ملفات خاصة

 
 
 

نساء الـ"برليناله" الافتراضي: جماليات سينمائية وقسوة عيش

نديم جرجوره

برلين السينمائي الدولي

الدورة الحادية والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

تبقى المُشاهدة الافتراضية لأفلامِ مهرجان سينمائي دولي، مُصنَّف فئة أولى، وقتاً طويلاً في الذاكرة. اختبارٌ يتوافق وأحوال عالمٍ يعيش انهياراتٍ وتغييراتٍ شتّى، بسبب كورونا، وشروطه الحياتية المفروضة على الجميع أشهراً مديدة، وبسبب أزمات تنشأ من تفشّيه، أو تستمرّ مع هذا التفشّي، غير المعروفة نهايته بعد. قراءات عدّة يُفترض بها أنْ تواكب علاقة السينما بكورونا، وبعض تلك القراءات حاصلٌ ومستمرّ، غرباً أكثر منه شرقاً.

مشاهدةٌ مختلفةٌ

"مهرجان برلين السينمائيّ (برليناله)" أحد تلك المهرجانات الرئيسية في العالم. دورته السابقة (70)، المُقامة بين 20 فبراير/ شباط والأول من مارس/ آذار 2020، آخر دورة لآخر مهرجان يُقام حينها، قبل انغلاق دول ومجتمعاتٍ وأناسٍ في عزلاتٍ وتساؤلات ومخاوف ومخاطر. دورته الأخيرة (71) تطرح أسئلة عن معنى "الافتراضيّ" في صناعة المهرجانات، رغم أنّ مهرجاناتٍ أخرى تعتمد الافتراضي في تنظيم دورات العام الماضي.

بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021، نُظمت الدورة الافتراضية الأولى لـ"برليناله". في يونيو/ حزيران المقبل، تسعى إدارة المهرجان إلى تنظيم عروضٍ عامّة، يُتوقّع أنْ تكون بين 9 و20 منه، للراغبين في مشاهدة أفلامٍ مُنتجة حديثاً (مختارة من الدورة الافتراضية تلك)، إذا سمح الوباء بتحقيق هذا اللقاء المفتوح في الهواء الطلق، أو في صالاتٍ تُخصِّص نصف عدد مقاعدها للمُشاهدين.

في مقابل استثنائيّتها، المتمثّلة بعرض أفلامها المختارة "أونلاين"، تفتقد الدورة الأخيرة مفاجآتٍ مُثيرة للدهشة أو الاهتمام. هذا ليس نقصاً أو تراجعاً، بل يأتي استكمالاً لآلية اختيار بعض أفضل الأفلام المُنجزة قبل عامٍ، والعام السابق مليء بالارتباكات والتخبّطات والقلاقل، ومع هذا يتمكّن سينمائيون عديدون من إكمال مشاريع معلّقة لهم، أو من تنفيذ مشاريع جديدة، وبعضها مختارٌ في المسابقة الرسمية، وفي مسابقات وبرامج أخرى. حيوية الأفلام يعتادها مهرجان برلين، فهو أول مهرجان يُقام كلّ عام، ما يدفعه إلى محاولة دائمة ودؤوبة للحصول على أفضل المُنتج حديثاً. دورته الافتراضية تلك شاهدةٌ على ذلك، رغم أيامها القليلة للغاية (6 أيام).

قلّة أيام الدورة الـ71 لن تحول دون مشاهداتٍ ممتعة، وبعض المشاهدات مُريح لجالسٍ أمام الشاشة في منزله. يومياً، عند السابعة صباحاً (بتوقيت بيروت)، تُتاح للنقّاد والصحافيين السينمائيين مُشاهدة أفلامٍ عدة في مسابقات وبرامج، لمدّة 24 ساعة، قبل حذفها وإنزال أفلامٍ أخرى. هذا مُريح في اختيار الوقت للمُشاهدة، لكنّه يُثقل على المُشاهد لجهة إلزامه بأفلامٍ محدّدة يومياً، لن يتمكّن من مشاهدتها في وقتٍ آخر، كالحاصل في الدورات الواقعية، التي تعرض أفلاماً كثيرة أكثر من مرّة، في صالات مختلفة. كلّ فيلمٍ غير مُشاهَد في 24 ساعة، تستحيل مشاهدته في وقتٍ آخرٍ.

المُريح أيضاً كامنٌ في تمكّن الجالس أمام شاشة صغيرة (لابتوب) أو شاشة تلفزيونية، لمُشاهدة بعض تلك الأفلام، من التحرّك في حيّزه الخاص متى يشاء، إذْ يستطيع إيقاف العرض لدقائق، أو يتابعه لاحقاً ضمن المدّة المتاحة. هذا مريح لحظة حدوثه، لكنّه في الوقت نفسه ينسف فكرة المُشاهدة برمّتها، تماماً كما تفعل المنصّات. هذا يندرج في إطار التساؤلات المطروحة منذ أشهرٍ عدّة، مع تفشّي كورونا، والتزام العزلة المنزلية، ومتابعة أخبار العالم ونتاجاته عبر الـ"أونلاين" والمنصّات.

سطوة كورونا على الأفراد والجماعات معاً تنعكس في صناعة السينما، تنفيذاً وخيارات درامية. مثلٌ على ذلك: الكمامات والتعقيم والمسافات المفروضة بين الناس أمورٌ ظاهرةٌ في "مضاجعة فاشلة أو بورنو مجنون" (إنتاج مشترك بين رومانيا ولوكسمبورغ وكرواتيا وجمهورية تشيكيا، 2021، 106 دقائق) للروماني رادو جود، الفائز بجائزة "الدبّ الذهبيّ" لأفضل فيلم في المسابقة: الشخصيات تلتزم التدابير الوقائية بتشدّد، وإنْ يذهب النصّ (كتابة جود نفسه) إلى أمكنة أخرى تماماً، تمسّ تاريخاً وحاضراً، وتعاين أحوالاً وانفعالاتٍ وعلاقاتٍ، بلغة ساخرة وإيقاع يكشف ارتباكاً وتخبّطاً وتناقضات جمّة بين أفكارٍ وانتماءات ومواقف. لغة ترتكز على صورة وتعليق صوتي وموقف وتصرّف وقول، بتوليفٍ يُنزل ضرباته المتتالية بحدّة تفرض تنبّهاً كبيراً لتفاصيل، واطّلاعاً عميقاً لوقائع وحكاياتٍ. لغة سينمائية تجعل الكاميرا (ماريوس باندورو) رفيقاً ملتصقاً بإيمي (كاتيا باسْكاريو)، الشخصية الأساسية، في رحلتها القاسية (أقلّ من 24 ساعة بقليل)، في تاريخ بلدٍ وتقاليد اجتماع وثقافة أناس وموروثاتٍ تربوية يسخر جود منها، كمن يُصفّي حسابات شخصية معها.

عن المرأة لا عن النسوية

المرأة، في جديد الروماني رادو جود، محورٌ وركيزة ونواة. ممارستها الجنس مع زوجها، الراغب في تصوير هذا الفعل بينهما، سببٌ لسجالٍ يُعرّي كياناً اجتماعياً وبشرياً وأخلاقياً، في بلدٍ يبدو كأنّه لا يزال يُعاني تأثيرات الحقبة السوفييتية في يوميات الحياة والعيش والعلاقات، وخراب راهنٍ أيضاً. إيمي، الزوجة والمُدرِّسة، تتحوّل إلى مرآة قاسية، تفضح بيئة وتفكيراً ومسالك، وتواجه لوحدها تنانين القهر والقمع والانغلاق. هذا غير حاصلٍ بخطابيّة فجّة، بل بسينمائيّة باهرة.

المرأة عصبُ أفلامٍ عدّة، مختارة للمسابقتين الرسمية و"لقاءات (Encounters)"، ولبرنامج "بانوراما". أهذه صدفةٌ، أو مسارٌ طبيعيّ لانشغالات سينمائيين وسينمائيات في عالمِ اليوم؟ قبل 3 أيام فقط على الاحتفال بـ"اليوم العالمي للمرأة" (8 مارس/ آذار)، تنتهي تلك الدورة الافتراضية لـ"برليناله"، وبعض أبرز أفلامها معنيٌّ بالمرأة، بعيداً عن كلّ مباشرةٍ وخطابيّة وتنظيرٍ واحتفالية مُسطّحة، وعن كلّ نَفَسٍ نسوي تنظيريّ. أفلامٌ تغوص في أحوال المرأة ومشاغلها ومكانتها وأهوائها ومشاعرها، ككائنٍ بشريّ حيّ، له حيّز كبيرٍ في مجتمعاتٍ عدّة، وإنْ تتعرّض المرأة في بعضها على الأقلّ لعدائية أو لذكورية، وهذا نادرٌ في تلك الأفلام، فالأولوية للمرأة كائناً بشرياً يواجه ويبوح ويحلم وينهزم ويُقارع ويتمنّى ويتوقّع ويفشل.

نساء تلك الأفلام، رغم إيجابيات نادرة في عالمٍ يزداد قسوة ووحشية وخراباً، يبدون كأنّهن "على حافة هجومٍ عصبيّ"، وهذه ترجمة عربية حَرْفية للعنوان الإسباني الأصلي، Mujeres Al Borde De Un Ataque De Nervios، الفيلم الرائع لبيدرو ألمودوفار، المُنجَز عام 1988، أو (نساء) "على وشك الانهيار العصبيّ"، كالترجمة العربية للعنوان الفرنسي، Femmes Au Bord De La Crise De Nerfs.

رغم أنّهنّ يبدون هكذا، تكشف نساء بعض أفلام الـ"برليناله" عن متانة حضور، وقوّة مواجهة، وبراعة تحدّ. تريد كلّ واحدة منهنّ حياة ومشاعر ومسارات. بعضهنّ شابات، وبعضهنّ الآخر أكبر سنّاً بقليل. وحيدات، تواجه كلّ منهنّ مصيرها بلغة وتصرّف وفعلٍ يُناقض تربية وسلوك جماعيين، برغبة التحدّي، أو بنزعة الخلاص. بعضهنّ يعثر في أخرياتٍ على امتدادٍ وحماية، وعلى مزيدٍ من قوة ذاتٍ وروح. ميزتهنّ أنّهن يُتقنّ فنّ العيش في محيطٍ موبوء، وكلّ محيطٍ موبوءٌ في زمن انهيارات وتحوّلات غامضة ومُثقلة بأسئلة وأزماتٍ. جميلات هنّ في وحدتهنّ وفي ملاقاتهنّ أخريات وآخرين. بصوتٍ عالٍ أو بغضب واضح أو بنبرة خفيّة أو بنظرة قاهِرة أو بملمحٍ آسر، يقلن وقائع عيشٍ يوميّ في "صفيحٍ ساخن" (بالإذن من أحمد فؤاد، وفيلمه المُنجز عام 1978 بعنوان "رجب فوق صفيح ساخن)، أو في "مدينة الله" (City Of God)، كما يصفها فرناندو ميريلّيس وكاتيا لوند في فيلمهما المُنجز عام 2002.

ثورة وسياسة

تداعيات ما بعد "ثورة 25 يناير" (2011) المصرية، وتأثيراتها وانقلاباتها ومساراتها ومصائرها، حاضرةٌ في الوثائقيّ "كما أريد" (إنتاج مشترك بين مصر وفرنسا والنرويج وفلسطين وألمانيا، 2021، 88 دقيقة، "لقاءات") للفلسطينية سَمَاهِر القاضي. انكسارات ومشاغل واحتيالات وصَدْمات وأهواء وخيبات تعيشها المرأة الشابّة وتواجهها، في بيئة تقليدية، تصنع الروائيّ "سعاد" (إنتاج مشترك بين مصر وتونس وألمانيا، 2021، 96 دقيقة، "بانوراما") للمصرية آيتن أمين. في الأول، مزيج سياسة واجتماع ورغبات وقمعٍ وإقصاء ومواجهة؛ وبعض هذا ماثلٌ في الثاني أيضاً.

مناقشة السياسيّ في الأول لن تحول دون تنبّه إلى اشتغالاته السينمائية، فالوثائقيّ مستوفٍ شرطه البصريّ، والتوليف (غلاديس جوجو) إضافة أساسية في تركيب المتتاليات، التي يتداخل فيها تسجيل لحظات سابقة على الفيلم، بلحظات مُصوّرة (سماهر القاضي وكريم الحكيم وRM) لحظة الاشتغال على مسألة التحرّش والاعتداء الجنسيّين على شابات مصريات، في مرحلة تاريخية صعبة تمرّ بها مصر زمن الرئيس الراحل محمد مرسي، قبل انقلاب العسكر عليه بشخص عبد الفتاح السيسي.

السياسي مُلغى في الروائي الجديد لآيتن أمين، إنْ يرتبط (السياسي) بحدثٍ معيّن. الاجتماع غالب. علاقات شابات مصريات بأنفسهنّ وبأخريات وآخرين نواة درامية لفيلمٍ ذي إيقاع هادئ في التقاط نبض الغليان القاسي في ذاتٍ وروح. الهدوء الظاهر، تصويراً وشخصياتٍ ومساراتٍ، يُخبّئ وجعاً وانكساراتٍ وصدامات وقهراً وغلياناً. بشاشة مكشوفة على وجهٍ شابّة تُظلِّل غمّاً وألماً وقلقاً. هذا يُحرِّض على نقاشٍ نقديّ، كتحريض "كما أريد" تماماً.

أفلامٌ أخرى تصنعها امرأة أو تحضر فيها: "أم صغيرة" (فرنسا، 2021، 72 دقيقة، المسابقة) للفرنسية سيلين سيامّا، و"ماذا نرى عندما ننظر إلى السماء؟" (إنتاج مشترك بين ألمانيا وجورجيا، 2021، 150 دقيقة، المسابقة) للجورجي ألكسندر كوبُرِدْزَاي (العنوان ترجمة عربية حرفية للعنوان الإنكليزي المعتمد في المهرجان: What Do We See When Look At The Sky؟)، و"أغنية بقرة بيضاء" (إنتاج مشترك بين إيران وفرنسا، 2020، 105 دقائق، المسابقة) لبحتاش صنايعي ومريم مقدم. المسابقة، والعنوان الفارسي: "قصيده كاو سفيد")، و"عجلة الحظّ والفانتازيا" (إنتاج اليابان، 2021، 121 دقيقة، المسابقة) للياباني رياسْكي هاماغتْشي (الترجمة العربية للعنوان الإنكليزي المعتمد في المهرجان: Wheel Of Fortune And Fantasy)، الفائز بجائزة "الدب الفضيّ ـ الجائزة الكبرى للجنة التحكيم".

هذه تنويعات تنصبّ في حضور المرأة وعوالمها المختلفة. جماليات سينمائية تروي فصولاً من حكاياتٍ تتشابه، والاختلاف ماثلٌ في كيفية السرد البصريّ.

 

العربي الجديد اللندنية في

10.03.2021

 
 
 
 
 

4 أفلام تكشف الواقع العربي في برلين: حرب وعنف

"دفاتر مايا" عن الذكريات والغربة و"سعاد" عن فتاة متمردة وقضايا اخرى كالتحرش والمثلية

هوفيك حبشيان

عرض مهرجان برلين السينمائي في دورته الحادية والسبعين التي عُقدت افتراضياً على شبكة الإنترنت سبعة أفلام عربية تعكس تنوع هذه السينما، سواء في المواضيع التي تعالجها أو أساليب السرد التي تلجأ إليها أو الخلفية السياسية والاجتماعية والثقافية التي تنطلق منها. شاركت هذه الأفلام السبعة في مختلف أقسام المهرجان الذي أخذ اهتمامه بحكايات العرب يكبر بعد الربيع العربي، وبطبيعة الحال لم تنل كلها القدر نفسه من الثناء من جانب الصحافة والعاملين في مختلف قطاعات الصناعة السينمائية. نتوقف في الآتي مع أربعة من هذه الأفلام المعبرة عن حاضر العالم العربي وماضيه والتحديات التي يواجهها.

"دفاتر مايا"

من الطبيعي البدء بالفيلم المشارك في المسابقة الرسمية، وهو الفيلم العربي الوحيد الذي تسابق هذا العام على "الدب الذهبي" في برلين، علماً أن الأفلام العربية في مسابقة برلين كانت نادرة جداً في السنوات الأخيرة. الفيلم المقصود هو "دفاتر مايا" للثنائي اللبناني جوانا حاجي توما وخليل جريج، أول شريط لبناني يُعرض في مسابقة البرليناله منذ "بيروت اللقاء" في العام 1982. يبدأ "دفاتر مايا" بساعي بريد يطرق باب عائلة لبنانية مهاجرة في كندا منذ سنوات، لإيصال طرد يحتوي على ذكريات أليمة تعود إلى حقبة الحرب الأهلية اللبنانية، تحديداً إلى منتصف ثمانينياتها حينما كانت مايا (ريم تركي/ منال عيسى) مراهقة تشهد على الانزلاق التدريجي والمؤلم لبلادها وناسها وأفراد أسرتها في أتون العنف والاقتتال الأهلي. الآن، أصبحت مايا سيدة خمسينية تعيش في كندا مع أمها التي ترفض العودة إلى الماضي كي لا توقظ الشياطين، ومع ابنتها الفضولية التي ستنبش في الرسائل وشرائط الكاسيت والأغراض الشخصية التي كانت ترسلها أمها مايا إلى صديقتها المقربة في فرنسا.

هذه المراهقة التي سرعان ما تصبح محور الفيلم، تكتشف في هذه الأوراق القديمة أشياء كثيرة عما عاشته أمها وعن الألم الذي يتوارثه اللبنانيون من جيل إلى جيل. الفيلم متماسك نصاً وإخراجاً، يقارب الحرب اللبنانية مقاربة مختلفة عن عدد كبير من الأفلام اللبنانية التي سبق أن تناولت ظروف العيش خلال نزاع أهلي ترك أثراً عميقاً في النفوس. الطابة هنا بين ثلاثة أجيال من النساء، كل واحدة منهن تتفاعل مع موضوع الذاكرة بطريقة مختلفة. هناك الجدة التي صنعت لها حياة جديدة في بلاد المهجر بعدما هربت مع ابنتها، وهناك الأم التي عاشت في لبنان سنوات تكوينها وتركت فيه أهم قصة حب عاشته، وهناك الحفيدة التي نشأت في ثقافة جديدة، لكن سيتبدى جلياً أن الرابط بجذورها أقوى من أن يطمس. "دفاتر مايا" فيلم يتسم بالصدق، مشغول بتقنيات سينمائية عصرية، للأسف لم تلتفت له لجنة التحكيم التي ميزت أفلاماً مهمة لكن ذات مضامين إشكالية تقول شيئاً عن زمننا. والحرب الأهلية اللبنانية بالنسبة إلى الغرب باتت خارج أجندة الاهتمامات منذ فترة معينة.  

فيلم "سعاد"

"سعاد" للمخرجة المصرية الشابة أيتن أمين المعروض في قسم "بانوراما" فيلم أبسط بكثير من "دفاتر مايا". لا يملك طموحاً كبيراً، ويكاد يبدو في بعض جوانبه عملاً هاوياً. مع ذلك هناك من وجد فيه ميزات. المخرج المصري يسري نصر الله كتب على صفحته قائلاً، "شاهدتُ قبل قليل "سعاد". فيلم بديع وصادم مملوء بالإحساس تحت مظهره الهادئ والبسيط. أيتن أمين مسكت بنبرة شكلها هادئ، لكن في داخلها تنوع وتوتر يذهبان دائماً إلى ما هو جوهري من غير أي زعيق أو خروج من العالم الذي أجادت خلقه، وذلك من أول لحظة حتى آخر كادر. الإخراج والتمثيل والتصوير والمونتاج حالة جديدة وشديدة الخصوصية. أنا منبهر". 

الفيلم عن سعاد ابنة الـ19 عاماً التي تعيش في مجتمع منغلق لا يترك لها أي حرية لتتحرك على هواها. نتعرف إليها في الميكروباص وهي عائدة إلى المنزل. خلال جلوسها جنب سيدة تروي لها تفاصيل عن حياتها، ثم تجلس جنب فتاة شابة، فتروي لها نقيض ما روته للسيدة. في مشهد واحد، يختزل الفيلم الازدواجية التي ستمضي صعوداً مع لجوء سعاد إلى وسائط التواصل الاجتماعي لتجد عبرها الحب والعاطفة وما ينقصها في العالم الحقيقي. إلا أنه، مع إقحام الفيلم في حدوتة غير متوقعة، تصبح شقيقة سعاد، رباب، فجأةً بطلة الفيلم، ولكن يبقى الفيلم محافظاً على عنوانه، وكأنه لا فرق بين فتاة وأخرى في مجتمع يقمعهن ويهدر حقوقهن ويدوس على أحلامهن.

"كما أريد"

فيلم عربي ثالث لفت أنظار البعض، "كما أريد" للمخرجة الفلسطينية سماهر القاضي المعروض في قسم "لقاءات". تعالج القاضي في هذا الفيلم قضية التحرش الجنسي في مصر، وقد صرحت سابقاً أن سبب تناولها هذه المسألة في عمل سينمائي هو ازدياد حالات التحرش بعد الثورة المصرية، علماً أنها تعرضت شخصياً للتحرش في كل مكان ذهبت إليه.

يحملنا الفيلم إلى بضع سنوات إلى الوراء، إلى 25 يناير (كانون الثاني) 2013، عندما وقعت سلسلة من الاعتداءات الجنسية في ميدان التحرير، حيث كان الناس تجمعوا للاحتفاء بالذكرى الثانية للثورة. رداً على ذلك، خرج حشد كبير من النساء الغاضبات إلى الشوارع، انضمت إليهن سماهر القاضي، متسلحة بكاميرتها كشكل من أشكال الحماية، ولكن أيضاً لتوثيق اللحظة. لم يكن لديها وقتها أدنى فكرة عن أين ستأخذها المغامرة. تزامن تصوير الفيلم مع حملها، الأمر الذي دفعها إلى التفكير في طفولتها في فلسطين وماذا يعني أن تكون امرأة وأماً في الحين نفسه. فهي واحدة من تسعة أطفال ولدت ونشأت في مخيم الجلزون للاجئين بالقرب من رام الله في الضفة الغربية المحتلة.

في "كما أريد"، تنطلق المخرجة في محادثة وهمية مع والدتها التي رحلت عن العالم قبل أن تتمكن من رؤيتها للمرة الأخيرة. في حوار داخلي حميمي يرشدنا أثناء السرد، تبدأ القاضي في تشكيل الكلمات التي لم تُنطق ومشاركة أعمق أسرارها. نراها تقوم بزيارة مؤلمة إلى منزل والديها في رام الله حيث تستحضر وتواجه ذكريات الطفولة التي تمكنت من الهروب منها. في غضون ذلك، يستمر النضال النسوي في مصر، وحتى بعد ولادة ابنها، لا تزال القاضي تجد نفسها في الخطوط الأمامية. "كما أريد" وثيقة سياسية ورحلة داخلية يرتبط فيها التحرر الفردي بعملية التحرير الجماعية في العالم العربي.

"أعنف حب"

أخيراً، عُرض في مهرجان برلين ضمن فقرة "بانوراما" الخاصة بالأفلام الوثائقية أحدث أفلام المخرجة اللبنانية إليان الراهب، "أعنف حب". بعد مجموعة وثائقيات لافتة عن واقع لبنان ما بعد الحرب الأهلية، اختارت الراهب مادة لجديدها رجلاً مثلياً يواجه أشباح ماضيه ويستكشف الشوق الخفي والحب من طرف واحد، ومشاعر الذنب التي تتآكله. كاميرا الراهب الطامحة دائماً إلى نبش التجربة الحميمية وربطها بالواقع العام، تلتقط شهادة هذا الرجل المعذب الذي يدعى ميغيل، المولود لأب لبناني كاثوليكي محافظ وأم مستبدة من عائلة سورية ثرية. فنعلم من جملة ما نعلمه أن النزاعات العديدة التي عاشها ميغيل في شأن هويته القومية والدينية والجنسية جعلته يختار المنفى "الطوعي"، ففر إلى إسبانيا للعيش فيها وهو في أوائل العشرينيات من عمره.

هناك عاش حياته الجنسية بشكل علني، ساعياً إلى تحطيم المحرمات المتعلقة بالجنس في البلاد التي يتحدر منها. بعد الانهيار، كانت بداية جديدة له. إلا أنه، في يوم من الأيام قرر العودة إلى لبنان. فيلم الراهب مزيج من إعادة التمثيل ومشاهد التحريك ومقابلات البحث عن الذات ومواد أرشيف، يحاول النظر في مدى صعوبة التروما القديمة عندما تطفو إلى السطح.

 

الـ The Independent  في

10.03.2021

 
 
 
 
 

سينمائيّة الـ"برليناله" الافتراضي: نزوات وأوهام وتوقّعات

نديم جرجوره

بدايات مختلفة تنفتح على عوالم مليئة بتخبّطات وأوهام ورغبات ومكبوتات وخيبات ومواجع وقلاقل. نيلّي (8 أعوام) تودّع عجائز يجلسن في غرفهنّ الصغيرة، في مأوى خاصٍ بهنّ، قبل لقائها والديها اللذين يوضّبان أغراض جدّتها لأمّها، المتوفاة أخيراً. شابتان تستقلّان سيارة أجرة، بعد انتهائهما من جلسة تصوير فوتوغرافي لإحداهنّ في الشارع، وتثرثران كثيراً عن علاقة وحبّ وتحدّيات وفانتازيات مُثيرة لمتابعة مصائر المنخرطين فيها. أقدامٌ لشابين أمام مدخل مدرسة في "كوتايسي" (جورجيا)، تلتقطها كاميرا مثبتة على الأرض، قبل انكشاف عالمٍ مضعضع وأناسٍ يُقيمون في روتين يومياتهم المتكرّرة. امرأة متوترة تصل إلى سجن كبير، وتطلب زيارة سجين، وتكاد تُمنع من ذلك، قبل معرفة الحارس بأنّها تريد وداعه قبل إعدامه.

بدايات مختلفة

هذه بدايات 4 أفلامٍ معروضة في المسابقة الأساسية للدورة الأخيرة لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، المُقامة افتراضياً بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021. الأولى في "أم صغيرة" (فرنسا، 2021، 72 دقيقة)، للفرنسية سيلين سيامّا. الثانية في "قصص قصيرة ـ عجلة الحظّ والنزوة" (اليابان، 2021، 121 دقيقة،)، للياباني رياسْكي هاماغتْشي، الفائز بجائزة "الدب الفضيّ ـ الجائزة الكبرى للجنة التحكيم". الثالثة في "ماذا نرى عندما ننظر إلى السماء؟" (إنتاج مشترك بين ألمانيا وجورجيا، 2021، 150 دقيقة)، للجورجي ألكسندر كوبُرِدْزَاي. الرابعة في "أغنية بقرة بيضاء" (إنتاج مشترك بين إيران وفرنسا، 2020، 105 دقائق)، للإيرانيين بحتاش صنايعي ومريم مقدم.

كلّ بداية تمنح متابعها رغبة في اكتشاف اللاحق عليها، لما فيها من بساطة وسلاسة ولقطات سريعة وإيقاع هادئ أو مضطرب. كلُّ بدايةٍ قصّةٌ، وكلُّ قصة توحي بتتمة لها أو أكثر، لكنّ اللاحق يكشف مسارات أخرى وتفاصيل مغايرة. الواقعيّ حاضرٌ، وإنْ يُغلَّف غالباً بنزواتٍ وغرائبيّات. الجسد والجنس والانفعال تترافق كلّها في سعيّ فرديّ إلى بلوغ أجمل المتع، وأوهام تتجلّى في توقّعات تُخيِّب، أو في انفصامٍ عن وقائع وحقائق، أو في ادّعاء انفصامٍ كهذا. اللعنة تحول دون لقاء شابين، لكنّها تدفعهما إلى مقابلة أحدهما الآخر، من دون أنْ يتعرّف هذا الأحد إلى هذا الآخر.

يتفرّد "أغنية بقرة بيضاء" عن الأفلام الأخرى، بواقعيته وموقفه الإنساني والأخلاقي المناهِض لعقوبة الإعدام. القسوة تبلغ مدى قاهِراً، كتلك القسوة المنبثقة من صدامٍ بين رغباتٍ معطّلة ومشاغل مبتورة وانفعالات تصطدم بانكسارٍ وتمزّق، رغم وهمٍ يقول للفرد، أحياناً، إنّ كلّ شيء بخير. اعتماد الياباني هاماغتْشي على 3 قصص، تختلف كل واحدة منها عن الأخريين تماماً، منطلقٌ للعبة سينمائية تعتمد على كاميرا هادئة في التقاطها مساراتٍ وعلاقاتٍ وأمكنةٍ وانفعالاتٍ، وتوطئة لاختراق عوالم فردية تتشابه في انزلاقها إلى خليطٍ ملتبس وحادٍ بين تخيّلات فانتازية ونزوات غير مكتملة واختباراتٍ بصرية، تجعل هدوء الكاميرا انعكاساً لاضطرابات داخلية، وتصنع من القطع التام بين القصص مداخل إلى سِيَر أفرادٍ غارقين في أوهام عيشٍ.

ذروة المتخيّل الفانتازيّ والنزوات المعطوبة تعثر على شبيهٍ لها، بشكلٍ مختلف، في "ماذا نرى عندما ننظر إلى السماء؟". لقاء صدفة يليه، بعد وقتٍ، لقاء صدفة أيضاً، فيتفق الشابان على لقاءٍ فعليّ في مقهى. هذا عاديّ. لكنّ اللعنة تحوِّل كلّ شيء إلى غير عاديّ. كلّ واحد منهما يستيقظ صباح اليوم التالي فيكتشف أنّه ليس هو. الشكل متغيّر، والناس حولهما لا يعرفانهما. تُطرح تساؤلات عن مسائل تتعلّق باليومي والحياتي والعاطفي والمعيشي، من دون إجابات. هذا حاصلٌ في "أم صغيرة"، إذْ ينفتح الحدث على لقاء غريبٍ بين فتاتين صغيرتين، تكتشف إحداهما بعد زمنٍ أنّ الأخرى أمّها، فتبدأ اللعبة السينمائية في تمرين الكاميرا والتفاصيل والشخصيات والمُشاهدين على مواكبة التداخل العميق بين أزمنة وأنماط حياة وشخصيات، تتبادل مع غيرها أدواراً في المقبل من الوقت.

يكاد ينعدم كلّ فاصلٍ بين الغرائبيّة والنزوات والمتخيّل الجسدي/ الجنسي والرغبات. "أغنية بقرة بيضاء" يتفرّد بواقعيّة بحتة، إلى حدّ أنّ الواقع ـ بحدثه المفصليّ ـ يتحوّل إلى غرائبيّ تتملكه نزوة التسلّط والقمع، رغم كلامٍ يُراد به إظهار طيبة وتسامح وطلب مغفرة. تحوّل يأخذ الحدث إلى مناحٍ أخطر في بيئة تتعنّت في تشدّدها، ويرتكز بعض حاكميها على نصّ قرآني يحمل كلام الله إلى مؤمنيه، رغم خطأ يطيح ببريءٍ. فالمحكوم بالإعدام بريء من جريمة، يعترف مرتكبها لاحقاً بتنفيذها، فيندفع أحد القضاة في رحلة ندمٍ قاتلٍ، يبلغ في نهايتها حدّاً ملتبساً بين موتٍ يُريحه من عذاب، وعيشٍ يجعله يدفع ثمن خطئه يوماً تلو آخر.

نزوات ورغبات

"عجلة الحظّ والنزوة"، يتوزّع على 3 قصص: شابتان وشاب، أستاذ جامعي وشابّة، سيدتانالغلبة للمرأة. للرجل دورٌ يتمثّل بإثارة نزوة وفانتازيات، أو بتحريضٍ عاطفي على علاقة حبّ وجسد. قصّة السيدتين مختلفة. تتوهم إحداهما بأنّ الأخرى صديقة قديمة لها، فتوافق الثانية على تأدية هذا الدور، قبل اعترافها بحقيقة الأمر، وقبل انقلابها على ذاتها، بدخولها في اللعبة تلبية لنزوةٍ فيها تدفعها إلى محاولة فهم ما يعتمل فيها من شعور وتفكير. لقاء الشابّة بالأستاذ الجامعي، بعد فوزه بجائزة أدبية عن رواية جديدة له، مليء بكلامٍ مباشر وإيحاءات جمّة مرتبطة بنزعة الجنس والمتخيّل الجسديّ. تُسجِّل الشابّة الحوار كلّه، من دون إخباره. في النهاية، تكشف له فعلتها، فيطلب منها إرسال التسجيل له. تخطئ في كتابة عنوان بريده الإلكتروني، فيُفتضح أمره، ويُطرد من الجامعة.

الشابان في كوتايسي يريدان لقاء تُعطّله لعنة، تصنع حالة غريبة بينهما. كلّ واحد منهما يسأل عن سبب عدم التزام الآخر بالموعد المتفق عليه. لاحقاً، سيعملان معاً في المقهى نفسه، لكنّ أحدهما لن يتعرّف إلى الآخر. اللعنة تُدخل كلّ واحد منهما إلى تفاصيل وحسابات وأسئلة. المدينة تعيش روتينها اليومي. علاقة أبنائها بكرة القدم قديمة. هناك ما يشي بغرائبيّة عيشٍ أيضاً، والنزوات معقودة على الجميع، وإنْ تختلف أهداف النزوات باختلاف مراجعها وحيويتها وأنماطها ومساراتها.

سيدتا القصة الثالثة في "عجلة الحظّ والنزوة" تُسرفان في لعبتهما، فتنعدم كلّ إشارة إلى واقع كلّ واحدة منهما: أهما مُصابتان بخلل وارتباك نفسيين، أم أنّهما راغبتان في آخرٍ يعثران فيه على أمانٍ ما؟ ماذا عن فتاتي "أم صغيرة"؟ اللعبة هنا تخترق وجوداً ومستقبلاً وتلاعباً بأزمنة وشخصياتٍ. هناك مرضٌ وخوف من مستقبل وقلق من راهن واختفاءات ربما تحدث، تتمثّل بموت أو مغادرة أو غياب.

الشابتان اليابانيتان، في القصّة الأولى في فيلم رياسْكي هاماغتْشي، تطمحان، كلّ بمفردها، إلى تلبية رغبةٍ ذاتية، جسداً وروحاً. إحداهما تروي للأخرى علاقتها الجديدة بشابٍ، تكتشف الثانية، تدريجياً، أنّه حبيبها السابق. كلامٌ كثيرٌ يُقال في "عجلة الحظّ والنزوة"، لكنْ من دون ثرثرة أو ملل، فالكلام يُفسِّر أشياء ويطرح أسئلة ويُساجل، ضمنياً، في شؤون حميمية. تُصوّر لقطة اللقاء بين الشابتين والشاب في مقهى فعلاً سيئاً ترتكبه الحبيبة السابقة، بفضحها علاقتها به أمام صديقتها. لكنّ هذا غير واردٍ، فالوقائع تُشير إلى مغادرتها تاركة إياهما معاً. هذا يُشبه قليلاً ما ترغب في فعله زوجةُ المحكوم عليه بالإعدام، بعد اكتشافها حقيقة من يصنع خيراً معها. تتخيّل أنّها تُسمّم كأس الحليب الذي يشربه. لكنّ شيئاً ما يوحي بالتباس اللحظة: هل السم موجود فعلياً في الكأس، أم أنّ المتخيّل يُسيطر على تلك اللقطة، نابشاً نزوة مدفونة في أعماق الأرملة، تقودها إلى انتقام معطّل؟

كاميرا وأضواء

المشترك بين "أم صغيرة" لسيلين سيامّا، و"ماذا نرى عندما ننظر إلى السماء؟" لألكسندر كوبُرِدْزَاي، تحديداً، كامنٌ في سردهما وقائع أحداثهما وحكايات ناسهما بلغة لا علاقة لها بالواقع. التلاعب السينمائيّ ممتع. الواقع يحضر في طيات النصين، لكن التعبير عنه منضوٍ في الإيحاء بأنّ "الحياة اليومية" أغرب من الخيال. الفيلم الياباني "عجلة الحظّ والنزوة" لرياسْكي هاماغتْشي مختلف. سطوة الجسد وفانتاسماته أقوى من تقييد التعبير عنها (السطوة والجسد والفانتاسمات) بتبسيط ومباشرة. "أغنية بقرة بيضاء" يُبيِّن مأساة الإعدام بوضوح تام، لكنّه يرفض العقوبة ضمنياً، أي بلغة مواربة تريد للرفض أنْ يتمثّل بكشف المآسي الفردية الناجمة عنه. هذا يُشبه "لا يوجد شيطان" (2020)، لمحمد رسول أف ("العربي الجديد"، 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2020)، في نقد الإعدام ورفضه. يُصوِّر الثنائي بحتاش صنايعي ومريم مقدم تداعيات إعدام بريء على عائلته، وعلى مُوافقٍ على حكم الإعدام، من خلال قصة واحدة. محمد رسول أف يروي 4 قصص عن 4 "جلّادين" ومعاناتهم.

كلّ فيلمٍ من الأفلام المُشاهَدة في الدورة الافتراضية لـ"مهرجان برلين السينمائي" ("العربي الجديد"، 10 مارس/ آذار 2021)، يستحقّ أكثر من مُشاهدة واحدة. الراوي في "ماذا نرى عندما ننظر إلى السماء؟" يتكامل مع كاميرا فَراز فيشاراكي في تبيان حالة وانفعال، كتبيان سلوك وحركة ومنظر. الألوان فاتحة أحياناً، والعتمة قاسية. يتناقض هذا مع كاميرا يوكيكو ليوكا (عجلة الحظّ والنزوة)، المعتمدة أكثر على ألوان فاتحة، وعلى تصوير يميل إلى الموازنة بين لقطات قريبة وأخرى بعيدة. بينما كاميرا كلير ماتون (أم صغيرة)، ترسم بألوان الطبيعة الماطرة حكاية أم وابنة وموت وغياب، بسلاسة تتناقض وغليان الانفعال واللحظات والقلق. أما أمين جعفري، فيبدو كمن يترك الكاميرا تنساب وحدها في مرافقة امرأة تبحث عن عيشٍ هانئ، وعن سلامٍ ذاتي، وعن إنصافٍ بعد انكشاف الحقيقة.

هذه أفلامٌ توثِّق حكايات نساءٍ يبحثن عن خلاصٍ أو أمانٍ، ويجهدن في تلبية رغباتٍ وأهواء ونزوات، ويرغبن في خروجٍ آمن إلى عالمٍ مختلف. للرجال معهنّ علاقات ونزوات وحاجات، لكنهنّ يُتقنّ تواصلاً معهم، لرغبةٍ في ذلك، أو لاختبار تلاعبٍ أو تجربة علاقة. متعٌ سينمائية تصنعها مشاهدتهنّ في عيشهنّ أمزجةً وأوهاماً، أو في سعيهنّ إلى انتقام ملتبس، أو في شغفهنّ القلِق.

هذا عائدٌ إلى حِرفية مهنيّة تذهب بصانعيها ومعهم إلى أقصى حدود التجريب.

 

العربي الجديد اللندنية في

12.03.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004