ملفات خاصة

 
 
 

برليناله 71: "جنس سيئ الحظ أو بورنو جنوني"..

جرأة رومانية تقلب موازين الدب الذهبي

أحمد شوقي

برلين السينمائي الدولي

الدورة الحادية والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

هل من حق مُعلمة شاهد الطلبة فيديو حميمي لها على الأنترنت أن تواصل مهام عملها بشكل طبيعي؟

ما انطباعك إذا شاهدت فيلمًا فوجئت أن الدقائق الخمس الأولى منه عبارة عن مقطع جنسي يمكن مشاهدته على موقع إباحي؟

ما بين السؤالين الماضيين ترتكز القيمة الفكرية والفنية لأحدث أفلام المخرج الروماني رادو جود، أحد أفضل وأجرأ الأفلام المتنافسة حاليًا على الدب الذهبي لمهرجان برلين السينمائي الدولي الحادي والسبعين. الفيلم الذي اختار له جود عنوانًا طريفًا هو "جنس سيء الحظ أو بورنو جنوني Bad Luck Banging or Loony Porn". عنوان يكرس هو الآخر لما يقوم به الفيلم من الثانية الأولى وحتى الأخيرة: طرح أسئلة وأفكار ذكية بسخرية لاذعة وصادمة، ومواصلة التحليق بالسينما الرومانية لآفاق تتجاوز ركود الموجة الجديدة.

تساؤلات أخلاقية

السؤال الأول يوضح الحكاية: معلمة التاريخ الناجحة إيمي (كاتيا باسكاريو) تصوّر مقطعًا جنسيًا مع زوجها. المقطع يجد طريقه إلى شبكة الإنترنت، فتجد نفسها في موضع الاتهام والتحقيق من قبل مديرة المدرسة وأولياء الأمور الغاضبين من تعامل أبنائهم مع سيدة "سيئة السمعة".

موقف درامي شائك، لكنه وارد الحدوث لأي إنسان في أي مكان، في ظل انتشار الهواتف الذكية وهوس تصوير الذات، مع الغياب الكامل للأمان السيبري الذي يجعل تسريب المقاطع الشخصية حدثًا يوميًا. مأزق يثير تساؤلات حول حدود حرية الفرد في ممارسة حياته الخاصة طالما لم يؤذ غيره، حول الضرر الذي يلحق بامرأة في هذا الموقف، هل هو في حد ذاته جريمة تستوجب عقابًا منفصلًا؟ (لاحظ أن البطلة مارست جنسًا مشروعًا مع زوجها، فالأزمة في التصوير والتسريب لا في الفعل ذاته)، وحول مسؤولية صناع المحتوى – أي محتوى – عن أثره في أطفال يفترض ألا يتعرضوا أساسًا لهذه المواد لو مارس ذويهم رقابة أسرية حقيقة على ما يزورونه على الشبكة العنكبوتية.

ربما كان عليها وزوجها أن يكونا أكثر حرصًا لا سيما وهما يعيشان في مجتمع محافظ يكاد يكون متطرفًا، لكن الخطأ لا ينفي كونها معلمة ممتازة ملمة بمجال تخصصها (التاريخ الروماني)، امرأة مثقفة مفوّهة قوية الشخصية وصاحبة منطق. فهل تخسر المؤسسة التعليمية مهاراتها بسب هفوة لا يلحق جوهرها أي ضرر بالآخرين؟ أم أن ما فعلته فعلًا أمر يصعب تجاوزه؟

إلا أن تناول "جنس سيء الحظ.." من زاوية مأزق إيمي والتساؤلات المثارة حوله سيكون إجحافًا لحق رادو جود من التقدير، فالمخرج الذي لا يتوقف – حرفيًا – عن العمل (في العام الماضي عرض له برلين فيلمين جديدين ليستغل عام الجائحة في صناعة ثالث) كان بإمكانه تقديم الحكاية نفسها على طريقة الموجة الرومانية الجديدة: إلتزام بالواقعية وجماليات متقشفة وإبراز لانسحاق الفرد أمام سطوة المؤسسة السياسية والاجتماعية والأخلاقية.

لكن الأسلوب الذي كان مدهشًا قبل عقدين مع الأفلام التأسيسية مثل "أربعة شهور ثلاثة أسابيع ويومان" كرستيان مونجيو و"12:08 شرق بوخارست" كورنيلو بورمبويو لم يعد يمتلك نفس الأثر، بعدما استُهلك بكافة تنويعاته وأفكاره فبات من النادر أن يُفرز عملًا استثنائيًا، ليأتي جود ممثلًا لجيل أحدث يحاول التحرر من النموذج والانطلاق لآفاق أرحب من الحرية الإبداعية.

ثلاثة فصول ثلاثة أساليب

الاختيارات الإبداعية تثير السؤال الثاني الذي بدأنا به المقال؛ فيقرر رادو جود أن يفتتح فيلمه بعرض المقطع الجنسي بتفاصيله. مقطع مدته خمس دقائق تقريبًا، لا يفوق قدر الإباحية فيها سوى قدر الواقعية؛ فعلى النقيض من الصورة الخيالية البراقة التي تقدمها البورنوغرافيا للجنس يأتي المقطع كأغلب الممارسات الجنسية الحقيقية: مرتبكًا مليئًا بالتصرفات والأقوال التي تحاول أن تحاكي الغواية فتصير مضحكة، والظروف المحيطة المعيقة لدرجة أن إيمي وخلال انخراطها فيما تفعل تضطر للتوقف كي تجيب على نداء أمها من وراء الباب!

المقطع بمثابة برولوج prologue افتتاحي، يعلن عدم التزام الفيلم بأي أكواد أخلاقية معتادة (99% من المخرجين سيميلون لعدم عرض الفيديو والاكتفاء بمعرفة محتواه على سبيل المثال)، ويُدشن مسرحية من ثلاثة فصول اختار المخرج الموهوب أن يكون لكل منها أسلوبًا كامل الاختلاف عما سواه.

يلتزم الفصل الأول بقواعد الموجة الرومانية الجديدة، فنرى النصف الأول من يوم إيمي التي تحاول التعامل مع الموقف، تشتري ورودًا لتزور مديرتها وتناقش معها ما حدث، وتواصل أنشطة حياتها اليومية فتعيد كتابًا استعارته وتتابع متطلبات منزلها.

في هذا الفصل نرى إيمي كأغلب بطلات الموجة الجديدة: ذرة لا تكاد ترى وسط المدينة الخانقة. آلامها مهما كبرت أقل من أن تتوقف لها الحياة ولو ثوان. مع تركيز كبير على قدر العنف والعدائية والنظام المنعدم في الشارع الروماني. المشاجرات تنشب في كل مكان لأتفه الأسباب، الألفاظ النابية تتناثر بين المارة وحولهم كتيارات الهواء، والشارع مستباح لدرجة أن يصفّ أحدهم سيارته قاطعًا خط عبور المشاة ويتركها مترجلًا في هدوء دون حتى أن يكترث لوجود كاميرا تصوّر ما يفعل.

صورة المدينة في الفصل الأول مسودة لمرافعة دفاعية عن إيمي، ففي حياة يومية يلفها العنف والتجاوز تبدو فعلتها أشبه بالمزحة. لكن من قال أن البشر يرون عيبًا في أنفسهم أو يقيمون وزنًا للمنطق؟

انطلاقًا من هذه الحقيقة يبدأ المخرج فصله الثاني بالغ الذكاء. تتوقف الحكاية مؤقتًا ليعرض لمدة 25 دقيقة قاموسًا مصورًا، يعيد فيه تعريف مفاهيم كبرى انطلاقًا من تناقض الصورة والوقائع التاريخية مع التعريفات النظرية. مثال؟ يُعرف الكنيسة الرومانية بالداعم الأساسي لكل الأنظمة الفاشية، الأطفال بالسجناء السياسيين لدى آبائهم، الاغتصاب بالفعل الذي يجد 55% من البشر تبريرًا له، والوطنية هي ما قالته سيدة رومانية طُردت من النمسا بعدما اعتدت على خادمتها الأفريقية فقالت أنها تفخر بالعودة لوطن يمتلك الإنسان فيه الحرية ليضرب من يريد!

ما علاقة هذه المفاهيم بموضوع الفيلم؟ الحقيقة أنها وثيقة الصلة، فهي الحيلة الفكرية والإبداعية التي يخرج بها جود من حيز حكايته الضيق مهما وسع، ليجعل منها نموذجًا مصغرًا (ميكروكوزم) لقدر التناقض والنفاق الذي تعيشه البشرية، فتمارس أفسد الأفعال باليمين، وتعود باليسار لتحاكم بعض الأشخاص لأن هنّاتهم الصغيرة هزت العروش وأفسدت النشء.

محاكمة هزلية

المحاكمة هي عنوان الفصل الثالث الذي يسميه المخرج "سيت كوم"، وفيه يجتمع أولياء أمور الطلبة، مع مديرة المدرسة وممثل للكنيسة وآخر للجيش، كي يحققوا جماعيًا مع المعلمة الخاطئة، تحقيق كان من الضروري أن يُفتتح بأن تعرض أكثر الأمهات عصبية وتعصبًا مقطع الفيديو بالكامل على حاسبها اللوحي، لأنه "يجب على الجميع أن يعرفوا عما سنتناقش في هذا الاجتماع".

حوار مسرحي بامتياز، تتداخل فيه الأصوات والآراء لتمزج تهمة إيمي بالنظام التعليمي بتاريخ رومانيا ورموزها، عابرة على المؤامرات اليهودية وأخلاقيات تربية الأبناء وغيرها من الموضوعات التي يجد المخرج والمؤلف الموهوب لها مكانًا داخل الجدل العبثي المتصاعد، والذي صوّره باستخدام إضاءة وجماليات تنفي عنه واقعية الفصل الأول، وتقدم حقيقة ما يجري: مشهد هزلي لا يمكن أخذه على محمل الجد، لكنه للأسف يحدث كل يوم بشكل أو بآخر، فتؤثر حوارات ومنظومات قيم مشابهة على عقول ملايين الأطفال حول العالم في كل لحظة. بل أن المشاهد المصري سيلاحظ أن هذا الحوار يمكن أن يدور بحذافيره داخلة مدرسة مصرية، دون أن يحتاج لأكثر من تعديل كلمة هنا أو اسم هناك!

يظهر في هذا الفصل أيضًا عنصر جديد سيكون له مكانًا في جماليات السرد السينمائي في المستقبل القريب، وهو أقنعة الوجه التي يرتديها الجميع (فالأحداث تدور خلال جائحة كورونا). جود الذي استخدم الأقنعة في فصله الأول بواقعية تلائم السرد، يعود فيحولها هنا أداةً إضافية للسخرية، عبر اختيار دقيق لشكل القناع الذي يرتديه كل شخص في المشهد، فيغدو تفصيلة تضيف للشخصية ولمعنى الحدث.

يتطور النقاش فيصل لنقطة يقرر معها المخرج أن ينهي فيلمه بثلاث نهايات مختلفة، لكل منها دلالة ما، لا سيما النهاية الثالثة والأخيرة والتي تتوائم مع قدر الجرأة والجنون الذي يحكم الفيلم. ليختتم المخرج الموهوب بها أحد أفضل أفلام برليناله على الإطلاق. "جنس سيئ الحظ أو بورنو جنوني"، الفيلم البديع الذي يستحيل أن نراه على الشاشات العربية الرسمية، لكن سنأمل أن ينجح في برلين بقدرٍ يجعل وصوله للجميع عبر الإنترنت أمرًا بديهيًا، تمامًا مثل فيديو إيمي وزوجها.

 

موقع "في الفن" في

05.03.2021

 
 
 
 
 

مهرجان برلين السينمائي وزع جوائزه... "أون لاين"

الروماني رادو جود فاز بـ"الدب الذهبي" وعروض الأفلام مستمرة يومين إضافيين

هوفيك حبشيان

وزع مهرجان برلين السينمائي الحادي والسبعين، جوائزه، ظهر أمس الجمعة، إلا أن العروض لم تنته بعد. فهي مستمرة يومين إضافيين على موقع الـ"برليناله" كي يتسنى للصحافة والعاملين في الصناعة السينمائية مشاهدة الأفلام الفائزة في حال فاتتهم. عند الساعة الثانية عشرة بتوقيت ألمانيا، أطل المدير الفني كارلو شاتريان ليقدم أعضاء لجنتي التحكيم (المسابقة واللقاءات) الذين أعلنوا بدورهم لائحة الأعمال الفائزة. المشهد بدا كئيباً، مؤسفاً، يحرك مشاعر الحنين إلى الماضي القريب عندما كان في إمكان البشر أن يجتمعوا في حفل توزيع الجوائز للمصافحة وتبادل القبل. أما اليوم، فبات مدير ثالث أكبر تظاهرة سينمائية في العالم يجلس أمام الكاميرا في غرفة لوحده ليعلن أسماء الفائزين، من دون أي بهجة أو مظاهر فرح على وجهه. 

هذه أول مرة منذ بداية جائحة كورونا يلجأ فيها مهرجان كبير كبرلين إلى العروض الرقمية لأفلامه. "برلين 2020" كان آخر حدث سينمائي كبير يعقد قبل تفشي الوباء دولياً في مارس (آذار) العام الماضي. بعد ذلك، كرت سبحة طويلة من الإلغاءات، أبرزها إلغاء مهرجان "كان" دورته، أما "موسترا البندقية" فأقيم في ظروف خاصة للغاية. والآن بعد مرور عام، لم يبقَ أي خيار أمام منظمي برلين سوى دورة افتراضية. ولكن، في الواقع، ماذا يعني أن نتابع تشكيلة عروض من الأفلام الحديثة ونحن في مدينة أخرى غير تلك التي يحمل المهرجان اسمها، وهل يصح أصلاً إطلاق تسمية "مهرجان" على حدث يقتصر على عرض مجموعة أفلام يشاهدها أشخاص وهم في بيوتهم؟

أخيراً، هل يجوز إطلاق اسم مدينة (برلين في هذه الحالة) على مهرجان يقام في فضاء افتراضي، أي في اللامكان؟ هذه بعض الهواجس المتعلقة بالمسائل المبدئية، أما في ما يخص الجانب النفسي، فالناقدة علا الشيخ التي اعتادت تغطية برلين منذ سنوات عدة، افتقدت في هذه الدورة "الخطوات المتسارعة للصحافيين والنقاد اللحاق بالعروض الخاصة بهم في ساعات الصباح الأولى، المقاهي التي تدعم ذلك الصباح، والتي تضج بالطوابير (…)، البرد الشديد الذي لا يخففه سوى الجلوس على مقعدك الذي اعتدت عليه من سنوات واعتاد عليك، الوجوه الآتية من كل أنحاء العالم، الذين تلتقيهم كل عام حتى باتوا وجوهاً مألوفة تلقي عليهم تحية الصباح، اللغات المتنوعة التي تُترجم بشارة تظهر على الشاشة الكبيرة قبيل عرض الأفلام ترحب بالمشاهدين".

أفلام جديدة

إذاً، حتى بعد إعلان النتائج، استمرت عروض الأفلام على الموقع الإلكتروني للمهرجان، وكانت متاحة للمحترفين من النقاد والصحافيين والعاملين في صناعة السينما. وعلينا ربما إعطاء فكرة عن النحو الذي كان يتنسى لنا فيه المشاهدة، وماذا يعني، عملياً، مهرجان "أونلاين"، علماً أن هناك طرقاً مختلفة، لكن البرليناله اختار هذه الطريقة، كل يوم، كانت ترفع على موقع www.berlinale.de حزمة جديدة من الأفلام في الأقسام كافة، ولدى المشتركين بناءً على كلمة مرور، 24 ساعة لمشاهدة تلك الحزمة، قبل أن تختفي فور مرور تلك الفترة. الجوانب الإيجابية في العروض الرقمية موجودة، مثل أن تكتفي بالنقر على رابط للولوج إلى الفيلم، وهذا يعني كسب الوقت الذي كان مهدوراً في ساعات الانتظار الطويلة داخل الطوابير. الميزة الأخرى التي توفرها العروض الرقمية هي أن يكون الفيلم في تصرفك حالما تصلك أصداء طيبة عنه. ولكن هذا كله يأتي على حساب فقدان شيء أساسي "الروح". فبعد أول اختبار جدي، وعلى نطاق دولي واسع النطاق لما قد يمكن أن يكوِّنه مهرجان رقمي، يسعنا القول إن فكرة استبدال مهرجان كهذا بمهرجان حضوري ضرب من العبث. 

والعبث هو في أي حال عنوان عريض للفيلم الفائز بجائزة "الدب الذهبي"، "مضاجعة فاشلة أو بورنو مجنون" للروماني رادو جود. هذا ثاني فيلم روماني ينال الجائزة المهيبة في السنوات الأخيرة. الفيلم عن معلمة بمدرسة تواجه غضب أهالي الطلاب بعد تسريب مقطع مصور إلى الإنترنت رأوها فيه وهي تمارس الحب مع زوجها. هذه الفضيحة يصورها الفيلم على مستوى البلاد بأكملها، وهي بلاد ذات تقاليد أرثوذكسية صارمة تدعي الحفاظ على الأخلاق الحميدة. صور الفيلم خلال الجائحة ويعتبر من أوائل الأعمال السينمائية التي نرى فيها الممثلين وهم يرتدون الكمامات على وجوههم. يضع المخرج الشاب (43 عاماً) هنا كل ما يزعجه في الواقع الروماني المعاصر من مفاهيم رجعية. 

"الدب الفضي" (جائزة لجنة التحكيم الكبرى) ذهبت إلى الفيلم الياباني "دولاب الحظ والفانتازيا" لريوسوكه هاماغوتشي. كما هي الحال في أعماله السابقة، نجد هنا تكراراً للشخصيات النسائية. العمل الجديد هو مجموعة من القصص القصيرة، فإيقاع الفيلم المتكرر يضخم هذا الإحساس. الفصول الثلاثة التي يدور كل منها على امرأة، تنقسم بدورها إلى ثلاث حركات على غرار مقطوعة موسيقية، محورها مثلث حب غير متوقع، وفخ إغواء فاشل، ولقاء ناتج عن سوء فهم. على الرغم من أن معظم الأحداث يجري في مساحة واحدة وتضم ممثلين اثنين فقط، إلا أننا لا نشعر ولو لمرة واحدة أننا نشاهد مسرحاً مصوراً.

"الدب الفضي" (جائزة لجنة التحكيم) كانت من نصيب الفيلم الوثائقي "السيد باخمان وصفه الدراسي" للألمانية ماريا سبيث. الفيلم يطرح سؤال "أين يشعر الإنسان بأنه في وطنه؟". في ستادتالندورف، وهي مدينة ألمانية تنام على تاريخ معقد من استبعاد الأجانب والسعي إلى دمجهم في الحين نفسه، يقدم المعلم اللطيف ديتر باخمان لتلاميذه المفتاح للشعور كما لو كانوا في وطنهم. هؤلاء المراهقون يتحدرون من 12 دولة مختلفة وبعضهم لا يتحدث الألمانية. لكن باخمان الذي أصبح على وشك التقاعد، يحرص على إلهام هؤلاء المواطنين في طور التكوين ليصنع لديهم الفضول تجاه مجموعة واسعة من المواضيع والثقافات والآراء. ماريا سبيث ومصورها رينهولد فورشنايدر، أنجزا فيلماً يؤمن بأهمية التربية والتعليم وتبرزهما بشكل لائق، وكما يذكرنا ملخص الفيلم المنشور على موقع المهرجان "لو كان لجميع الأطفال في العالم أستاذ مثل باخمان، لأصبحت أغنية تخيل لجون لينون حقيقة". 

"الدب الفضي" (أفضل إخراج) استحقها الفيلم المجري "ضوء طبيعي" لدينيس ناغي. تجري الأحداث في عام 1943، أي خلال الحرب العالمية الثانية؛ شتاء طويل على وشك أن يبدأ في الأراضي التي لا نهاية لها في الاتحاد السوفياتي المحتل. إيشتفان هو جزء من وحدة مجرية خاصة مكلفة التنقل من قرية إلى أخرى بحثاً عن مجموعات حزبية، والسيناريو يكشف ما سيتعرض له وكيف سيصبح مسؤولاً عن وحدته في مواجهة العدو. "ضوء طبيعي" أكثر من فيلم حرب آخر. إنه نزول إلى المجهول، يُطرح خلاله سؤال "ما الذي يمكن أن يفعله المرء من أجل البقاء؟". 

جائزة "الدب الفضي" لأفضل تمثيل ذهبت إلى الألمانية مارن إيغيرت عن دورها في "أنا رجلك" لماريا شرايدر، الفيلم الغريب الذي يحكي عن عالمة تعيش ثلاثة أسابيع مع رجل آلي لغرض بحثي، لكن سرعان ما تتعلق به عاطفياً، لكن المشكلة أن الرجل الوسيم هذا مبرمج كي يسعدها، أي أنه لا يترك لها أي خيار. الجائزة نفسها، لكن في فئة أفضل دور ثانوي (أو مساند)، توجت بها الصبية المجرية ليلا كيزلينغر عن دورها في "غابة - أراك في كل مكان" للمجري بنس فليوغوف. بيد أن الجائزة التي بدت كنكتة سمجة هي جائزة السيناريو التي حصل عليها المخرج الكوري الجنوبي هونغ سانغ سو عن عمله الضعيف جداً "مقدمة"، خصوصاً أن سانغ سو معروف بعدم كتابته أي سيناريو قبل البدء في التصوير. اللجنة قالت إنها أعطت الجائزة لهذا السبب "أكثر من سرد قصة، أو تقديم السرد بكفاءة، فإن هذا النص يختلق تلك الفترات الزمنية بين فعل وآخر، حيث، للحظة، تنكشف فجأةً حقيقة خفية للحياة البشرية". أخيراً، نال الفيلم المكسيكي "فيلم شرطة" لألونزو رويزبالاسيوس جائزة أعظم مساهمة فنية التي أسندت لمونتير الفيلم عن شغله الممتاز في إسقاط الحدود بين الروائي والوثائقي. 

 

الـ The Independent  في

06.03.2021

 
 
 
 
 

فيلم «سعاد»: أو كيف تبدو الإسكندرية لفتاة من الشرقية؟

محمد طارق

ضمن إطار عروض برنامج الدورة الـ 71 لمهرجان برلين السينمائي خلال مارس 2021، أتيح للصحفيين والنقاد مشاهدة فيلم آيتن أمين الروائي الطويل الثاني «سعاد»، الذي حظي بختم المشاركة الرسمية في مهرجان كان السينمائي في دورته السابقة 2020، لكن لم يتح وقتها للمشاهدة، الأمر الذي منح الفيلم فرصة ذهبية نادرة الحدوث ليتمكن من المشاركة في مهرجاني كان وبرلين على التوالي.

تعود أمين للسينما بعد انقطاع دام 7 سنوات منذ فيلمها الروائي الطويل الأول «فيلا 69»، أنجزت في ذلك الوقت برفقة نادين خان وهبة يسري المسلسل المثير للجدل والمختلف بشكل واضح عن الدراما المصرية التقليدية من حيث البناء والشخصيات والأسلوب «سابع جار». 

سعاد ورباب وأحمد: ثلاث شخصيات معاصرة 

في «سعاد» تتجه المخرجة لأسلوب مختلف عن فيلا 69، أسلوب يتسم بكونه «خامًا» وطازجًا،  تؤسس له من خلال مشهد افتتاحي بكاميرا مهتزة لشابة تجلس بجانب امرأة في منتصف عمرها، يدور حوار بينهما، فتخبرها فيه الشابة عن خطيبها «الطبيب» الذي يخدم في سيناء، وعن دراستها للطب في جامعة الزقازيق، كما تحدثها عن العلاقة الطيبة بينها وبين أخته. قطع لنفس المشهد مع تغير المرأة الجالسة بجانب الشابة، إذ نجد شابة أخرى تجلس جوارها، فتحدثها عن تدخل أخت خطيبها في حياتهما كونها تخطت الثلاثين ولم تتزوج. قطع إلى مشهد آخر تلتقط فيه الشابة المتكلمة صورة لمسجد ونهر وتضعها على فيسبوك، ثم تنتقل إلى منطقة مجاورة لشريط قطار لتقابل أختها التي تعاتبها على تأخيرها فتختلق قصة جديدة لتبرر تأخرها، ويُكتب بحروف صفراء على الشاشة كلمة «سعاد». 

هذا هو التأسيس الأول لشخصية سعاد، ثلاث قصص متضاربة تمامًا تؤكد أنها تمتلك عالمها الخاص، عالم تؤلف لنفسها فيه حيوات موازية لحياتها التي تبدأ في الظهور تدريجيًّا من خلال المشاهد التالية في غرفتها  بواسطة حوارها مع صديقاتها، الذي يكشف لنا جانبًا آخر من شخصيتها. سعاد الحالمة التي تختلق القصص للغرباء تبدو ساكنة خاضعة لصديقاتها الواقعيات، سواء المتدينة المحافظة أو الجريئة، تستمع معظم الوقت إليهن وتبدو في موقع أضعف في كل المحادثات، لكنها أيضًا تخبرهن عن حبيبها الحقيقي المؤثر الاجتماعي السكندري أحمد، وعن انتظاره لها خارج مدرستها وتمنعها عن مقابلته

كل تلك التفاصيل توحي بأن سعاد آتية من زمن أقدم، تحب الحكايات أكثر من الواقع، وتخلق عالمًا موازيًا تتخيل فيه الأشياء، وحتى اختيار الاسم ربما يخلق رابطًا في خيال المشاهد مع سعاد حسني نجمة الزمن الذهبي وأيقونة الرومانسية المصرية، كما يبرر التحول الدرامي الكبير في منتصف الفيلم، والذي يتيح للأخت الصغرى رباب الظهور واحتلال مساحة رئيسية بعد ظهور أولي يوحي بأنها شخصية ثانوية.  

تبدو رباب في مساحة متوازنة، فلا تمتلك رومانسية أختها ولا لهاثًا وراء الزواج والحب الحقيقي مثل صديقات سعاد، كما تبدو أكثر اتساقًا مع زمنها وأدواته، وتمتلك جرأة حقيقية حتى إن لم تتحدث. تسافر رباب فجأة إلى أحمد وتحادثه من تليفون سعاد لتخبره أنها في الإسكندرية وتود مقابلته. ينتفض أحمد مفزوعًا من فراشه، وينزل لمقابلتها في مقهى، فتخبره بأنها تحمل له رسالة من سعاد، لكنها لن تعطيه إياها إلا في نهاية اليوم، تتلاعب به من أجل معرفة المزيد عن حياة أختها السرية، وترافقه في يومه لنبدأ في التعرف على أحمد نفسه

أحمد شخصية مشتتة ومضطربة من الطبقة الوسطى، أنهى كلية الهندسة لكنه يعمل في صناعة المحتوى، يصادق فتاة إسكندرانية من طبقة تفوقه، يرى فيها فرصة لترقٍ طبقي لكنه لا يستطيع الاندماج مع أهلها وأحاديثهم عن شراء بيت صيفي في رأس الحكمة (إحدى قرى الساحل الشمالي الفاخرة)، بينما يرى في سعاد فتاة ساذجة تنبهر به وتذكره بالقصة التي حكاها لها عن تعارف والده ووالدته في «عاركة» في الشارع، كما ينجذب إلى جرأة رباب التي تفاجئه بتصرفاتها الحادة

أسلوب بين الوثائقي والروائي

يتحرك بناء الفيلم بناء على تصرفات شخصياته الثلاث، دون توقف عند أي حدث، وفي استمرارية ربما توضح أن الأهم هنا هو حكي العالم نفسه من خلال الشخصيات ومنظورها عن ذلك العالم.  يمكننا أيضًا ملاحظة أن هناك رابطًا بين شخصيات سعاد وفيلا 69، فسعاد والمهندس حسين شخصيتان رومانسيتان، يعيشان في أزمنة سابقة ويحاولان خلق فقاعة يحتميان بها ضد سير الزمن وقسوته، لكن ما يخلق الاختلاف الذي تحدثنا عنه في بداية المقال هو الأسلوب وشكل العالم البصري لكلا الفيلمين

في فيلا 69 كل شيء منمق وسينمائي بما يتناسب مع ثقافة المهندس حسين ونظامه وقصة الفيلم المدفوعة بالشخصية أيضًا، لكن في سعاد الأجواء البصرية تنتمي لعالم يقع في مساحات تنتمي أكثر لعوالم السينما التسجيلية، بدءًا من الكاميرا المهتزة وفوضوية غرف الفتيات واختيار الألوان الفجة، حتى حامي شاشة موبايل سعاد المتشقق واختيار سطور الحوار، العناصر التي تمنح المشاهد نظرة تلصصية على عالم تلك الفتيات، وكأنك تشاهدها في مقطع يوتيوب مسرب على الإنترنت

اختيار مواقع التصوير المتقشفة والواقعية أيضًا يحمل حسًّا تسجيليًّا، فأغلب الفيلم مصور في الخارج بشريط صوت يحمل الكثير من الضجيج وأصوات الشارع التي تغطي بعض الوقت على حوار الأبطال، لكن الاختيار الأبرز لأماكن الفيلم هو كون سعاد ورباب من منطقة شعبية في محافظة الشرقية وكون أحمد من الإسكندرية، المدينة التي تتخيلها كلا الأختين بشكل به بعض من الفيتيشية، وكأن كل سكان المدينة المطلة على البحر يرونه من شرفات منازلهم. اختيار سعاد لأحمد من هذا المنطلق يكمل تصورها لنفسها وكأنها بطلة فيلم ستحظى بقصة حب مختلفة ورومانسية تشبه حكاية والد ووالدة أحمد المذكورة سابقًا، وتختلف عن ارتباطها بحبيب من مدينتها الصغيرة، لكن الفارق المكتشف بين سعاد وأحمد يشبه بشكل ما الفارق بين نهر النيل والبحر المتوسط

سيناريو نسوي مدفوع بشخصياته

رغم التشابه بين الأسلوب المستخدم وبين أفلام مثل «فرش وغطا» لأحمد عبد الله و«عين شمس» لإبراهيم البطوط، فإن المنظور الذي ينطلق منه الفيلم نسوي بحت، إذ ينطلق الفيلم من منظور شخصياته النسائية، أما الاختلاف الثاني فهو مرتبط بالعالم الرقمي وعناصره: الرسائل الصوتية، والصور المرسلة بين سعاد وحبيبها عبر تطبيق ماسنجر ومكالمات الفيديو التي أتاحت لهما أصلًا بناء تلك العلاقة.  

«سعاد» فيلم حاد جريء يبقى في ذاكرتك بعد مشاهدته بلا شك، ويبقيك مشغولًا بشخصياته ومصائرهم واختياراتهم، ويعبر عن الكثير من مشاعر الأجيال وتفاوتها من منظور فتيات في مقتبل عمرهن يبدون أكثر اختلافًا عن الأجيال السابقة، كما يصور كل ذلك بلغة متقشفة تخلق للفيلم عالمه الخاص.  

 

موقع "إضاءات" في

06.03.2021

 
 
 
 
 

جوائز وحيثيات

خالد محمود

دون شك ذهبت جوائز الدورة الـ71 لمهرجان برلين السينمائى للاعمال التى توحدت معها رؤى وتوجهات ومشاعر أعضاء لجنة التحكيم الدولية.

1ــ الدب الذهبى لأفضل فيلم «ضجيج سيئة الحظ» إخراج رادو جود، وقالت لجنة التحكيم إن الفيلم الرومانى يتمتع بهذه الجودة النادرة والأساسية لعمل فنى دائم. إنه يلتقط على الشاشة المحتوى والجوهر، العقل والجسد.

إنه فيلم متقن بالإضافة إلى فيلم جامح، ذكى وطفولى، هندسى وحيوى.

2ــ جائزة الدب الفضى الكبرى للجنة التحكيم فيلم «عجلة الحظ والفانتازيا» للمخرج ريوسوكى هاماجوتشى (اليابان)

حوارات الفيلم عميقة للغاية وتثير الاندهاش، وفيه نسأل أنفسنا: إلى أى مدى يمكن أن يصل الأمر إلى العمق؟

3ــ جائزة لجنة تحكيم الدب الفضى فيلم «السيد باخمان وفريقه» إخراج ماريا سبيث

«فى الفيلم، يمكنك لفت الانتباه إلى مشاكل عميقة من خلال غرس إصبعك فى الجرح أو إظهار الأمل وإعطاء الإلهام لكيفية تحقيق تغيير إيجابى. هذه الأخيرة هى الاستراتيجية التى اختار مخرج هذا الفيلم الوثائقى القوى اتباعها».

4ــ جائزة الدب الفضى لأفضل مخرج فاز بها دينيس ناجى عن فيلمه «ضوء طبيعى» (المجر / لاتفيا / فرنسا / ألمانيا)

قدم الفيلم صورة مرعبة بشكل جميل، ساحرة، صورة للحرب تذكرنا فيها النظرة الملحوظة للمخرج مرة أخرى بضرورة الاختيار بين السلبية وتحمل المسئولية الفردية.

5ــ الدب الفضى لأفضل أداء تمثيلى فى دور قيادى فاز بها مارين إيجرت فى فيلم «أنا رجلك»، إخراج ماريا شريدر (ألمانيا)

سمحت لنا لوحة صفات الأداء الخاصة بها الشعور بالسعادة والضحك وطرح الأسئلة بثقة، أحيت سيناريو ممتازًا، خلقت شخصية لا تُنسى يمكننا التماثل معها، مما دفعنا إلى التفكير فى وجودنا ومستقبلنا وعلاقاتنا وما نريده حقًا لأنفسنا».

6ــ الدب الفضى لأفضل أداء تمثيلى فى دور قيادى فازت بها ليلا كيسلنجر عن فيلم «غابة: أراك فى كل مكان» للمخرج بنس فليجوف (المجر)، حيث قدمت عرضًا قويًا ولا يُنسى وحددت البطلة فى الواقع الدافع وراء الفيلم، والخطر المخيف للعالم، وهو ما ورثه أطفال اليوم منا نحن الكبار. بدلا من أن تخبرنا وتشرح لنا، فإنها تنجز المهمة الأصعب بكثير المتمثلة فى إثارة الحاجة إلى التفكير فى الأسئلة المزعجة والمثيرة للقلق فى حاضرنا. لقد سحرتنا، ومن خلال السحر، جعلتنا نفكر».

7ــ الدب الفضى لأفضل سيناريو فاز بها الكروى هونج سانجسو عن فيلم «مقدمة»

أكثر من سرد قصة، أو تقديم السرد بكفاءة، فإن هذا النص يختلق تلك الفترات الزمنية بين فعل وآخر، حيث، للحظة، تنكشف فجأة حقيقة خفية للحياة البشرية، مشرقة وواضحة.

8ــ الدب الفضى لمساهمة فنية متميزة فاز بها يبران أسواد عن فيلم «شرطى»

عمل سينمائى جرىء ومبتكر يطمس الحدود بين الخيال والواقع ويستكشف بجرأة قدرة اللغة السينمائية على تغيير منظورنا إلى العالم.

 

الشروق المصرية في

06.03.2021

 
 
 
 
 

هتاف «يسقط حكم المرشد» فى (برلين)!!

طارق الشناوي

خرجت من تجربة مهرجان (برلين) فى دورته الافتراضية التى حملت رقم (71) وأنا موقن تماما أن مقتل المهرجان- أى مهرجان- عندما يبحث عن بديل افتراضى، لأنه سيصبح مجرد رقم على الخريطة، مثلما قررت إدارة (برلين) أن تضيف لها رقما جديدا بعد السبعين دورة الماضية، بينما، واقعيا، من الصعب أن تحسب لها.

قناعتى أنه كان الأجدى للجميع أن تُلغى أو تؤجل مع النصف الثانى من هذا العام مع تواجد مؤشرات قادمة لتخفيف الاحتراز، ليظل المهرجان فى الذاكرة محتفظا بكونه مهرجانا.

يبدو أن لصناعة السينما حسابات أخرى، المهرجانات ليست بعيدة أبدا عن تلك التوازنات والموازنات الاقتصادية، التى تضمن استمرار صناعة السينما بشقيها الفنى والتجارى، المهرجان وفعالياته وجوائزه حتى لو كانت افتراضية فهى تُشكل داخل صناعة السينما عالميا حسبة مختلفة، كما أن المهرجان حرص على الإعلان أنه فى 9 يونيو القادم سوف يسمح للجمهور بمشاهدة الأفلام المشاركة وعلى مدى 11 يوما وهى عدد أيام المهرجان، بينما اختصرها (أون لاين) إلى أكثر من النصف لتتراكم الأفلام، فى مدى زمنى محدود، ولا أدرى كيف لم يضع المهرجان فى اعتباره أن تواجد الإعلامى أو الصحفى والناقد فى برلين يعنى التفرغ لمشاهدة الفعاليات كلها، بينما بقاؤه فى وطنه يعنى التزامه بكل التفاصيل، التى تعود عليها، ولا يمكن التفرغ للمهرجان، فهو يشاهد الفيلم بينما رنات المحمول تدعوه للرد على مكالمة عاجلة.

انتهت الفعاليات قبل نحو 36 ساعة، وفازت السينما الرومانية بفيلم (ضجيج سيئ الحظ) الدب الذهبى، والفيلم اليابانى (عجلة الفانتازيا والحظ) الدب الفضى، بينما حصل الفيلم التسجيلى الألمانى والذى يصل زمنه إلى نحو 4 ساعات (الأستاذ بهمان وفصله الدراسى) على جائزة لجنة التحكيم الخاصة، والسينما المجرية أحسن مخرج دينيس ناجى (أضواء طبيعية).

شاركت مصر بثلاثة أفلام (كما أريد) للمخرجة سماهر القاضى فى قسم مخصص للمواهب الواعدة، الفيلم يرصد الثورة المصرية على الإخوان فى 30 يونيو ويتردد فى الأحداث الهتاف الذى صاحب الثورة (يسقط يسقط حكم المرشد)، الفيلم به تحليل موثق للعديد من التفاصيل التى صاحبت الثورة.

عُرض فى قسم (المنتدى الموسع) للمخرج شريف زهيرى فيلمه التسجيلى الطويل (سبع سنوات حول دلتا النيل) وهو بالفعل يُشكل الزمن الذى تم فيه تصوير الفيلم الذى يمزج فى بنائه الفنى بين الأسطورة والأدب والشعر والقصص التراثية، تفاصيل الحياة داخل وخارج النيل، وأيضا عرض فى قسم (بانوراما) فيلم (سعاد) للمخرجة أيتن أمين والفيلم رشح رسميا فى مهرجان (كان) المؤجل من العام الماضى.

هل تحقق الهدف من مهرجان (برلين)؟ ربما السينما كصناعة ستحقق مشروعات مشتركة سنراها فى الأعوام القادمة، إلا أن المهرجان كمساحة دافئة فى القلب حُرمنا منها تماما.

أى محاولة قادمة فى هذا الاتجاه أراها غير مجدية محليا ودوليا، شعار شىء أفضل من لا شىء لا ينطبق على المهرجان (أون لاين)، العديد من المنصات المصرية والعالمية صارت متوفرة للجميع، وتعرض عشرات من الأعمال الدرامية الجديدة، فما هو الجاذب بالعرض، قيمة المهرجان أنه يدخلك إلى عالمه السحرى بكل التفاصيل، بينما ما دون ذلك هو مجرد شروع لمهرجان لم يعقد بعد.

tarekelshinnawi@yahoo.com

 

المصري اليوم في

07.03.2021

 
 
 
 
 

غلّبت لجنة التحكيم المضمون على الشكل

قراءة في نتائج «مهرجان برلين السينمائي»

بالم سبرنغز(كاليفورنيا) : محمد رُضا

ما الذي يجمع بين الإيراني والإسرائيلي؟ اشتراكهما في عضوية لجنة التحكيم التي أشرفت على المسابقة الرسمية. محمد رسولوف، هو مخرج إيراني منبوذ من قِبل حكّام إيران لأنه تجرأ وصنع أفلاماً لا تعجب النظام، آخرها «ليس هناك من شر»، الذي فاز بذهبية مهرجان برلين في العام الماضي (2020).

الثاني هو ناداف لابيد، المخرج الإسرائيلي الذي انتقد بدوره البنية الإسرائيلية في فيلمه «مرادفات»، الذي فاز بذهبية مهرجان برلين في العام الأسبق (2019). لكن هذه لم تعاقبه بحرمانه من العمل مستقبلاً، كما فعل القضاء الإيراني تبعاً لمطالب الحكام هناك.

رسولوف ولابيد كانا من بين ستة سينمائيين كوّنوا عضوية لجنة التحكيم. الآخرون هم المخرجون والمخرجات ياسميلا زبانيتش (بوسنيا)، جيانفراكو روزي (إيطاليا)، إلديكو إينيدي (المجر)، وأدينا بنتيللي (رومانيا). وجميع هؤلاء اتفقوا - أو لم يتفقوا إذ من غير المسموح نشر النقاشات والسجالات - على توجيه الفيلم الروماني «حظ سيئ للحب» لصاحبه رادو يود صوب الفوز بجائزة مهرجان برلين الأولى هذا العام.

في تبريرها المعلن، فإن الفيلم «لديه تلك النوعية النادرة والأساسية لعمل فني مستديم. يقبض على المحتوى والجوهر، على العقل والجسد، على قيم واللحم النيئ للحظة الحاضرة في الزمن. في هذه اللحظة الفعلية لوجود الإنسان».

لا بد أن لجنة التحكيم شاهدت فيلماً آخر غير الذي شاهدناه، أو يمكن أن تكون نسخة متطوّرة من تلك التي عُرضت على باقي المشاهدين. مع استحالة ذلك، فإن الواضح أن لجنة التحكيم، على نحو أو آخر، رأت ما لم يتبدَّ لمعظم النقاد… لحم نيئ وقبض على المحتوى والجوهر... إلخ.

الفيلم، وقد عرضناه موسعاً في ملحق السينما، يوم أول من أمس، لديه قيمة بلا ريب: أخذ عيّنة فردية (مدرّسة تفشل في السعي لمنع انتشار فيديو صوّره زوجها لهما وهما يمارسان الحب على النت) يعرضها على خلفية اجتماعية واسعة، حيث جميع من حولها، ومن يحاكمونها، مشترك في فساد ما وازدواجية معايير، ولتأكيد هذه الخلفية ينتقل المخرج إلى التاريخ فيستعرض صعود وهبوط المعايير السياسية والأخلاقية من عمق التاريخ إلى اليوم.

لا شك في قيمة المحتوى، لكن ماذا عن الأسلوب الذي وضع فيه المخرج ذلك المحتوى؟ عن نصف ساعة من سير امرأة في الشوارع والتقاط مشاغل الحياة ثم النزوع، في جزء ثانٍ من ثلاثية قصصية، صوب التاريخ، ثم العودة إلى الحاضر حيث تتلقف المدرّسة محاكمة تدينها، ما يدفعها لقلب الطاولة ثم انتحال شخصية سوبر وومان لضرب وانتهاك وتدمير معارضيها؟

- الأسوأ

المفاجأة هو أنه، بتحليل المعروض من الأفلام المشاركة في مسابقة الدورة 71، ليس هناك ما هو أكثر إثارة للاهتمام كنص سينمائي وكغرابة تنفيذ منه. هناك فيلم جيد من المجري دنيس ناغي بعنوان «ضوء طبيعي»، لكن من سيهتم هذه الأيام بحكاية تسرد، من دون طروحات حاضرة، وقائع تنتمي إلى سنوات الحرب العالمية الثانية؟ المخرج نال، رغم ذلك جائزة مُستحقّة، كأفضل إخراج، لكنه كان مستحقاً أيضاً لو فاز بذهبية أفضل فيلم لأن ناغي هو من «يقبض» على عناصر وتفاصيل صنعة الفيلم بحرفية تفتقد مثيلها غالبية الأفلام التي تم عرضها.

في النتائج كذلك فوز الفيلم الياباني «عجلات الحظ والفانتازيا» لريوسوكي هامايغوشي بالجائزة الفضية (تناولناه في «ملحق السينما» أيضاً).

في صلبه فيلم مثرثر لا يخرج عن إطار المشاهد المحبوسة ضمن مربعات. لكن تبرير لجنة التحكيم هنا ربما أسوأ من الفيلم ذاته؛ يقول: «في المكان حيث الحوار والكلمات تنتهي عادة، تبدأ الحوارات في هذا الفيلم. هذا عندما تذهب الحوارات أعماقاً عميقة لدرجة أننا نسأل أنفسنا (مدهوشين وقلقين) إلى أي عمق يستطيع الحوار أن يذهب إليه؟».

إلى درجة منحه الجائزة الفضية... لا بد!

الأسوأ ما زال قادماً: الجائزة الفضية الخاصة بلجنة التحكيم ذهبت إلى «السيد باخمان وصفّه». من دون الدخول في تفاصيل هذا الفيلم التسجيلي، يتبدّى مع نيله الجائزة الثالثة أن لجنة التحكيم غلّبت المضمون على الشكل والفحوى على السينما. الأفلام الثلاثة تشترك في أنها تُلغي اعتمادها على الجمع بذكاء بين الناحتين (الفورم والمضمون) لصالح منح المشاهدين بعض الكسل في العرض. «السيد باخمان وصفّه» (ثاني فيلم يدور حول مدرّسين) فيلم تسجيلي للألمانية ماريا سبث حول أستاذ بطريقة مختلفة في التعليم. لا يهم أن فحوى الفيلم (وتلك الطريقة) باتا واضحان بعد ربع ساعة الأولى.

الفيلم الذي ظُلم في هذه المعمعة هو الفيلم اللبناني - الكندي «دفتر المرايا» لجوانا حاجي توما وخليل جريج. فيه من السينما أضعاف ما في «عجلات الحظ والفانتازيا» و«السيد باخمان وصفّه». وبغياب المعرفة بحيثيات وتفاصيل النقاشات التي دارت بين أعضاء لجان التحكيم، ليس من الممكن كيف صاغ هؤلاء موقفهم من هذا الفيلم.

- بدائل

إنها ليست المرّة الأولى التي تأتي نتائج اللجان مختلفة عن رغبات النقاد، لكنها ربما المرّة الأولى التي تلتقي فيها الأفلام الفائزة في المراتب الثلاث الأولى بتغليب المضمون على ما عداه، وابتكار لجنة التحكيم لبيانات تجتهد فيها لتبرير من دون نجاح.

في مقابل هذه النتائج، يمكن للناقد أن ينبري بقائمته القصيرة من الأفلام التي كان يعتبرها الأحق في احتلال مراتب الفوز. هنا قائمتي الخاصة:

1 - «ضوء طبيعي» Natural Light لدنيس ناغي

2 - «دفتر المرايا» لجوانا حاجي توما وخليل جريج

3 - «المشرف على الأخ» Brother’s Keeper لفريد كراهان

4 - «فيلم شرطي» A Cop Movie لألونسو لويزبالآسيوس

5 - «تقديم» Introduction لهونغ سانغسو

كثير من أفلام الدورة في هذه المسابقة كان متوسّط القيمة، وقليل منها جيد، وقليل آخر رديء. لكن الغائب الأكبر كان حميمية اللقاء بين الجمهور والأفلام. في الدورات السابقة لكل مهرجان كبير، كمهرجان برلين، ترتسم ألفة ذلك اللقاء وأهميّته. تشاهد ما تريد على الشاشة التي صُنعت بكل مساحاتها وتقنياتها لجودة المشاهدة وتفاصيلها. تنتقل من صالة لأخرى. تجلس في المكان الذي اعتدت الجلوس عليه. يبدأ الفيلم، تنساب نحوه وسط الجموع. تخرج منه إن لم يكن لفيلم آخر فلجلسة بينك وبين المقال الذي ستكتبه لصحيفتك.
ما اضطر المهرجان إليه هذه السنة هو توزيع الأفلام على المشاهدين في بيوتهم. شاشاتهم الصغيرة أو الكبيرة (وهذا الناقد لديه شاشة مونيتور قياس 42 إنش تستوعب الكثير من صفات الشاشة السينمائية من دون أن تعوّضها كاملة) ولدى كل منهم 24 ساعة لمشاهدة ما يستطيعون اختياره من نحو 25 فيلماً يومياً. في نهاية المطاف هو ماراثون في البيت بغياب كل الحسنات الأخرى التي اعتدنا عليها
.

 

الشرق الأوسط في

07.03.2021

 
 
 
 
 

برليناله 71: "فيلم شرطي".. أو ما يعنيه أن تكون رجل شرطة (في المكسيك)!

أحمد شوقي

كثيرًا ما نتحدث عن معضلة الشكل والمضمون في الفيلم السينمائي، فبينما تنحاز أغلب الأفلام إما إلى الخطاب مرتكنة على مضمون درامي أو فكري، أو إلى صناعة الشكل الفيلمي سواء كان على المستوى البصري أو السردي، فإن الرأي الأصوب أنه كلما ارتفعت قيمة الفيلم كلما كان الشكل هو المضمون، وجها عملة مرتبطان عضويًا بصورة يستحيل معها تخيل أيهما دون الآخر.

الرأي السابق معقد بعض الشيء، يحتاج في أغلب الحالات لشرح مضاعف وخيال واسع يحاول تصوّر الفيلم نفسه بتعديل أحد طرفي المعادلة، لكن من حين لآخر تظهر أفلام لامعة، خارجة عن المألوف، اختلاف الشكل فيها وارتباطه بالمضمون أمور جليّة بما يجعل العمل مثالًا قياسيًا يمكن الركون إليه لشرح تلك العلاقة. أحد هذه الأفلام هو "فيلم شرطي A Cop Movie" للمخرج المكسيكي ألونسو رويزبالاثيوس، الفيلم الذي فاز قبل أيام بجائزة الإسهام الفني من مهرجان برلين السينمائي الدولي الحادي والسبعين، عن عنصر المونتاج تحديدًا.

ألونسو رويزبالاثيوس هو أحد التجليات الحديثة لنجاح السينما المكسيكية المتواصل في تقديم أصوات سينمائية مغايرة ومدهشة، تُمثل أعماله جيًلا جديدًا لحق بجيل الأصدقاء الثلاثة (إليخاندرو جونزاليس إيناريتو، جويرمو ديل تورو، ألفونسو كوران) الذين نقلوا السينما المكسيكية لاتساع الانتشار الهوليوودي. وعلى مدار ثلاثة أفلام طويلة حقق نجاحات متتالية، لدرجة أن أفلامه الثلاثة "جيروس Güeros" و"متحف Museo" وصولًا لـ"فيلم شرطي" نالت جوائز رسمية من مهرجان برلين، بين تتويجات دولية عديدة. نجاح دفع شبكة نتفليكس لضمه لقائمة مواهبها فقام بإخراج بعض حلقات المسلسل الشهير "Narcos: Mexico" قبل أن تقوم المنصة بشراء فيلمه الجديد وتسمح له – في استثناء لقواعدها الجديدة – بالمشاركة في برليناله.

تتابعات البداية.. مدخل العالم العصيب

سارينة سيارة شرطة مرتفعة تصاحب دخول المركبة أحياء مكسيكو سيتي الفقيرة، ضابطة تهرع إلى موقع الاستدعاء ليقابلها رجل يحاول إخراج شيء من ملابسه بما قد يوحي بإشهار سلاح، لكننا نكتشف إنه مجرد هاتف جوّال، وأن الاستدعاء لأمر أبسط: امرأة في حالة صحية سيئة تضع مولودها!

وصف "أبسط" يقوم على المنطق المباشر؛ فعملية ولادة أمر أيسر بطبيعة الحال من مواجهة مجرم مسلح. لكن ما تكشفه الدقائق اللاهثة أن الوضع لا يقل صعوبة. فالمرأة في حاجة ماسة للمساعدة، وسيارة الإسعاف مرت ساعتين على استدعائها دون أن تظهر، ولا يبدو أن لدى المسعفين أي رغبة في الحضور من الأساس، وعلى الضابطة الآن أن تترك سلاحها وتلعب مؤقتًا دور القابلة، مدفوعة بسببين أحدهما إنساني لإنقاذ تلك المسكينة، وثانيهما أمنى لأن هذه السيدة لو ماتت وجنينها، فستكون الضابطة في الأغلب هدفًا مثاليًا لانتقام الغاضبين من تجاهل أبسط حقوقهم كمواطنين.

ينتهي تتابع البداية العصيب وقد كوّنا تصورًا مبدئيا عن حياة الضابطة ماريا تريزا وعالمها المعقد، فندرك أن عليها وزملائها أن يؤدون واجبهم الشرطي بأقل الإمكانيات وسط محيط عنيف ومتحفز وقابل للاشتعال. قبل أن تبدأ ماريا الحديث عن ماضيها الشخصي والأسري لتُلقي المزيد من الضوء على السياق المجتمعي، عن والدها الشرطي السابق ورؤيته الذكورية التي كادت تمنعها من الالتحاق بنفس مهنته، ورفضه لاحقًا مزاملتها العمل لأسباب نظنها أيضًا ذكورية، فنكتشف أنها النقيض تمامًا: الرجل ببساطة لا يريد أن يلقى مصرعة أمام عيني ابنته.

ينتقل الفيلم للشخصية الرئيسية الثانية، الضابط مونتويا شريك ماريا تريزا في العمل والحياة، فهما حبيبان يصفهما زملائهما بعصافير الحب، الذي نرى معه هو الآخر أوجهًا إضافية لتعقد أوضاع العمل، انتشار الرشوة كنتيجة طبيعية للدخل المحدود والفساد المؤسسي الذي يجعل الضابط في حاجة لدفع رشوة هو الآخر كي يحصل على سترة واقية نظيفة وسلاح صالح لإطلاق النار.

أسرفنا قليلًا في الحديث عن تفاصيل الوضع الذي نتعرف عليه تباعًا حتى منتصف الفيلم من الشخصيتين الرئيسيتين، في سياق يبدو فيلمًا تسجيليًا معتادًا، صحيح أن بعض مناطقه محكمة التصوير والمونتاج بما يليق بفيلم روائي (نتسائل مثلًا كيف تم تصوير الموقف الافتتاحي العصيب بهذا التنوع البصري)، وأن بعض اللقطات خلقها المخرج بوضوح كلقطة لماريا تيريزا تتكلم مع الكاميرا من خلفية مقعد سيارة جرت فيها واقعة تتحدث عنها. لكن تبقى المشاهد المعاد تمثيلها reconstructed scenes اختيارًا ممكنًا لا سيما مع وجود مخرج كبير وجهة إنتاج ضخمة وراء العمل.

حتى تأتي نقطة المنتصف ويحدث الاكتشاف الذي يقلب الأمور رأسًا على عقب ويحوّل الفيلم من تسجيلي جيد الصنع لتجربة فنية وإنسانية مثيرة للتفكير والارتباك والجدل الإيجابي.

التجربة الفيلمية.. معايشة أم انضمام

(تنبيه: لا يمكن اعتبار ما يلي حرقًا لقصة الفيلم في ظل اختيار المخرج أن يتضمن ملخص الفيلم الرسمي المعلومة، لكن لو كنت ممن يفضلون ترك المفاجآت للمشاهدة، ففي الفقرات التالية كشفًا للانقلاب الرئيسي في الفيلم).

في منتصف الفيلم نجد نفسنا فجأة أمام الشخصيتين الحقيقيتين، ماريا تريزا ومونتويا المختلفين عمّن شاهدناهما خلال الساعة الأولى، لنكتشف أن أبطال النصف الأول هما الممثلان مونيكا ديل كارمن وراؤول بريونيس، اللذان قام المخرج بإخضاعهما لعملية معايشة انغماسية فريدة من نوعها، بأن قاما بالفعل بالتقدم والانضمام إلى أكاديمية الشرطة ودرسا فيها لقرابة الستة أشهر، مرا بكل البرامج التدريبية حتى صارا بالفعل شرطيين رسميين، بالتوازي مع دراستهما لشخصيتي الشرطيين الحقيقيين وماضي كل منهما لأداءه أمام الكاميرا.

الاكتشاف يثير التساؤل المنطقي حول جدوى التجربة، فلماذا لم يكتفي ألونسو رويزبالاثيوس بالشخصيات الحقيقية فيصنع فيلمًا تسجيليًا؟ أو يكتفي بالممثلين فيصنع فيلمًا روائيًا مأخوذ عن قصة حقيقية؟ خاصةً وأن الممثلين يتدربان كشرطيين ثم يخرجان ليلعبا شخصيات مختلفة. لتتضح الإجابة تباعًا، وندرك أن الفيلم المشغول بحياة الشرطي في المكسيك يبحث أكثر في الجذور، ويستكشف عملية التحوّل التي يمر بها شاب أو شابة ليتركا حياتهما الاعتيادية ويصيرا شرطيين.

مونيكا وراؤول ممثلان التحقا بأكاديمية الشرطة لأسباب فنية، لكننا نكتشف أن كل زملائهما تقريبًا يمرون بمرحلة مماثلة: التحقوا بالدراسة من أجل تحسين أوضاعهم أو حماية ذويهم أو لجاذبية زيّ الشرطة وسلطته، لكنهم في النهاية أشخاص عاديين لديهم شكوكهم ومخاوفهم ونقاط ضعفهم، يلتحقون بمكان يتلقون فيه بعض التدريبات التي يجب خلالها أن يتظاهروا بأكبر قدر من الصلابة والتحمل، ليتخرجوا خلال فترة لا تتجاوز الأشهر وقد سُمح لكل منهم بحمل سلاح مُرخص والتعامل مع مواقف عسيرة واتخاذ قرارات دقيقة كثيرًا ما تتعلق بحيوات الآخرين. عليهم أن يفعلوا هذا وسط سياق معقد وظروف سيئة وحالة من الشك المتبادل والفساد المتجذر الذي يجبر الجميع على الانصياع له.

كلنا ممثلون

هنا تتجلى قنبلة "فيلم شرطي" الفكرية، باستيعابنا أن عمل رجل الشرطة (المكسيكي على الأقل) ما هو إلا عملية تمثيل ممتدة، يفعل فيها كل شخص ما فعله أبطال ألونسو رويزبالاثيوس بالضبط: يضع حقيقته جانبًا مع دخوله من باب الأكاديمية، وينتحل شخصية أخرى بمنظومة قناعات مختلفة يضعها مع زيّه الرسمي ويغدو ملزمًا بها طيلة حياته، محاولًا التعايش مع ما ينتج عن ذلك من متاعب وهزات نفسية وأخلاقية نرى أمثلة لها في مناطق مختلفة من الفيلم.

يمنحنا هذا الاكتشاف لحظة استنارة استثنائية، تكمل عندها قطع البازل لنفهم قيمة العمل المعقد الذي خاصه المخرج الموهوب. عمل يجمع سمات الأنواع الفيلمية كلها، فهو روائي وتسجيلي وتجريبي معًا، ويغدو الشكل فيه – بكل ما يحمله من غرابة في اختيار التجربة وطريقة تحريكها ومعالجتها البصرية – هو نفسه المضمون؛ فالاستغناء عن أي عنصر أيًا كان (الشرطيان أو الممثلان أو المعايشة)، كان ليُنتج فيلمًا بالغ الاختلاف لا يكاد يجمعه بـ"فيلم شرطي" إلا أن كلاهما يدور حول الشرطة المكسيكية.

"فيلم شرطي" هو أحد تلك الأفلام النادرة التي نكتشفها كل عدة أعوام، فتحدث هزّة ترتبط بالوسيط السينمائي نفسه وكيفية تطويعه في الحكي والتعبير عن المشاعر والأفكار، ولعل فوزه بجائزة الإسهام الفني حافظ لمخرجه على العلامة الكاملة في النجاح مع جوائز برليناله، لكنه ظلمه في مسابقة ربما كان يستحق فيها تقديرًا أكبر، سيناله في الأغلب عندما تطلقه "نتفليكس" ليراه العالم قريبًا.

 

موقع "في الفن" في

07.03.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004