ملفات خاصة

 
 
 

«مهرجان برلين» يسدل ستارته الـ 71:

تجربة افتراضيّة غريبة ومفاجآت سارّة

شفيق طبارة

برلين السينمائي الدولي

الدورة الحادية والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

انتهت الدورة الحادية والسبعون من «مهرجان برلين السينمائي الدولي» في جزئها الأول قبل أيام. للمرة الأولى في التاريخ، نشاهد الحدث العريق من غرف جلوسنا وغرف نومنا. تجربة غريبة وجديدة كان لا بدّ منها، بسبب الأوضاع الراهنة. ضياع خيّم على اليوم الأول من المشاهدة، فترتيب الأفلام التي أردنا مشاهدتها لم يكن سهلاً. نبدأ من الساعة التاسعة صباحاً حتى منتصف الليل، ونشاهد ما يقارب خمسة أو ستة أفلام كل يوم. في لبنان مثلاً، كنا نشاهد فيلماً عند التاسعة صباحاً، فيما يشاهدونه في الولايات المتحدة مثلاً بعد منتصف الليل، وجميعنا نشاهد في «الوقت نفسه» على الشاشة. الجميل الذي فعلته إدارة المهرجان هو تحديد وقت عرض الأفلام، بما يعني أنّه رغم أننا نشاهد من منازلنا وعلى شاشاتنا، إلا أنّنا أحسسنا أننا نشاهدها جميعاً في الوقت نفسه في الصالة. مثلاً، الفيلم الذي يبدأ الساعة التاسعة صباحاً، ينتهي البث المباشر له عند انتهائه. لا يمكن وقف البثّ وترك الشاشة والذهاب للأكل أو فعل شيء آخر. علينا أن نبقى نشاهد الفيلم حتى ينتهي، وإلا سينتهي وقت المشاهدة ويتوقّف البث. للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، كانت المسابقة الرسمية تضمّ أفلاماً (15 فيلماً أقل من المعتاد قليلاً) جميعها جيدة جداً، وبعضها ممتاز. لم تكن مليئة بالنجوم، بل حملت توقيع مجموعة من المخرجين المشهورين، بالإضافة إلى أسماء جديدة مبهرة. بالتأكيد، لم يكن الاختيار سهلاً بالنسبة إلى لجنة التحكيم التي تألّفت من المخرجين الإيراني محمد رسولوف، والرومانية أدينا بنتيلي، والهنغارية ألديكو إنييدي، والإيطالي جيانفرانكو روسّي، والبوسنية ياسميلا زبينيتش، والمخرج من كيان الاحتلال الإسرائيلي ناداڤ لابيد. جاءت النتائج كما كان متوقّعاً، مع بعض المفاجآت الصغيرة. جائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم ذهبت ـ كما توقع كثيرون ـ إلى الروماني رادو جود وفيلمه Bad Luck Banging or Loony Porn. تماماً مثل اسمه، يثير الشريط الاهتمام من الدقيقة الأولى مع المشهد الجنسي الصريح (بورن)، ومن ثم يبدأ التناقض بين الحقيقة والخيال والصور واللغة والكوميديا والنقد الاجتماعي. جائزة لجنة التحكيم الكبرى ذهبت إلى الياباني ريوسوكي هاماغوشي عن «عجلة الحظ والفانتازيا» الذي يمكن اعتباره أفضل ما قُدم حتى الآن في مسيرته السينمائية. المفاجأة الأولى كانت في جائزة لجنة التحكيم التي ذهبت إلى «السيد باخمان وفصله» للألمانية ماريا سيبث. رغم أنّ الفيلم جيد جداً، إلا أنّ المخرج الجورجي ألكساندر كوبيرتزه الذي قدّم فيلمه الشاعري الفلسفي «ماذا نرى عندما ننظر إلى السماء» كان يستحقها أكثر. جائزة أفضل مخرج ذهبت باستحقاق إلى الهنغاري دينيس ناغي وفيلمه التاريخي «ضوء طبيعي»، الذي عرف كيف يتحكّم بإيقاعه، مع الزخم النفسي الشاق الذي يبثه، إذ قدم ناغي عاصفة رمزية وشاعرية وعاطفية كاملة. جائزة أفضل تمثيل جاءت محايدة جنسياً كما كان مقرّراً، لمارين إيغارت عن فيلم «أنا رجلك»، وأفضل أداء مساعد لييلا كيزلينغر عن فيلم «غابة – اراك في كل مكان»، وجائزة الدب الفضي للمساهمة الفنية لابران أسواد عن مونتاج فيلم «فيلم شرطي» الذي سنشاهده قريباً على نتفليكس. تحفة المخرجة الفرنسية سيلين سيامّا «أمي الصغيرة» خرجت خالية الوفاض، مع أنها كانت تستحق تتويجاً بكل جدارة. وفي مسابقة «لقاءات»، حصد «نحن» للسنغالية الفرنسية أليس ديوب جائزة أفضل فيلم. وللأسف، خرجت الأفلام العربية بخُفَّي حنين من جميع المسابقات رغم الحفاوة النقدية التي حظي بها بعضها، على أن نعود لاحقاً بالتفصيل إلى هذه المشاركات العربية واللبنانية، خصوصاً «دفاتر مايا» للثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج الذي أدخل لبنان إلى المسابقة الرسمية للمرة الأولى منذ 39 عاماً، أي منذ «بيروت اللقاء» لبرهان علوية

 

####

 

جائزة الدبّ الذهبي: رادو جود يُسقط القناع عن رومانيا المعاصرة

شفيق طبارة

بسبب جرأته الشكلية ومحتواه المتفجّر، وروحه الاستفزازية والمتمردة، ونقده الحاد للمجتمع والدين والسياسة والصوابية السياسية والنفاق، فإنّ Bad Luck Banging or Loony Porn (الدب الذهبي لأفضل فيلم) للروماني رادو جود، هو راديكالية نادرة في السينما المعاصرة. تخلَّص المخرج من الطريقة التقليدية في بناء قصة سينمائية وتحرّر من فكرة الرسم التخطيطي للشخصيات وللسرد. هكذا، قرّر أن يصنع فيلماً غير مكتمل، ومفتوحاً بثلاث نهايات. ترك لنا حرية الاختيار وفقاً لصوابيتنا السياسية وأزيائنا المهنية وأقنعتنا ونفاقنا وتقوانا ومواقفنا وفضائلنا الكاذبة. رادو جود هو من بين المخرجين الأكثر إبداعاً في السينما العالمية، وخصوصاً في الموجة الرومانية الجديدة. عاد إلى «برلين» بعدما حصد الدب الذهبي عام 2015 عن فيلم AFERIM!. شريط لا علاقة له بأفلامه السابقة، يميل إلى الفكاهة والعبثية والسخرية في التعامل مع القضايا المعقّدة للحياة الاجتماعية والسياسية في رومانيا الحاضر والماضي.

متسلّحاً بالهستيريا الاجتماعية التي نشهدها اليوم، بين الأقنعة التي نضعها وحجرنا الصحي (صُوِّر الشريط خلال جائحة كورونا)، يقدم لنا جود فيلماً بثلاثة أجزاء مختلفة: قصة إيمي (كاتيا باسكاريو) المدرّسة التي تُسرِّب لها على الإنترنت ڤيديو تسجيلياً، وهي تمارس الجنس مع زوجها. الجزء الأول (نصف ساعة) من حياة إيمي في شوارع بوخارست، يصوّرها المخرج بطريقة وثائقية وهي في الصيدلية، والمكتبة، والسوبرماركت... في بوخارست خلال الجائحة حيث الجميع تقريباً يلبس الأقنعة، يصوّر جود أيمي وهي تتحرك ويكشف بكاميرته بعض التفاصيل والأحداث. ببساطة يصوّر الحياة في المدينة. الجزء الثاني (العظيم) هو مونتاج صور ومشاهد مأخوذة من الأرشيف. مقال موسوعي استخدم فيه جود التعريفات والكلمات والفكاهة حول الحياة السياسية في رومانيا على مرّ العصور. في هذا الجزء، قام جود بمراجعة غريبة لبعض الأحداث العامة التي جذبت الدولة، إلى جانب أحداث أخرى من المجال الخاص أو من الشبكات الاجتماعية. الجزء الأخير هو محاكمة المرأة في المدرسة بعدما تناقل التلاميذ الفيديو من هاتف إلى هاتف، وشاهدته المدرسة كلّها وأولياء الأمور. يختزل جود في هذا الجزء المسرحي أمّته ومجتمعه. لقاء المعلمة بأولياء الأمور (ربات منزل، قائد عسكري، طيار، فنان...) في باحة المدرسة لمناقشة الفيديو، والتصويت على ما إذا كان بإمكان المرأة الاستمرار في تعليم أطفالهم. مضحك للغاية ومثير للغضب وحادّ في آن، يبرز المخرج موضوعات الفيلم المركزية: تاريخ البلاد، الفاشية، العنصرية، كراهية النساء، الذكورية، الديكتاتورية، الشوفينية والتعصب والقومية والعنجهية والبرجوازية... كل ذلك يثار فقط من فكرة أن معلمة أطفال تمارس الجنس في حياتها الخاصة. من المشهد الأول الذي يعرض فيه جود الفيديو الجنسي (بورن) بكامله، إلى المحاكمة وكفاح المعلمة للدفاع عن حقوقها ومبادئها وقناعتها، وتعريف ما هو فاحش أو إباحي أو منحرف، وبين فكَّي الرقابة الاجتماعية، ندرك أن حالة النفاق والفساد هي مصدر السخافات التي لا يمكن حتى لشخصيات لوني تونز المرسومة على بعض الكمامات احتواؤها.

ينتمي الشريط إلى أسلوب الموجة الرومانية الجديدة التي بدأت عام 2005، مع فيلم «موت السيد لازاراسكو» لكريستي بويو. حركة أعطت نوعاً جديداً من الواقعية الاجتماعية، مبرزةً بشكل مثير للسخرية فشل النظام الاجتماعي والمؤسساتي لرومانيا. Bad luck Banging or Loony Porn، هو رسم كاريكاتوري سياسي، نكتة تتعلق بالوقت الحاضر، يظهر معضلات أخلاقية غير مريحة ومقلقة ويأساً من مجتمع له أولويات مضطربة.

النتائج كاملة

في ما يلي قائمة بالفائزين في «مهرجان برلين السينمائي» بدورته الحادية والسبعين:

جائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم: «باد لاك بانغينغ أور لوني بورن» للمخرج رادو جود (رومانيا)

الجائزة الكبرى للجنة التحكيم، الدب الفضي: «عجلة الحظ والفانتازيا» لريوسوكي هاماغوشي (اليابان)

جائزة لجنة التحكيم، الدب الفضي: «السيد باخمان وفصله» لماريا سيبث (ألمانيا)

جائزة الدب الفضي لأفضل مخرج: «ضوء طبيعي» لدينيس ناغي (هنغاريا)

جائزة الدب الفضي لأفضل أداء تمثيلي: مارين ايغارت عن فيلم «أنا رجلك» (ألمانيا)

جائزة الدب الفضي لأفضل أداء تمثيلي في دور ثانوي: المجرية لييلا كيزلينغر عن فيلم «غابة – اراك في كل مكان»

جائزة الدب الفضي لأفضل مساهمة فنية: لابران أسواد عن مونتاج فيلم «فيلم شرطي» لألونسو رويزبالاسيوس (المكسيك)

جائزة الدب الفضي لأفضل سيناريو: «إنتروداكشن» لهونغ سانغسو (كوريا الجنوبية)

 

####

 

ريوسوكي هاماغوشي يدير «عجلة الحظّ والفانتازيا»

شفيق طبارة

المخرج الياباني ريوسوكي هاماغوشي لديه شغف بالقضايا والقصص الذاتية الفلسفية التي تدور حول معنى الحب والأنانية والموت واللذة والرغبة الجنسية. في فيلم «أساكو 1 و2» (2018) قدّم قصة فتاة تقع في حب رجلين متطابقين في الشكل، ولكنهما مختلفان في الشخصية. في فيلمه الجديد «عجلة الحظ والفانتازيا» الذي تُوِّج بـ «الدب الفضي ـ جائزة لجنة التحكيم»، يقدم ثلاث قصص تتمحور حول المصادفات والقدر والهوية، وتطرح أسئلة مثل: ما الذي يجعل قصة حبي فريدة من نوعها؟ ما الذي يضمن لي أن شخصاً آخر، بعدي، لن يكون قادراً على أن يحب شريكي تماماً بالطريقة نفسها التي أحب؟ هل نحن حقاً مميزون؟ هل ستكون العلامات التي نتركها على الآخرين أبدية، أم زائلة؟ في القصة الأولى «سحر (أو شيء أقل طمأنة»)، تكتشف شابة أن أعز صديقاتها ترى رجلاً كانت تحبه. في الثانية «باب مفتوح على مصراعيه»، تقبل طالبة جامعية رهان صديقها بإغواء أستاذتها. وفي الثالثة «مرة أخرى»، تصادف امرأة في الطريق أول حب لها خلال أيام المدرسة، أم أنها مجرد امرأة تشبهها؟ تم تنظيم القصص بشكل مستقل ولكنها مجموعة متماسكة من حيث الموضوع والإيقاع والمدة والتنظيم السردي. كل قصة تمر في البناء نفسه في طوكيو، والحديث يدور عن الجنس. تبدأ الثلاث بمحادثة ودية تتطور إلى شكّ ثم محاولة يائسة لإعادة إحياء الماضي أو على الأقل معرفة ما إذا كان الحبيب القديم لا يزال يملك مشاعر. النساء في الفيلم، يجدن أنفسهن محاصرات في حالة من التخمين. النساء هنّ في مركز المشهد كقوة جذب، يتعاملن مع التناقضات والإغراءات والرغبات والشعور بالذنب. لكنّ هاماغوشي لا يولي أهمية لأخبار صراعاتهن تماماً، فهو يعرضها ببساطة كتجربة فلسفية لإضفاء المزيد من الأفكار والتكهّنات على ما يقال وما لا يقال. يملك شجاعة أن يكون منفتحاً ويخلق تناقضاً مفرطاً له تأثير طويل الأمد. «عجلة الحظّ والفانتازيا» فيلم مرن وأنيق ودقيق من مخرج مقتنع بشكل متزايد بأسلوبه وهواجسه وأكوانه السينمائية المميزة.

 

####

 

مَن لا يحبّ السيد باخمان والمهاجرين الصغار؟

شفيق طبارة

«من الذي ما زال متعباً؟» يصدح صوت من أول الفصل. ذراعان ترتفعان بتكاسل. «حسناً، سوف ننام قليلاً بعد» كما لو كان الأمر عادياً في المدرسة. ثم تهبط الرؤوس مرة أخرى على الطاولات. إنه يوم عادي في صف «6 ب» في «مدرسة جورج بوشير» في ستاتالندورف، بلدة صغيرة في وسط ولاية هيسن في ألمانيا. في الصف، يتعلم أطفال بين عمر الـ 12والـ 14 من 12 دولة مختلفة.

الصوت الذي صاح من أول الصف، هو للمعلم ديتر باخمان البالغ 65 عاماً. بعد دقائق على بدء الوثائقي الجديد للمخرجة الألمانية ماريا سبيث، نكتشف سبب اختيارها هذا الفصل بالتحديد... ببساطة لأنّ السيد باخمان ليس مدرساً عادياً. «السيد باخمان وفصله» وثائقي طويل (ثلاث ساعات ونصف ساعة ـــ الدب الفضي ـــ جائزة لجنة التحكيم) عن أستاذ في مدرسة ابتدائية، يعلّم الأطفال المهاجرين بأساليب غير تقليدية. ماريا سبيث لم ترد الدخول في نقاشات حول أداء المعلم، فما يظهره الوثائقي أن السيد باخمان قادر على تشكيل الذكاء والتفكير والانفتاح عند التلاميذ. عزف على الآلات الموسيقية، الغناء، اللعب، كتابة القصص، مناقشات حامية بلغات مختلفة... كلها أشياء أساسية في فصل باخمان، لأنّ المعلم يريد إيصال الأطفال إلى مكان يكونون فيه قادرين على قبول أنفسهم وغيرهم برغم الاختلافات الكبيرة. الأطفال مختلفون عن آخرين في سنّهم وفي المدرسة، والسبب بسيط، فهم وصلوا منذ فترة إلى البلاد ولا يتقنون اللغة.

طريقة السيد بخمان في التعليم ثورية، تهدف إلى التقريب وليس الإبعاد أو وضع العلامات والمنافسة بين التلامذة. الحوار والكلمة ومشاركة الثقافات المختلفة هي التنوّع بحد ذاته في الصف. هذا التنوع يثري المساواة ويحفّزها، يخلق معها السيد باخمان أجواءً أسرية، ويبدأ دائماً مع الموسيقى لالتقاط الفروق الدقيقة لتلامذته. الفيلم حوّل الفصل إلى مسرح، ومن خلاله عرفنا الشباب والصبايا، وتحولوا إلى نجوم. نضحك ونبكي ونتأثر معهم. «فرحان» يحب أن يأخذ قيلولة. «تيم» يحمرّ خجلاً كلما اقتربت الكاميرا منه. «ريجينا» ذات الشعر الأحمر تمضغ دوماً شيئاً ما. «ربيعة» منذ وصولها إلى ألمانيا، غيّرت أربع مدارس قبل أن تصل إلى صف السيد باخمان. كل الشباب يعانون من مشاكل ما... وأحلام وطبعاً مخاوف. بأساليبه المسلّية، يحاول السيد باخمان أن يزيل العبء عن أكتافهم، وتقليل الضغط، والتشجيع والشغف والثناء. «السيد باخمان وفصله» فيلم عاطفي، نرى فيه صعوبات الأطفال الشخصية وكيف يتغلبون عليها، أو على الأقل التأقلم بشكل أفضل. كاميرا سبيث خفيفة تتوغّل طبيعياً في الفصل وبين التلاميذ. عمرهم حساس، إنهم يتركون فترة الطفولة ويدخلون المراهقة، والسيد باخمان حاضر دائماً لمساعدتهم على اجتياز كل شيء في الحياة.

 

####

 

أليس ديوب في باريس: من «نحن» حقاً؟

شفيق طبارة

بطريقتها الخاصة، تستعمل المخرجة السنغالية الفرنسية أليس ديوب كاميرتها، وبنيتها الواضحة بالاستجواب والمراقبة، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالتناقضات الشديدة بين الفرنسيين، القادمين من أصول استعمارية مختلفة، وأولئك الذين يحملون نسب تاريخها الطويل. في فيلمها الجديد «نحن» (أفضل فيلم في قسم «مسابقات» في برلين)، تسافر ديوب في الأحياء والمناطق التي يمر عبرها قطار يعبر ضواحي باريس، للتركيز على حياة مجموعة غير متجانسة من الناس الذين يعيشون في تلك المناطق. يمشي الشريط بخطى جغرافية، تماماً كمسار القطار الحضري الباريسي RER B، الذي يعبر العاصمة الفرنسية وضواحيها من الشمال إلى الجنوب، ما يجعل عبوره شبه إكلينيكي. ما تفعله المخرجة وفريقها هنا هو اختيار نقاط مختلفة على خريطة الضواحي تلك، وقفة عند العديد منها (شوفروز، لو بورجيه، جيف سور يوفيت، رواسي)، وتصوير الشخصيات التي تعيش هناك. تمثل كلمة «نحن» في العنوان بالضبط ما يلي: قطع محدد لمدينة تضم الكثير من الأشخاص الذين لا نراهم عادةً على الشاشة، مثل إسماعيل، الميكانيكي الذي وُلد في مالي ويعمل منذ سنوات في ضواحي باريس ويتحدث عبر الهاتف مع والدته الموجودة في بلدة صغيرة بالقرب من باماكو، والذي لم يزرها منذ عام 2000. ستتوقف المخرجة أيضاً عند عمل ممرضة تزور العديد من الأشخاص ذوي الدخل المنخفض لتداويهم، ونلتقي أيضاً بكاتب كرّس نفسه أعماله لأناس تلك الضواحي التي لا تظهر عادةً في الأدب الباريسي. تُظهر ديوب من خلال بداية الفيلم إطاراً فسيفسائياً صمّمته من خلال الأشخاص الذين يراقبون حيوانات برية من بعيد، وتُظهر من اللحظة الأولى عالمين متباعدين ومع ذلك متجاورين. انقسامات تطارد حاضر فرنسا، ما يؤكد على الجانب الأنثروبولوجي للرحلة. في الرحلة أيضاً، شيء من الأدب، فالمخرجة أوضحت أنها اتخذت بعضاً من كتابات جيمس جويس كنموذج لتصويرها الناس العاديين. ولكنّ الإلهام الأول هو مجلد Le Passagers du Roissy-express الذي روى فيها فرانسوا ماسبيرو وأنايك فرانتز بالكلمات والصور ما واجهاه خلال رحلتهما. أما الإلهام الثاني الصريح، فهو من خلال مشاركة الكاتب بيار برغونيوس في الفيلم. في «نحن»، تشعرنا ديوب أن باريس الحقيقية اليوم، هي في هذه الأماكن أكثر من مناطق السياحة وتلك الشهيرة. لا تقدم ديوب في الفيلم ما يُسمى عادة «الأغلبية الصامتة»، الخزان التقليدي الذي يسحر عموماً السياسيين الأكثر تحفّظاً أو القوميين، بل تتحدث عن سكان مدينة معقّدة ومتعددة الثقافات لها جذور آلاف القصص. بشر يعيشون بعزلة وتمييز، وبعضهم بالحنين إلى تسلسلات هرمية موروثة من ماضٍ ملكي.

 

####

 

«أمّي الصغيرة»... قصة عن الطفولة وأوجاعها

شفيق طبارة

مستويات قراءة فيلم مثل «أمي الصغيرة» الذي عُرض في «برلين» متعدّدة. كلها مختلفة وكاملة، وكل منها قادر على عكس مشاعر المشاهدة الثقيلة. بعد «بورتريه امرأة تحترق» (2019)، تعيدنا الفرنسية سيلين سيامّا في فيلمها «أمي الصغيرة» إلى أسئلة الماضي والمستقبل وجوهر الوقت والروابط التي توحّدنا في الصمت المروّع لبشر يشهدون المستحيل. تخلق القصة الصغيرة في الفيلم القصير تقريباً (72 د.)، أرواحاً تطارد الأماكن، وتربط أحباءهم بخيوط خفية. في فيلم تم تصويره خلال الوباء، تبدأ القصة عندما تغادر نيللي (جوزيفين سانز) ووالدتها ماريون (نينا موريس) دار الرعاية بعد وفاة جدتها فيها. ماريون في حالة حزن واضحة بسبب غياب والدتها. أما نيللي، فسلوكها أكثر نضوجاً من سلوك فتاة تبلغ ثماني سنوات. طريقهما هو نحو منزل الجدة حيث ينتظر والد نيللي من أجل إفراغ المنزل التي عاشت فيه ماريون خلال طفولتها. في هذا المنزل الريفي، المحاط بالأشجار، تضع الأسرة كل شيء في الصناديق وتقول وداعاً للمكان. تخرج نيللي لاستكشاف الريف وفي وسط الغابة تلتقي بفتاة تبلغ العمر نفسه واسمها ماريون أيضاً (تشبهها كثيراً، أختها في الحياة الواقعية) تبني منزلاً على شكل شجرة مثل المنزل الذي بنته والدة نيللي في طفولتها. بيتها مشابه جداً لبيت الجدة ما عدا الديكور الداخلي. من هنا يمكن استنتاج ما يحدث، وحتى العنوان يوضح كل شيء.

«أمي الصغيرة» قصة عن الطفولة، بطريقة كلاسيكية، حكاية أطفال مع واقعية سحرية، بشكل أساسي، العلاقة بين نيللي ووالدتها، وماريون ووالدتها. يخطو الشريط بقوة على المشاعر، حتى السرد قد يبدو مستحيلاً لنا، ولكنّه حقيقي بالنسبة إلى نيللي وماريون، وهذا الشيء الوحيد الذي يهم. تجد سيلين سيامّا طريقة تسمح للأجيال الثلاثة من النساء بالالتقاء بشكل رمزي، ولا تخفي مفهوم التخيل. يظل الشعور بالمغامرة ملتصقاً بالواقع، والواقع بالخيال، ما يسمح لنا نحن البالغين بإعادة النظر في الطفولة لفهم مشاكل حياتنا بشكل مؤلم. تسمح سيلين سيامّا لنيللي وماريون بأن يراقب بعضُهما بعضاً والتصالح مع كل من الماضي والمستقبل. يتجاوز الحزن قبول الحقيقة، حيث يُفهم على أنه معالجة مشاعر حميمة، كما تقول نيللي الصغيرة لماريون الصغيرة «لست أنت من خلق حزني».

 

الأخبار اللبنانية في

08.03.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004