ملفات خاصة

 
 
 

رادو جود يهاجم مهرجان برلين وفيلمه الفائز يفضح رومانيا

نقد لاذع للمجتمع الروماني المتأرجح بين الماضي والحاضر وبين الأدلجة والليبرالية

هوفيك حبشيان

برلين السينمائي الدولي

الدورة الحادية والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

كوميديا فاضحة وساخرة ومستفزة نالت "الدب الذهبي" في الدورة الحادية والسبعين لمهرجان برلين السينمائي الذي أُقيم "أونلاين" للمرة الأولى في تاريخه. الفيلم المقصود هو "مضاجعة فاشلة أو بورنو مجنون" للروماني رادو جود، البالغ من العمر 43 عاماً، علماً انه كان سبق أن نال جائزة أفضل مخرج عن "عفارم" قبل ست سنوات في المهرجان نفسه. درس جود السينما في بوخارست، وانطلق في مسيرته كمساعد مخرج، ثم في العام 2006 قدم فيلماً روائياً قصيراً تحت عنوان "الأنبوب ذو القبعة"، فنال عنه أكثر من 50 جائزة حول العالم. الرقم 50 هو أيضاً عدد المهرجانات التي شارك فيها رادو مع فيلمه الروائي الطويل الأول "أسعد فتاة في العالم" (2009).

منذ ذلك الوقت شق طريقه بنجاح في عالم المهرجانات السينمائية بحفنة أفلام فرضته كواحد من المؤلفين السينمائيين الأوروبيين الذين يجب متابعتهم. "لا أكترث إذا دخلنا التاريخ باعتبارنا برابرة" (2018) أكد موهبته ونزعته إلى نبش الماضي والحاضر الرومانيين والإشارة إلى تفاصيل مزعجة. هذا الفيلم وفيلمه الجديد يكملان بعضهما بعضاً، وليس من المبالغة القول إن مشاهدة أحدهما تجعل مشاهدة الثاني أكثر متعةً. الفيلمان يتشاركان النقد اللاذع للمجتمع الروماني المتأرجح بين الماضي والحاضر، وبين الأدلجة والليبرالية. باختصار، نقد لا يوفر أحداً. 

مصالحة ونكران

إذاً، يمكن القول إن فيلم "لا أكترث إذا دخلنا التاريخ باعتبارنا برابرة" وضع نوعاً ما ركائز الخطاب الذي تطور إلى مستوى آخر في جديد رادو جود. فهذا الفيلم الذي شاهدناه قبل ثلاث سنوات هو عن التاريخ الروماني الذي ينكره عدد كبير من الرومانيين، خصوصاً اليمينيين والشوفينيين والتحريفيين منهم. بطلة الفيلم مخرجة تستعد لتقديم عرض شعبي كبير عن مجزرة أوديسا (1941). الهدف من هذا العرض هو قول بعض الحقائق عن صفحة سوداء من تاريخ رومانيا. إنها صفحة لطالما سعت السلطات لتمزيقها من كتاب التاريخ، تورط رومانيا في قتل ليس أقل من 30 ألف يهودي في أوديسا خلال الحرب العالمية الثانية تحت حكم الطاغية الماريشال أنتونيسكو. تحاول المخرجة فرض هذه الحقائق بقوة ووضعها في تصرف الجمهور العريض، في نوع من مصالحة تاريخية مع الماضي تضع حداً للنكران والنسيان. إلا أن هذا كله لن يمر بسلاسة في محيط المخرجة الذي يرى في هذه المباردة استفزازاً وركلة في وكر دبابير. وبعضهم يخشى أصداء مثل هذا العرض الذي "يحرف" التاريخ المتفق عليه.

عندما حاورتُ جود للحديث معه عن هذا العمل، أدركتُ كم يكن للفيلم معزة خاصة. فهو عندما قرأ للمرة الأولى عن مجزرة أوديسا عندما كان مراهقاً، طلبت منه أمه الكف عن قراءة "هذه الأمور السخيفة، لأنها لم تحدث". هذه لحظة تأسيسية اشتغل عليها جود لبناء فيلمه الذي يستند إلى مراجع أدبية، من هانا آرندت إلى ميهايل سيباستيان فإسحق بابل.

فيلم سجالي

اليوم، يعود جود بفيلم أقوى جماهيرياً، سيحدث كثيراً من النقاش في رومانيا وأوروبا والعالم. وهو بلا أي شك امتداد أكثر جنوناً لـ"لا أكترث إذا دخلنا التاريخ باعتبارنا برابرة"، وأقل ما يُقال فيه إنه مثير للجدل، ومن الواضح أن لجنة التحكيم كانت مدركة تماماً لهذه الحقيقة عندما أرادت تسليط الضوء على عمل يخرج عن المألوف، ولا يشبه أياً من الأفلام الأخرى المتسابقة على الجوائز. 

يمكن تلخيص "مضاجعة فاشلة وبورنو مجنون" المقسوم إلى ثلاثة فصول، بالآتي: في الفصل الأول، نتعرف على أستاذة مدرسة (كاتيا باسكاريو) تجوب شوارع بوخارست بعدما سُرب مقطع مصور لها وهي تمارس الجنس مع زوجها. انتشار هذا المقطع الذي بات يعرض على مواقع جنسية، أحدث فضيحة كبيرة في البلاد، لا سيما أنها أستاذة وعليها بالتالي أن تكون نموذجاً للأخلاق الحميدة والسلوك الحسن في نظر حراس الفضيلة، وما أكثرهم في رومانيا. هذا هو بإيجاز الفصل التمهيدي الأول، حيث نرى المقطع مع كامل العملية الجنسية، كما أننا نكتشف شوارع وأزقة وساحات من بوخارست التي لا يحتاج المُشاهد إلى كثير من الجهد ليكتشف بشاعتها، فالرأسمالية والاستهلاك استوطنا فيها بلا أي رحمة. الفصل الثاني هو الأكثر جنوناً، شيء أشبه بأنتولوجيا، تفكيك لمفاهيم كثيرة منتشرة بين الناس تجسد الثقافة الشعبية اليوم في رومانيا.

الكلمات والتعابير والمواقف كلها تصبح مادة للعب والسخرية من جانب المخرج. تجميع للمواضيع الجدلية. هذا الفصل ينطوي على نكات، وخبريات تاريخية، ولقطات أرشيفية، كلها بهدف فضح الرجعية الرومانية، وذلك على المستويات كافة، من السياسة إلى الدين. أما الفصل الثالث الأخير، فهو محاكمة الأستاذة العلنية في جلسة يحضرها أهالي الطلاب ويشارك فيها أيضاً ممثلو العسكر ورجال الدين، حيث ستواجه اتهامات بالفسق والفجور. لكن الأستاذة ستدافع عن نفسها كاشفة ازدواجية المعايير والنفاق في المجتمع الروماني.

مفاهيم خاطئة

خلال هذه الجلسة الهزلية، يكتشف المُشاهد الأفكار الرجعية والمفاهيم الخاطئة التي يرزح تحتها المجتمع الروماني الحديث، الشيء الذي يسمح للمخرج بتقديم عمل شديد النقد حيال شعبه وبلاده ومناكفة الجميع، لا بل بلوغ مستوىات عالية من الهجاء السياسي. من الهوموفوبيا إلى العنصرية فالذكورية، هذا كله يصبح على الطاولة في جلسة إدانة أفعال الأستاذة. إلا أن المسألة التي تعود مجدداً مرة جديدة بعد فيلم "لا أكترث إذا دخلنا التاريخ باعتبارنا برابرة" هي معاداة السامية. فأهالي الطلاب يتهمون الأستاذة بأنها يهودية في موقف واضح وصريح من اليهود، موجود بقوة في المجتمع اليهودي، وكان رادو تناوله معي في حديثنا معاً. قال: "كراهية اليهود مصدرها الكنيسة الأرثوذكسية الرومانية التي كانت دائماً معادية لهم. المسألة تتعلق أيضاً بشعب لم يعرف يوماً كيفية التعاطي مع الغريب. بعد الحرب العالمية الأولى، عندما توسعت رومانيا، فجأةً وجد هذا البلد، الذي لطالما كان متجانساً إثنياً، في ديموغرافيته الجديدة يهوداً. فصار الرومانيون يسألون بعضهم بعضاً، "ماذا يفعل هذا الشخص هنا؟". كانت هذه نتيجة الحصول على باسارابيا وبوكوفينا الشمال بعد الحرب. وكان فيها يهود! هذا أسهم في تغذية الحقد ضد اليهود. اليوم، لم يعد هناك يهود في رومانيا. ولكن ثمة قناعة قوية عند الناس أن هناك مؤامرة كونية خلفها اليهود. أسمع كثيراً عن هذه الفكرة الغبية".

بعد فوز الفيلم بـ"دب" برلين من أيادي لجنة تحكيم تتألف من ثلاث مخرجات وثلاثة مخرجين كانوا فازوا بـ"الدب" في السنوات الأخيرة (من بينهم الرومانية أدينا بينتيلي، (عبر رادو جود عن تأييده لفكرة مهرجان افتراضي، لا بل قال إنه يتطلع إلى مزيد من هذه المهرجانات في المستقبل. اعترف أنه لا يحب "هراء السجادة الحمراء"، فهو سعيد جداً بأنه لم يضطر إلى المشاركة في حفل مملوء بالبهرجة لتسلم جائزته، ذلك أن قناعاته السينمائية لا علاقة لها بهذا النوع من التهريج. "الوسط الأدبي"، قال، "لا يلجأ إلى هذا النوع من الغلامور للفت النظر. عندما تزور معرض الكتاب، لا تجد أشخاصاً بملابس أنيقة. فقط ناس يحبون الكتب، وكتاب يكتبونها، يلتقون بعضهم لبعض، وهذا كل شيء. لا ترى كل هذا الهراء، من سيارات فارهة وسجادة حمراء. أفهم أن المهرجان يكلف المال، ولكن هذا العام غابت هذه المظاهر، وأنا سعيد!". 

كشف رادو جود أنه صور فيمله خلال الإغلاق الذي تسبب به تفشي وباء كورونا، ما تطلب ارتداء فريق العمل الكمامات والتزام المسافة الآمنة، تطبيقاً لقواعد التباعد الاجتماعي. ويبدو أن هذا لم يعرقل عملية التصوير، بحسب جود الذي قال، "السينمائيون الذين يأتون من بلدان صغيرة، اعتادوا العثور على حلول غير اعتيادية، لأننا كنا دائماً نعمل في ظروف متأزمة ولطالما كان علينا أن نتكيف مع الظروف كي نبدع". 

 

الـ The Independent  في

08.03.2021

 
 
 
 
 

أفلامٌ قصيرة في الـ"برليناله": سينما القسوة

نديم جرجوره

القسوة، بأنواعها المختلفة، تحضر في 3 أفلام قصيرة، مشاركة في مسابقةٍ خاصّةٍ بها، في الدورة الـ 71 لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله)"، المُقامة افتراضياً بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021، والأفلام تلك فائزة بجوائز المسابقة.

قسوة تنفلش في الجسد والروح، وتنبثق من وحدةٍ وسطوة ذكورية، وتتبلور في بيئات ضيّقة وانغلاق حادّ. قسوة تخترق الاجتماع، وتولد من التربية، وتنفجر في أفرادٍ يُصبحون مرايا تلك البيئات، وإنْ يصمت بعضهم، فالخوف قاسٍ بدوره، والعزلة أشدّ، والتقوقع خانقٍ، والوحدة تُبلور حضورها في ذاتٍ ونَفْسٍ وعلاقات.

للقسوة ترجمةٌ عمليّة، يتلقّاها الفرد في عمرٍ باكرٍ، فينطوي عليها طويلاً قبل خروجه منها إليها، بحثاً في تفاصيلها، وعن أحداثها ومُسبّبيها ("خالي تودور" لأولغا لوكفينتزوفا، الدب الذهبي لأفضل فيلم قصير)؛ أو يعيشها عجوزٌ، فيكتشف مجدّداً مسامها وعنفها في لقاء عابر مع أفراد عائلةٍ، يرى في صغيرها/ حفيده لحظة خروجٍ من الوحدة قبل انغلاق الوحدة عليه مجدّداً ("اليوم يتمّ" للصيني جانغ دالاي، الدب الفضي ـ جائزة لجنة التحكيم)؛ أو يعيشها الفرد صغيراً، بسبب سطوة صديقٍ يعاني ارتباكاً خانقاً في سلوكٍ وعيشٍ ("بيض عيد الفصح" للبلجيكي نيكولا كِبّينز، مُرشَّح برلين للأفلام القصيرة لجوائز السينما الأوروبية).

المخرجون الثلاثة مولودون في ثمانينيات القرن الـ20. جنسياتهم موزّعة على دولٍ تشهد صناعة سينمائية فاعلة ومؤثّرة، جمالياً وثقافياً وفكرياً وبصرياً. التحريك أحد أنواعها، والتوثيق المبطّن في سياق سرديّ نوعٌ آخر، بينما الروائيّ البحت ناضجٌ سينمائياً إلى حدّ إلغاء كلّ فاصلٍ بين أنواعٍ وهواجس بصرية وفنية.

البلجيكي كِيبّينز (1989) يرى التحريك أنسبَ تصوّرٍ سينمائي في قراءة حالةٍ، تتخبّط في ارتباكات ومخاوف وهواجس وقلاقل. الشخصيتان الأساسيتان تتمثّلان بمراهِقَين اثنين، ما يُضفي على التحريك عاملاً أجمل في صُنع متتاليات بصرية، تروي حكاية علاقة وانفعالٍ وسقوطٍ في ضيق عيشٍ يكاد يكون (العيش) مفقوداً لشدّة هذا الضيق. والتوثيق، المغلّف بمفردات سرديّة، يدفع لوكفينتزوفا (1981) إلى محاورة خالها تودور، المعتدي جنسياً عليها في طفولتها. المواجهة غير ظاهرةٍ بصرياً، بينما تسجيل حوارِ استعادة الماضي بينهما مسموعٌ. أهذه لعبة فنية، أو رغبة في إضفاء مزيدٍ من التشويق، أو تلبية لحاجة إلى متنفّس سيكولوجي يُريح المخرجة في سماعها فصول معاناتها على لسان جلاّدها، أو غياب جرأة تصوير المواجهة، رغم جرأة المواجهة نفسها؟

انعدام كلّ حدّ بين الأنواع يجعل دالاي (1982) أكثر انفتاحاً على دواخل شخصيات قليلة، تلتقي في منزل الجدّ، وتنكشف قليلاً. الركيزة الدرامية ماثلةٌ في حوار صامتٍ (يتخلّله كلامٌ قليل للغاية) بين الجدّ والحفيد، فهما طرفا خطّ ممتد بين سنين ومعارف واختبارات وأعمار مختلفة للغاية بينهما. إصرار الجدّ على مُشاهدة فيلم الحفيد (تصوير سيارات عابرة في أحد الشوارع، لمدّة ساعتين) يقول ـ بصمتٍ مهيب وبتأمّلٍ عميق ـ أشياء كثيرة عن المخبّأ فيهما وبينهما.

للتوثيق متطلّباته، التي تُلبّيها أولغا لوكفينتزوفا، بعد 20 دقيقة من تصوير يحتال، بداية، على النواة الأساسية، قبل انكشاف مغزى لقاء المخرجة بأفرادٍ عجائز من عائلتها، بعضهنّ نساء منهمكات في استعادة ماضٍ لهنّ عبر صُور فوتوغرافية (الصُور الفوتوغرافية ستكون مشتركاً بين الجدّ والحفيد، بشكلٍ غير مباشر، في "اليوم يتمّ")، والتفاصيل الجانبية تظهر في أشغالهنّ اليومية المعتادة، بينما "صوت" الحوار بين الشابّة والخال يُظلِّل صُوراً ولقطات مبثوثة في سياق سردٍ موجع وقاسٍ عن علاقة "جنسية" غير مكتملة (يُصرّ الخال على تأكيد عدم ولوجه في ابنة شقيقته، بينما الشابّة تردّ بضحكة ساخرة كأنّها تحمد الربّ على هذا).

للتوثيق متطلّباته، إذْ تذكر لوكفينتزوفا، قبل جينيريك نهاية "خالي تودور"، معلومات عن وقائع مخيفة: واحد من أصل 5 أولاد يتعرّض لـ"سوء معاملة" قبل بلوغه 18 عاماً؛ 90 في المائة يعرفون مرتكب الفعل الجُرمي هذا عليهم؛ 70 في المائة من الأولاد غير معترفين بـ"الاعتداء/ سوء المعاملة"؛ بعض هؤلاء (الضحايا) يكشف عن الحاصل معهم في مرحلة البلوغ، وآخرون (40 في المائة) لن يتحدّثوا عن ذلك مطلقاً، ويعيشون لوحدهم مع صدمتهم تلك مدى حياتهم.

معطيات مخيفة، رغم أنّ شبيهاً لها حاصلٌ في دول كثيرة. اللقطة الأخيرة مُعبِّرة سينمائياً وحياتياً ونفسياً: تقف أولغا لوكفينتزوفا أمام الكاميرا. يرتفع وجهها قليلاً صوب السماء. عيناها شبه مغلقتين، ورذاذ المطر يتساقط عليها. أيكون هذا اغتسال أو تطهّر، أو راحة مطلوبة من ثقلٍ طاغٍ عليها أعواماً طويلة؟

اللقطة الأخيرة في "اليوم يتمّ" (ترجمة حرفية للعنوان الإنكليزي المعتمد رسمياً في الـ"برليناله" الـ71: Day Is Done) مُعبِّرة بدورها، سينمائياً وحياتياً ونفسياً: يخرج الأبوان وابنهما من منزل الجدّ. يودّعهم العجوز بعد أنْ يطلب من حفيده البقاء معه وقتاً إضافياً، فللحفيد "رحلة" إلى روسيا لاحقاً (لن يتمكّن الحفيد من تلبية رغبة جدّه، مع أنّه موافقٌ عليها). يبتعدون قليلاً، فيقول الجدّ شيئاً لن يفهمه الحفيد، ولن يُكرّره الجدّ ثانيةً. ينتظر العجوز اختفاءهم، وعندها، يعود إلى منزله مغلقاً الباب عليه. يجلس على كرسيّ هزّاز، ويتأمّل صور الماضي. يسقط شيءٌ ما عليه، فلا يُبالي، مكملاً غرقه في ماضٍ قديم، سيبقى وحده معه إلى النهاية، كما يبدو.

في التحريك (15 دقيقة) تساؤلات عن مسائل عيش وحياة وعلاقات. هناك جامعٌ بين الصديقين، رغم عنف الأكبر سنّاً على الأصغر منّه. القسوة نابعةٌ من بيئة ومسالك، لكن الصُور غير معنية بها، بل بحاصلٍ بينهما.

إنْ تُجدِ المقارنة نفعاً نقدياً، يُصبح الاختيار بين الأفلام الثلاثة سهلاً: الصينيّ (إنتاج الصين، 2021، 24 دقيقة) سينمائيّ بصُوره وكادراته ومناخه وصمته ومتتالياته، وبتمكّن بديع في ربط البداية بالنهاية، مع الأبوين وابنهما في سيارة تقلّهم أولاً إلى منزل الجدّ، ثم تُعيدهم إلى منزلهم. الغلبة للصمت، فالصمت أقدر على تعبيرٍ أجمل، خصوصاً أنّ الممثلين يقولون بحركة أو ملمح أو وجه أو نبرة ما يُفترض بهم قوله والبوح به. تغييب التوثيقيّ بصرياً في فيلم أولغا لوكفينتزوفا (إنتاج مشترك بين بلجيكا والبرتغال والمجر، 2020) يتناسق وأولوية الصورة السينمائية في التقاط لحظة ومناخ ومشاعر وخبريات. بينما التحريك (إنتاج مشترك بين بلجيكا وفرنسا وهولندا، 2020) يحافظ على حِرفية الاشتغال، صورة وسرداً وألواناً وتفاصيل.

 

العربي الجديد اللندنية في

08.03.2021

 
 
 
 
 

مهرجان برلين 2021: كثير من الأفلام الجيدة بلا أمطار

محمد طارق

على مدار خمسة أيام (1-5 مارس 2021) ومن خلال شاشة التلفاز تابعت عروض سوق الفيلم الأوروبي الذي تضمن أفلام مسابقات وبرامج الدورة الـ71 لمهرجان برلين السينمائي. ربما لا تكون كلمة المهرجان هي الأنسب للوصف، إذ تغير الوضع بسبب وباء كوفيد-19 بالنسبة للعديد من المهرجانات لتصبح افتراضية، تشاهدها من خلال شاشة صغيرة دون نقاش مع الزملاء أو أكواب القهوة الصباحية في المركز الصحفي أو حتى طوابير الانتظار المزدحمة المصطفة تحت الأمطار القاسية. بناءً على ذلك قررت أن أعتبر ما حدث هو مجرد مشاهدة لعروض برامج المهرجان العريق في ظروف إنسانية مختلفة للغاية.

هل تغير الجائحة من نمط المهرجانات السينمائية؟

المثير للتأمل وأنا جالس على أريكة بيتي المريحة أشاهد من 4-6 أفلام يوميًا هو أن ذلك النمط ربما يكون أكثر فاعلية وتوفيرًا للمصاريف، اشتراك صحافة بـ60 يورو يوفر لك كل الأفلام دون الاضطرار إلى الإنفاق على الإقامة والمصاريف اليومية بالعملة الصعبة ودون حزم الحقائب والاتجاه إلى المطار وأخذ رحلة قوامها 5 ساعات والهرولة كل يوم بين قاعة وأخرى دون فرصة لالتقاط الأنفاس أو تناول وجبة، رغم كل ذلك فقد شعرت بحزن شديد كون التجربة منتقصة للغاية على المستوى الإنساني، فكم من فرصة لقاء وتعارف بالصناع والنقاد من كل الأرجاء طارت وكم من تفاعل إنساني مختلف فُقِد، بل وحتى المواقف غير المريحة التي تبقى في ذاكرتك وتشكل جزءًا من تجربتك ككل، فضلًا عن غياب تجربة السفر الفعلي ومشاهدة المدينة الواسعة الضخمة وهي تتحول لاحتفالية سينمائية كبرى تُشعر أي محب للسينما أن برلين هي بيته الأول والأخير.

هذا النوع من الفعالية في المشاهدة قد يسبب فيما بعد تغيرًا في أسلوب المهرجانات وشركات الإنتاج التي ربما قد تحب إنجاز الأعمال بهذا الشكل، لكن لحسن الحظ أن برلين تحاول الحفاظ على المهرجان الفعلي من خلال قسم المهرجان إلى قسمين: عروض تحدث في الشتاء في المواعيد المعتادة، ومهرجان فعلي لجماهير المهرجان العريضة في الصيف (في حال تحسن الأحوال بالطبع)، خالقًا نموذجًا هجينًا يحاول التأقلم مع المعطيات الجديدة. على أي حال، فالبرنامج هذا العام تضمن العديد من العروض الجيدة، رغم تقلص بعض برامج المهرجان عن العام الماضي، ونحاول من خلال هذه المساحة التركيز على المسابقة الرسمية وسمات الأفلام المشاركة بها.

دب ذهبي مستحق لـ «مضاجعة سيئة الحظ أو جنس جنوني»

أول ما يمكن ملاحظته هذا العام هو وجود مخرجين مشتركين بين الدورتين الـ70 والـ71 هما الروماني رادو جود والكوري هونج سانج سو، إذ شارك الأول بفيلمين في العام الماضي خارج المسابقة هما «طباعة بالأحرف العلوية» و«خروج القطارات» بينما شارك الثاني بفيلمه «المرأة التي فرت» في المسابقة الرسمية حيث فاز بجائزة الدب الفضي – أفضل مخرج.

هذا العام، شارك المخرجان بفيلمين في المسابقة الرسمية للدورة الـ71، إذ شارك جود بفيلمه «مضاجعة سيئة الحظ أو جنس جنوني» وسانج سو بـ«تقديم»، كان الدب الذهبي من نصيب الأول بينما فاز الثاني بجائزة الدب الفضي – أفضل سيناريو. جائزة جود مستحقة للغاية إذ يستطيع المخرج التجديد على مستوى الشكل والمضمون في أفلامه وأن يعطي لكل فيلم منطقه البصري والدرامي الخاص.

فيديو جنسي مسرب لمعلمة شابة مع زوجها يقود أحداث فيلم جود، مع أسلوب مميز من خلال الكاميرا التي تراقب الواقع الروماني المرير بينما تتجول البطلة في المدينة محاولة الوصول إلى حل لمشكلتها في الفصل الأول، بينما في الفصل الثاني يعيد المخرج تعريف مصطلحات معروفة بصور حادة وبكلمات تصف المصطلح وفقًا لرؤيته، بينما يذهب الفصل الثالث إلى محاكمة هزلية تقيمها إدارة المدرسة بحضور كل المدرسين للمعلمة الشابة، لينتهي الفيلم بثلاث نهايات تختلف في حدتها وواقعيتها

جرأة جود الأسلوبية هي ما تجعل الفيلم مستحقًا للجائزة، بدءًا من عرضه للمقطع الجنسي في بداية الفيلم -يبدو كمقطع جنسي مصور بواسطة هواة بكل تلقائية- وصولًا إلى جرأته على مستوى الشكل والتعبير عن القصة بأسلوب هزلي يستخدم عناصر الوثائقي -الأمر المشترك بينه وبين «طباعة بالأحرف العلوية»- ليخلق عالمه الخاص، الأمر الذي جعل لجنة تحكيم برلين (المكونة من 6 فائزين بالدب الذهبي سابقًا) تمنحه جائزتها الأهم. إضافة إلى ذلك، يمكن أيضًا ملاحظة استخدام جود الذكي لأقنعة الوجه الناتجة عن وجود الوباء وتوظيفها داخل الدراما بشكل ذكي، الأمر الذي ينقلنا إلى الملاحظات المتعلقة بالإنتاج الناتجة عن تأثير الجائحة على صناعة السينما.

كيف تؤثر الجائحة على الأفلام المصنوعة؟

يمكننا ملاحظة بعض السمات المميزة للبرنامج هذا العام ومنها المتأثر بظروف الإنتاج المتعلقة بالوباء، فكثير من الأفلام تدور بعدد محدود من الممثلين ومواقع تصوير داخلية محدودة ومعتمدة على الحوار والسيناريو أكثر من اعتمادها البصري مثل فيلم سيلين سياما الأحدث «أمي الصغيرة» وفيلم الممثل والمخرج الألماني دانيل برونيل «الباب المجاور» وفيلم الممثلة والمخرجة الألمانية (مخرجة مسلسل «غير ملتزمة» لمنصة نتفليكس) ماريا شرادير «أنا رجلك».

تعود سياما مخرجة «لوحة امرأة تحترق» -الفائز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان عام 2019- بفيلمها الأحدث «أمي الصغيرة» الذي يعتبر فيلمًا أصغر على مستوى الإنتاج وأبسط بكثير لكنه يمتلك عذوبة خاصة، فتاة صغيرة تذهب مع أمها إلى بيت جدتها بعد رحيل الأخيرة، لتدخل في مغامرة زمنية تقابل فيها الأم في صغرها والجدة في شبابها. رغم أن الفيلم غير منطقي على مستوى الانتقال إلى الزمن ولا يؤسس لذلك، إلا أنك تستطيع بسهولة ملاحظة أن هذا الفيلم مبني على خيال طفلة بعمر البطلة (8 سنوات) وكل تفاصيله تحكى من هذا الجانب وهو ما يمنح الفيلم، إضافة إلى البيت ذي الديكور القديم والغابة وطغيان اللون الأخضر الدافئ، سحره الخاص على المشاهد.

في «الباب المجاور» ممثل شهير في انتظار كاستينج مهم في لندن، يخرج من شقته الفاخرة في برلين ليمر ببار يحظى فيه بقهوته الصباحية قبل أن يتجه للمطار. في ذلك البار يقابل جاره الذي لا يعرف عنه شيئًا بينما يعرف الجار عنه كل شيء، لتبدأ دراما الفيلم في التصاعد باستخدام الحوار الذكي المتصاعد الذي يعطي تعليقًا على بعض من القضايا الألمانية على هامش الحوار المسرحي المتصاعد والمغير لأحداث الفيلم. الفيلم أيضًا مكون من عدد محدود من الممثلين وتصوير أغلبه في موقع واحد هو البار، الأمر الذي يؤكد تأثير الجائحة على شكل الأفلام المنتجة.

كما يمكن ملاحظة ذلك في «أنا رجلك» وهو فيلم خيال علمي مشابه لكثير من الأفلام التي تتحدث عن الأندرويدز (روبوتات بهيئة البشر وبذكاء اصطناعي) إذ تختبر ألما الباحثة الخبيرة في علم اللغويات أندرويد مصممًا بناءً على تفضيلاتها لمدة ثلاثة أسابيع، نرى من خلالها مواقف تغير من وجهة نظرها تجاهه، بل وتطرح سؤالًا غاية في الأهمية: إذا كان هدف الحب السعادة، فهل يشترط أن يكون حبك الأفضل بشريًا؟ الفيلم مصنوع بشكل بسيط ومرتكز على الحوار والأداء الجذاب من كلا الممثلين دان ستيفنز ومارين إيجرت التي فازت بجائزة أفضل تمثيل في دور رئيسي.

أفلام داخل الأفلام

يمكننا أيضًا ملاحظة وجود الأفلام المبنية على القصص المجمعة المرتبطة داخل الفيلم بإطار واحد لكنها منفصلة على مستوى السرد.

أول تلك الأفلام هو الفيلم الياباني «عجلة الحظ والخيال» للمخرج الياباني ريوسوكي هاماجوتشي، الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى، والمكون من ثلاث قصص مختلفة ترتبط كلها من خلال عنصر الصدفة كمحفز للدراما، أولها حول مثلث حب مأساوي يُخلق بواسطة محادثة عادية بين صديقتين، وثانيها فخ تحاول طالبة نصبه لمعلم جامعي من خلال قراءتها لروايته، وثالثها يمتلك عنصر الخيال العلمي الذي يحدد العالم والصدفة بين امرأتين في وسط طوكيو، ويمكننا ملاحظة خلو الأماكن الخارجية في مدينة طوكيو كتأثر بالجائحة أيضًا.

فيلم آخر يستخدم نفس المنطق لحكي مواقف مختلفة تمتلك كل منها الدراما الخاصة بها، هو الفيلم المجري «غابة – أراك في كل مكان» للمخرج بينس فليجوف، والذي يعتمد في كل قصة محكية على دراما الموقع الواحد والحوار المتصاعد بين عدد قليل من الشخصيات. يقترب الفيلم من أسلوب مايكل هانيكه و«دوجما 95» من حيث الإضاءة والمواقع الخانقة واستخدام اللقطات القريبة لكاميرا مهتزة تنتقل بعنف بين الشخصيات بل وتركز على أيديهم أثناء الحوار، الأمر الذي يجعل الفيلم من أفلام الرعب النفسي بشكل أو بآخر.

الفيلم الأخير الذي يستحق الإشارة إليه هو «فيلم بوليسي» للمخرج المكسيكي المميز ألونزو رويز بالاس، الفائز بجائزة أفضل مونتاج. يخلق المخرج تجربته الخاصة من خلال جعل اثنين من الممثلين يندمجان في أكاديمية الشرطة لمدة معينة، ثم يستخدمهما في دمج ذكي للوثائقي والروائي ليروي قصة شرطيين في المكسيك، فيلم ممتع ومختلف، والخبر الأفضل أنه من إنتاج نتفليكس لذا من المتوقع أن يتاح للجمهور قريبًا.

نهاية، يمكننا أن نرى تأثير الجائحة على صناعة السينما والمشاهدين أنفسهم بعد مرور عام من ظهور الوباء، ورغم أن برنامج المسابقة الرسمية هذا العام يتفوق على العام الماضي بشكل ما، فإنني أفتقد الأمطار!

 

موقع "إضاءات" في

09.03.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004