**
ظلمته إدارة مهرجان الإسكندرية بإشراكه في المسابقة
الدولية.. وأدعو القنوات التليفزيونية المملوكة للدولة لدعمه بشراء حق عرضه
هناك طريقتان للتعامل مع الأفلام ذات الميزانيات الصغيرة
والإمكانيات المحدودة، ومع التجارب المختلفة أو "البديلة" (لا أحب تعبير
"السينما المستقلة" لأنه ببساطة لا ينطبق على وضعنا وسوقنا في مصر، ولأنه
يعطي المتلقي صورة ذهنية عن الفيلم قد لا تكون صحيحة، ويكفي أن تعرف أن
شركات السبكي – على سبيل المثال – مستقلة، وقد أسلت أنهارا من الحبر في
مناقشة تلك الأفكار، ولست على استعداد لإسالة المزيد منها).
الطريقة الأولى أن تتعالى على الفيلم، وتردد أن المتلقي
يتعامل مع ما يشاهده على الشاشة، ويقيّم السلعة المقدمة إليه بغض النظر عن
ظروف صنعها، وليس ذنبه أن صانعيها لم يجدوا التمويل الكافي لها، أو لم
يوفروا لها مقومات التنافس مع مثيلاتها في السوق من إمكانيات وعناصر
جماهيرية.
أما الطريقة الثانية، فهي أن تتفهم موقف ومشاعر صناع
الفيلم، وأن تقدر حرصهم على الاستمرار والعمل والإنتاج رغم كل الظروف
الصعبة، وسعيهم لتحقيق حلمهم بأي ميزانية وبأي طريقة، حتى لو كانت تتضمن
التنازل عن بعض الشروط والمواصفات المتعارف عليها.
شخصيا، أميل للطريقة الثانية، بشرط أن يحقق العمل الحد
الأدنى من الجودة الفنية، وهو ما توفر لفيلم "وش القفص" الذي شارك في
المسابقة الدولية للدورة 37 من مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر
المتوسط، وكذلك في المسابقة العربية لنفس الدورة التي اُختتمت الخميس
الماضي ولم يكن للفيلم نصيب من جوائزها.
الفيلم هو العمل الروائي الطويل الأول للمخرجة السكندرية
دينا عبد السلام، بعد أفلامها القصيرة: "ألف رحمة ونور" (2014)، "كان
وأخواتها" (2016)، و"مستكة وريحان" (2017)، والتي حصلت على العديد من
الجوائز المحلية والدولية، ويدور حول مجموعة من الأشخاص يعملون –
وبعضهم"كان" يعمل – بشركة لتصنيع المربى بالإسكندرية، ويمرون بأزمات مالية،
وخلال سعيهم لإيجاد حل لتلك الأزمات تتشابك مصائرهم ولاتسير الأمور كما
خططوا لها.
كما ذكرت، يتمتع الفيلم بالحد الأدنى من الجودة الفنية، لكن
هذا لا يمنع أن إدارة مهرجان الإسكندرية ظلمته بدفعه إلى منافسة أفلام أكثر
احترافية وذات ميزانيات وإمكانيات أكبر في المسابقة الدولية، وكان يمكن
الاكتفاء بالمسابقة العربية أو حتى عرضه خارج أي مسابقة في احتفالية خاصة
بفيلم يعبر بصدق عن المدينة التي تستضيف المهرجان وعن هموم وأحلام قاطنيها.
ولابد هنا من توضيح أن عدم استعداد الفيلم لمنافسة أعمال
المسابقة الدولية لا يتعلق بالموضوع أو المستوى الدرامي أو حتى غياب
الممثلين المحترفين، بل بالمتطلبات التقنية مثل التصوير بكاميرا ومعدات
حديثة وإجراء أعمال المونتاج والمكساج والتلوين وغيرها في شركات محترفة
متخصصة، وكلها أمور تؤثر على جودة الصورة والصوت وبالتالي التلقي، وكلها
أيضا تتطلب أموالا كثيرة لم تتوفر لصانعي الفيلم، حيث قالت دينا – في
الندوة التي أعقبت عرضه في إطار مسابقة "الإسكندرية" – إن ميزانية العمل
أقل كثيرا من نصف مليون جنيه رغم دخول شريك ثالث معها ومع شريكها في
الكتابة والإنتاج والمونتاج، والحياة أيضا، أشرف مهدي، الذي تولى كذلك
إدارة التصوير وتجسيد شخصية رئيسية.
ينتمي "وش القفص" لعالم دينا "النوستالجي" المفضل، ويغوص –
مثل أفلامها السابقة – في الحياة اليومية لأفراد وأسر وبيوت الشريحة الدنيا
من الطبقة المتوسطة، فيستخرج من أعماق تلك البيوت ما يدهش دائما، سواء
الشخصيات الفريدة التي قد تعجب لها ولتصرفاتها لكنك تصدقها لأنها – ببساطة
– حقيقية، أو الأثاث والأدوات والاكسسوارات و"خبايا" الأدراج
والدواليب،والتي ظهر الكثير منها في مشهد النهاية ليضعك مباشرة في مواجهة
زمن ذهب ولن يعود.
وهنا لابد من تحية نيهال غانم التي تولت هندسة المناظر، حتى
لو كنت متأكدا أن المشاهد تحمل بصمة دينا المباشرة فيما يخص الديكور
والاكسسوارات، وحتى لو كانت معظم أماكن التصوير حقيقية ولا تخرج عن كونها
شققا تحمل بالفعل الروح التي يقصدها صناع الفيلم، فيكفي أن تعرف أن بعض
المواقع استخدمت لتكون ثلاثة أو أربعة أماكن في الفيلم كما قال أشرف مهدي
في نفس الندوة، مع ما يتطلبه ذلك من جهد كبير في الديكور وهندسة المناظر
واختيار زوايا التصوير حتى لا يكتشف المشاهد أن نفس المكان تم استخدامه
أكثر من مرة.
ورغم أن الفيلم "آني" جدا في شخصياته وقضاياه، إلا أن روح
النوستالجيا تجلت في الفكرة الرئيسية التي تنعي شركة مفتخرة لإنتاج المربى
بعد أن جار عليها الزمن، أو التأميم، وأصبحت نموذجا للفوضى والتسيب وانعدام
الخيال والتأثير، وأصبح صندوق القمامة مصير منتجاتها، حتى بالنسبة للعاملين
فيها وأسرهم. وأعجبني استخدام الرسوم المتحركة – الجيدة في الحقيقة –
للتعبير عن التاريخ القديم للشركة ولبعض الشخصيات، كما أعجبني استخدام أكثر
من أسلوب في السرد مع المزج فيما بينها في بعض الأحيان.
وأتاح اللجوء لممثلين هواة – فيما عدا أشرف مهدي – فرصة
التأسيس بحرية لجميع الشخصيات والخطوط الدرامية المختلفة دون أن يتوقع
المشاهد، كما ألمحت دينا في الندوة، من ستكون الشخصيات الرئيسية وكيف سيكون
الخط الدرامي الرئيسي، حيث أن الجميع متساوون ولا مجال لكي يخمن المشاهد أن
شخصية بعينها "بطلة" طالما أن من يؤديها نجم.
لكن هذا لا يمنع أن صناع الفيلم استغرقوا وقتا طويلا في
"الفرش" وتقديم الشخصيات، وتأخروا في دخول الخط الدرامي الرئيسي، وأظن أن
حذف بعض اللقطات من هذه المنطقة التمهيدية كان سيصبح في صالح العمل وتدفق
ورشاقة سرده بدلا من الشعور ببعض الملل في ذلك الجزء وأيضا في الجزء الذي
تقنع فيه مسئولة "الجمعية" مختلف الشخصيات بالاشتراك، فبعد شخصيتين أو
ثلاث، أصبحت بعض الجمل الحوارية المستخدمة في الإقناع ستاتيكية لتكرارها،
وكان يمكن – في رأيي بالطبع – الاكتفاء برمز "الشاي بالنعناع".
أما أكثر ما آخذه على الفيلم، فهو كثرة الشخصيات والخطوط
الفرعية بشكل قد يصيب المشاهد بالتشتت، وأعتقد أن الشكل التقليدي للجمعية
هو الذي فرض نفسه على كاتبيْ السيناريو، دينا وأشرف، وليس العكس.. فقد
التزما بأن يصل المبلغ المطلوب إلى ما يكفي لتحقيق أحلام ومطالب الشخصيات،
وبالتالي زاد عدد المشاركين حتى وصلوا لعشرة، وزادت قصصهم ومبرراتهم لدخول
الجمعية، في حين أنه كان يمكن تقليص العدد مع المزيد من التعميق، ولذلك
أكثر من حل بطبيعة الحال مثل زيادة قيمة الاشتراك.
وإزاء هذه الكثرة، لم تكن بعض المبررات مقنعة دراميا.. فليس
من المنطقي أن تشترك الفتاة المدللة الثرية في جمعية مع من تأنف منهم طبقيا
لمجرد شراء تليفون محمول جديد، حتى لو ضغطت عليها جدتها، وكان يمكن مثلا أن
تشترك لكي تساعد فقط من ينتسبون إلى شركة كانت يوما مملوكة لأهلها. كما أن
"قصة الحب" التي ربطت السباك بالسكرتيرة، والتي دفعته لدخول الجمعية
ليتزوجها، ليست مقنعة على الإطلاق، بدليل أنها تخلت عنه بمنتهى السهولة،
ولم تبد أي مقاومة عند تزويجها بغيره.. وأصلا ليس من المعقول أن يندم سباك
يكسب الكثير من مهنة حرة على فصله من شركة فاشلة ومتهالكة يتقاضى منها
القليل، حتى لو كان مسئولوها قد اتهموه بالسرقة.
في المقابل، أجادت دينا إدارة الممثلين، فجاء أداء مجموعة
من الهواة، الذين يقف بعضهم أمام الكاميرا لأول مرة، تلقائيا طبيعيا، خاصة
دعاء الزيني وراوية همام وأمينة الزغبي وأنسي الجندي وحنان حناوي وسعيد
مصطفى وسمير قنديل وعبير السيد وماجد عبد الرازق و"المنتج المشارك" شريف
أبو هميلة، فيما شاب أداء أمين حجازي بعض المبالغة في دور "بلبل".
هذه تجربة جادة وجيدة تستحق الدعم والتشجيع، وإذا كانت ظروف
السوق الحالية تمنع عرض الفيلم تجاريا أو حتى بيعه لإحدى منصات العرض
المنزلي، فلا أقل من أن تشتريه إحدى القنوات التليفزيونية المملوكة للدولة
مقابل حق عرضه حصريا ليتمكن أكبر عدد من المواطنين من مشاهدته والوقوف على
ذوق مختلف عما يتابعونه ليل نهار. |