*
مقاطع الأغاني التي انتقاها المخرج لم تكن مجرد خلفية تروي
ظمأ الجمهور لمطربه المفضل أو استراحة لالتقاط الأنفاس لكنه وظفها لتعلق
على الموقف الدرامي أو تصبح بديلة عن الحوار .. وفي الغالب لتؤكد المعنى
*
تألق «عمايري» برصانته و«كندا» بحضورها و«شعراني» بسلاسة أدائه و«راما
عيسى» بالكاريزما التي تملكها لكن مفاجأة الفيلم تمثلت في «يوسف مُقبل»
القادر على بث الكراهية في محيطه
!
عام 1998 اختارت إدارة مهرجان القاهرة السينمائي؛ برئاسة
الكاتب الكبير سعد الدين وهبة، الفيلم السوري «نسيم الروح»، إخراج عبد
اللطيف عبد الحميد، للمشاركة في المسابقة الرسمية للدورة ال 22، التي ضمت
43 دولة عربية وأجنبية، تنافس 19 فيلم منها على الجوائز الدولية. ورغم ما
شهدته الدورة من صراع بين 11 فيلماً مثلت 5 دول عربية هي : مصر، الجزائر،
تونس، لبنان إضافة إلى سورية، فإن ما جرى ليلة عرض «نسيم الروح»، فاق كل
تصور؛ عندما قوبل باحتفاء غير مسبوق، إلا عند عرض فيلم «الحدود»، بطولة
دريد لحام، ولم يقف الأمر عند الصحف المصرية، التي أشادت بالفيلم، بل كانت
المفاجأة في الاستقبال الحافل من المثقفين المصريين؛ مثل : د. جابر عصفور
والمخرج رضوان الكاشف وأسرة الموسيقار بليغ حمدي والكاتب الكبير محمود امين
العالم، الذي بكى من شدة فرحته الغامرة بالفيلم
.
مقدمة طويلة، لكنها فرضت نفسها؛ بعد ما انتابني إحساس أن
المخرج عبد اللطيف عبد الحميد يستعيد في فيلمه الجديد «الإفطار الأخير» (94
دقيقة)، تألقه الذي كان في «نسيم الروح»؛ سواء في عذوبته وإنسانيته وشجنه
الجميل، أو في توظيفه للأغاني؛ فعلى خلفية القصف والتفجيرات اليومية،
بالقنابل والعبوات الناسفة، يقدم لنا قصة «سامي» (عبد المنعم عمايري)
وزوجته «رندا» (كندة حنا)، التي تستشعر أن الموت يقترب منها، وتكاد تتهيأ
لما سيحدث لها، ولأن المرأة لا تتغير، في أحلك الظروف وأسوأ الأحوال، تسأله
: «إذا
مت اليوم هل ستتزوج ؟» وبينما ينهرها تنصحه بجدية
: «إذا
مت تزوج «جومانا»
!
استهلالة ربما تبدو طريفة، لكن سرعان ما تنقلب إلى صدمة
مروعة؛ بعد ما تتحقق النبوءة، وتسقط قذيفة هاون على الشقة، ويعود الزوج من
عمله؛ حيث يعمل «ترزي» لكبار رجال الدولة، فيجد زوجته جثة هامدة!
بطولة الأغاني
في تلك اللحظة تتجلى موهبة المخرج عبد اللطيف عبد الحميد،
الذي يُشعرك وكأنك أمام «تراجيديا» تلعب فيها الأغاني دوراً محورياً؛ فقد
جرت العادة أن يوظف المخرج الأغاني كمجرد خلفية تروي ظمأ الجمهور لمطربه
المفضل أو استراحة لالتقاط الأنفاس، من دون ضرورة درامية، لكنها لم تكن
كذلك في «الإفطار الأخير»؛ إذ وظف «عبد الحميد» مقاطع الأغاني، التي
انتقاها، بشكل مبتكر، ربما يكون مُجهداً للمخرج قليلاً لكن المؤكد أن
نتيجته رائعة كثيراً؛ إذ أصبحت المقاطع بمثابة تعليق على الموقف الدرامي،
أو بالأحرى بديلاً عن الحوار، وفي الغالب تأكيداً لمعنى المشهد، في تكثيف
بليغ، وإيجاز ساحر، من دون إفراط أو ثرثرة؛ ففي اللحظة التي يُغادر فيها
«سامي» منزله؛ عقب مكاشفة الزوجة له بأنها ستموت (ماتت عام 2017 أي سنوات
الأزمة السورية)، تتردد في الشارع أغنية عبد الوهاب «لما أنت ناوي تغيب على
طول»، وقبل لحظات من الإنفجار ينتابه القلق على زوجته، ويهاتفها فنكتشف أن
نغمة هاتفها مضبوطة على المقطع الذي تُغني فيه فيروز «كنا نتلاقى من عشية»،
وعند عودته إلى شقته، وتتراءى له خيالات زوجته الراحلة، يقدم لنا المخرج
أجمل ترجمة بصرية لهذه الخيالات؛ عبر صوت محمد عبد الوهاب في «الجندول» :
«يا حلم الخيال» ..«ياحبيب الروح»..«يا أنس الخيال»، وفي لغة بصرية، ممتعة،
وساحرة، وتعبير أخاذ عن حال البطل، عقب وفاة زوجته، نستمع إلى أم كلثوم،
وهي تشدو : «جعلت من القلب مكانه بس لو يكفيه يسمع ضروبه وألحانه والمخبي
فيه»، من أغنية «حبيبي يسعد أوقاته»، ومع ظهور الشاعر الصعلوك «نبيل» (كرم
شعراني) يغني عبد الوهاب، وكانه يلخص سيرته : «أنا من ضيع في الأوهام
عمره»، وفي اللحظة التي يتزوج فيها البطل «جومانا» (راما عيسى)، بعد طول
انتظار وعذاب، تغني أم كلثوم «رق الحبيب»، وتحديداً المقطع الذي تغني فيه :
«من فرحتي بدي اتكلم وأقول حبيبي بيوعدني لكن باخاف» . فكيف لا نتوقف عند
مخرج يفكر بهذه الطريقة؟ ويملك هذا الخيال والخيار؟ وأي عبقرية لديه ؟ وقبل
هذا وذاك ما كنه هذه الأحاسيس والمشاعر التي تحركه، والحب الجارف الذي يكنه
للمطربين المصريين، والغناء الأصيل، وهو ما فعله من قبل، في فيلمه «نسيم
الروح»، الذي كان بمثابة تحية رائعة لروح بليغ حمدي؛ إذ يحكي قصة الشاب
السوري (بسام كوسا)، الذي تمنى أن يزور القاهرة ليرى بليغ حمدي، لكن حلمه
يتحقق، بعد رحيل «البليغ»، فيذهب للتعزية فيه، وفي مشهد يفيض بالشجن، يقف
أمام نهر النيل، ويواسي كل المصريين، ثم يعود إلى دمشق
.
عذوبة الشجن
ربما تتماهى المشاهد والمواقف التي تجمع البطل «سامي»،
و«شبح رندا»، مع تلك التي قدمها «عصفور» (فريد الأطرش) و«كهرمانة» (سامية
جمال)، في فيلم «عفريتة هانم» (1949)، تأليف أبو السعود الإبياري، وإخراج
هنري بركات، لكنها لم تكن، أبداً، جوهر فيلم «الإفطار الأخير»، الذي كان
أقرب إلى القصيد السينمائي، بل السينما الشعرية والشاعرية، التي تجمع بين
اللغة البصرية (مدير التصوير والإضاءة التونسي طارق بن عبد الله)، والحس
الإنساني؛ فقبيل لحظات من موت الزوجة، ينطق الشاعر «نبيل» (كرم شعراني)،
وكأنها نبوءة، بالجملة المروعة
: «للأسف
لا توجد وسيلة نقل إلى الجنة سوى عربة دفن الموتى»، وعندما يحاول تهدئة
خواطر، ومواجع، «سامي»، يُزلزل قلوبنا، ويهز مشاعرنا، بعبارة : «أسوأ أنواع
الرحيل من رحل عنك، ولم يرحل منك»، وربما لهذا السبب يقصد «سامي» قبرها، في
المشهد التالي مباشرة، ثم نتابعه، في مشهد لاحق، وقد كتب العبارة على شاهد
قبرها؛ فالفيلم رحلة تُخاطب الروح والمشاعر، بعمق، فضلاً عن لغته البصرية
الرصينة، من تصوير (لقطات بانورامية وحميمية لدمشق الساحرة، والشارع،
والبادية) وموسيقى أصيلة ( وضعها خالد رزق، ولعب فيها العود دوراً
محورياً)، وطرافة مُحببة، ورؤية سياسية تذخر بالوطنية، من دون تملق أو
خطابة وشعارات جوفاء؛ فالجرأة لم تنقص «عبد الحميد»
عندما مرر اتهام «أبو فتحي» (يوسف مُقبل) للبلد بأنها «ماشية كلها بالواسطة
والمصاري»، وللبطل المتعاون بأنه «ذيل السلطة»، ولا عندما استهجن سلوكيات،
وأخلاقيات، المسئولين، ووصفهم بأنه قساة، غلاظ القلوب، يستهينوا بمشاعر
الناس، ولا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية، في حين لا يتوانى المواطن «سامي» عن
تقديم يد العون للشاعر الفقير «نبيل»، من دون أن يؤذي مشاعره، ولا يتردد في
خدمة جيرانه، والتوسط لدى كبار المسئولين، لقضاء حوائجهم، حتى لو أدى الأمر
إلى إحراجه؛ كما فعل عندما توسط للإفراج عن شقيق «أبو فتحي»، ثم تبين أنه
يتعاون مع الإرهابيين، لكن الفيلم، كما انتقد المسئولين، يفضح الوجه القبيح
للجار الكاره لنفسه، و«جماعته» الإرهابية المتطرفة؛ ويتهمهم بالإنتهازية
والوصولية، وتكريس الشعور بالمظلومية : «تحاربوا الدولة فتسجنكم، وبعد ما
تسجنكم تجيبوا واسطة علشان تفرج عنكم»
!
رصانة اللغة .. والدائرة المُغلقة
سينما تُشبعك بصرياً وفكرياً، وإنسانياً، وتكتفي بإحالات
تحترم فطنتك، وتنأى بنفسها، وبك، عن الثرثرة (مونتاج صفاء ورؤوف ظاظا)؛
فالقذائف تسقط بينما الحياة تمضي، والموت يطاردنا لكن لا شيء يمنعنا من
الارتباط بأحباء مازالوا بيننا، ومثلما لعب «الجرافيك» (رءوف ومعتز ظاظا)
دوراً كبيراً في إضفاء جمال على الصورة، وتأكيد ذكي للمعنى الدرامي (ظهور
واختفاء الزوجة الراحلة / صحراء البادية تتحول إلى حقول لزهر البنفسج /
الزوجة الراحلة تستغيث لحظة زواج سامي وجومانا، وتحاول الخروج من إطار
صورتها على الجدار)، أحسن المخرج إدارة الطاقم التمثيلي؛ فتألق «عمايري»،
برصانته، وقوة صمته، و«كندا»، بإشعاعها، وحضورها، و«شعراني» بسلاسة أدائه،
وثقته، و«راما عيسى» بخفة ظلها، والكاريزما التي تملكها، فضلاً عن قدرتها
على التلاعب بالقلوب والمشاعر، والتلون (مشهد تلقيها خبر وفاة راندا)،
بينما تمثلت المفاجأة المُدهشة، بحق، في «يوسف مُقبل»؛ بجمال تعبيراته،
وانفعالاته، وقدرته على بث الكراهية في محيطه، وإن لم أجد مبرراً لكراهيته
المطلقة للبطل «سامي»؛ إذ كانت في حاجة إلى تأصيل أسبابها، وجذورها، مثلما
لم أقتنع بقدرة الزوجة الراحلة على قراءة المستقبل ( تُنبئ زوجها بأن «أبو
مروان» بالباب، ومعه هدية، ليشكره على صنيعه !) في حين جاءت مشاهد «أبو
يوسف» ( المخرج نفسه) في الضيعة، طريفة، وتنطق بحكمة «عاشق» متفائل قبل أن
يكون «كهل» عركته السنون
.
مثلما بدأت أحداث فيلم «الإفطار الأخير» بصدمة موت الزوجة،
تنتهي بمأساة مروعة، وكأنها دائرة وأغلقت، لتتأكد قناعة المخرج بأن «الحب
كالحرب..سهل أن تبدأها..صعب أن تنهيها .. مستحيل أن تنساها»، وفي سبيل
تكريسه المعنى، والقناعة، بصرياً، نرى «سامي» و«رندا»، «نيجاتيف»، وكأنهما
شبحان، وقد التقيا، ربما على «العشاء الأخير» هذه المرة، بينما الخراب
والدمار وأشلاء الحرب يُحيط بهما من كل جانب
! |