ملفات خاصة

 
 
 

"وش القفص"..

حلاوة النوستالجيا ومرارة الواقع

بقلم: أسامة عبدالفتاح

مهرجان الإسكندرية السينمائي

الدورة السابعة والثلاثون

   
 
 
 
 
 
 

** ظلمته إدارة مهرجان الإسكندرية بإشراكه في المسابقة الدولية.. وأدعو القنوات التليفزيونية المملوكة للدولة لدعمه بشراء حق عرضه

هناك طريقتان للتعامل مع الأفلام ذات الميزانيات الصغيرة والإمكانيات المحدودة، ومع التجارب المختلفة أو "البديلة" (لا أحب تعبير "السينما المستقلة" لأنه ببساطة لا ينطبق على وضعنا وسوقنا في مصر، ولأنه يعطي المتلقي صورة ذهنية عن الفيلم قد لا تكون صحيحة، ويكفي أن تعرف أن شركات السبكي – على سبيل المثال – مستقلة، وقد أسلت أنهارا من الحبر في مناقشة تلك الأفكار، ولست على استعداد لإسالة المزيد منها).

الطريقة الأولى أن تتعالى على الفيلم، وتردد أن المتلقي يتعامل مع ما يشاهده على الشاشة، ويقيّم السلعة المقدمة إليه بغض النظر عن ظروف صنعها، وليس ذنبه أن صانعيها لم يجدوا التمويل الكافي لها، أو لم يوفروا لها مقومات التنافس مع مثيلاتها في السوق من إمكانيات وعناصر جماهيرية.

أما الطريقة الثانية، فهي أن تتفهم موقف ومشاعر صناع الفيلم، وأن تقدر حرصهم على الاستمرار والعمل والإنتاج رغم كل الظروف الصعبة، وسعيهم لتحقيق حلمهم بأي ميزانية وبأي طريقة، حتى لو كانت تتضمن التنازل عن بعض الشروط والمواصفات المتعارف عليها.

شخصيا، أميل للطريقة الثانية، بشرط أن يحقق العمل الحد الأدنى من الجودة الفنية، وهو ما توفر لفيلم "وش القفص" الذي شارك في المسابقة الدولية للدورة 37 من مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط، وكذلك في المسابقة العربية لنفس الدورة التي اُختتمت الخميس الماضي ولم يكن للفيلم نصيب من جوائزها.

الفيلم هو العمل الروائي الطويل الأول للمخرجة السكندرية دينا عبد السلام، بعد أفلامها القصيرة: "ألف رحمة ونور" (2014)، "كان وأخواتها" (2016)، و"مستكة وريحان" (2017)، والتي حصلت على العديد من الجوائز المحلية والدولية، ويدور حول مجموعة من الأشخاص يعملون – وبعضهم"كان" يعمل – بشركة لتصنيع المربى بالإسكندرية، ويمرون بأزمات مالية، وخلال سعيهم لإيجاد حل لتلك الأزمات تتشابك مصائرهم ولاتسير الأمور كما خططوا لها.

كما ذكرت، يتمتع الفيلم بالحد الأدنى من الجودة الفنية، لكن هذا لا يمنع أن إدارة مهرجان الإسكندرية ظلمته بدفعه إلى منافسة أفلام أكثر احترافية وذات ميزانيات وإمكانيات أكبر في المسابقة الدولية، وكان يمكن الاكتفاء بالمسابقة العربية أو حتى عرضه خارج أي مسابقة في احتفالية خاصة بفيلم يعبر بصدق عن المدينة التي تستضيف المهرجان وعن هموم وأحلام قاطنيها.

ولابد هنا من توضيح أن عدم استعداد الفيلم لمنافسة أعمال المسابقة الدولية لا يتعلق بالموضوع أو المستوى الدرامي أو حتى غياب الممثلين المحترفين، بل بالمتطلبات التقنية مثل التصوير بكاميرا ومعدات حديثة وإجراء أعمال المونتاج والمكساج والتلوين وغيرها في شركات محترفة متخصصة، وكلها أمور تؤثر على جودة الصورة والصوت وبالتالي التلقي، وكلها أيضا تتطلب أموالا كثيرة لم تتوفر لصانعي الفيلم، حيث قالت دينا – في الندوة التي أعقبت عرضه في إطار مسابقة "الإسكندرية" – إن ميزانية العمل أقل كثيرا من نصف مليون جنيه رغم دخول شريك ثالث معها ومع شريكها في الكتابة والإنتاج والمونتاج، والحياة أيضا، أشرف مهدي، الذي تولى كذلك إدارة التصوير وتجسيد شخصية رئيسية.

ينتمي "وش القفص" لعالم دينا "النوستالجي" المفضل، ويغوص – مثل أفلامها السابقة – في الحياة اليومية لأفراد وأسر وبيوت الشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة، فيستخرج من أعماق تلك البيوت ما يدهش دائما، سواء الشخصيات الفريدة التي قد تعجب لها ولتصرفاتها لكنك تصدقها لأنها – ببساطة – حقيقية، أو الأثاث والأدوات والاكسسوارات و"خبايا" الأدراج والدواليب،والتي ظهر الكثير منها في مشهد النهاية ليضعك مباشرة في مواجهة زمن ذهب ولن يعود.

وهنا لابد من تحية نيهال غانم التي تولت هندسة المناظر، حتى لو كنت متأكدا أن المشاهد تحمل بصمة دينا المباشرة فيما يخص الديكور والاكسسوارات، وحتى لو كانت معظم أماكن التصوير حقيقية ولا تخرج عن كونها شققا تحمل بالفعل الروح التي يقصدها صناع الفيلم، فيكفي أن تعرف أن بعض المواقع استخدمت لتكون ثلاثة أو أربعة أماكن في الفيلم كما قال أشرف مهدي في نفس الندوة، مع ما يتطلبه ذلك من جهد كبير في الديكور وهندسة المناظر واختيار زوايا التصوير حتى لا يكتشف المشاهد أن نفس المكان تم استخدامه أكثر من مرة.

ورغم أن الفيلم "آني" جدا في شخصياته وقضاياه، إلا أن روح النوستالجيا تجلت في الفكرة الرئيسية التي تنعي شركة مفتخرة لإنتاج المربى بعد أن جار عليها الزمن، أو التأميم، وأصبحت نموذجا للفوضى والتسيب وانعدام الخيال والتأثير، وأصبح صندوق القمامة مصير منتجاتها، حتى بالنسبة للعاملين فيها وأسرهم. وأعجبني استخدام الرسوم المتحركة – الجيدة في الحقيقة – للتعبير عن التاريخ القديم للشركة ولبعض الشخصيات، كما أعجبني استخدام أكثر من أسلوب في السرد مع المزج فيما بينها في بعض الأحيان.

وأتاح اللجوء لممثلين هواة – فيما عدا أشرف مهدي – فرصة التأسيس بحرية لجميع الشخصيات والخطوط الدرامية المختلفة دون أن يتوقع المشاهد، كما ألمحت دينا في الندوة، من ستكون الشخصيات الرئيسية وكيف سيكون الخط الدرامي الرئيسي، حيث أن الجميع متساوون ولا مجال لكي يخمن المشاهد أن شخصية بعينها "بطلة" طالما أن من يؤديها نجم.

لكن هذا لا يمنع أن صناع الفيلم استغرقوا وقتا طويلا في "الفرش" وتقديم الشخصيات، وتأخروا في دخول الخط الدرامي الرئيسي، وأظن أن حذف بعض اللقطات من هذه المنطقة التمهيدية كان سيصبح في صالح العمل وتدفق ورشاقة سرده بدلا من الشعور ببعض الملل في ذلك الجزء وأيضا في الجزء الذي تقنع فيه مسئولة "الجمعية" مختلف الشخصيات بالاشتراك، فبعد شخصيتين أو ثلاث، أصبحت بعض الجمل الحوارية المستخدمة في الإقناع ستاتيكية لتكرارها، وكان يمكن – في رأيي بالطبع – الاكتفاء برمز "الشاي بالنعناع".

أما أكثر ما آخذه على الفيلم، فهو كثرة الشخصيات والخطوط الفرعية بشكل قد يصيب المشاهد بالتشتت، وأعتقد أن الشكل التقليدي للجمعية هو الذي فرض نفسه على كاتبيْ السيناريو، دينا وأشرف، وليس العكس.. فقد التزما بأن يصل المبلغ المطلوب إلى ما يكفي لتحقيق أحلام ومطالب الشخصيات، وبالتالي زاد عدد المشاركين حتى وصلوا لعشرة، وزادت قصصهم ومبرراتهم لدخول الجمعية، في حين أنه كان يمكن تقليص العدد مع المزيد من التعميق، ولذلك أكثر من حل بطبيعة الحال مثل زيادة قيمة الاشتراك.

وإزاء هذه الكثرة، لم تكن بعض المبررات مقنعة دراميا.. فليس من المنطقي أن تشترك الفتاة المدللة الثرية في جمعية مع من تأنف منهم طبقيا لمجرد شراء تليفون محمول جديد، حتى لو ضغطت عليها جدتها، وكان يمكن مثلا أن تشترك لكي تساعد فقط من ينتسبون إلى شركة كانت يوما مملوكة لأهلها. كما أن "قصة الحب" التي ربطت السباك بالسكرتيرة، والتي دفعته لدخول الجمعية ليتزوجها، ليست مقنعة على الإطلاق، بدليل أنها تخلت عنه بمنتهى السهولة، ولم تبد أي مقاومة عند تزويجها بغيره.. وأصلا ليس من المعقول أن يندم سباك يكسب الكثير من مهنة حرة على فصله من شركة فاشلة ومتهالكة يتقاضى منها القليل، حتى لو كان مسئولوها قد اتهموه بالسرقة.

في المقابل، أجادت دينا إدارة الممثلين، فجاء أداء مجموعة من الهواة، الذين يقف بعضهم أمام الكاميرا لأول مرة، تلقائيا طبيعيا، خاصة دعاء الزيني وراوية همام وأمينة الزغبي وأنسي الجندي وحنان حناوي وسعيد مصطفى وسمير قنديل وعبير السيد وماجد عبد الرازق و"المنتج المشارك" شريف أبو هميلة، فيما شاب أداء أمين حجازي بعض المبالغة في دور "بلبل".

هذه تجربة جادة وجيدة تستحق الدعم والتشجيع، وإذا كانت ظروف السوق الحالية تمنع عرض الفيلم تجاريا أو حتى بيعه لإحدى منصات العرض المنزلي، فلا أقل من أن تشتريه إحدى القنوات التليفزيونية المملوكة للدولة مقابل حق عرضه حصريا ليتمكن أكبر عدد من المواطنين من مشاهدته والوقوف على ذوق مختلف عما يتابعونه ليل نهار.

 

####

 

منتهى الموضوعية..«وش القفص» خرج من «المولد بلا حمص»

بقلم: مجدي الطيب

في واقعة غير مسبوقة في المهرجانات العالمية «الإسكندرية» يُسلم ممثلة جائزة حصلت عليها في مهرجان آخر !

جائزة «المطران» تُثير لغطاً وجدلاً .. وثناء كبير على جائزة التونسية «نادية»

محمود قابيل الذي لم يحلم يوماً بأن يكون رئيس لجنة تحكيم .. غاب ولم يعتذر !

عندما أعلنت إدارة مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط، عن اختيار الفنان محمود قابيل لرئاسة لجنة تحكيم مسابقة الفيلم العربي المتوسطي ( مسابقة نور الشريف)، في الدورة ال 37 (25 - 30 سبتمبر 2021)، تخيلت أنه سيفترش الأرض عشية افتتاح المهرجان، في انتظار بدء أعمال اللجنة، التي لم يحلم يوماً بأن يكون رئيسها !

ومع انطلاق المهرجان، فوجئنا، بتغيب «قابيل»، من دون سابق إنذار أو اعتذار، يينما انتظم بقية أعضاء اللجنة المكونة من : الناقد والمؤرخ السينمائي العراقي مهدي عباس، الناقدة المغربية ملك دحموني، المدير الفني لمهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف، والممثل التونسي فتحي الهداوي، ثم أعلن عن انضمام الفنانة هالة صدقي إلى اللجنة، بدلاً من «قابيل»، وعلمت من أحد أعضاء اللجنة أنها تواضعت، وتسلمت «وصلات» أفلام المسابقة، ثم عادرت إلى القاهرة، ولم تجتمع مع أعضاء لجنة التحكيم؛ بحجة أنها ستُشاهد الأفلام في منزلها بالقاهرة !

المفارقة المُثيرة أن الأمر تكرر، في لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة لدول البحر المتوسط، التي اعتذر عضوان فيها؛ هما المخرج المصري سامح عبد العزيز والمخرج السوري جود سعيد عن عدم الحضور، ومرة أخرى لم يٌعلن المركز الصحفي للمهرجان أسباب الغياب، رغم أن أحداً لا يستطيع تحميل إدارة المهرجان المسئولية، وإلا كان لزاماً عليها، وعلى جميع المهرجانات، توقيع عقود قانونية مع المكرمين وأعضاء لجنة التحكيم، تُجبرهم على احترام التعهدات، والحضور مهما كانت الأسباب، وهو المستحيل بعينه !

«مونودراما سينمائية» !

هنا لا نستطيع أن نُنكر أن نتائج لجان تحكيم المسابقات الأربعة؛ خصوصاً المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة لدول البحر المتوسط، اتسمت بالكثير من الحيدة، والنزاهة، والموضوعية؛ بدليل خروج الفيلم المصري «وش القفص»، إخراج دينا عبد السلام، من «المولد بلا حمص»، في حين أثارت جائزة لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة العرب متوسطية (مسابقة نور الشريف للفيلم العربي المتوسطي)، التي فاز بها الفيلم السوري «المطران»، لغطاً وجدلاً كبيرين؛ كون البعض اعتبره «مونودراما سينمائية» أو «نسخة مضغوطة» من المسلسل التليفزيوني «حارس القدس»، الذي تناول سيرة حياة المطران هيلاريون كبوجي، عن نص كتبه حسن م. يوسف، أخرجه للشاشة الصغيرة باسل الخطيب، وقام ببطولته أيضاً رشيد عساف، من إنتاج المؤسسة العامة لللإنتاج التليفزيوني والإذاعي في سوريا !

في المقابل ساد إجماع على استحقاق التونسية نادية بوسيته جائزة نبيلة عبيد لأفضل ممثلة، التي حصلت عليها عن دورها في فيلم «الهربة»، وجدارة السوري عبد اللطيف عبد الحميد بجائزة وحيد حامد لأفضل سيناريو عن فيلمه «الإفطار الأخير» وبقية الفائزين بجدارة.

على صعيد آخر طغى الاحتفال بمئوية ميلاد الراحلين والمكرمين على عروض الأفلام السينمائية، التي هي صلب أي مهرجان؛ فأصبحنا على موعد، وبشكل يومي، مع ندوات الفندق، التي تبدأ في الحادية عشرة صباحاً وتنتهي قبيل الرابعة مساءً؛ حيث جرى الاحتفال بمئويات : الفنان كمال الشناوي (26 ديسمبر 1921 – 22 أغسطس 2011)، المنتج رمسيس نجيب (8 يونيو 1921 - 4 فبراير 1977)، الفنان محمد رضا (20 ديسمبر 1921- 21 فبراير 1995) ووزير الثقافة السابق د.ثروت عكاشة ( 18 فبراير 1921 – 27 فبراير 2012) وندوات المكرمين: الفنان العربي دريد لحام، الذي منحه المهرجان وسام عروس البحر المتوسط، المخرج علي بدرخان، الذي أهداه المهرجان دورته ال 37، المخرج اليوناني أنجيلوس فرانتزيس، اسم الكاتبة كوثر هيكل (1 يناير 1945- 22 يناير 2021)، الفنان خالد الصاوي، الفنانة سلوى خطاب، الناقدة خيرية البشلاوي، المخرج عمر عبد العزيز والمخرج التونسي عبد اللطيف بن عمار، بل أن المهرجان نظم ندوة خاصة، لحساب وزارة التضامن الإجتماعي، حول «علاقة الوعي بالدراما وقضايا المجتمع»، وبعد هذا الزخم من الندوات نجد أنفسنا مطالبين بمتابعة عروض الأفلام في داري عرض؛ إحداهما في المنتزة والأخرى في جليم، بكل ما يعنيه هذا من مشقة كبيرة انعكست سلباً على حضور الأفلام، الذي كان قليلاً بشكل ملحوظ !

سقطة لا تُغتفر !

ربما نلتمس العذر لإدارة مهرجان الإسكندرية السينمائي في غياب الضيوف الأجانب، والأفلام الجيدة؛ بسبب الجائحة العالمية، لكن ما لم أجد له تبريراً أن توافق الإدارة، برئاسة أمير أباظة، في واقعة أزعم أنها لم تحدث من قبل في أي مهرجان بالعالم، على تنظيم احتفالية لتسليم الفنانة حنان مطاوع جائزة حصلت عليها في الدورة الأولى لمهرجان يحمل اسم «الأمل»، أقيم، عبر منصة إليكترونية، في العاصمة السويدية «ستوكهولم»، في الفترة من 10 - 13 سبتمبر الماضي، برئاسة فنان لبناني مغمور يُدعى فادي اللوند، قال إنه أسسه من أجل تقديم الأفلام التي تدعم قضايا المرأة والطفل، وذوي الاحتياجات الخاصه، وقضايا اللاجئين والحرب والسلام، وتلك التي أنتجت خصيصاً عن «جائحة كورونا»، ونظراً لغياب حنان مطاوع عن حفل توزيع الجوائز، تسلمت إلهام شاهين، التي كرمها المهرجان الوليد، الجائزة بدلاً منها، وبينما كان من المتوقع أن تُرسلها إلى «حنان» في المكان الذي يروق لها، كما اعتدنا في مثل هذه المناسبات، طلبت، والمخرج العُماني د.خالد الزدجالي، مدير المهرجان السويدي، تسليمها الجائزة في حقل يُقام على هامش الدورة 37 لمهرجان الإسكندرية، وبدلاً من أن تعترض إدارة المهرجان على الفكرة، استجابت للطلب، ربما لأن أمير أباظة، رئيس مهرجان الإسكندرية، كان رئيساً للجنة تحكيم المهرجان السويدي، وميرفت عمر، نائب رئيس مهرجان الإسكندرية، هي المدير الفني للمهرجان السويدي، وهكذا جاءت «حنان» وتسلمت جائزة «ستوكهولم» في «الإسكندرية»، وكأن بين المهرجانين «اتفاقية أخاء» أو أن «مهرجان ستوكهولم» هو فرع آخر ل «مهرجان الإسكندرية» في السويد !

 

جريدة القاهرة في

05.10.2021

 
 
 
 
 

الظهر إلى الجدار.. لا أحد ينجو من الحرب

ناهد صلاح

لم تبتعد صناعة الفيلم السوري، في خلال الأعوام الأخيرة، عن واقع الحرب السورية، حاول مخرجون عديدون أن يقرأوا المحنة والموت والدمار، وأن يقدموا شهادة إنسانية من داخل اللهيب واللحظة المشتعلة، فكانت الكاميرا مرآة للمجتمع السوري وتحولاته، وللفرد وآلامه، أثناء الحرب وما بعدها، كما لو كانت السينما وصانعوها يتمرنون على مواجهة الخوف بعين ثاقبة، وهذا ما فعله واحد من الأفلام الأحدث وهو "الظهر إلى الجدار"، تأليف وإخراج أوس محمد، إنتاج المؤسسة العامة للسينما، بطولة أحمد الأحمد، عبد المنعم عمايري، لين غرة، علي صطوف، الفرزدق ديوب، حمادة سليم.

 الفيلم شارك في الدورة الـ 37 لمهرجان الإسكندرية لسينما دول البحر المتوسط، وفاز بطله أحمد الأحمد بجائزتي أفضل ممثل في مسابقتي المهرجان (الدولية والعربية)، وفيه يلتقط مؤلفه ومخرجه أوس محمد، الحالة السورية الخاصة من نقطة التماس بين الموت والحياة، حيث لا أحد تحرر من العلاقة الملتبسة والمتوترة بالحرب، مع الأخذ في الاعتبار أنه ليس فيلمًا مباشرًا عن الحرب، أو مسارها العسكري والاقتتالي، وإنما شهادة فنية حية للواقع السوري وأثر الحرب عليه، بنيّة محاولة فهم ما جرى.

 إن أوس محمد، مؤلفًا ومخرجًا لم يشأ بالتأكيد أن يكون من جيل الحرب، أن يستهل مشواره السينمائي بأول عمل روائي طويل من خضم هذه الحرب وكابوسيتها، بل إن أفلامه الروائية القصيرة السابقة، باستثناء "ألوان" (2010)، أُنتجت إثر الحرب التي أصبحت محورًا في الخيال الإبداعي، فمن "سراب" (2016)، "يوم من 365 يوم" (2017)، "88 خطوة" (2018)، والوثائقي " معلولا قصة الحجر الحي" (2012)، إلى "الظهر إلى الجدار" (2021)، جاءت أفلامه متعلقة بالحرب ومناخها الإنساني وتفاصيلها اليومية.

 ثمة أكثر من نقطة لافتة بالفيلم، بداية من الحكاية التي تتسلل إلى باطن المشهد السوري، وتتوغل في التحول العنيف لمسار المجتمع السوري وأحوال ناسه، في الحكاية الحرب حاضرة، لكن هناك قصص إنسانية خلف هذه الحرب، أو بالأحرى القصص هي الأبرز، بينما الحرب موجودة في الخلفية، يرافقها سؤال أساسي: هل يمكن تصوير فيلم تدور أحداثه عن ناس عاشوا الحرب والأزمة السورية، ولامسوا عنفها وفقدان أهلهم، من دون أن يسفر الأمر عن فيلم غارق في الأيديولوجيا، أو يزعق بها، يبدو هنا تأثر أوس محمد بالسينما السوفيتية، وهو الدارس في أوكرانيا قبل إحترافه في دمشق، إنه يبدو مستوعبًا المدرسة السينمائية السوفيتية بعمقها ولغتها، وكذلك انعكاس الأدب السوفييتي على أغلب إنتاجها، بما يحقق مزيجًا مدهشًا يجمع روح الأدب بالصورة السينمائية، ويتجاوز الشكل إلى القدرة على التوغل في الذات الإنسانية ومعرفة الدوافع التي تكوّن هذه الذات أو تُغيرّها.

 بهذه النقطة الفنية، يستفيد "الظهر إلى الجدار" من الأسلوب السوفييتي في الولوج إلى روح أبطاله، وأدق أحاسيسهم، فالحرب في حد ذاتها لا تعني صانع الفيلم، كما قال لي في حوار صحفي معه، إنما تعنيه النتيجة، والإجابة عن السؤال الواقعي: أين كان الفرد السوري ثم بأي مكان صار، ما الذي تغير؟ ما الذي تحطم؟...

 من هذا السؤال نصل إلى النقطة الثالثة وهي أن المخرج إتخذ منحى واقعيًا لفيلمه، ينطلق من أحداث وقعت بالفعل، وصارت هي جوهر حكايته وخطوته الأولى في رسم طريق الخروج إلى أفق جديد للخلاص، أكثر رحابة من هذه الصحراء التي يبدأ بها الفيلم، حيث يرى مجندين في الجيش السوري هذا المجهول، الجريح، القادم من بعيد، لا اسم له ولا عنوان، لكنه يأت كالعاصفة يتلقفه المجندون، ثم تختفي الصحراء والجنود والمجهول الذين امتزجوا بها كأنهم جزءً لا يتجزأ منها، لنتتبع رحلة الدكتور قصي.

 الدكتور قصي إذن هو النقطة الرابعة، كشخصية محورية يقدمها الفيلم، وكدور يؤديه أحمد الأحمد، نتعرف عليه كأستاذ يدرس الإعلام بإحدى الجامعات، مهتم بالاستقصاء للوصول إلى الحقيقة، يستعرض لطلابه حالة أحد المجرمين، وكيف إستطاع بأسلوبه الخاص أن يستجوبه ليعترف بجرائمه، لم يهتم بمشاعره عقب إرتكاب الجرائم والاعتراف بها، وهذا ما نفهمه من رده على سؤال أحد طلابه، حول ما إذا كان المجرم شعر بالندم، بأنه لا يهتم سوى بالنتيجة، يعني بالواقع، وهو كما أشرنا التوجه الأساسي في الفيلم، عبر رحلة بحث يباشرها قصي، لعله يجد إجابة شافية لما حدث مع صديق طفولته وصباه، بعد ما أخبره طبيب المستشفى النفسي، أنه نزيل لديهم ولا يعلمون عنه شيئًا.

  في هذه الرحلة حالة من الإثارة تجعل المتلقي يتطلع إلى سر غامض وكبير وراء الحكاية، هل هناك جريمة ما؟ ماهي؟ من المتسبب فيها؟ حتى نصل إلى قصة إنسانية، تتخللها هذه الإثارة والفضول، كما لو كانت عين المخرج على الجمهور، باعتبار أن السينما فن جماهيري، فأراد أن يجعل المتفرج شريكًا في الأسئلة من ناحية، ومن ناحية أخرى يخلع عن الفيلم إنطباع النخبوية، أو أنه موجه إلى فئة معينة، خصوصًا وأن بطله أستاذ جامعي جاد، ملتزم، كلاسيكي في مظهره وبذلته الرسمية وحتى في شكل بيته المرتب، وتواصله مع أهله الغائبين، وصديقته ريما (لين غرة) فنانة تشكيلية، عصرية، منطلقة، جريئة، مستقلة.

 هناك تصادم بينهما يظهر في حوارهما أمام تمثال المرأة المقيدة التي تقوم ريما بنحته، أو النقاش حول ملبسها أو أسلوبها العام في الحياة، لكن هذا الانطباع الأولي بنخبوية الفيلم يتلاشى مع تصاعد الأحداث ورسوخ حالة الحنين التي يحتويها الفيلم، وتبرز بظهور شخصيات مختلفة تعبر عن التنوع في المجتمع السوري، كما الصديق خفيف الظل للدكتور قصي ورفيقه على المقهى وفي رحلة البحث، أو هذه السيدة المسيحية الحنونة "أم جورج" (فيلدا سمور)، الجارة القديمة من حي التجارة، أو مختار القرية (فايز قزق) الذي صار بعين واحدة ومع ذلك يصر على لضم الإبرة بالخيط وبدون نظارة، أو الجار الفزِع (أكثم حمادة) بعد المجزرة التي إرتكبتها الجماعات الإرهابية في منطقته عدرا عام 2013، أو الصديق المكلوم (عبد المنعم عمايري) الذي يقتل الإرهابيون عائلته بأكملها أمام عينيه، ويحاولون قتله قبل أن يهرب إلى الصحراء، ويعثر عليه المجندين بالجيش السوري.

 من بداية الفيلم لنهايته، يتتبع أوس محمد من خلال الدكتور قصي مسار التحول في الشخصية السورية، بأداء حركي وتعبيري بالوجه والجسد دون تكلف، وحضور خاص لممثل يستطيع أن يخلق تواصلًا بينه وبين المتفرج، قادر على الإمساك بكل شيء، أداء متقن في تقديم الشخصية إلى أقصى حضورها، وفي طياتها الشفافية والإحساس ممزوجًا بقسوة المجتمع المحيط، لذا يصعب النظر إلى فوز أحمد الأحمد بجائزتي أفضل ممثل في مسابقتي مهرجان الإسكندرية، بمعزل عن موضوع الفيلم الذي يستحق النقاش، لما يحتويه من جدية في المعالجة الدرامية، ومن جمالية في صوغ المشاهد والعلاقات النفسية الناجمة عن الحرب، قصي صاحب مباديء، أستاذ جامعي، وأحمد الأحمد يدرك طبيعة العمل جيدًا، كمحترف لديه نحو 77 عملًا، أغلبها مسلسلات تليفزيونية، بينما هو هنا يحصل على أول بطولة سينمائية، تضاهي حضوره التليفزيوني القوي، وتؤكد وعيه بالتمثيل كلعبة وحيلة إبداعية تقتنص من الحياة لحظة تصنع الحكاية.

  الفيلم هو هذه اللحظة المفتوحة على الضياع الذي عاشه السوريين في سنوات الأزمة، حتى صار ظهرهم إلى الجدار، كما عنوان الفيلم، وكما الجملة المقتبسة من كتابات محمد الماغوط، حيث لا سند لهم غيره، سواء كان الجدار أو كلمات الشاعر الشهير، التي تشكل النقطة الخامسة البارزة في الفيلم، ليس بوصفها لأحد الرموز الثقافية السورية، وإنما لأنها أشبه بتراتيل الوجع التي يتلوها (عبد المنعم عمايري) متقمصًا شخصية الماغوط، في حالة تجمع بين الحزن والسخرية لرجل لم يستطع أن يتحمل ما حدث في عدرا، وصار مجرد جسد بلا عقل أو وعي، خسر عائلته بالموت، لكن الموت في حالته كما قال الماغوط:" إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى .. الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء ..".

  أما النقطة السادسة الأخاذة، فهي التصوير والموسيقى، ثمة حضور بصري مثير رغم الوجع، الصورة تحاذي الحكاية وتحمل دلالات عدة، بما يكشف عن جهد واضح وتعاون بين المخرج ومدير التصوير ناصر ركا في رسم المشاهد قبل تصويرها، مثل هذه النبتة التي تظهر على يسار الكادر في الصحراء الموحشة، كأنها تتحدى الموت على خط تماس، كذلك تتجول موسيقى إياد حنا بين تفاصيل الفيلم، سواء مقطوعته الخاصة، أو عبر سيمفونية صلب المسيح التي أعيد توزيعها، في الحالتين توجد بها شحنة من الشجن ممزوجة بالإثارة والفضول، موسيقى متقنة ومنسجمة، تشحذ الصورة بتلون الإيقاعات المقترحة من قبل المؤلف الموسيقي.

وفي النهاية نحن أمام فيلم يتمتع بميزات عدة، فنيًا وجماليًا وتقنيًا. إختار مخرجه الأسلوب الأصعب في إنجاز عمل متمهل، يفسر حالة الفرد السوري، في لحظة مواجهته واقعه الجديد، وثقافته الجديدة الناجمة عن الحرب، هذا غير العلاقة بالموت والذاكرة.

 يُمكن القول إن "الظهر إلى الجدار" يشكل علامة إضافية في سينما سورية تنغمس أكثر في عالم إنساني بتفاصيله وهواجسه المتأثرة بالحاضر، سينما تصبو إلى تقديم الجديد بما يحقق فعالية وحضور في الصنيع الثقافي العربي، لا يعني هذا أنه فيلم لا مثيل له في السينما السورية والعربية، إنما تكمن أهميته كواحد من أفلام جديدة تخاطب الحساسية الإنسانية للفرد، بلغة درامية وفنية بديعة وأخاذة.

 

اليوم السابع المصرية في

05.10.2021

 
 
 
 
 

الأفلام المغربية فى الإسكندرية.. المرأة تنهض فى السينما

ناهد صلاح

عرفت السينما المغربية، فى خلال الأعوام الأخيرة، قفزة نوعية، خاصة على مستوى الإنتاج، إذ زاد عدد ما ينتج من الأفلام بشكل ملحوظ، وذلك فى ظل وضع سينمائى عام هو صعب، يحكمه تراجع الإنتاج بسبب كورونا وحتى قبل الوباء الكونى، كان التراجع لأسباب أخرى متعددة منها إهتمام الجمهور، فيما يخص الصورة بمجالات أخرى كالتليفزيون الذى أصبح فى حد ذاته هو الرسالة التى يستقبلها الجمهور ويتعود عليها ويخضع لها، وليس المضمون الذى يقدمه، أو الكمبيوتر والإنترنت فى ظل إزدهار الثورة التكنولوجية والقصف الإعلامى المكثف الذى استهدف تطبيع العقول لتقبل مفاهيم الكونية والعولمة، حتى أصبح الكمبيوتر ركنًا مهمُا فى الحياة والبرنامج اليومي.

 يعود تزايد الإنتاج السينمائى المغربى إلى أسباب عدة، أبرزها الدعم الذى تقدمه الدولة لإنتاج الأفلام السينمائية الطويلة والقصيرة، عن طريق المركز السينمائى المغربى، هذا الدعم رافقه اهتمام حقيقى بتدريس فن السينما وصناعتها، وظهور مخرجين مغاربة جدد، يضيفون لأجيال سابقة مثابرة كرست صورة بارزة للسينما المغربية، بما لديهم من طموح فى صناعة السينما، ونظرة متباينة لدور السينما فى المجتمع، لكنها متفقة على ضرورة تطوير السينما شكلًا ومضمونًا وانفتاحها على العالم الخارجى، وتفاعلها مع صناعة السينما فى العالم، وكذلك على أهمية الحضور السينمائى المغربى وتمثيله فى المهرجانات والمحافل الدولية.

مثالًا على ذلك، الأفلام الثلاث التى شاركت فى الدورة 37 من مهرجان الإسكندرية لسينما دول البحر المتوسط وحصلت على نصيب مهم من جوائزه، وهى "مرجانة" إخراج جمال السويسى، "جرادة" إخراج إدريس الروخ، "أناطو" إخراج فاطمة بو بكدى، وللمرأة فى ثلاثتهم صور مختلفة، وإن تعلقت جميعها بالوضع الاجتماعى وتأثيراته المتفاوتة، وهذا أمر طبيعى فى السينما المغربية التى كثيرًا ما عبرت عن المرأة وحكت عنها، بمساحة كبيرة من الحرية.

ربح "مرجانة" جائزة أفضل فيلم عربى فى مسابقة نور الشريف للفيلم العربى، يغوص الفيلم، وهو العمل الروائى الطويل الأول لمخرجه، فى مساحات مفرطة الحساسية بين الفن والواقع الاجتماعى، الذاتى والعام، الحاضر والماضى، باريس وطنجة، كلها مساحات متباينة فى التأثير، لكنها فعالة فى بنية الفيلم وطريقة اشتغاله السينمائى، تصويرًا وتوليفًا وسردًا حكائيًا، بحيث يصنع المخرج وهو كاتب السيناريو أيضًا من جوهر الحكاية صورة سينمائية سوية، تجعل من الفيلم شهادة عن حرفية مخرج مهنى منفتح على آفاق من الابتكار البصري.

بالإضافة إلى هذا، فإن الفيلم الذى شارك فى بطولته هناء بواب، عبدالله بن سعيد، سيد أحمد عجومى، نادية نيازى، فريدة عوشانى، حمزة اليملاحى، يعاين بمواكبته "مرجانة" ويومياتها وانشغالاتها وهواجسها ، مغنية الأوبرا المغربية، حيث قررت العودة من باريس إلى وطنها المغرب، لتواجه كل شيء بداية من حلمها لتقديم أوبرا فى بلدها، وفقدانها حبيبها فى حريق بالمسرح، ثم اكتشافها بأنها حاملًا بطفلهما، هذا غير تصديها لغلظة وجهامة المجتمع، لتصبح المغنية التى تؤدى كارمن فى الرواية الشهيرة، هى بطلة رواية واقعية، عليها فيها أن تثبت قوتها وصلابتها، والأهم أن تدعم ذاتها بنوع ما من التسامح.

على هذا النحو من التوزع بين الفن والواقع المجتمعى، يطرح الفيلم أمور عدة متعلقة بالفن والهوية والانتماء والصداقة، وعن حضور الموسيقى وخصوصًا موسيقى نوعية مثل الأوبرالية فى بلد لا يبالى بها، من دون الانزلاق إلى فخ المباشرة، إنما بأسلوب يتسم بكثير من الحساسية الإنسانية المرافقة للسياق السردى والمناخ الدرامى والمسار الحكائي.

أما فيلم "جرادة مالحة" للمخرج إدريس الروخ، الحاصل على جائزة أفضل إخراج فى مسابقة نور الشريف للفيلم العربى، فيخوض فى مساحة أخرى، بحيث يحقق نقلة نوعية ليس فى الموضوع السينمائى فقط، وإنما المجتمعى أيضًا، بدءًا من عنوانه المستوحى من التراث الشعبى، ومن ألعاب الطفولة، إلى حكايته التى تتسم بـ"العصرنة"، إن جاز التعبير، سواء من ناحية الموضوع المطروح أو طريقة تناوله، فالمادة الدرامية لـ"جرادة مالحة" تتمتع بتفاصيل متنوعة مكتوبة بلغة بصرية متماسكة فى ترجمتها السينمائية، ويحمل الشكل الفنى لهذه المادة لحظات جميلة فى سردها حكاية الصراع العنيف بين ما هو اجتماعى خاص، وبين ما هو أشمل وأعم.

إدريس الروخ عبر فيلمه الذى شارك فى كتابته مع عدنان موحاجة، والاثنان شاركا أيضًا فى التمثيل مع كل من: منى الرميقى، عبدالرحيم المنيارى، فاطمة الزهراء بناصر، خنساء بطمة وأخرون، يتوغل فى النفسية البشرية بمنحى فلسفى ليصل إلى إجابة عن السؤال الوجودي: من نحن؟ وما هو دورنا بالحياة؟.. إنه سؤال عام وحقيقى، لكنه هنا يقودنا إلى الإجابة عبر امرأة شابة قررت الانطلاق والبحث عن حياتها الضائعة، بعد أن وقعت ضحية مؤامرة تهدف إلى التحكم والسيطرة، حيث وجدت نفسها فى قلب تجربة يقودها أشخاص لأغراض خاصة سعوا من خلال بروتوكول كامل لتشكيل وخلق شخصية مطلوبة، فحرمت بسبب ذلك من حياتها وذكرياتها، وصارت بذاكرة مشوشة وحياة خانقة.

إن البطلة هنا هى نموذج للضياع الإنسانى، وهذا ما يفسره الترجمة الانجليزية للفيلم وهى "`The Lost"، نموذج له عمقه ودلالته فى عمل منسوج بمخيلة لم تلتقط معالم الواقع المغربى فقط، وإنما الواقع البشرى عمومًا، ونقله إلى المتفرج فى إطار توليفى، تمت صياغة لغته بجمالية التنقيب عن مفردات داخلية سواء غريبة أو مألوفة، المهم أنها مستلة من بشريتنا، الدقة فى اختيار تفاصيل صغيرة، والوضوح فى سبر أغوار الذات الإنسانية من خلال هذه التفاصيل الصغيرة، منحا الفيلم بعدًا إنسانيًا وجماليًا، بلغة روائية منفتحة على الأسئلة الإنسانية والاجتماعية والفنية المتنوعة، جعله مرآة للذات الفردية وللعالم التائه، من خلال امرأة أرادوا أن يخربوا عقلها وحياتها، لكن لم يكن يسيرًا، لأنها امرأة مثل الجرادة المالحة بما تحمله الكلمة من معنى، ليبقى فيلمًا مشغول بحرفية عن المرأة وعن المقاومة وعن التغير الكونى العاصف فى الذات الإنسانية، وأيضًا ينتمى إلى مشروع إدريس الروخ كمخرج وكممثل يطمح فى التنوع والانفتاح على الأخر.

بينما المخرجة فاطمة بوبكدى فى فيلمها "أناطو" الفائز بجائزتين فى مسابقتى المهرجان، أفضل تصميم للأزياء فى مسابقة الطويلة لدول البحر المتوسط، أفضل تصوير فى مسابقة نور الشريف للفيلم العربى، تمكنت من تحديد التأثير الكامن للبيئة التى تنتمى إليها المرأة، إذ أوضحت فى حكايتها كيف تعانى المرأة بمستويات مختلفة من ثقل حياة غير قابلة بها، وغير راضية عنها، ثقل يتمثل فى فقدان راحة وسعادة وسكينة، وكذلك بوفرة خلل وانهيار وضغوط لا تنتهي.

" أناطو" إذن هو فيلم صريح عن المرأة بشكل عام، وإن كان إختار أن يحكى عن الفتاة السنغالية أناطو، فى زمن قديم، حيث المغرب فى نحو أربعينيات القرن الماضى، إن فاطمة بوبكدى فى فيلمها الروائى الطويل الأول، وهى المعروفة بشغفها فى التغلغل داخل التاريخ والتراث المغربى، لم تكترث بمعاناة هذه الفتاة فقط وإنما بوضع المرأة المغربية بشكل عام، إنها هنا فى هذا الفيلم تستخدم التاريخ خلفية أو وسيلة لتوصيل رسالتها عن ضرورة التخلى عن تقاليد وموروثات اجتماعية، تعرقل المرأة وتخلع عنها إنسانيتها، ما يعنى أن فيلمها دعوة للتحرر من هذه الموروثات القاسية، وأيضًا دعوة لقبول الأخر أيًا كان لون بشرته، أو الجغرافيا التى ينتمى إليها.

ما يعنى أيضًا أن الفيلم الذى شارك فى تمثيله: مونا نداى، ليسيا بنغازى، شاميما بيلاساريا، أبيلا بن سعيد، سعاد خويى، صلاح الدين بن نوسة، ويطرح قضية زواج المتعة، فالفتاة أناطو شديدة الجمال والذكاء والموهبة، أحبها أحد التجار المغاربة وجلبها إلى بيته فى المغرب من السنغال، حيث عاشت حياة تتسم بتعدد الهوية، لكنها فى المجتمع الجديد تجد كراهية لها وقسوة لم تكن تتوقعها.

القسوة من زوجة الرجل وحماته، والاثنتان بالرغم من قوتهما وفعالياتهما فى محيطهما، هما فى الأصل ضحية موروثات اجتماعية، تقبل بزواج المتعة، وقبله تقبل فكرة الزواج بدون حب، لمجرد الزواج والإنجاب والحفاظ على الشكل العائلى، فحتى الحماة التى أدتها "سعاد خيوي" كان زوجها فى شبابه يمارس زواج المتعة وغيره من علاقات خارج العلاقة الرسمية، وهى مثل كل امرأة تتمرس أكثر فى وضعها العائلى، وتصبح قاسية دون أن تأخذ موقفًا أخر يقدر إنسانيتها.

الموضوع فى هذا الفيلم ليس معركة بين المرأة والرجل، إنما هو طرح للقضية ومحاولة للتصالح الإنسانى، وبدا ذلك من البداية بحضور الطفلة ابنة التاجر المغربى التى تعاطفت مع أناطو، وكانت من أسباب تحول مشاعر أمها السلبية تجاه أناطو، فهذه الطفلة نشأت على مأساة أناطو، ما جعلها تتمرد على الموروث الخاطيء بحق المرأة، إنها مثال لجيل جديد لا يسمح بأن ينتقص منه أحدًا، وفى ذات الوقت يقبل مشاركة الآخر الحياة بشكل متساوِ.

 

اليوم السابع المصرية في

07.10.2021

 
 
 
 
 

دريد لحام: ليس لي خليفة في الكوميديا

مشروعي مع عادل إمام لا يزال مطروحا وأرفض الحديث باللهجة المصرية

نجلاء أبو النجا صحافية

احتفاء واسع قوبل به النجم السوري دريد لحام في زيارته الأخيرة لمصر لتسلم درع تكريمه في مهرجان الإسكندرية السينمائي الأخير، الذي احتفى به وبالسينما السورية بوجه خاص، والتي كانت ضيف شرف المهرجان، وفي تصريحات دريد لحام لـ"اندبندنت عربية" تحدث عن تكريمه في مصر وحلمه بالمشاركة في مشروع فني يجمعه بعادل إمام وسبب رفضه التحدث باللهجة المصرية، ووجهة نظره في الكوميديا الحديثة، ومن يراه خليفته في الفن.

حب وأخوة

بدأ دريد لحام حديثه بالتعبير عن مدى سعادته بالوجود في مصر ولو على فترات متباعدة وقال "إنها كانت وما زالت حلم وحضن الفن العربي، وشرف لي أن أُكرّم في مهرجان سينمائي يمثل لي الحب والتآخي مثل مهرجان الإسكندرية السينمائي الذي يجمع كبار نجوم الفن والسينما في مصر والوطن العربي والعالم أجمع".

وعن أحدث أعماله قال، "إنه انتهى من تصوير الفيلم السوري الجديد (الحكيم) من إخراج باسل الخطيب"، وأشار إلى "أنه في سوريا يتم تسمية الطبيب بالحكيم لما يتمتع به من علم، والفيلم يدور حول يوميات طبيب في بلدة ريفية، ويكرس لفكرة أن ما يزرعه الإنسان يجنيه، ويرصد فكرة هو ألا تتوقع أن تحصد الخير إذا زرعت الشر".

ويرى دريد لحام، "أن هناك كثيراً من الاختلاف بين السينما في الماضي والحاضر حدثت نتيجة اختلاف تقنيات السينما، فقد أصبحت الأمور أكثر سهولة، والموضوعات أصبحت تلامس وجدان الناس وأكثر حلماً وأملاً، وعموماً لولا سينما زمان ما كانت سينما اليوم، وبوجه عام فإن الفن للمتعة وإذا حدث هذا، فهو راقٍ وعظيم، ولكن إلى جانب المتعة إذا كان هناك فكرة ما تزرع يصير متعة سامية أكثر". وأشار إلى "أن الكوميديا أيضاً حالياً تغيرت عن السابق، فمن قبل كانت تعتمد على النص، أما الآن للأسف الشديد فمعظم الكوميديا تعتمد على السخرية من عاهة أو حركات من دون وجود نص محكم نستطيع من خلاله طرح فكرة مهمة، مع احترامي لكل النجوم الذين استطاعوا الإضحاك بهذه الطريقة".

خليفة الكوميديا

ونفى لحام وجود خليفة له في الكوميديا هو أو عادل إمام وقال، "الكوميديا لا تورث والفن ليس به خليفة يجوز رئيس أو ملك يورث عرشه، لكن الموهبة ليست كذلك. يجوز يوجد شخص أهم بكثير مني ولكن ليس مطابقاً لي؛ لذلك ليس لي أو لغيري خليفة، قديماً مثلاً كانوا يقولون إن عبد الحليم حافظ يهز بعض الأصوات وعندما مات لم نجد له خليفة، ويجوز هناك أصوات أجمل منه لكن لا أحد مثله أو ورث موهبته، هناك العديد من المواهب الذاتية هي التي من خلالها يستطيع الفنان الوصول إلى قلوب الناس متفرداً، وأرفض تشبيه أحد بآخر لأنه لا يوجد لأي شخص مثيل".

الزعيم واللهجة

وأكد دريد لحام، "أن هناك مشروعاً قديماً كان يفترض أن يجمعه بالفنان عادل إمام، ولعل الظروف تسمح بأن نقدم عملاً جيداً في القريب، فالحلم لا يزال مستمراً". وعن سبب عدم مشاركته في عمل مصري، وما يقال عن رفضه التحدث باللهجة المصرية قال، "اللهجة المصرية هوية وليست لهجة؛ أي فنان تنبع من هويته، ولم أقدم شيئاً بها، لأني متمسك بهويتي السورية"، وتابع، "لي سؤال بسيط هل يتقبل أحد الزعيم عادل إمام بلهجة أخرى؟ والإجابة هي بشكل كبير لا، ولكنني في الوقت نفسه حريص على استخدام المصطلحات الدارجة في الدول التي أعرض فيها مسرحياتي كي يفهمنا الجمهور ونضحكهم".

حلم لم يتحقق

وعما الذي ينقص دريد لحام والحلم الذي لم يتحقق بعد، أجاب، "عملت كل شيء أحلم به، ومع ذلك أرى أن الأحلام لا تنتهي ويجب أن يضع كل إنسان حلمه ويكون شرساً من أجل تحقيقه والدفاع عنه مهما كانت الصعاب، وهناك مقولة شهيرة لرئيس وزراء بريطانيا تشرشل، وهو من  قادها للتغلب على النازية؛ (النجاح هو الانتقال من فشل لفشل دون أن نفقد الحماس) وهذا هو شعاري طوال رحلتي في الحياة والفن".

"المطران"

أثار الفيلم السوري "المطران" للفنان رشيد عساف، ومن إخراج باسل الخطيب كثيراً من ردود الفعل والإعجاب عند عرضه بمهرجان الإسكندرية وعلق عليه دريد لحام قائلاً "فيلم المطران وصل لعمق الشخصية، وكان في الأصل مسلسلاً واختصروه لفيلم، وهو رائع حقاً، ونحن بحاجة لهذه النوعية من الأفلام ليعرف الأجيال القادمة كفاح كثير من الرموز والمهمين مثل المطران".

العمل مع الأطفال

لدريد لحام أعمال كثيرة عن الأطفال وحول هذه النقطة قال، "أنا أحب العمل معهم فهم مستقبلنا، وأهتم بهم، وأعاملهم كإنسان صغير قادر على الاستيعاب، فهم أكثر حكمة من الكبار في بعض الأحيان، ونتعلم منهم الفلسفات العفوية، وسأروي نقطة مهمة فارقة في علاقتي بهم، وما تعلمته منهم فقد تعلمت الإيمان من حفيدي، وحبه للخالق، حيث سمع صوت الرعد ذات مرة فخاطب الله قائلاً (إني أحبك فلماذا تخيفني)، وهذه الجملة أثرت فيّ كثيراً، وجعلتني حينما أرى جملة مكتوبة على الجدران تقول (رأس الحكمة مخافة الله)، اذهب لأصلحها إلى (رأس الحكمة حب الله). بعدها رآني شيخ بأحد الشوارع وقال لي هل أنت متدين؟ قلت له: لا، أنا مؤمن. فقال لي ما الفرق؟ أوضحت له أن المسألة دائماً في الفهم العميق بين التدين والإيمان وأقتنع، وأتمنى أن تحكم الناس عقلها، ويهمني جداً أن ينمي الأهل حب الله في قلوب الأطفال وليس الخوف فقط والترهيب" .

 

الـ The Independent  في

09.10.2021

 
 
 
 
 

خمسة أبواب للدخول إلى فيلم وش القفص

ناهد صلاح

إنه من الصعب حقًا النظر إلى عمل ما من زاوية واحدة، لأنه غير أن هذه النظرة ستكون ضيقة وغير شاملة، فإنها أيضًا ستبدو غير مجدية بمفردها في تقييم أو تفسير العمل، كلامي هذا ينطبق إلى حد كبير على فيلم "وش القفص" قصة وإخراج دينا عبد السلام، الروائي الطويل الذي مثّل مصر مؤخرًا في مهرجان الإسكندرية لسينما دول البحر المتوسط، فرؤيته فيلمًا بميزانية منخفضة كمدخل وحيد للتعرف عليه، غير كافِ، وربما يتسبب في بعض العتمة أكثر من التنوير صوب تجربة لها أكثر من باب للدخول.

 أول هذه الأبواب أنه فيلم سكندري بامتياز،  فأغلب طاقم العمل فيه من "الاسكندرانية"، ومكان الأحداث هي مدينة الإسكندرية، وإن كان الموضوع ليس محليًا يخص المجتمع السكندري وحده، لكنه خرج من خصوصية هذا المجتمع ليطرح قضية إنسانية عامة بتشعباتها المختلفة، ومن هذه الزاوية يعد أحد أفلام الإنتاج السكندري القليلة، في مقابل الإنتاج القاهري الوافر والذي قدّم الإسكندرية كموضوع أو كموقع تصوير، والمسألة هنا ليست "خناقة" بين القاهرة والإسكندرية كما يبدو للبعض، بدليل أن دينا عبد السلام في فيلمها هذا اعتمدت أيضًا على بعض الأسماء القاهرية، لكنه نوع من الاحتفاء بمدينة لها تفردها التاريخي والجغرافي وحتى السينمائي، فلا أحد ينكر أن أول عرض سينمائي في تاريخ مصر، كان في بورصة طوسون بشارع فؤاد - مركز الإسكندرية للإبداع حاليًا-، وكذلك هو نوع من التوثيق للإنتاج السكندري الذي يتطلع إلى أفق أرحب وفرصة لحركة سينمائية نشطة في المدينة، تتواصل مع القاهرة ومع فضاءات السينما عمومًا.

  الباب الثاني منه ندلف إلى دينا عبد السلام كامرأة مثابرة، دؤوبة، تسعى كي تنضم إلى أسماء نسائية تزخر بها السينما المصرية حاليًا، ما يعيدنا إلى أن السينما المصرية في الأصل امرأة، وإن رآها البعض تجاوزًا لغويًا، فلابد من العودة إلى نقطة البداية، حيث قامت هذه السينما على أكتاف نساء، استطعن إقتناص مساحة شديدة الخصوصية تحركن فيها بجرأة: بهيجة حافظ، عزيزة أمير، فاطمة رشدي، آسيا، كُن في طليعة سينمائيين، نساء ورجال، هيأوا حياتهم وأحلامهم كلها للسينما.

 هنا تظهر دينا كصانعة أفلام طموحة، لا تتعثر في فخ الإنتاج القاسي، بل تجتهد في تقديم أعمالها، لا يعيبها قلة الإمكانيات المادية أو الميزانية المحدودة، وإنما تحاول في حدود المتاح أن تشبع إلى حد كبير شغفها بالسينما، وأهم ما يميزها هو هذا المنحى الإنساني الحاضر في أفلامها بأشكال متفاوتة، لكن الأسلوب واحد يؤسس لمشروع ينحاز إلى البشر العاديين، البسطاء: أحاسيسهم، أحلامهم، سلوكياتهم اليومية.. مشروع يبدو كاشتغال سينمائي استعارة من عالم الحواديت الكلاسيكية، بكل ما تحتويه من بساطة وتوق لمعرفة التفاصيل والأحداث، إضافة إلى نهج درامي يمتزج فيه الواقعي بالكوميدي، وهذا ما نلحظه في أفلامها السابقة، سواء روائية قصيرة أو تسجيلية مثل "ألف رحمة ونور"  (2014)،  كان وأخواتها  (2016)، أو فيلمها الروائي الطويل الأول "مستكة وريحان" (2017).

 المنحى الإنساني إذن هو الباب الثالث الذي يُفضي إلى فيلم "وش القفص"، والدخول إلى عالمه الذي لا يتسم بصرامة سردية، وإنما يسير وفق هذه الغلالة الفاصلة بين الحلم والواقع، وبناءً على ذلك ربما يصير ممكنًا فهم رغبة المخرجة وهي المؤلفة أيضًا في الحكاية السهلة، التي تعتمد تسلسل الأحداث، إنطلاقًا من رؤية حميمة، ألزمتها بدورها أن تتبع أنواع القص البصري المألوف، لتحقق مرادها في جعل التعبيرات تأخذ بعدًا متصاعدًا، وصولاً إلى الذروة، هذا الوصول  هو في الحقيقة تأكيد على حقيقة لم تفارق الفيلم، وهي حقيقة صادمة ومؤلمة في آن واحد، مردها قسوة الواقع التي تجعل الناس يتخلون عن صورتهم الإنسانية.

 هذه الصورة التي قدمها الفيلم على مقربة جغرافية ونفسية من بشر يتداولون أيامهم بثقل، يحاولون أن يتحايلوا عليه، بينما يصبح الفيلم في حد ذاته  مساحة لطرح الأسئلة الإنسانية، تتسلل من الوجوه وأركان البيوت الصغيرة والشوارع والكيانات الصغيرة التي تتوارى في ظل كيانات أكبر، إضافة إلى ثباتها عند نقطة معينة لا تسعى إلى مغادرتها وتطوير أحوالها، كما "شركة الإحسان للمربى" التي تنطلق منها حكاية الفيلم ويخرج من أركانها أشخاصه، تلك الشركة التي نشأت مبشرة بعالم جديد مبهج، ثم تحولت بمرور السنوات وتحولاتها إلى أطلال تحوي مجموعة من الموظفين، يعانون شظف العيش، يلتزمون بالطريقة القديمة في الإنتاج، حتى أنهم لا يتناولون ما ينتجونه من مربى، مثلما يفعل مدير المصنع الذي يُفضل تناول العسل الأسود.

  يستهل الفيلم حكايته بتقديم شخصياته واحدة تلو الأخرى، يقدمها الراوي بما يصنع من أجواء حميمية كما في عالم الحواديت، ذلك العالم الذي يباشره الفيلم بأجواء الأبيض والأسود، ثم يتغير تدريجيًا إلى عالم جديد بألوان أخرى تناسبه، وتناسب إيقاعه الأسرع في التغيير الذي نلمسه من اسم المصنع "نسائم البستان" إلى جديده "مربى الإحسان"، ومن مالك المصنع المنشرح، المتفائل بالقادم، إلى عائلته التي لم يتبق منها غير ابنته التي تعافر مع حفيدتها المتغطرسة، المشغولة بالمظاهر، ومن هنا يقودنا الفيلم في رحلة تثبت لنا أن الألوان ليست دليلًا كافيًا على الجمال، فثمة تحول حدث وشوه الحياة، نلمسه في مباشرة الفيلم بتقديم ناسه كيف كانوا وكيف أصبحوا، من الوحدة إلى عقوق الأبناء، العنوسة إلى البخل إلى الظلم، إلى السرقة إلى الغرور وخلف كل ذلك الحاجة إلى المال: سيدة عجوز تحلم بأداء الحج، سباك مطرود من عمله بتهمة سرقة حنفية، عانس نظرها ضعيف ترغب في الزواج وفي إجراء جراحة لتحسين نظرها، عجوز يريد أن يسافر لابنه في أمريكا، وأخر يحتاج تصليح سيارته القديمة، شاعر يحلم بإصدار ديون شعر، أرمل يجدد شقته ويبحث عن عروس تكون ونيسه، وشبلول أو موظف يبتكر أنواعًا من المربى؛ محاولًا أن يطور الأداء في مصنعه، وزوجته التي تعمل في الخياطة والأزياء وتستأجر جزءً من شقة الزوجية كمقر لعملها الخاص، لذا يسعى الجميع إلى تكوين جمعية، علها تساعدهم على قضاء حوائجهم، وتعمل على تكوين هذه الجمعية "بطة"، عاملة البوفيه في مصنع مربى الإحسان.

 مع بطة نصل إلى الباب االرابع وهو باب الممثلين، فالمخرجة اعتادت في أفلامها السابقة الاعتماد على ممثلي المسرح السكندري، ومنهم في فيلمنا هذا نجد مثلًا: أمين حجازي، ماجد عبد الرازق، أنسي الجندي، سمير قنديل، مدحت العتال.. أو تقديم وجوه جديدة مثل دعاء الزيني التي قامت بدور بطة، وهي ليست ممثلة بالأساس، هذا غير شخصيات أخرى في الفيلم المليء بأسماء عدة مثل أشرف مهدي، شريف أبو هميلة، سيد عبد الخالق، وغيرهم شاركوا كجزء محوري أو ثانوي، تكتمل به لوحة الفيلم كما خططت له دينا عبد السلام، حسب مفهومها في تقديم سينما لا تخضع لمقاييس السوق التقليدية ولا لسطوة النجوم.

 قد يكون هذا المفهوم هو بوصلة الباب الخامس الذي باشرت به كلامي، والمتعلق بالسينما منخفضة التكاليف أو الميزانية، حيث يعاني صانعو الأفلام كثيرًا، في ظل صعوبة التمويل والإنتاج، ثم نوافذ العرض فيما بعد، وعلى الرغم من ذلك يناضلون لاستكمال أعمالهم، في اختبار سينمائي يخوضونه كل مرة للتحرر من ثقل الإنتاج، كما حدث في "وش القفص"؛ الفيلم الذي وقف عند الحد الفاصل بين الذاكرة والحاضر، وروى فصولًا من المتاهة الإنسانية في عمل بصري سلس، في إيقاع هاديء حاول أن يحافظ على حيويته الدرامية في إعادة رسم الملامح المختلفة للبشر وأدوارهم الاجتماعية وحالاتهم النفسية ومدينتهم ومناخاتها الإنسانية، ويقدم سينما بسيطة وعميقة في آن واحد، سينما تنفتح على الواقع الصعب.

 

اليوم السابع المصرية في

11.10.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004