حكايات عرَّاب الكاميرا..
على بدرخان يروى لـ«الدستور» أسراره فى رحلة الإخراج وتدريس
السينما
تحقيق:
نرمين يُسر
إذا تحدثنا عن المخرج الكبير على بدرخان، فنحن نتحدث عن
التاريخ، ليس فى جوانبه الفنية فقط، بل بمعناه الشامل وبتفريعاته الإنسانية
والاجتماعية والسياسية كذلك، لأنه ليس مجرد مخرج أو صانع أفلام فريد من
نوعه، إنما «عرّاب» لزمن وحقبة مليئة بالزخم والريادة والتنوع فى كل
المجالات.
كرم مهرجان الإسكندرية لأفلام البحر المتوسط، فى دورته
الـ٣٧، المخرج الكبير على بدرخان، لإسهاماته البديعة فى السينما المصرية،
من خلال أفلامه التى لا تزال فى ذاكرة ووجدان المشاهد العربى على اختلاف
شرائحه.
التقت «الدستور» على بدرخان، ليتحدث عن أصداء تكريمه،
متطرقًا إلى جوانب من مسيرته الفنية ورحلته فى مجال الإخراج والسينما،
ومعرجًا على تصوراته بخصوص الأوضاع الحالية للسينما المصرية وغيرها من
التفاصيل.
حلمت بدخول الكلية البحرية.. درست السينما بسبب ضغط والدى..
وفشلت فى تجربة التمثيل
يكشف على بدرخان عن مفاجأة حول بداياته الفنية، بأنه لم يكن
يرغب فى دراسة السينما، لكنه رضخ لضغوط والده المخرج الكبير أحمد بدرخان؛
من أجل دراستها، قائلًا: «رغبتى الأولى كانت الالتحاق بالكلية البحرية، لو
حدث ذلك لكنت قبطانًا متقاعدًا هذه الأيام».
ويحكى أنه التحق بمعهد السينما استجابة لوالده، ودرس
الإخراج فى أجواء مليئة بالزخم، لكنه فشل فى تجربة التمثيل، قائلًا: «كان
هناك أستاذ ماهر فى التمثيل يدرس لى، وكان يعرف أنى ابن المخرج أحمد
بدرخان، وعرض علىَّ الاشتراك فى إحدى المسرحيات».
ويكمل: «كنت أرفض متعللًا بأنى لا أجيد التمثيل، لكنه
أرغمنى على القبول، ثم جاء وقت العرض، وكانت المسرحية صامتة بدون كلام،
تحتوى فقط على أداء حركى»، ويضيف: «أخذ يحثنى على اعتلاء خشبة المسرح،
وبمجرد أن وقفت أمام الجمهور الجالس تحت الإضاءة وظهر حجم الحاضرين، تجمدت
مكانى، وأصبت بالرعب. ولحفظ ماء وجهى أمام التصفيق الحار بدأت فى أداء بعض
الحركات العشوائية وتحريك ذراعى فى كل مكان، أحاول تقليد الممثلين الواقفين
بجانبى، وكانت هذه تجربة التمثيل الوحيدة فى حياتى».
وتطرقنا للحديث عن رحلته فى مجال الإخراج، حيث يكشف على
بدرخان كواليس جديدة عن فيلمه الأبرز «الكرنك»، قائلًا: «أشيع ساعتها أن
الفيلم يجرى استخدامه كمدفع فى إطار حملة كاملة ضد النظام الحاكم آنذاك».
ويتذكر تلك الأجواء: «كانوا يقولون إن (الكرنك) ضد الناصرية
والزعيم عبدالناصر نفسه»، ويتابع: «رؤيتى أن عبدالناصر كان مثل أى رئيس أو
شخص عادى، له من الأخطاء مثل ما له من المحاسن، لكن المجموعة التى تساعده
فى اتخاذ القرارات لم ترفض أو تصحح هذه الأخطاء، ولم تنبهه إليها».
ويكمل: «بعدما انتهيت من تصوير الفيلم جاءنى المنتج ممدوح
الليثى يطلب أن نقوم ببعض التغييرات، ونصور مشهدًا يظهر فيه السادات وهو
يكسر المعتقلات، ورفضت؛ لأن ما طلبه خارج سياق حكاية الفيلم الأصلية».
أفلام الفانتازيا والرعب الحالية مسروقة من الأعمال الغربية
دون احتراف
يرى على بدرخان أن المخرج يجب أن يقرأ جيدًا، ويعتبر
القراءة عملًا يمتهنه، لأن الكتب هى المادة التى سوف يستخدمها فى أفلامه،
مضيفًا: «اعتدت القراءة لنجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وحسن محسب، لكن أقرأ
لغيرهم أيضًا».
ويعتبر أن أفلام الفانتازيا والرعب لها دور فى إظهار
المواهب الجديدة والتقنية العالية والجودة، موضحًا: «منفذوها، حاليًا،
تفوقوا على جيلى، لأنهم أكثر ألفة وارتباطًا بالتقنيات الجديدة. لكن معظمهم
يقلدون الأفلام الغربية دون احتراف».
ويشير إلى أنه يجب استخدام فن الاقتباس بطريقة أفضل،
معتبرًا أن أزمة الأفلام الحالية تعود إلى غياب السيناريوهات الجيدة،
قائلًا: «بدلًا من الورق، صار هناك شريط فيديو يحمل عملًا فنيًا، والمطلوب
هو محاكاته، الاقتباس لا يعتبر فنًا، والنقل بالحرف سرقة صريحة».
ويرى، أيضًا، أنه لا يوجد ما يسمى بـ«السينما المستقلة»،
موضحًا: «كل شركات الإنتاج مستقلة، إلا إذا تحدثنا عن (مترو جولدن ماير)،
فهى كشركة إنتاج ضخمة تمتلك شركات فرعية، من حقها أن تتدخل فى مجريات أحداث
الفيلم والتغيير والتعديل، فالإنتاج من خلالها لا يعد مستقلًا».
ويكشف عن أنه بعد آخر أفلامه «الرغبة» عام ٢٠٠٢، لم يجد
سيناريو واحدًا يثير إعجابه حتى الآن؛ لكنه يشير إلى تركيزه على الجانب
التعليمى من خلال «مؤسسة على بدرخان» لتعليم فن السينما بأقسامه، قائلًا:
«ركزت على نقل خبراتى للأجيال القادمة».
ويتحدث عن جهوده فى ذلك الإطار: «أصدرت مؤلفات فى السينما
والإخراج والتمثيل، وأضع خبراتى للأجيال والأفراد الذين يهتمون بدراسة
السينما، كل كتاب من مؤلفاتى يشرح ويعرِّف قسمًا من أقسام السينما ببساطة
وبدون تعقيد أو الخوض فى الأمور التقنية، أنا لست مؤلفًا، وإنما درست وقدمت
تجارب مهمة استفدت منها، فجمعتها ووضعتها كمنهج تعليمى».
هناك تبذير فى الإنفاق على مهرجاناتنا السينمائية عكس
أوروبا
على ذكر تكريمه فى مهرجان الإسكندرية لأفلام البحر المتوسط،
يطرح على بدرخان رؤيته لمثل تلك المهرجانات، داعيًا لأن تزيد من تركيزها
على الجوانب الفنية والاقتصادية، وألا تبالغ فى الاهتمام بجوانب أو مظاهر
الاستضافة.
ويضرب مثلًا على ذلك بقوله: «حضرت مهرجان تانت السينمائى
الفرنسى، واستقبلنى رئيس المهرجان فى المطار بمنتهى البساطة. وكنا نجوب
أنحاء المدينة بحرية، حيث نجلس على المقاهى الشعبية، والمطاعم التى ترحب
بزوار المهرجان بعيدًا عن الفنادق الفاخرة. لم أشاهد التبذير الذى نراه فى
المهرجانات المصرية».
ويسترسل فى شرح وجهة نظره: «الهدف من إقامة المهرجانات له
جانب اقتصادى وجانب فنى، فى الجانب الاقتصادى ننتظر دخلًا وعائدًا ماديًا،
لكن المهرجانات المصرية يُصرف عليها كثيرًا، فى حين أنها يجب أن تدر
عائدًا، مثلًا فى المهرجانات الأوروبية، ستجد أن الإدارة تطرح ملابس
وميداليات تحمل اسم المهرجان للبيع، كما تبيع تذاكر الحضور، لأن هناك
ميزانية مدفوعة ولابد من تغطيتها».
ويكمل: «هذه المهرجانات لا يجب أن تقام من أجل الترفيه عن
المدعوين، ومن أكثر الأشياء التى أرفضها أن نقابة المهن التمثيلية تدعم هذه
المهرجانات، فى حين أن النقابات الفنية بشكل عام تجد صعوبة فى دفع معاشات
أعضائها»، متسائلًا: «لماذا تقدم الدعم لحفلات الافتتاح والبهرجة والفنادق
الفاخرة، فى حين أن دولة مثل اليابان اتخذت البساطة طابعًا فى افتتاح
الأوليمبياد هذا العام؟ وكان الحفل رائعًا، وانصب على الروبوت الذى كان
يمشى فى الملعب ممسكًا بالكرة حتى يصل إلى السلة فيلقيها فى الهدف تمامًا،
ولم تكن هناك أغان ولا رقصات».
ويدعم رؤيته تلك بقصة قصيرة يرويها، قائلًا: «فى إحدى دورات
مهرجان القاهرة السينمائى، دعت الإدارة المخرج دايفيد لى، فتعرض لموقف
محرج، حيث كان يسير بين أروقة العروض دون أن يتعرف عليه أحد، حتى من دعوه»،
متابعًا: «إدارات المهرجانات، منظومة مفتعلة لا تفيد البلد، وتحيطها هالة
إعلامية يديرها ضعاف الشخصية وقليلو العلم والثقافة».
وضرب مثالًا على أزمات المنظومة السينمائية بالفنان محمد
رمضان، قائلًا: «تم استغلاله من جهات الإنتاج، فيلصقون به تهم انعدام
وتدمير ثقافة الشباب المصرى، لأنهم يقلدون طريقة حياته ويستمعون إلى
أغانيه، فى حين أن شركات الإنتاج استغلته لتمثيل ما يكتب له من سيناريوهات،
مثل الآلة غير المسئولة عن الفكر والمغزى من العمل. فى حين أن المسئول هو
السيناريست والمخرج».
ذهبت لتصوير الحرب على الجبهة فهربت من فأر فى حمام المعسكر
لم يغفل على بدرخان الحديث عن أجواء نصر أكتوبر ١٩٧٣ فى ظل
ذكراه التى تحل علينا هذه الأيام، ليسرد العديد من ذكرياته فى هذه الفترة
الصعبة، ومحاولات تجسيدها فنيًا فى أعماله.
ويحكى: «وجدت قصصًا كثيرة من شأنها أن تصنع فيلمًا عظيمًا،
وطلبت أن أتطوع للتصوير على الجبهة مع أننى لم أكن مجندًا فى الجيش، لكنى
كنت أدرب الطلبة فى المدرسة فى حصص التربية العسكرية، كما دربت أفراد
المقاومة الشعبية والمجهود الحربى، وتعهدت بأن أكون منضبطًا ومسئولًا عن
نفسى، رغم عدم حصولى على تدريبات عسكرية فى الجيش»٠
ويتابع: «سافرت إلى الجبهة قبل العبور، وسجلت العديد من
المشاهد لصالح الشئون المعنوية. فى الوقت نفسه كنت محبطًا، قلت لزملائى
بصوت عال وسط الصحراء: فين الحرب؟ أنا عايز حرب، فردوا: تمام هنعملك حرب».
ويروى أن زملاءه لبوا طلبه: «بدأوا فى إطلاق الرصاص فى
الهواء، فيجينا الرصاص من الجهة المقابلة»، لكنه يكشف عن تعرضه لموقف محرج
فى تلك الأجواء، ويحكى عنه بسخرية: «وسط هذا الرصاص المتطاير كنت البطل
المغوار الذى قفز هاربًا من فأر فى دورة مياه المعسكر. وصرت أجرى أمام
زملائى محاولًا توضيب ملابسى، حفظًا لماء وجهى وظهورى بشكل متناقض، بين
مطالبتى بالحرب وهروبى من مطاردة فأر».
ويكشف عن أنه كان يرسل وزملاؤه خطابات لأهله من على الجبهة،
ويروى: «كان الجيش لديه نموذج مطبوع يحمل كلمات الاطمئنان والوعود الطيبة
بالنصر والعودة بسلام، وما علينا سوى كتابة الاسم على الخطاب بخط اليد، عدا
شخص واحد كان ينزل الخندق ويكتب على ظهر الورقة المطبوعة بخط يده يسأل
خالته عن ولادة الجاموسة، وكان ذلك يحدث وسط إلقاء أطنان من المتفجرات فى
الخنادق».
ويردف: «معنى ذلك أن ما كنا نشاهده من أفلام حربية، ضرب من
الخيال، مثل أن يجلس الجندى محمود يس فى أحد الأفلام داخل خيمته ويكتب
خطابًا طويلًا لحبيبته نجلاء فتحى يشرح فيه أحواله فى الكتيبة، وأشواقه
إليها وما إلى ذلك».
وعاد للحديث عن زميله الذى كان ينزل إلى الخندق ليكتب
الخطابات لأهله، ويقول: «ذات مرة كان زميلى يكتب على ظهر الخطاب المطبوع،
وفى أثناء كتابته الخطاب، سمع خارج الخندق صوتًا صاخبًا، فأطل برأسه ليرى
الدبابات الإسرائيلية تقترب، فعاد مسرعًا للكتابة. ولكنه كان يكتب وصيته
هذه المرة». |