محمد صالح هارون.. من جبال أبيشي إلى حدائق باريس
محمد جدّي حسن
"كل
ما أردّته هو أن أؤسس مدرسة للسينما في بلادي، كي يجد الفن السابع نفساً،
ولكي لا ينتهي الأمر مع وفاتي. لكنهم لم يسمحوا لي بذلك".
ثمّة رابط واحد يجمع كل أفلام محمد صالح هارون. الحرب. رغم
أنه أنتج أفلاماً لا علاقة قريبة لها بالحرب، إلاّ أن الحرب كانت هي
الهاجس، عاش المخرج أهوال الحرب الأهلية التشادية نهايات السبعينات وبدايات
الثمانيات، فتأثر بها كثيراً، لذا لا ينفك يحضر الأجواء العسكرية؛ طبول
الحرب، تقارير الإذاعات المحذرة، أزيز الطائرات، دوي قصف من هناك وهناك،
الإهانات عند نقاط التفتيش، من خلال انفعالات أبطاله، من الذعر الذي
يعتريهم، التوتر الذي يصاحبهم كلما رأوا جندياً أو زيّا عسكريا. المخرج قضى
شبابه خائفاً. هرب كغيره من الهاربين في اتجاه الحدود. تلقّى رصاصة طائشة
كادت تودي بحياته. لم ينسَ كل هذه الأجواء فنقلها إلى فنه.
حتّى تاريخ كتابة هذه المقالة، هو الأول والأخير في الفن
السابع من هذه البلاد، فقبله لم تعرف البلاد مُخرجاً، وحتى الآن، وقد طرق
أبواب الستين، لم يتمكن تشاديّ آخر من إخراج ما يمكن أن يقترب من باكورة
أعماله.
بعد استقلال البلاد بعام واحد، ولد محمد صالح هارون 1961
في شرقي البلاد، في مدينة صغيرة تحيطها الجبال والجفاف تسمى أبيشي. قضى
طفولة هادئة، بين الخلوة والمدرسة، تعلم الفرنسية وتحدّث العربية الدراجة،
وبعد بلوغه الرابعة عشرة أطلق الثوار رصاصتين على أول رئيس للجمهورية. بعد
تلك الرصاصتين عاش بضع سنوات في ظل حكم عسكري انتقالي وثورات وحكومات ضعيفة
قدمت له الرصاص والدماء. أيّام دراسته الثانوية كانت سنوات حرب أهلية، رأى
فيها كل الفظائع التي بإمكان البشر اقترافها. انغمس في مشاهدة الأفلام
الهندية، الوحيدة التي كانت تصل إلى مدينته الجبلية.
وصل إلى العاصمة أنجمينا أوخر العام 1981 كي يجهز أوراقه
للسفر إلى فرنسا لإكمال دراسته، وبينما كان يقضي النهار بين بيت عمٍ له
وشارع شارل ديغول حيث المكاتب الدولية ووكالات السفر، اندلعتْ الحرب داخل
العاصمة الصغيرة، وأثناء هروبه نحو الحدود الكمرونية تلقى رصاصة كادت أن
تقضي عليه، وهكذا وصل إلى فرنسا بإصابة بالكاد التأمت.
زنجيٌ في باريس
متعطشاً إلى التحرر، متذوقاً لأشعار ليپولد سيزار سنغور،
معترفاً بواقع كونه أسود، معتبراً أن هذه ميزة ذكاء وأصالة، وصل محمد صالح
هارون إلى باريس متأثراً بالحركة "الزنوجية". مبجلاً ذاته محتقراً الآخرين
وقارئاً جيداً لإيميه سيزار، متسلحاً بذكاء يجعله نرجسياً إذا لزم الأمر.
بكل هذا الحمل جلسَ على مقاعد
Consevatoire libre du cinéma français
محتمياً بمعطف قصائد افريقية علّها تنجيه من شتاءات باريس. درس الإخراج
وتخرج بعد ثلاث سنوات، فلم يجد عملاً يراكم تجربته، والعودة لم تكن خياراً،
فالبلاد كانت في قبضة ديكتاتوريّ يقمع كل الأصوات. كان مجال الإعلام يبدو
واعداً لشاب قدم من بلادٍ تريد فرنسا أن تعرف كل شيء عنها، فالتحق بمعهد
الإعلام في بوردو وبفضل الإعلام عمل في مجلات وصحف عالمية أكسبته المال
والعلاقات، ومكّنته من إخراج الأفلام على طريقته.
البداية كانت في العام 1994 حين أخرج فيلمه
Maral Tanie -
الزوجة الثانية، ناقش فيه قضية الزواج المبكر، لكن البداية الحقيقية كانت
في العام 1999 حين قدمّ فيلمه الطويل "وداعاً إفريقيا"، وحاز أفضل عمل أول
في مهرجان فينيسيا. بعد عامين، أخرج فيلماً قصيراً بعنوان "رسالة من
نيويورك"، وفي العام نفسه، فاز بجائزة أفضل فيديو في الدورة الحادية عشرة
لمهرجان السينما الإفريقية في ميلانو. وفي ثاني إخراج له، لفيلم طويل
بعنوان "أبونا"، فاز بجائزة أفضل صورة في
FESPACO...
وفي العام 2007 فاز فيلمه
Daratt
بالجائزة الفضية في ياننيغا كما فاز بأفضل صورة. وفاز فيلم "دارات" أيضاً
بجائزة أفضل فيلم في مهرجان فينيسيا، وكأن أول فيلم تشادي يفوز بهذه
الجائزة.
"دارات"
أو "موسم جاف" كان من أروع ما قدمته السينما الافريقية. تدور الحكاية حول
شاب يسمى "أتيم" يغادر البادية كي يصل إلى العاصمة أنجمينا لينتقم لمقتل
والده. سريعاً يجد قاتل والده الذي كان مجرم حرب.. لكنه الآن يدير مخبزاً
صغيراً. يعمل أتيم في المخبز ويشاهد يوميات الرجل ويشعر تجاهه بمشاعر
مختلفة عن تلك التي غادر بها قريته.
يضع المخرج بطله بين خيارين، الثأر أو الصفح. والعظيم جداً
أن المخرج يقف بحياد جميل أمام أحداث عمله كأي مبدع لا يقحم أفكاره
الإيديولوجية أو الدينية في فنه. وفي مايو/ايار 2010 اختير فيلمه "رجل
يصرخ" في اللائحة القصيرة في مهرجان "كان"، وتوّج بجائزة لجنة التحكيم.
تتويجات وتكريمات، صعود وارتقاء، هكذا وصل محمد صالح هارون إلى العالمية
وصار اسمه معروفاً بين محبي الفن السابع.
مستنقع السياسة
في شباط/فبراير 2017، وصل محمد صالح هارون إلى مطار حسن
جاموس الدولي في أنجمينا حاملاً قرار تعيينه وزيراً للثقافة! كان أول سؤال
واجهه المخرج هو: لماذا ترغب في أن تكون وزيراً في ظل حكم ديكتاتوري، بينما
أنت تملك المال والجاه والشهرة؟ أتيت لأساعد الشباب؛ قلبي صافٍ وضميري
مرتاحٌ. هذا ما قاله المخرج، لكنه واجه انتقادات حادة لأن المتابعين
اعتقدوا أنّ إخراجه وثائقياً عن الديكتاتور السابق حسين حبري، كان بطاقته
إلى مفاتيح الوزارة لأن الوثائقي "كان تلميعاً للنظام الحاكم".
بصرامة واعتدال تعلمهما في باريس، أراد أن يقود الوزارة،
واجه العديد من المشاكل مع شباب من إفريقيا لا يريدون العمل بقدر ما يرغبون
في كسب المزيد من المال عبر الصفقات والفساد الإداري. بعد سنة من تولّيه
المنصب، قدم المخرج استقالته في ظروف غامضة جداً. قال أنه استقال لأنهم لم
يسمحوا له بالعمل، وقالوا إنهم طردوه، ولا نعرف ما حصل حقيقةً حتى اليوم.
عاد الوزير إلى شقّته في باريس، وأطلق طلقته عبر صفحات مجلة
"جون أفريك" قائلاً:
"لم
أصبح وزيراً لأغسل ذاكرة تشاد". عبارة أحدثت ضجة. وأكدّ لاحقاً بأنّ كل ما
أراده هو جلب أسماء لامعة إلى البلاد. لكنه لم يرد غسل ذاكرة تشاد. وسعى
لإنشاء مدرسة للفن السابع، لكن الواقع قزّم طموحاته.
في العام 2018 عاد إلى فنه بعد الخيبات التي تلقّاها في
ميدان السياسة، وأخرج فيلمه "موسم في فرنسا"، عن مهاجر من إفريقيا الوسطى
يحاول أن يجد الإستقرار في فرنسا مع أسرته الصغيرة، مواجهاً كل المتاعب
الذي يتعثر بها المهاجرين.
وجهاً لوجه مع الفنان
ذات ظهيرة قائظة في نيسان، اجتمعنا تحت شجرة ظليلة، على بعد
أمتار من حيث يسكن، كي نزور المخرج والروائي، كي نتعلم شيئا من الآتي من
باريس. كان الحر شديداً والهواء ساخناً. تجمعنا هناك ودلفنا على المكتبة
وتمكنا من شراء أربع نسخ من روايته التي نشرها في "غاليمار" بعنوان
jibril ou les ombres portées.
جلسنا على حصير ووضع طستاً مليئاً بالماء أمامنا، بعد لحظات وصل وهو ينفث
سيجارته مرتدياً جلابية واسعة كتلك التي اعتاد السودانيون ارتداءها طوال
الوقت. كان في أواخر الخمسين، نحيلاً أسمر، يلمع في وجهه نورٌ وهالةٌ
يمتلكها أولئك الذين يعيشون في أوروبا. سلّم علينا وهو يعدّل من نظاراته
ويفتل شنباته الرمادية. بفرنسية أنيقة تحدث زهاء ساعة، طرحنا خلاها بضع
أسئلة عن الثقافة والأدب والسينما.
كان الجميع منزعجاً من الترفّع الذي أظهره أثناء اللقاء
وإنهاء الجلسة في وقت قصير بحجة أنه دقيق في مواعيده. لا يزعجني هذا
التعالي الذي يتمتع به الأدباء، خصوصاً أنني وقتها كنت أحلمُ بكتابة رواية،
بينما أنا أمام شخص كتب روايته قبل سنوات. تمكنت من لفت انتباهه رغم أنني
الوحيد الذي طرح سؤاله بالعربية.
دائماً يختار بطله من الهامش، وعبر كاميراته الدقيقة يتابع
مسار حياة الشخصية. ولأنه روائي أيضاً يرفض السقوط في الخطاب المباشر
وإعطاء الدروس. لذا لا يرتمي في الصراع مباشرة ليتحدث عن الحرب، إنما
يتناول ما حول الحرب وما تخلفها من أشخاص وأماكن. ينحاز لشخوص هامشية، لا
دور لها في الصراع، لكن حمم النيران تصلها لتعاني. |