساحر حول زوجها لدجاجة.

الزوجة تعيش في منزل عبارة أقرب للخرابة حقيقة، وكل تحركاتها في خرابات ما عدا منزل السيدة الغنية التي تولت خدمتها لسد أفواه أطفالها الثلاثة، الزوجة حين تزور الطبيب البيطري ليعالج دجاجتها كانت عيادته عبارة عن خرابة، وكذلك مكتب المصنع وقسم الشرطة وقهوة الرجال المتصابين، والمول الذي في فاترينته القذرة ملابس قديمة وداخله أدوات صحية متربة، وعيادة الصحة المختلفة قليلا في أنها خرابة على ترعة كبيرة.

يركز عمر الزهيري على التفاصيل، متعمدا صناعة حبكة مختلفة من خلال وضع تفاصيل متكررة تدعم وجهة نظره، فتفصيلة “عد الأوراق النقدية” تتكرر طوال الفيلم، مع اختيار أوراق نقد قديمة ومهترئة تماما، لتوضيح فكرة سيطرة حائز الأموال على المحتاج.

كذلك تفصيلة دخان المصنع الكثيف جدا الذي يهب من الشباك، والمتكررة عدة مرات بالفيلم، وإرضاع الطفل، والنظرة للأسفل والانكسار الدائم للأم حتى قبل غياب زوجها، ولم تتغير إلا في لحظة ابتسامة مسروقة، في قهوة الرجال، أثناء رقص أحدهم بشكل نسائي.

بعكس نظرتها، غاب انكسار المرأة في أفعالها، حين تصد صديق زوجها المتحرش، وحين تطلب من صاحب “المول” أن يتولى الدفاع عنها ضد تحرشاته، وحين تعمل من أجل قوت أطفالها، وحين تهتم بزوجها العائد بأمراض كثيرة، وحين تضربه لكي يصحو من غياب عقله، وأخيرا حين تقتله لأنه أصبح حملا تنوء به ولا تستطيع أن تعتني به وتحمي أطفالها، وبعد جريمتها تصنع الطعام وتأكل مع الأولاد بكل برود.

صناعة فيلم مثل “ريش” أظنه تطلب جرأة كبيرة من مخرجه عمر الزهيري صاحب تجربته الإخراجية الأولى لفيلم طويل، وشريكه في الكتابة أحمد عامر، مخرج وكاتب الفيلم الجرئ “بلاش تبوسني”، ولكن مع كل روعة الفكرة وتفردها، غابت عنها الروح، فإغراق الزهيري في التفاصيل أنسته جعل الشخصيات قابلة للتجسيد من البداية.

عدم تدريب الممثلين قبل التصوير، جعل بعض المشاهد تلقائية وجميلة، وبعضها الآخر مزعج للمشاهد الذي لم يقبل أن يجد تهاونا كهذا في تجسيد فكرة بغاية الأهمية مثل التي يطرحها عامر والزهيري، وأظن أن الأخير لم يتمكن من الاهتمام بالدراما قدر الاهتمام بالتفاصيل الأخرى بسبب تحوله من الإعلانات للسينما.

في النهاية، بعد مشاهدة “ريش” في الجونة محاكمة لكوكب كامل، مثقل بالآلام، لم يحدد صناعه لا زمان ولا مكان، ولو تم تنفيذه بروية أكثر لكان واحدا من أجمل أفلام السينما المصرية منذ بداية القرن الحالي.

والصورتين التاليتين لأبطال “ريش” قبل عرضه في الجونة أثناء تكريمهم من قبل وزارة الثقافة، وذلك قبل اتهام البعض بالإساءة لسمعة مصر.

 

####

 

علي صوتك” تتويج لمسار نبيل عيوش وتَكِملة لـ”يا خيل الله

عبدالكريم واكريم

استحقت تجربة نبيل عيوش السينمائية منذ مدة أن تُتَوَّج بالحضور في المحافل السينمائية الدولية صحبة خيرة من الأسماء في الإخراج السينمائي العالمي.

ورغم أنه قد يقع الاختلاف بعض الأحيان في الحكم على بعض أفلامه سينمائيا وفنيا فهذا لا يحدث مع جميع أفلامه، ففيلم “يا خيل الله” فيلم متميز فنيا وجماليا ويطرح موضوعا ما زال آنيا هو قضية التطرف الديني واستقطاب الشباب وتجنيدهم للقيام بأعمال إرهابية، وقد غاص نبيل عيوش في الأسباب والمُسَبِّبات والدوافع والظروف الاجتماعية لمثل هاته الظواهر في هذا الفيلم.

 وعموما فنبيل عيوش يختار مواضيعه بعناية وتكون على علاقة بشرائح اجتماعية مهمشة في غالب الأحيان ويركز على ظواهر اجتماعية. في “علي زاوا” اختار شريحة الأطفال المشردين في الشارع، في “خيل الله” اختار موضوعا آنيا بعد الانفجارات الإرهابية التي وقعت في الدار البيضاء.

نبيل عيوش

وهنالك أفلام أخرى لنبيل عيوش تم الاختلاف حولها وأثارت ضجة خارج ما هو فني وسينمائي، ففيلم “الزين اللي فيك” الذي مُنِعَ من العرض التجاري في الصالات السينمائية بالمغرب عالج فيه ظاهرة بائعات الهوى أو فتيات المتعة من وجهة نظر جد صادمة لمجتمع محافظ في أغلب تركيباته وطبقاته الاجتماعية، محاولا وضع هذه التركيبة المبنية على النفاق الاجتماعي ومحاولة تغطية الشمس بالغربال بوضع الواقع المزري والصادم لهذه الفئة المجتمعية أمام مرآة المجتمع، وهكذا تم رفض الفيلم رسميا وشعبيا حتى دون إعطائه فرصة للعرض ليكون الحكم صائبا ونتيجة تحليل مُتروي وهادئ.

وعموما ليست من وجهة نظري الأفلام التي خلقت ضجة مثل “لحظة ظلام” و”الزين للي فيك” هي أهم أفلامه بل أفلام “علي زاوا” و”مكتوب” و”ياخيل الله” التي سار فيها في نفس خطه الاجتماعي الواقعي، أما “غزية” فقد جاء مشتتا في بعض لحظاته بين عدة مواضيع اجتماعية وسياسية مثل قضية الهوية واللغة الأمازيغية وقضايا المرأة بدون التركيز على تيمة واحدة.

يشكل فيلم “علي صوتك” لنبيل عيوش الذي عرض ضمن أفلام المسابقة الرسمية للدورة الخامسة لمهرجان الجونة السينمائي بعد أن شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته الأخيرة، إستمرارا لفيلمه “ياخيل الله” (2012) الذي كان قد تَطرَّق فيه لحادثة إقدام مجموعة من الشباب المنتمين لحي “سيدي مومن” الفقير جدا بالدار البيضاء على تفجير أنفسهم في أماكن سياحية بالمدينة، حيث تابعهم وهم مازالوا صغار السن إلى أن وصلوا إلى فترة الشباب حيث جعلتهم أوضاعهم الاجتماعية البئيسة ومستواهم الدراسي المتدني يقعون لقمة سائغة في أيدي الجماعات المتطرفة التي ستصنع منهم أداتها لمواجهة النظام.

حي سيدي مؤمن

في فيلم “علي صوتك” سيعود نبيل عيوش إلى نفس الحي لكن ليعطينا نماذج من الشباب مخالفة تماما لأولائك الذين شاهدناهم في فيلمه “يا خيل الله”، شباب رغم أنهم يعيشون نفس الظروف الاجتماعية لشخوص فيلمه السابق فإنهم اختاروا طريقا آخر مخالفا وهو طريق الفن ليواجهوا به هذا الواقع البئيس، وذلك من خلال ممارستهم لفن الراب و”الهيب هوب”.

ينفتح الفيلم على وصول مغني راب سابق إلى مركز للشباب بحي سيدي مومن، الذي يتوه فيه كونه لم يأت إليه من قبل. ومع توالي لحظات الفيلم يظهر لنا كمشاهدين أن هدفه الكبير  من القدوم لهذا الحي هو رغبته في توجيه وتعليم هؤلاء الشباب ودفعهم ليثقوا في أنفسهم وفي الفن الذي يحبونه ويُعبِّرُون عن ذواتهم من خلاله، معوضا بهذا مساره الفني الذي تخلى عنه.

كان أداء الممثلين الهواة الشباب في الفيلم جيدا، ويبدو أن نبيل عيوش اشتغل معهم طويلا ليأتوا بهذا الشكل المتميز في أدائهم، علما أن نبيل عيوش سبق له في أفلام سابقة أن اشتغل بنفس الطريقة مع ممثلين يقفون لأول مرة أمام كاميرا سينمائية، بل إنه أتى بأشخاص يمثلون حيواتهم الشخصية ويُؤدُّونها كما هي في الواقع (علي زوا نموذجا)، ويبدو أن هذا مافعله هنا في “عَلِّي صوتك”، وهكذا جاءت أحاسيس الشخصيات المُعبَّر عنها صادقة ووصلت للجمهور بشكل غير متكلف أو فيه ادعاء.

الاشتغال أيضا مع الممثلين ظهر في المشاهد الراقصة التي جاءت من أجمل وأهم ما في الفيلم، حيث أضحت لغة الجسد مُعَبِّرة عن الثورة عن الواقع القامع والضاغط على كاهل الشخصيات الشابة وأكثر مما يمكنهم تحمله من مجتمع يقمع طموحاتهم ويريد مصادرتها وكبح جماحها.

لكن وفي المقابل بدا أن الفيلم يشكو من بعض هنات والعيوب تجلت خصوصا في الخطاب المباشر المبالغ فيه طيلة لحظات الفيلم بحيث نسمع باستمرار ما كان يجب أن يُنقل بالصورة إضافة للثرثرة الزائدة على حساب ما هو سينمائي وبصري.

عموما يظل “علي صوتك” استمرارا واضحا لمسار نبيل عيوش، وفيلما يحمل بصمته التي لا تُخطِئها عين المتتبع لا من حيث التيمات المتناولة ولا من حيث شكل وأسلوب تناولها.

فيلم “علي صوتك” سيوزع تجاريا في صالات العرض السينمائي بالمغرب خلال الأسبوع المقبل، بعد عرضه في الجونة، ويبدو أنه سيحقق نجاحا تجاريا كونه يُلامس حالات واقعية من صلب المجتمع المغربي، سيتماهى معها الشباب بدون شك لأنها تُمثل مِثالا للتحدي يُحتَذَى من طرف آلاف إن لم يكن ملايين الشباب من طينتهم في المغرب.

خلاصة القول أن نبيل عيوش يستحق انطلاقا مِمَّا أنتجه في مساره السينمائي لنفسه وما أنتجه أيضا لغيره (حالة هشام العسري نموذجا) أن يكون تلك القاطرة التي قد تجُر السينما المغربية للعالمية وللحضور في  المحافل الدولية المهمة.

 

موقع "أويما 20" في

19.10.2021

 
 
 
 
 

مصر..زلزال فيلم «ريش» يغطي على هزة أرضية بقوة 6 ريختر

سيد محمود

لم يتوقع المخرج السينمائي المصري الشاب، عمر زهيري، أن يثير أول عرض عام لفيلمه «ريش»، ضمن مهرجان الجونة السينمائي، حالة من الجدل والانقسام في أوساط السينمائيين والسياسيين، وصلت إلى حد اتهامه بـ «الإساءة لسمعة مصر».

غطت ردود الفعل على الفيلم، الزلزال الذي تعرضت له مصر، صباح الثلاثاء، شرق البحر المتوسط، وتجاوزت قوته ست درجات، على مقياس ريختر.

وشن بعض الفنانين المصريين هجومًا حادًا على الفيلم، وانسحب الممثل شريف منير، من العرض العام، أول أمس، واتهم الفيلم في أكثر من مقابلة تلفزيونية بـ«الإساءة لسمعة مصر».

وصدر بيان عن مهرجان الجونة، الذي بدأت فعالياته 14 من شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري، للرد على الاتهامات والانتقادات الموجهة للفيلم، وأكد المهرجان أن «اختيار الفيلم للعرض جاء متسقًا مع معايير اختيار الأفلام، التي يضعها فريق عمل المهرجان».

وذكر البيان: «اختيار الفيلم للعرض جزء من الاهتمام بالشأن المصري، في المجالين الفني والثقافي عالميًا، خصوصًا وأنه على مدار 125 سنة من تاريخ السينما المصرية، لم يحصل فيلم مصري على جائزة بهذه الأهمية».

«اختيار الفيلم للعرض جزء من الاهتمام بالشأن المصري، في المجالين الفني والثقافي عالميًا، خصوصًا وأنه على مدار 125 سنة من تاريخ السينما المصرية، لم يحصل فيلم مصري على جائزة بهذه الأهمية».

بيان عن مهرجان الجونة  

كان فيلم «ريش» حصل على الجائزة الكبرى، في مسابقة أسبوع النقاد، بمهرجان كان السينمائي الدولي، العام الجاري. ويتناول قصة عائلة فقيرة، مكونة من أب وأم وثلاثة أطفال، وعند احتفال العائلة بعيد ميلاد أحد الأطفال، يُحضر الأب ساحرًا لتقديم فقرات مسلية الأطفال، لكن عندما يستعين الساحر بالأب في تأدية فقرة يدخله إلى صندوق سحري ثم يتحول إلى دجاجة ويختفي الأب.

ويشكل هذا الحدث الفانتازي نقطة انطلاق للفيلم، حيث تعاني الأسرة من تردي أوضاعها عقب غياب الأم، حيث تفشل الأم في الحصول على عمل، أو معرفة مصير الأب، وتبدأ بيع منقولات شقة الزوجية للوفاء باحتياجات العائلة، إلى أن تدفع بابنها الأكبر للعمل في المصنع  بديلًا لوالده،  لسداد ديونهم وبعد أن تبدأ الأسرة في تجاوز بعض أزماتها، يظهر الأب مجددًا لكن وهو في حالة أقرب إلى العجز، مما يضاعف من أعباء العائلة.

تصعيد ورد

تصاعدت ردود الأفعال حول الفيلم، إلى درجة إصدار عضو مجلس النواب المصري، أحمد مهني، بيانًا أكد فيهأنه سيتقدم بطلب إحاطة لرئيس مجلس النواب، موجهًا إلى رئيس الوزراء، ووزيرة الثقافة، بشأن عرض «الفيلم المسئ لمصر». كما تقدم محامً مصري، يدعى سمير صبري، ببلاغ للنائب العام، محامي ببلاغ للنائب العام، ونيابة أمن الدولة العليا، ضد مخرج وسيناريست ومنتج الفيلم، وذلك «لإساءته للدولة المصرية والمصريين».

من جانبه، أبدى عمرو الزهيري، مخرج الفيلم، استغرابه من الاتهام مؤكدًا أن اللجنة التي منحته الجائزة في «كان»، أشادت بقدرته على تجاوز ما هو شائع في موضوعات السينما المصرية.

 

الفنار للإعلام في

19.10.2021

 
 
 
 
 

من يستحق التحية في جدل فيلم “ريش”؟

بقلم حسام الخولي

شئ جانبي يمكن الانطلاق منه والاعتماد عليه كمرجع استفهامي لما أريد قوله ذكره الباحث باسم حنا في كتابه “ألبير قصيري والسخرية: التهميش إجابة على الحداثة”. حينما راهن على عملية تحويل الهامش إلى صورة خيالية في أدب ألبير  الذي يطرح سؤالًا واحدًا في أشكال محتلفة. كيف يتصور لذاته مكانًا في الحداثة؟ كيف يحدد موقع الفرد في عالم هو فريسة للتقدم المادي؟ ما نمط الفرد الذي يمكنه إعلان هذا التحدي؟ إذا كان هذا الفرد، فقير، مهمّش، لا يملك الاختيار

كنت أجلس في المقعد الخلفي مباشرة للكرسي الذي كان يجلس عليه عدد من النجوم. من بينهم الممثل المصري شريف منير استعدادًا لمشاهدة فيلم ريش الحائز على الذي حصد الجائزة الكبرى وجائزة الفيبرسي (الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين) لأفضل فيلم في مسابقة أسبوع النقاد بمهرجان كان. وهي أول جائزة يحصل عليها فيلم مصري طويل في تاريخ المهرجان، يعرضه مهرجان الجونة السينمائي في دورته الخامسة.

كانت معادلة حصول الفيلم على جائزة كتلك من أرفع مهرجانات العالم تقديرًا في صالح الفيلم تمامًا دون النظر من الأساس إلى قصته أو سياقه أو مفهومه، كأن يشاهدك أهلك على شاشة التلفزيون. ستقابل بالمديح بعدها أيًا كان حديثك الجاهل أو المتعلم؛ ظهورك على التلفزيون مبهر في ذاته دون سياق وكذلك الحصول على جائزة دولية لم تراها مصر قبل ذلك.  

الملاحظة الأولى التي كانت في ذهني باعتباري أذهب يوميًا لمشاهدة فيلم السهرة في “البلازا” قبل “ريش” هي أنه الفيلم الوحيد الذي كان كامل العدد، ما يعني وجود قرابه الـ 1500 متفرج أو أقل قليلًا، وقف الخلق ينظرون ما الشيء الذي استطاع أن يلفت نظر “الناس في بلاد برا” بكل مشاعرهم؛ استنكار وشوق ولهفة وترقب. وغالبًا لم يقرأ عدد ليس قليل منهم حتى ملخص الفيلم التوضيحي البسيط المكون من سطر واحد قبل أن يستثمروا وقتهم فيه، ستظهر نتيجة ذلك بعد قليل

بدأت النهنهات مع مرور الربع ساعة الأولى، ولم تكد تنتهي حتى انسحب عدد من كبار الفنانين المصريين احتجاجًا على ما يمثله الفيلم من “إساءة لمصر”، لينسحب النجوم يسرا وشريف منير وأشرف عبد الباقي وأحمد رزق والمخرج عمر عبد العزيز وغيرهم إلى جانب عدد من الجمهور

بعد ذلك، سأستمع إلى شريف منير يقول عن الفيلم أن “صورة الفيلم لم تعجبه، حيث يعيش أبطال الفيلم واقعًا قاسيًا يمثّل عذاباً غير طبيعي، وشكل مؤذٍ يزيد عن الحد المقبول” متجاهلا مبادرات “حياة كريمة” و”تكافل وكرامة” وغيرها من المبادرات التي تحارب الفقر والعشوائيات، وتكفل حياة كريمة للمواطنين في مصر، في ظل “جمهورية جديدة”.

يمثل رأي شريف منير عدد لا يمكن التقليل منه على الإطلاق. بعد خروجي من الفيلم استمعت إلى عدد من التعليقات التي يقول أن أغلبها أن الفيلم أصابهم بالاكتئاب

في مقابل موقف النجوم و”وطنيتهم” سيقف نجوم ونقاد مذهولين أمام فيلم شديد الذكاء والنباهة والتفرد. وتأييد “وطني” سابق كانت احتفلت خلاله وزارة الثقافة المصرية ذاتها بصناع الفيلم بعد فوزه في مهرجان كان. وأشخاص قرأت على مواقع التواصل وقوفهم بجانب الفيلم “العظيم” دون مشاهدته. بمنطق سياسي تمامًا معارض لموقف مؤيدي الدولة، لا علاقة حقيقية للسينما التي تعرضها ريش من عدمها، فماذا يعني كل ذلك للفيلم؟ 

في النهاية كل هذا النقد والاتهامات بسوء السمعة بدأت مع بداية السينما في مصر. عندما تقرأ ستجد أول رواية بالمعنى الحديث للرواية التي كتبها محمد حسين هيكل رواية “زينب” التي أخرجها للسينما محمد كريم، رواية تدور في ريف مصر وقتها، كتب محمد كريم في مذكراته، أنه هو ذاته من قراره نفسه قرر عمل ستديو مصنوع للتصوير بعيدًا عن الفقراء الذين يحكي عنهم، “أردت صناعة عالم عن القرية التي في خيالي” ليست كما شاهدتها” لأنه كان يراها “أقبح” من تصويرها، الأمر ليس جديد

لماذا كل هذا الجدل؟ ما الذي يجعله استثنائيا؟ 

من بين حوالي 4000 فيلم مصري بين الروائي والتسجيلي الطويل والقصير لم يحالف الحظ أحدهم لحصد تلك الجائزة من “كان”، يصنع التاريخ وحده لجيل سينمائي جديد يمثله المخرج عمر الزهير الذي يقدم أول الأفلام الروائية الطويلة له، بالشراكه في تأليفه مع السيناريست، أحمد عامر، وهو من إنتاج الفرنسيين جولييت لوبوتر وبيير مناهيم، بالمشاركة مع “فيلم كلينك” والمنتج محمد حفظي والمنتجة شاهيناز العقاد

شيء مثير للانتباه كان يحكيه في حوار جانبي مخرج الفيلم عمر الزهيري. يقول كلاما معناه أن عرض الواقع بكل قسوته في فيلم سينما شيء فج، كل فن يحتاج إلى خلق، إلى خيال، أحتاج إلى أن يتلقى المشاهد أكبر قدر ممكن من المشاعر، لم تعتد السينما المصرية على صناعة أو مشاهدة هذه القصص بتلك الطريقة العجائبية، ستجد محاولات قليلة من “رأفت الميهي والكاتب ماهر عواد لكنها ليست بتلك المجازقة والجرأة والتجرد

لا يوجد أسماء، دون سياق مكاني أو زماني محدد يجعل ارتباطه بمصر أو غيرها سمه مميزة، بطلة جامدة الملامح، نشاهد الفيلم بعيونها، فتاة غير مدركة لأي شيء، تشعر بالأشياء فقط، ربة منزل تعيش حياة قاسية مع زوجها المتسلط المسحوق في حياته لجني لقيمات يقتات عليها مع أسرته. تضطر الزوجة لمواجهة العالم وحدها تمامًا في لحظة خيالية يتحول فيها زوجها على يد ساحر إلى دجاجة، تنتطق الزوجة إلى إنقاذ زوجها.

هذا ليس سياق ميلودرامي، هو كوميديا عبثية لم نستخدمها، زوج تظهر عليه القوة البدنية، والقدم المحفور عليها قسوة العمل المستمر، صوت رخيم يصرخ في منزله أغلب الوقت، يتحول إلى دجاجة، وما يقرب من عشرة أغاني قديمة موظفة عكسيًا مع إيقاع الصورة المعروضة، تخلق عبث تُحتمل خفته، ما هذا؟ هل تصدق أن هذه قصة فيلم مصري؟

ريش” هي صفات الأبطال ليس اسم الفيلم فقط، “ريش” هي تسمية عبثية مضحكة يمكن السخرية منها قبل حتى مشاهدة الفيلم، أبطال فيلم جميعهم دون استثناء أشبه بالصفة التي يحملها الريش: هش للغاية وخفيف ويمكن التنازل عنه بسهولة داخل حياة قد لا تصدّق قسوتها وحدتها وما يمكن أن تخلقه في من يشاهدها من اكتئاب وغضب واشمئزاز من مجرد التفكير في وجودها من عدمه

صراع الطبقة التي يمثلها عدد من الساخطين على الفيلم في مقابل الصرخة التي يمثلها الفيلم للفقراء والمهمشين ربما لا تخص جوهره، لا يبحث عمر الزهيري على عرض قضية الفقر المصري في المحافل الدولية، أذكى قليلًا من أن يقف في موقف الدفاع الذي يسلكه طوال الوقت أصدقاءنا الطيبون الساذجون الذين يغضبهم كلام شريف منير أو غيره دون أن يقفون لمناقشته

فيلم ريش حدث استثنائي يعلم أهميته كل مهتم بالسينما، مذهل، يحكي عن كل شيء دون التورط في شيء بعينه، المرأة التي تكتشف قوتها وحدها في مواجهة العالم دون زوجها المسيطر، أو الزوج المسحوق أمام آلة العمل التي لا تنتهي، أو العبثية التي يعيشها الإنسان عمومًا، إنسان الفيلم غير المحسوب على مكان أو زمان بعينه أو ربما أشياء أخرى.   

بعد العرض كنت أقف مع أحد الأشخاص الذين استلموا سيناريو الفيلم قبل تنفيذه، كان يقول أن ملخص الفيلم الذي قرأه وقتها هو الشيء ذاته الذي رآه على الشاشة ولا يفهم لماذا الحديث عن المؤمرات أو الفقر أو غيره، “الهدف من القصة هو حدوتة المرأة المقهورة أمام زوجها ولا تتخيل مواجهة العالم ثم تضطر لمواجهته دون رغبتها”. 

من يستحق الإشادة في أزمة “ريش”؟

بعد كل ذلك، بالطبع سيأخذ كل عمل فني أصيل تأويلات اجتماعية وسياسية تتجاوزه، سيغضب البعض من إظهار الفقر في ذاته، وكذلك سيغضب البعض من إخفاءه مهما حاول المخرج الهروب من الأمر، بالتالي بعد سرد موجز عن سياقه الفني ومبررات الاحتفاء به فنيًا ربما من الأفضل مط الحديث لما هو أبعد من ذلك، لمن يستحق الإشادة فعلًا؟

لماذا تصنع أفلام عن الفقراء والمهمشين؟ لماذا تحصد هذه الأفلام جوائز؟ لأنها سينما مستقلة، لم تجد أساسًا من يستثمر فيها أمواله، شيء شديد البديهية أن تأت حكايتها من هامشية صناعها أنفسهم، لم نجد ثمة مؤامرة في القصة، بديهي تمامًا، لن نتوقع صناعة فيلم مستقل يحارب صناعه يوميًا لخوض صراعه يحكي عن صعوبة وصول أبناء التجمع في مصر أثناء وصولهم إلى وسط المدينة والعودة منها، تحصد الجوائز ربما لأنها أكثر صدقًا ومغامرة وجرأة، لأنها في قلبها كل ما يحتاج الفن إليه ليصبح أصيل

إذا كان الفرد فقير لا يملك الاختيار، بالطبع ستصبح نظرته تجاه ذاته تمامًا مثل نظرة الآخرين له، في داخلها ما يدعو للخجل والغضب والاشمئزاز، وهي أشياء لا يحتملها الكثير

 تحية واجبة وأخيرة كُتب هذا المقال لأجلها، خارج كل السياقات الاجتماعية والسياسية والفنية التي دار حولها صراع فيلم “ريش”، لن تكون للمخرج المذهل عمر الزهيري أو شريكه الكاتب أحمد عامر، لكنها بالأخص إلى شركات الإنتاج الثمانية التي استثمرت فيه، صدقته قبل الجميع

تحية شكر إلى المنتجة المصرية شاهيناز العقاد والمنتج المصري محمد حفظي اللذان استثمرا في خيال مخرج شاب لم يكن يملك فرصة، في عمله الأول المغامر، المتوقع مهاجمته. وربما عدم فهمه كفاية، واحتمال الدخول في صراعات كان يمكن تجنبها كعربون محبة لمجهولين يكرهوا الجدال والحراك الذي يخلقه “ريش” يتطاير بين الطبقات في مصر، حراك يجدد الدم والفكر نحو كل شيء، ومناقشات هي الهدف الأسمى وراء كل فن حقيقي، في بلد يملك آلاف مثل عمر الزهيري، لديهم فنهم وأسلوبهم المتفرد في انتظار منتجون مثلهم

 

موقع "مصر 360" في

19.10.2021

 
 
 
 
 

هل تحب الفقراء في الأفلام؟

سيرك مخبول على هامش الزمن والمدينة

آدم مكيوي

مع تتر نهاية فيلم عمر الزهيري “ريش” الحائز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان في أسبوع النقاد، يجتاحك فيض جارف من المشاعر المتناقضة والمربكة؛ فالفيلم مليء بالحيل والفخاخ العقلية، ينقلك من حالة الضحك الخافت إلى السكون ثم الصدمة ثم الاندهاش، في حركة دائرية، فما إن تبدأ في الاستغراق في الضحك على مشهد عبثي لقرد يقفز ليلتصق بزجاح سيارة مهرب يغني بصوت قبيح وهو يلاحق ساحرًا وهميًّا حوَّل رجل إلى فرخة، حتى تصطدم بمشهد آخر غارق في القسوة. وربما لو مشيت وراء خيط القصة الرئيسي ستتعاطف مع البطلة الرئيسية التي تمسك بزمام الحبكة من أول الفيلم حتى نهايته الصادمة، ولكن مهلاً، لا أعتقد بأي حال من الأحوال أن الزهيري  وهو يصنع فيلمه كان يريدك أن تشاهد حدوتة قهر تقليدية عن بشر مهمشين سحقتهم الظروف وفرمتهم آلة العمل وداسهم وحش البيروقراطية الخرافي.

دعنا من الحبكة أو القصة أو الحدوتة، أو كما تحب أن تسميها، الأمر هنا ليس متعلقًا بالأحداث رغم تسارع الإيقاع وعدم سقوط الفيلم في منزلق البطء أو الترهل. المخرج صنع عالمه شديد الخصوصية مزج فيه ما بين الجدية والتجهم والعبث والسخرية بطعم الخل.

إن بشر عمر الزهيري هم بشر نسيهم الله، كأنهم جوقة ممثلين رُحل يجوبون البلاد غارقين في ثياب رثة، جلدهم تغضن بفعل أحافير الزمن، ثيابهم مبهرجة غير متناسقة باهتة الألوان كأنها ثياب مستعملة تباع على الأرصفة تحت الكباري.

قديمًا وصف زولا في روايته “جرمينال” المنجم الذي يعمل فيه العمال كأنه أخطبوط يمد أذرعه العملاقة يمتص دم الفقراء ويرسله في أنابيب إلى الشركة في المدينة لتنتعش إيرادتها، أما في حالة عمر فالمصنع الذي يتموضع في خلفية الأحداث كأنه تنين خرافي عجوز، منهك قبيح الملامح ينفث من منخاره دخانًا سامًا مترعًا بالرصاص يتسرب إلى داخل منزل الأسرة فيسمم الجو ويعمق ملامح الإرهاق والشحوب البادية على الوجوه المتعبة، عبر مشاهد ملونة بعناية شديدة يسيطر عليها اللون الأصفر، لون التراب والغبار والفقر، احتفظت الكادرات بخصوصية لونية مبهرجة ومتنافرة وإن علاها التراب، في الانتقال من مشاهد الاحتفال ثم مشاهد البحث المضني مرورًا بمشاهد محاولات الإيقاع بالمرأة ورحلة البحث عن حل لأزمة الزوج، ثم البحث عن عمل، يستعرض الفيلم أماكن شديدة الواقعية، ولكنها شديدة الغرائبية في نفس الوقت، ربما وجدت في مكان ما أو زمان ما ولكنها مبعثرة في الذاكرة فأعاد الفيلم تشييدها كي يجد المشاهد صعوبة في استدعاء عوالم مشابهة مكتملة من ذاكرته. وضع الفيلم قواعده لعب جديدة ربما شاهدنا أجواء شبيهة في أفلام المخرجين روي أندرسون أو أكي كياروزماكي مع إضافة صبغة شديدة المحلية في “ريش”.

مصحة مفتوحة

الخلطة التي صنع منها الفيلم تفرض أسلوبية جديدة هي خلاصة وعصارة خبرات مختلفة وعوالم متعددة لا تتعالى عن المنتج الفني المصري في كل تجلياته؛ حتى مسرح القطاع الخاص الساخر أو برامج الكاميرا الخفية، أو حتى الفنون البسيطة كالساحر والسيرك والأراجوز. والكاركترات والوجوه والأماكن كلها تشبه أماكن قابعة في الذاكرة ولكنها لها شكلها الخاص. والسيارات المستخدمة تنتمي لحقبة زمانية معينة، ولكنك تعجز كمشاهد عن الإمساك بخيط الزمن، فالزمن قابع في ذهن الزهيري وحده، والمؤدون من اختياره، معظمهم لم يسبق لهم أن مثلوا أو ظهروا أمام كاميرا من قبل.. اختارهم بروح صاحب سيرك جوال أو مدير جوقة مسرحية تؤدي عروضًا في الشوارع، أو فنان مخبول يملك عربة شعبية مزينة بلمبات إضاءة نصفها معطوب والنصف الأخر تتراقص إضاءته، يمسك عصا عاجية يصرخ في الجمهور، يضحكه، يسخر منه، يفرقع بعصاه في الهواء فتخرج جوقته من العربة تؤدي مشاهد تثير السخرية، لكنها تثير الهلع والحزن والتقزز في نفس اللحظة، وكأنك بصريًّا دخلت عالم المخرج البولندي هاس في فيلم مصحة الساعة الزجاجية0 (The Hourglass sanatorium)

ويفاجئك الزهيري عندما تعرف أنه اختار بعضًا من ممثليه الذين ظهروا في لقطات خاطفة من رؤيتهم في الشارع بالمصادفة، وذلك لكي تكتمل صورة العالم الذي شيده في خياله وأخرجه على الشاشة بقواعده.

تسلح فيلم “ريش” بالعبث ليرسم واقعًا حياتيًّا مزريًا. هو فيلم لا يمجد الفقر ولا يرى فيه جماليات بل يحتقره ويبصق عليه. رغم أن التداعي المهيمن على روح الفيلم قد شيِّد بقدر من الدقة، حتى إنك قد تمسك نفسك متلبسًا بالإعجاب بجماليات التداعي، فإنه لا ينحاز للقبح بل يجسد الفقر والقهر بسوريالية شديدة الدراما ثرية بصريًّا بشكل صادم وغاطس حتى أذنيه في قار السخرية اللزج.

بعد مشاهدتك للفيلم لا ريب أنك ستحاول لا إراديًّا أن تنفض عن ثيابك غبار دخان المصانع الذي أعمى أبطال الفيلم، أو تمسح عن شفتيك السائل الأبيض الذي انساب من الزوج الذي أفقده الساحر في ليلة عبثية آدميته، وحوَّله إلى فرخة ثم أصبح تمثالاً ميتًا بلا حراك.

هل موقع الأحداث التي جرت كان على هامش المدينة؟ هل المكان يشبه الأحزمة التي تطوق مدننا الخانقة؟ نعم بكل تأكيد، وبلا أدني شك هناك أماكن أكثر بؤسًا وبشاعة وانحطاطًا من التي ظهرت في ريش، ولكنها في ريش كانت أكثر وضوحًا، إذ ضرب فيها الزهيري فرشاة ألوانه فوق الواقع الذي علاه التراب. وشخوص الفيلم كائنات ميكانيكية حوَّلتهم الآلة الرأسمالية إلى روبوتات خربة تذكرك بجملة أتت على لسان أحد شخصيات قصص “بشر نسيهم الله” لألبير قصيري “إن أنوار ما يسمى بالحضارة قد أعمتنا وحولتنا لمجموعة من العميان يتخبطون”.

ربما عمل مخرج “ريش” فترة طويلة في عالم الإعلانات جعله يتفرس كثيرًا في الوجوه ويدقق فيها ويتعامل معها كشخص مهووس بجمع التحف واللوحات والقطع الفنية، ولذلك عندما بدأ مشروعه السينما الطويل الأول “ريش” كان عليه أن يرتحل ويسافر إلى قرى وصعيد مصر ويبحث عن ممثلين أغلبهم لم يسبق له أن وقف أمام الكاميرا. كان يريد وجوهًا تصلح للعب بقواعده الخاصة، وجوهًا موجودة في خياله، ولم يسبق لأحد أن شاهدها من قبل وهنا كانت البراعة والحذق، وكان الخلطة التي مزجت ما بين العبث والدراما أو التي جعلت العبث واقعًا ممكنًا، كما قال أحد النقاد المرموقين تعليقًا على الفيلم، وأزيد عليه أن الفيلم هو شريط سوريالي عمق مرارة الحقيقة.

نافورة بلاستيك شيك

حافظت الشخصية الرئيسية طول الفيلم على جمود ملامحها التي تشي ببؤس غائر كبئر لا قرار له.. الزوج رجل متسلط بخيل شحيح منسحق أمام رئيسه يحاول أن يمارس سلطة عبثية بلا عقل، وفي أحد أكثر المشاهد عبثًا وتفجيرًا للضحك يشترى نافورة بلاستيكية عجيبة الشكل يضعها في وسط بيته البائس الجدب ويكرر جملة “بتدي شكل جميل وفي نفس الوقت شيك” بينما يعيش زوجته وأطفاله في فقر مدقع، ولكنه اهتم أن تكون عنده نافورة بتدي شكل للمكان وفي نفس الوقت شيك. بعد أن يتحول الزوج إلى فرخة بفعل خطأ من ساحر محلي غريب، تُجبَر الزوجة على رحلة قاسية تحاول فيها تعويض غياب الأب.. هذه الأوديسا البائسة للمرأة التي لا تحمل اسمًا، بل وجهًا يحمل بؤس الكون وهي تنتقل من مكان لآخر تجابه الثقب والفراغ الذي تركه الزوج بعد أن مُسخ لطائر. تلتقي رجالاً عابثين يشبهون مهرجي السيرك، يلعبون البلياردو ويثرثرون ويتحرشون ويغنون بصوت قبيح أو يجلسون يحدقون في الفراغ بلا مبالاة.. تنظف أرضيات بيوت قاسية، وتتعرض للطرد، ويقول لها رجل لا نلمح وجهه بوضوح ولكن بصوت معدني وإلقاء مفتعل “حركة غبية جدًا جدًا.. ملفك حيتبعت للبوليس ومش حتشتغلي في بيوت محترمة تاني”. وتذهب في مشهد مرعب لا يبارح الذاكرة لتعالج الفرخة في مستشفى بيطري أشبه بمشرحة شبه مهجورة تُقطع فيها جثث الموتى وتلقى للجوارح.
يستكمل الزهيري سخريته المريرة وجلده للبيروقراطية الجوفاء التي بدأها في فيلم القصير السابق “افتتاح الحمام”(ما بعد وضع حجر الاساس لمشروع الحمام بالكيلو 375) حيث لا ترحم مقصلة البيروقراطية أحد، وبدم بارد يتخلى زملاء العمل عن زميلهم الذي تحول لفرخة كي يتم إثبات أنه هو الفرخة، أو أن هناك أي علاقة تربطه بالكائن الذي مسخه الساحر الفاشل
.

هنا يكتمل الموازييك لسلطة يمارسها بشر متداعون في أماكن علاها الصدأ، ومكاتب نخرها السوس وأوراق حكومية بالية أطرافها متآكلة، ويسيطر اللون الأصفر عليها، وكأنما الزمن قد بال عليها، ولا ينسى الزهيري أن يضع عليها شعارات تفجر السخرية أكثر كشعار الطاقة الذرية.

أن تأكل البيج ماك في كشك صدأ قريب من شريط قطار أو يقفز قرد على زجاج سيارتك، أو يشعل رجل فجأة النار في نفسه، كلها مشاهد تقفز من خلفك، ومن أمامك وتباغتك طول الفيلم الذي استعان الزهيري فيه بشريط صوت قد يبدو للوهلة الأولى متنافرًا مع المكان والزمان والحدث، ولكن الحقيقة أنه يعمق أكثر وأكثر الدراما العبثية لهؤلاء البشر الذي نسيهم الله. فمن الصعب أن تنسى موسيقى عمر خورشيد التي تعزف في الفضاء الموحش المحيط بالمصنع، أو جورج وسوف وهو يغني أغنية نجاة الصغيرة في قهوة يرتادها عجائز أشبه بالموتى، أو المحب الولهان الذي استغل غياب صديقه ليغازل زوجته المكلومة بصوت أجش خشن، ويغني لها أغنية على وش القمر على صوت القمر على كل الشجر حكتبلك يا حبيبي، هكتبلك ع الشوارع وع الفجر اللي راجع. وموسيقى حكايتي مع الزمان بنفس مختلف تصاحب رحلة البطلة وتعطي لها بُعدًا ملحميًّا شعبيًّا.

هذا الفقر غير المفهوم الذي يخنق العالم وهذه البيروقراطية التي تقبع فوق أنفاسنا كمؤخرة قرد سمين، فلا مكان هنا لتمجيد الفقر، ولا الاحتفاء بشظف العيش، وإنما دفعك دفعًا لكراهية الظلم والتسلط والبيروقراطية والبؤس والتلوث الذي يحيط بالمدينة في فرجة بصرية وقصة تمزج ما بين الجدية والعبث أو لنسميها مجازًا “ميلانكوليا عبثية شديدة الجدية تفجر الضحك وتثير الأسى وتلطم المشاهد على وجهه”.

 

موقع "مدينة" في

19.10.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004