سعفةٌ ذهبية خاصّة تُمنح لمُكرَّمٍ، تختاره إدارة مهرجان
"كانّ" السينمائيّ،
"تحيةً
لمسيرةٍ فنية رائعة، ولشخصيةٍ نادرة، ولالتزامٍ متفرّدٍ، لكنّه مؤكَّد،
بمواضيع عظيمة في عصرنا". تحديدٌ تقول به إدارة المهرجان، عند اختيارها
"فرداً لا فيلماً"، لمنحه تلك السعفة، التي لها أكثر من اسمٍ يتبدّل مع
الوقت، وإنْ يبقى الهدف واحدٌ. "سعفة شرفية"
(ترجمة
حرفية للتعبير الفرنسي
Palme D’honneur)،
يتنوّع اسمها بحسب كل حالة: "سُعفة السُعَف"، "سعفة ذهبية شَرَفيّة"،
"جائزة خاصّة".
عام 1997، بمناسبة الذكرى الـ50 لتأسيسه، يُشكِّل منظّمو
مهرجان "كانّ" لجنة تحكيم، تتألّف من مخرجين فائزين بـ"السعفة الذهبية"،
لمنح "سُعفة السُعف" لمخرجٍ متميّز، يتمّ اختياره رسمياً، مرّة واحدة على
الأقلّ، في المسابقة أو خارجها، شرط ألّا يكون فائزاً بـ"السعفة الذهبية"
سابقاً. هذه الجائزة المختلفة ممنوحة للسينمائيّ السويدي إنغمار برغمان في
دورة ذاك العام (7 ـ 18 مايو/ أيار 1997). لاحقاً، يتبدّل اسمها مراراً.
منحها غير سنوي وغير ثابت: بعد 6 أعوام على منحها للأميركي وودي
آلن،
عام 2002، ينالها البرتغالي مانويل دي أوليفييرا عام 2008. بين هذين
العامين، تحصل 3 ممثلات على شبيهٍ للجائزة، باسم "سعفة شرفية للتمثيل":
الفرنسيتان جانّ مورو (2003) وكاترين دونوف (2005)، والأميركية جاين فوندا
(2007).
تكريمُ كبارٍ
عام 2009، يتسلّم كلينت
إيستوود الجائزة
من جيل جاكوب (رئيس المهرجان)، وتييري فريمو (المندوب العام). هذه لحظة
مهمّة بالنسبة إلى المخرج والممثل والمنتج الأميركي: "(الجائزة) تكريمٌ
لموهبة معلّم كبير في قمّة فنّه". إنّه عام "غران تورينو". الترويج له
حاصلٌ في الدورة الـ62 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2009) لـ"كانّ". فرصةٌ نادرة.
يتردّد كلامٌ بخصوص التكريم: إيستوود غير فائز بأيّ سعفة، رغم مشاركته 5
مرّات في دوراتٍ سابقة. أيكون التكريم تعويضاً؟ يحصل هذا أحياناً. بالنسبة
إلى جاكوب وفريمو، يستحقّ إيستوود الجائزة لسببٍ إضافيّ: "يُدرك سريعاً أنّ
هذه كلّها مسألة اختيار: البساطة. الكاميرا المرتفعة إلى علوّ إنسان. طول
اللقطة بالضبط. التقطيع في التوليف. موقع المقطوعات الموسيقية. في كلّ
مجالٍ، يوجد خيارٌ واحد فقط، لا أكثر. هكذا يستقرّ أحدنا، بهدوء تام، في
تاريخ السينما".
عام 2011، يُمنح الإيطالي برناردو برتولوتشي والفرنسي جان ـ بول بلموندو جائزتين
تكريميتين، في الإخراج والتمثيل. بعد 4 أعوام (2015)، تُصبح الفرنسية أنياس
فاردا أول امرأة فائزة بـ"سعفة شرفية"، سيحصل المنتج الأميركي جيفري
كاتزنبيرغ على واحدة مثلها عام 2017، بينما تستعدّ إدارة مهرجان "كانّ"
لمنح الممثلة والمخرجة والمنتجة الأميركية جودي فوستر تلك السعفة، في
الدورة الـ74، التي ستُقام بين 6 و17 يوليو/ تموز 2021.
"تُقدّم
جودي فوستر لنا هدية رائعة بمشاركتها معنا احتفال عودة المهرجان إلى
الـ"كروازيت". هالتُها اليوم لا مثيل لها. تُجسِّد الحداثة، والذكاء
المُشّع للاستقلالية، وللمطالبة بالحرية"، يكتب بيار لاسكور، مُشيداً
بـ"الصديقة الوفيّة" للمهرجان الذي يترأسه منذ عام 2014، علماً أنّ فوستر
تعتذر عن رئاسة لجنة تحكيم مسابقة الدورة الـ54 (9 ـ 20 مايو، أيار 2001)،
لانشغالها بتصوير "غرفة الهلع
(Panic Room)"،
لديفيد
فينشر:
"أشعر
بالإطراء إزاء تفكير "كانّ" بي. يُشرّفني جداً أنْ أتمكّن من نقل كلامٍ
حكيمٍ، أو سرد حكاياتٍ مختلفة، إلى جيلٍ جديد من السينمائيين"، تقول فوستر.
3
مسائل تسم سيرة جودي فوستر، من دون إلغاء سماتٍ أخرى، يتمثّل معظمها
بحِرفية مهنةٍ، تنتقل فيها من تمثيل إلى إخراج وإنتاج، ومن صناعة سينمائية،
لها فيها أفلامٌ رائعة ومهمّة، إلى اشتغالاتٍ تلفزيونية. 3 مسائل تكاد
تؤسّس تلك السيرة في بداياتها: التمثيل في سنّ باكرة، تحرّشات
جنسية في
دراستها الجامعية، تملّكها الفرنسية، لغةً وثقافةً، وسينما.
عند بلوغها 6 أعوام (مواليد لوس أنجليس، 19 نوفمبر/ تشرين
الثاني 1962)، تبدأ التمثيل (المسلسل التلفزيوني
Mayberry).
عام 1976، تحصل على شهرةٍ واسعةٍ، وعلى أول ترشيحٍ لـ"أوسكار" (في فئة أفضل
ممثلة ثانية)، بفضل "سائق التاكسي
(Taxi Driver)"،
لمارتن سكورسيزي، مع روبرت دي نيرو. تنتسب إلى "الليسيه الفرنسية" في لوس
أنجليس، وتحصل على شهادة البكالوريا الفرنسية بامتيازٍ، وتُكمل دراستها
باللغة الفرنسية، التي تُتقنها جيداً، من دون أي لكنة أميركية.
الفرنسية
عائلتها "تحبّ الفرنسية"، لكنّها "غير فرنكوفونية"، كما
يُذكر في سرد بعض تفاصيل حياتها. اختيار "الليسيه الفرنسية" جزءٌ من هذا
الحبّ. لاحقاً، تكتشف السينما الفرنسية، فتُصبح شغوفةً بها. تميل كثيراً
إلى أفلام "الموجة الجديدة" فيها. تمثّل في أفلامٍ فرنسية أيضاً، كـ"أنا،
زهرة زرقاء" (1977) لإيريك لو هُنغ، و"دم الآخرين" (1984) لكلود شابرول،
و"يوم أحد طويل للخطوبة" (2004) لجان ـ بيار جوني. رغم هذا، تحصل على جوائز
وترشيحات غير فرنسية، أبرزها جائزتا "أوسكار" أفضل
ممثلة، أولى عام 1989 عن دورها في "المتّهم
(The Accused)"
لجوناثان كابلان (1988)، وثانية عام 1992 عن دورها في "صمت الحملان"
(1991) لجوناثان دام. هذان الدوران يمنحانها أيضاً جائزتي "غولدن غلوب" في
الفئة نفسها. في ما بعد، تترّأس الحفلة الـ36 لجوائز "سيزار"، المُعادل
الفرنسي لـ"أوسكار" هوليوود، في 25 فبراير/ شباط 2011.
تعترف جودي فوستر، في أكثر من حوار، برغبتها الكبيرة في
المشاركة في هذين الفيلمين ("المتّهم" و"صمت
الحملان"):
"هذا
أمرٌ يغزوك، ويتفوّق عليك. لن يتوضّح شيءٌ، ولن يُصبح لأي شيءٍ معنى، إلا
عند تمثيل الدورين. لكنْ، هناك شعورٌ بتأثير كبيرٍ للفيلمين عليّ. يرتبط
كلّ فيلمٍ منهما بالآخر. هذا يُفسِّر لي قوّة السينما".
في مجالٍ آخر، تقول إنّ للعمل مع مارتن سكورسيزي فضلَ تغيير
حياتها. هذا يؤكّد تواضع كبارٍ في السينما. اختبارات كثيرة تدفعها إلى
تطوير أدائها، ومسائل العيش أساسيّة في معظم أفلامها. مقتنعةٌ هي بأنّ
للسينما قوّة تغيير، أقلّه على المستوى الفرديّ الخاصّ بها. تستعيد "صائد
الغزلان" (1978) لمايكل تشيمينو، الذي يُغيّر حياتها عند مشاهدتها إياه،
ببلوغها 14 عاماً. هذا حاصلٌ لاحقاً أيضاً، مع
Le Souffle Au Coeur
للفرنسي لوي مال (1971)، و"البيانو" (1993) للنيوزيلندية جاين كامبيون:
"الأفلام التي تزلزل حياتك، تُريحك، أو تساعدك عبر إفهامك أموراً كثيرة
لأفراد عائلتك. السينما، بالنسبة إليّ كمُشاهدة، تجربة لا مثيل لها
إطلاقاً. بهذا، أشعر بأنّي قريبةٌ من مارتن
سكورسيزي وفرنسيس
فورد كوبولا. أناسٌ يتربّون بالسينما، التي تكون لهم، في وقتٍ واحد، صديقاً
وأهلاً".
الضيفة، شبه الدائمة، في برامج تلفزيونية فرنسية مختلفة،
تقول إنّ إتقانها لغة موليير عاملٌ أساسيّ في تغيير حياتها: "هذا مُساعدٌ
لي على الانصهار في ثقافة مختلفة. شخصيتي كفرنسية أمرٌ آخر تماماً.
(بفضلها، أكون) شخصاً آخر". لذا، تهتمّ فوستر بمسألة الدوبلاج، عند دبلجة
أفلامٍ أميركية لها. فهي، عندما يُتاح لها الوقت، تتولّى دبلجة صوتها
الأميركي بالفرنسية، أو تُشرف مباشرةً على ذلك، في أحد استديوهات الدوبلاج
في هوليوود.
في عددها الصادر في فبراير/ شباط 2021، تُخصِّص "بروميير"
(مجلة
سينمائية شهرية
فرنسية) غلافاً وصفحاتٍ عدّة لجودي فوستر، بمناسبة دورها السينمائي في
"الموريتاني" (2021)، جديد الاسكتلندي كِفن ماكدونالد. عنوان الغلاف لافت
للانتباه: "أيقونة أميركية" (استعادة 50 عاماً من المهنة في هوليوود). ذلك
أنّ أول فيلمٍ لها مُصوَّرٌ عام 1971: "نابليون وسامنتا" (1972)، للأميركي
برنارد ماك إيفيتي. حوار مُشوّق، كالتشويق الذي يُثيره "الموريتاني"، وفيه
تؤدّي دور محامية دفاع (نانسي هولاندر) عن الموريتانيّ مُحمَدو وُلْد صلاحي
(طاهر رحيم)، المعتقل في سجن غوانتانمو 10 أعوام من دون توجيه تهمة ومن دون
محاكمة: "شخصية هولاندر ساحرة. لكنْ، ما يهمّني هنا أنْ أخدم قصّة مُحمَدو،
وأنْ أحملها إلى أكبر عددٍ من المُشاهدين".
لموافقتها على هذا المشروع السينمائيّ أسبابٌ، أحدها
اقتناعها بأنّ كِفن ماكدونالد لن يُنجز فيلماً "هوليوودياً"، وبأنّه
سيتناول تلك الحكاية الحقيقية "باهتمامه بالوقائع، من دون الوقوع في أي
انفعالٍ عاطفيّ".
التحرّش
بتأديتها دور نانسي هولاندر، تُقدّم جودي فوستر للمرّة
الأولى "شخصية حقيقية". يسأل محاوِرُها (بروميير) تييري شاز: "هل تُغيّر
تأديتُك دورَ شخصيةٍ واقعية شيئاً ما في عملك كممثلة؟". تُجيب: "المسؤولية
التي يتضمّنها هذا الأمر (تأدية شخصية واقعية) يُفسِّر، من دون شكّ، لماذا
لم أخطُ خطوة كهذه سابقاً. أكثر ما أحبّه، كممثلة، أنْ أبتكر، أنْ أغيّر
أشياء مكتوبة في السيناريو، كي تخدم شخصيتي الحكاية بأفضل شكلٍ. حين نمثّل
شخصيةً موجودة، لن يكون لنا الحقّ في التغيير".
رغم جرحٍ عميق في ذاتها بسببه، يندر أنْ تتناول فوستر مسألة
التحرّش بها في العام الدراسي 1980 ـ 1981، في "جامعة يال". يُلاحقها جون
دبليو هينكلي جونيور،
المهووس بها. في 30 مارس/ آذار 1981، يُحاول قتل الرئيس الأميركي رونالد
ريغان (يُصيبه مع 3 آخرين برصاصات عدّة)، "لإثارة إعجابها به". تقول إنّها
ترفض أنْ تكون الممثلة التي يتذكّرها الناس بسبب هذه الحادثة، التي "لا شأن
لي بها". تقول أيضاً إنّها، حينها، مجرّد "مُشاهدة سيئة الحظّ، نوعاً ما".
لكنّها تشعر بارتباكٍ أيضاً: "كم أنّها لحظة تاريخية مخيفة ومرعبة لي، أنْ
يكون عمري 17 أو 18 عاماً، وأعلق في مأساةٍ كهذه" (برنامج "60 دقيقة"،
المحطة الأميركية "سي بي أس نيوز"، 7 ديسمبر/ كانون الأول 1999).
خارج هذه المأساة، تُثابر جودي فوستر في تفعيل حضورٍ
سينمائيّ، وإنْ تبتعد قليلاً عن المهنة، بدءاً من 2010. عام 2011، تُنجز
ثالث روائيّ طويل لها كمخرجة، بعنوان "القندس
(The Beaver)"،
بعد
Little Man Tate
عام 1991، وHome
For The Holidays
عام 1995.
خارج هذه المأساة، تصنع جودي
فوستر سيرة
عيشٍ ومواجهةٍ وتحدّياتٍ. تكريمها يُلائم حضورها. |