ملفات خاصة

 
 
 

برلين ٧١ – "دفاتر مايا":

رسائل من زمن الحرب

هوفيك حبشيان

برلين السينمائي الدولي

الدورة الحادية والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

هل في امكاننا الحديث عن #سينما لبنانية ما قبل ٤ آب وما بعده؟

تتركنا مشاهدة "دفاتر مايا"، أحدث #أفلام الثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج المعروض في مسابقة مهرجان #برلين السينمائي الذي يُقام أونلاين (١-٥ الجاري) مهمومين في هذا الاتجاه. ففي مشهد عودتها إلى لبنان بعد سنوات من الابتعاد القسري عنه، ترى مايا (ريم تركي/ منال عيسى)، بعدما أصبحت سيدة خمسينية، مدينة مراهقتها وقد تغيرت معالمها كلياً. ثم، تصيح بدهشة: "لقد عمّروا كلّ شيء!". غادرتها ناراً وغباراً وركاماً، وها انها تعمّرت مجدداً وأضحت بيئة يصلح فيها العيش. لكن هذا هو فقط جزء قليل من الحقيقة. أولاد البلد يعلمون انه كان يكفي للتصوير ان يتأخر بضعة أشهر فتمر مايا من هناك بعد تفجير المرفأ كي ترى مشهداً آخر، وتجد نفسها مجدداً في مسرح طفولتها التي لطالما تسرب من بين أصابعها كحبّات الرمل، طفولة لا يفعل الفيلم سوى لملمة شظاياها وتجميعها مرة أخيرة قبل طي الماضي. بالنسبة للمُشاهد غير المعني بالواقع اللبناني بشكل مباشر، مشهد كهذا قد يبدو واقعياً وعادياً ويستجيب للسياق الدرامي. أما الذي عاش التفجير ثانية بثانية، فصداه في داخله سيكون مختلفاً، وقد تصبح جملة "لقد عمّروا كلّ شيء"، اذا ما رددها في سره، ممزوجة بالسخرية. هذه واحدة من خصوصيات عمل الثنائي التي تتيح هذا النوع من الحميمية والتداخل بين الواقع والمتخيل.

دورة التدمير والاعمار المتواصلة هي لازمة في سينماهما: في "البيت الزهر" كانت المسألة هي الحفاظ على مبنى في وجه مشروع اعادة الاعمار بعد سنوات من التدمير، في حين صوّر "بدي شوف" الدمار الحاصل جراء حرب تمور ٢٠٠٦ مع كاترين دونوف وهي تمشي فوق الركام. بينهما "يومٌ آخر" عن استحالة العيش مع شبح الماضي ما لم يكن الحداد كاملاً. الفكرة الأخيرة تعود بحرفيتها في "دفاتر مايا": نحن أمام أصوات ووجوه وأحداث من الماضي تحضر لتخربط "صفاء" الحاضر. ماضٍ أُهمِل ولم يُطوَ، عومل كمتطفل يجب تجاهله لا بل نكران وجوده. لكن ما إن أطل، بالقوة ذاتها التي نام بها، حتى تحول إلى وحش يفترس الأخضر واليابس.

كلّ شيء يبدأ بطرد يصل إلى مايا في بيتها المونريالي عشية عيد الميلاد. أمّها (كليمانس صبّاغ) وبنتها أليكس (بالوما فوتييه) تتسلّمان الطرد عنها،لأنها غائبة. تبدي الأولى الكثير من التأفف والانزعاج كونها تعلم ما في داخله، وتظهر الثانية فضولاً وحماسة تجاه صندوق الأسرار. في البدء، تقترح الجدة اخفاء الطرد واعطاءه لمايا في ثاني يوم العيد، لكن تطور الأحداث سيدعها تعثر على الطرد في الليلة نفسها، وستعرف كذلك ان صديقتها التي أرسلته إليها قد توفيت منذ فترة.

تقول جوانا حاجي توما ان مضمون الطرد (كاسيتات، صور، فيديوات، دفاتر يوميات، الخ) ما هو سوى مراسلاتها مع صديقتها التي هاجرت إلى فرنسا هرباً من الحرب. ففي الثمانينات، بين عمر الـ١٣ والـ١٨، دأبت على مراسلة هذه الصديقة التي كانت مقربة منها في مرحلة من المراحل. كانت تخبرها عن كلّ شيء تمر به خلال الحرب، من حبّ وخيبة وألم. ثم، بعد ست سنوات من المراسلة المتبادلة، فُقِد التواصل بينهما، قبل ان تعودا لتلتقيا مجدداً بعد ٢٥ سنة في مناسبة معرض لجوانا وخليل.

عندما تفرش أليكس على فراشها تذاكر السينما التي اشترتها والدتها في مراهقتها لمشاهدة الأفلام، سواء في النحو الذي تفرشها فيه أو للهدف الذي تفرشها من أجله، تختفي آخر نقطة شك ان الفيلم شخصي، وشخصي جداً. مع ذلك، نحن أمام عمل روائي ينتمي إلى الخيال. وفي لحظة معينة، لا بد ان تختلط علينا الأشياء، وسط التداخل بين الروائي والواقعي، فتسقط الحدود بينهما. هل يوجد إنسان لا يشعر بهذا التشويش حينما يفكّر في الحرب؟ غالباً، تذوب الذكريات الحقيقية في أشياء اخترعناها ثم مع الوقت أضحت "حقيقة"!

كلّ واحدة من السيدات الثلاث ستتعامل بطريقة مختلفة مع محتوى "الطرد –الأمانة" الذي يبدو كدخيل في البيت. بالنسبة إلى الجدة، لا مجال للعودة إلى الذكريات الأليمة التي صارت جزءاً من حياة سابقة، ولا تريد ان تسمع عنها شيئاً. في حين أن الأم مترددة للنبش في صفحات ليس فيها سوى موت وألم وعنف وضياع، ولكن أيضاً بعض اللحظات حيث الحبّ يجعل كلّ شيء آخر قابلاً للتحمّل. أما الحفيدة أليكس، فسنجدها وقد استوطنت بين القصاصات والأوراق والصور بحساسية ابنة زمن الكاميرا داخل الهاتف المحمول. سنراها مهمومة بالتوثيق والسعي إلى الفهم، تمرر كلّ الوثائق كآلة فحص أمام هاتفها، في محاولة لحفظها في ضوء الفهم الجديد لمسألة الحفظ والتوثيق. في هذا، هي شبيهة بأمها التي ورثت منها هذه النزعة التوثيقية، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يبرر اهتمامها المفرط بماضي أمها والبلد البعيد الذي جاءت منه. لولا هذا، لكان السؤال مشروعاً: لماذا تُظهر صبية في مثل هذا العمر الرافض لكلّ شيء شغفاً بحكاية أمّها؟

يتفرع "دفاتر مايا" من هذه الأجيال النسائية الثلاثة في نصّ شديد الولوج في الحكاية و"حبكوي" إلى درجة عالية. انه بشكل عام فيلم عن كيف تلقي التجربة الشخصية ظلالها على مَن سيأتي من بعدنا. هناك نواح عدة يمكن النظر إلى الفيلم منها، لكن هذه الناحية هي الأكثر وضوحاً ونضجاً لتصبح مادة تستحق التنقيب فيها.

ينتقل الفيلم من يد إلى يد، قافزاً من زمن إلى آخر. من جليد كندا حيث الجفاء إلى ثمانينات بيروت التي تغلب عليها الحركة الدائمة والخوف الشديد ولكن أيضاً الاستهتار بالحياة وفقدان البراءة والأجواء الصاخبة المشبّعة بموسيقى الأولديز من بلوندي إلى ذا سترانغلرز ففيزاج وكانساس. مقتنيات مايا تشرع الباب للعب جميل بالوسيطين البصري والصوتي حيث الحرب تظهر حيناً مأساة وحيناً ملهاة. فالقنابل تتساقط كما في أفلام التحريك. يمكن الحديث عن ملهاة في البداية حصراً، عندما كان عمر مايا يسمح لها بالهرب من الواقع. ولكن مع تصاعد حدة العنف وتصدع البيت العائلي، يزداد كلّ ما حولها سواداً وينعدم فيه الأمل.

مقابل أصوات النساء الثلاث، صمتٌ مريب يعبر الفيلم، هو صمت رجاله: رجا (حسن عقيل) الدي جاي المتحزب الذي تُغرم به مايا، ووالدها (مارك قديح) المدرّس الذي تقتله مبادئه. رجلان لا يتكلمان، يتشابهان في صمتهما رغم ان أحدهما نقيض الآخر. إلى هذا الصمت، يمكن اضافة صمت صديقة مايا، حد ان الواحد منا يعتقد في لحظة من اللحظات انها تخاطب الفراغ، مجرد صرخة تلقيها في الفراغ.

زيارة بيروت تبدد غموض دفاتر مايا، الغموض الذي استطاع فيلم مثل "حرائق" لدوني فيلنوف صونه وبلورته. من قرب ليس كما من بعيد. في العاصمة المشتهاة، يضع الفيلم كلّ شيء على الطاولة مع مكان خاص للأمل. كما لو أرادت مايا التنازل عن هذا الحمل إلى ابنتها، لعلها تعطيه معنى جديداً.

 

النهار اللبنانية في

03.03.2021

 
 
 
 
 

عالم افتراضي ملعون!

طارق الشناوي

بينما تعلن جوائز (جولدن جلوب) في دورته الـ 78 لأول مرة تحت وصاية كل الإجراءات الاحترازية، التي أحالت البهجة الواقعية إلى سعادة افتراضية، عليك أن تخلق أنت الشغف والترقب والدهشة، كنت أيضا في نفس اللحظة أعيش معاناة أخرى، أظنها أشد ضراوة وأنا أتابع افتتاح مهرجان (برلين) في دورته الـ 71 وهى أيضا- (ويا للهول) على رأى يوسف بك وهبى- افتراضية.. خبطتان مدمرتان في الرأس.

(الجولدن) سيدخل بهذه الدورة التاريخ، ليس من أوسع أبوابه ولكن من أضيقها، لأنها خارجة عن السياق، وهو غالبا ما ينتظر الدورة رقم 93 من (الأوسكار) والتى تقرر أن تعقد 25 أبريل. الاحتراز في كل الحالات هو سيد الموقف، والدول صارت متشددة، حتى إن المملكة الأردنية أقالت وزيرين ضُبطا في أحد اللقاءات وهما غير محترزين ليصبحا عِبرة للجميع في الأردن وخارج الأردن.

حتى الآن لا أستطيع أن أتجاوب مع فكرة متابعة مهرجان (أون لاين).. نعم، أشاهد فيلما على جهاز (الكمبيوتر) وهو نفس الفيلم الذي كنت سأحظى بمتابعته في (برلين).. ولكن شتان بين دار عرض وشاشة وجمهور وبين حالة الحبس الانفرادى المجبرين عليها.

مَن يذهب لمهرجان يمتد نحو عشرة أيام بلياليها، يعيد ترتيب أولوياته وفقا للمهرجان، لا تشغله فقط الشاشات ولكن ما يجرى أيضا في الكواليس، هو ما يمنح الشاشات، على تعددها، خصوصية.. هذه المرة مثلًا كنت سعيدا بأن يعرض في اليوم الأول لافتتاح (برلين) وداخل المسابقة الرسمية الفيلم اللبنانى الممتع (دفاتر مايا) للثنائى جوانا حاجى توما وخليل جريج.

الفيلم يمزج بين الصورة (الأرشيفية)، التي يعود عدد منها لزمن الحرب الأهلية في لبنان منتصف السبعينيات، وتستمر أحداثه حتى اللحظة الراهنة. الاستخدام العبقرى للصورة الساكنة، بينما التتابع داخل اللقطة يمنحها حركة وحضورًا وحياة، تفاصيل الزمن ليست فقط في استعادة تفاصيل الحياة بكل ملامحها الخارجية، ولكن في إعادة الروح على الشاشة، وهو ما حققه المخرجان بألقٍ وإبداع.

الفيلم يحرك الساكن ويشع الجمال، يمنحنا أيضا الثقة في أن نحظى بجائزة مع نهاية المهرجان، وهو أيضا ما نتمناه بعد ذلك في مسابقة (الأوسكار)، حيث تشارك السينما التونسية بفيلم كوثر بن هنية (الرجل الذي باع ظهره) في مسابقة أفضل فيلم أجنبى.. رغم شراسة المنافسة إلا أنه استطاع أن يتخطى الحواجز ليصل إلى قائمة الترشح النهائية، وكانت لنا أفلام عربية أخرى لم تستطع الصمود، بينها الفيلم المصرى، وهو بالمناسبة أضعفها، ويدعونا لكى نغير قاعدة المشاركة الحتمية بمسابقة (الأوسكار)، لتصبح المشاركة فقط عندما نجد لدينا ما يستحق، بعد أن حققنا الرقم القياسى في التواجد داخل تلك المسابقة، وحققنا أيضا رقمًا قياسيًا في الخروج من التصفيات الأولى، بينما أفلام من فلسطين والأردن ولبنان وسوريا والجزائر وموريتانيا واليمن وغيرها وصلت للترشيحات النهائية. العالم الافتراضى عشت فيه أمس مع (دفاتر مايا)، ومهما بلغت جماليات الفيلم اللبنانى، فأنا لم أشعر سوى أننى أشاهد فيلمًا في منزلى، فأين المهرجان بكل ما تحمله الكلمة من ظلال؟!.

هل يحقق لنا الأوسكار في نهاية أبريل القادم خطوة أبعد في الاقتراب نحو عالم الواقع؟.. وهل يعوضنا مهرجان (كان) في يوليو القادم ما فعله بنا (برلين) في مارس وننجو جميعا من هذا العالم الافتراضى الملعون؟!.

tarekelshinnawi@yahoo.com

 

المصري اليوم في

03.03.2021

 
 
 
 
 

فيلمان في مهرجان برلين... وجه جديد للسينما الألمانية

(فرانس برس)

عَكَس فيلمان كوميديان عُرضا ضمن مهرجان برلين الوجه الجديد للسينما الألمانية للعصر واتجاهها نحو روح العصر، بعيداً من المواضيع التاريخية الثقيلة، إذ يتناول أحدهما علاقة حب بين رجل آلي وامرأة، وينتقد سيئات التغييرات السريعة في طبيعة المدن.

نادراً ما حظيت السينما الألمانية بحصة في لائحة الأفلام المتنافسة على جوائز مهرجان برلين، كتلك التي حصلت عليها هذه السنة، إذ تتضمن الأعمال الخمسة عشر الساعية إلى "الدب الذهبي" خمسة من البلد المضيف الذي ينتمي إليه المخرجان الكبيران فريتز لانغ ووفيم فيندرز علماً أن المرة الأخيرة التي فاز فيها فيلم ألماني بالجائزة كانت في العام 2004، عندما نالها فاتح أكين عن "هيد أون".

ومن أبرز الأعمال الألمانية في المهرجان وثائقي يتناول الاندماج الصعب للتلاميذ من أصل أجنبي بعنوان "مستر باخمان أند هيز كلاس"، وهو مقتبس من رواية تعليمية في برلين خلال عشرينيات القرن الفائت، وقصة حب شاعرية ("وات دو وي سي ون وي لوك آت ذي سكاي؟".

وفي البرنامج كذلك عملان كوميديان يتناولان موضوعين معاصرين وعالميي الطابع.

ففيلم "آي آم يور مان" للمخرجة ماريا شريدر التي برزت في مسلسل "أنورثوذكس" عبر "نتفليكس"، يتناول قصة حب بين رجل آلي يشبه الإنسان (يؤدي دوره دان ستيفنز) وباحثة عزباء.

وينبغي للروبوت أن يتكيف بفضل ذكائه الاصطناعي مع أذواق شريكته ورغباتها، وبالتالي أن يصبح رفيقها المثالي، إلا أن لاعقلانية البشر تجعل أحياناً من الصعب على الآلة فهم العلاقات الاجتماعية.
وقالت ماريا شريدر للصحافيين إنها انجذبت "إلى بساطة الإخراج"، هي التي تناول عملاها السابقان مواضيع درامية
.

وأضافت الممثلة البالغة 55 عاماً عن الفيلم الروائي الثالث الذي تتولى إخراجه: "يبدو الأمر كما لو أن صبياً يلتقي فتاة. لكن في الحقيقة، إنها فتاة تلتقي صبياً وهو صبي آلي". وتبدو العاصمة الألمانية التي صوّر فيها الفيلم الصيف المنصرم مكاناً مفتوحاً على كل الاحتمالات.

ووسط الديكور البرليني عينه، تجري أحداث فيلم آخر هو "نكست دور". وتشكّل برلين الموضوع الرئيسي لهذه الكوميديا الساخرة التي تصف عملية التحسين المتسارع للمدينة الذي تنتج عنه توترات بين المقيمين منذ مدة طويلة والوافدين الجدد الذين ينجذبون إلى مدينة ديناميكية وغير مكلفة.

في هذا الفيلم، وهو الروائي الأول كمخرج، يصور الممثل دانيال برول نفسه في نوع من السيرة الذاتية حيث يواجه برليني جديد تناقضاته.

وقال المخرج البالغ 42 عاماً: "أنا رجل نرجسي عديم الجدوى، لكنني لست سيئاً مثل الرجل الذي نراه في الفيلم".

ورأى الناقد السينمائي سكوت روكسبورو من "هوليوود ريبورتر" أن هذه الأفلام هي دليل على تجدد السينما الألمانية ملاحظاً أنها باتت أخفّ، وتحتضن أنواعاً مختلفة مثل الخيال العلمي أو أفلام الإثارة أو الكوميديا الرومانسية.

وكان فيلم "توني إردمان" للمخرجة الألمانية مارين آدي باكورة توجه السينما الألمانية نحو روح الفكاهة اللاذعة، وهو نال جائزة النقاد عام 2016 في مهرجان "كان" السينمائي.

وقال الناقد إن هذا التوجه بعيد من "اللقطات الطويلة التي تظهر الفراغ العاطفي أو أناساً يناقشون الفلسفة"، في إشارة إلى الصور النمطية للسينما الألمانية.

ولاحظ أن "جيلاً جديداً من المخرجين الألمان بات موجوداً. وهم مستعدون للقيام بالأشياء بشكل مختلف قليلاً".

ولكن، هل يمكن أن تحقق أفلام المهرجانات هذه نجاحاً شعبياً، كالنجاحات الأخيرة لعدد من المسلسلات الألمانية؟

فهذه المسلسلات ومنها "بابيلون برلين" و"دارك" و"برلين 56" و"دويتشلاند 89/86/83" و"دوغس أوف برلين" و"أنورثوذكس"، أعادت ألمانيا إلى الواجهة في الآونة الأخيرة.

في السينما، كانت آخر نجاحات ألمانيا لا تزال غارقة في تاريخ البلد، من خلال مواضيع كالحرب الباردة وإرثها في فيلم "ذي لايفز أوف آذرز" (2006) و"غود باي، لينين!" (2003) الذي شكّل انطلاقة الممثل... دانيال برول.

 

العربي الجديد اللندنية في

03.03.2021

 
 
 
 
 

الدورة 71 لمهرجان برلين السينمائي.. الأرقام الافتراضية تتحدى والجمهور يتفاعل

عصام الياسري

في دورته السبعين في عام 2020 ، كانت تجربة مشاهدة عروض وفعاليات مهرجان برلين السينمائي العالمي "البرليناله" بسبب انتشار وباء زنبقة الكوفيد 19 بنظام الأرقام الافتراضية حديثة العهد. في دورته الحادية والسبعين أخذت العديد من المهرجانات السينمائية في العالم، تتعامل وهذه الطريقة، كتجربة تقنية معاصرة نحو المستقبل ومواصلة مشاهدة المهرجانات وجعل العلاقة بين الحدث "الفيلم" والمتلقي متفاعلة، وإن كان ذلك عبر "الرقم الافتراضي" والتكنولوجيا الحديثة.

مهرجان "البرليناله" واحداً من أهم المهرجانات السينمائية في العالم. في شباط عام 2010، احتفل المهرجان باليوبيل الـ 60 وخلاله توجهت الانظار 60 عاماً الى الوراء، مسلطاً الأضواء على لقطات تصوير أول مهرجان سينمائي رأى النور في عالم السينما في برلين يوم 6 حزيران1951 في قصر التيتانيوم مع فيلم الافتتاح آنذاك" REBECCA ريبيكا" إخراج ألفريد هيتشكوك. فيما بعد سحر سنوياً الجمهور نجوم مثل ريتا هيوارث، صوفيا لورين، فيديريكو فيليني، بيلي وايلدر، مثلما يسحر اليوم كيت وينسلت، رينيه زيلويغر، ليوناردو دي كابريو، أو شاه روخ خان.

وتعود فكرة تنظيم مهرجان برلين السينمائي العالمي إلى عام 1950، إذ قام الضابط السينمائي الأميركي أوسكار مارتي Oscar Martay التابع لقوات الاحتلال في ألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بمبادرة من ثلاث دول احتلال غربية، دعا في رسالة موجهة للمعنيين في صناعة الأفلام والسياسيين الألمان لاجتماع تأسيسي لإقامة مهرجان سينمائي في مدينة برلين. في 6 حزيران (يونيو) 1951 أفتتح المهرجان السينمائي العالمي الأول، وأطلق عليه وسط اهتمام فني وسياسي وإعلامي مكثف (برليناله) Berlinale ، وعادت برلين تطل من جديد على العالم، تنشر الفكر الغربي المعاصر "العالم الحر" لجذب الأنظار نحو أهمية أوروبا في صناعة السينما وإنتاج الأفلام.. كان أول رئيس للمهرجان د. ألفريد باور Alfred Bauer ثم خلفه عام 1976 فولف دونر Wolf Donner الذي قدم استقالته بعد 3 سنوات ليخلفه عام 1979 موريس دي هادلن الذي كان وراء الاستقالة كما أشيع آنذاك.

في 18 ديسمبر 2020 أعلنت اللجنة المنظمة الى أن مهرجان 2021 سيكون على مرحلتين عبر الإنترنت نظراً لـ COVID-19 .الأولى في آذار ـ مارس من خلال عروض عبر الإنترنت للصناعة والجمهور. وفي شهر يونيو- حزيران سيكون هناك حدث صيفي مع العديد من عروض الأفلام لجمهور برلين - في دور السينما وكذلك في الهواء الطلق . التقسيم إلى قسمين كما أشارت اللجنة، يجعل من الممكن الحفاظ على الركيزتين الرئيسيتين: سوق الأفلام وعروض المهرجان، أيضاً تقديم التجربة المجتمعية "السينما والثقافة" التي طال انتظارها لجمهور برلين ـ وأضافت، بانها ستعلن لاحقاً عن برنامج المهرجان وأعضاء لجان التحكيم. أتناول بإختصار بعض ما استعرضته اللجنة قبل أيام في بيانات صحفية أحاطت بها الصحافيين.

ستقرر لجان التحكيم الدولية جوائز المسابقة، وأفلام برلينالة القصيرة، و "مواجهات" والجيل خلال لقاء هدف الصناعة ـ من 1 إلى 5 مارس-آذار 2021. فيما يتم الإعلان عن الفائزين في 4 مارس-آذار "برلينالة القصيرة و الجيل" و 5 مارس-آذار "المنافسة و مواجهات". ويقام حفل توزيع الجوائز في برلينالة 71 بحضور الجمهور خاص في يونيو-حزيران من الصيف المقبل.. عند تطوير شكل المهرجان في عام 2021 ، تم تحديد مفهوم جديد لتكوين لجنة تحكيم أفلام المسبقة الدولية. سيقرر مديرو ستة أفلام فائزة بجائزة الدب الذهبي سابقاً، جوائز مسابقة البرلينالة 71. أعضاء لجنة التحكيم الدولية هم: إلديكو إنيدي (المجر) ، نداف لابيد (إسرائيل) ، أدينا بينتيلي (رومانيا) ، محمد رسولوف (إيران) ، جيانفرانكو روزي (إيطاليا) وياسميلا أوبانيتش (البوسنة والهرسك).. لجنة تحكيم الأفلام القصيرة الدولية تتكون من ثلاثة أعضاء: الفنان باسم مجدي (مصر) والمصورة كريستين ماير (النمسا) والممثل سيباستيان أورزيندوفسكي (ألمانيا). لجنة تحكيم "مواجهات" مؤلفة من ثلاثة أشخاص فائزين بجائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج وجائزة لجنة التحكيم الخاصة - المبرمجة فلورنس الموزيني (فرنسا) والمديرة الفنية سيسيليا باريونيفو (الأرجنتين) والمحرر والناشر ديترش ديدرشزين (المانيا).. لجنة التحكيم الدولية للجيل 44 من ثلاثة أشخاص. سيشاهدون معا 15 فيلماً في السينما ويقررون الجوائز في المسابقتين K plus و 14plus في مارس –آذار الممثلة يللا هازه (ألمانيا) والمخرج ميس بايجنبورك (هولندا) والمخرجة وكاتبة السيناريو ميلاني وائلدا (ألمانيا).

إذا رسمت المسابقة صورة للسينما كما هي وكيف ستكون، فيمكننا القول إن الاضطراب الذي قادته أحداث 2020 "الكورونا" دفع صانعي الأفلام إلى استخلاص القوة من هذا الموقف وإنشاء أفلام شخصية بعمق. قال كارلو شاتريان، المدير الفني لمجلة برلينالة، معلقا على الاختيار "هذه المسابقة أقل شمولا، لكنها كثيفة للغاية من حيث المحتوى والشكل".

تأتي غالبية الأفلام المدعوة لفنانين سبق أن شاركوا في المهرجان في الماضي، تتعامل على نطاق متباين مع الأسئلة ذات الصلة. والأهم من ذلك، أن كل فيلم يتساءل عن الشكل الذي يختاره: مسرحية حميمية، وثائقي، قصص قصيرة، دروس أخلاقية، تقييم كتاب، خيال علمي، بلوغ السن، هجاء، وأفلام تاريخية وحكايات خرافية ... أو النماذج والأنواع أو العروض المصاحبة لعملية التلاعب بالقواعد.. يتنافس 15 فيلما - بما في ذلك فيلمان يعرضان لأول مرة ـ على جائزة الدب الذهبية والفضية، من إنتاج 16 دولة ممثلة. ويشير برنامج المهرجان الى أن جميع الأفلام المشاركة للمنافسة المضطردة، لم تعرض للجمهور بعد. نظرا لأنه متاح فقط للجمهور المتخصص بـ (صناعة الأفلام والصحافة) عبر الإنترنت، وستحتفظ بمكانتها كعرض عالمي أول حتى يتم تقديمها للجمهور في دور السينما أو في المهرجانات.. أستعرض بإيجاز بعضها.

فيلم الباتروس "الإنجراف بعيدا" فرنسي لـ كسافيير بافيوس، مع جيريمي رينييه و ماري جولي ميل و فيكتور بيلموندو.. فيلم "الاباحية أو ضجيج سيء الحظ" رومانيا / لوكسمبورج / كرواتيا / جمهورية التشيك لـ "رادو جود" مع كاتيا باسكاريو و كلوديا إيرييميا و أوليمبيا مولاي.. (فابيان – المشي في مقدمة الكلاب) ألماني لـ "دومينيك جراف" مع توم شيلينغ وساسكيا روزندال وألبريشت شوش.. (أغنية بقرة بيضاء) إيران / فرنسا لـ "بحتش صنعاء ومريم مقدم" مع مريم مقدم، علي رضا سانيفار.. (عجلة الحظ والفانتازيا) ياباني اخراج "ريوسوكي هاماجوتشي" مع كوتونه فوروكافا و كويوهيكوشيبوكافا و فوزاكو اورابا.. (السيد باخمان وفريقه) ألماني لـ "ماريا سبث" مع ديتر باخمان والفئة 6 ب ..الوثائقي (انا زلمتك) ألماني لـ "ماريا شريدر" مع مارين إيجيرت و دان ستيفنز و ساندرا هولر.. (مقدمة) كوري جنوبي لـ "هونغ زانكزو" مع شين سيوخو و بارك ميسو و كيم مينهي.. (صندوق الذاكرة) فرنسا / لبنان / كندا / قطر لـ "جوانا هادجيثوماس و خليل جريج" مع ريم تركي ومنال عيسى وبالوما فوتييه..(الباب التالي) ألماني من اخراج "دانيال برول" مع دانيال برول وبيتر كورت.. (أمي الصغيرة) فرنسي لـ "سيلين سياما" مع جوزفين سانز و وغابرييل سانز و ونينا موريس..(ماذا نرى عندما ننظر إلى السماء؟) ألمانيا / جورجيا لـ "الكسندر كوبريدزه" مع آني كارزلادزه و جيورجي بوخورشفيلي و فاكتانك فانخولدزه..(الغابة - أراك في كل مكان) هنغاري اخراج "بنس فليكاوف" مع لاورا بودلوفيج و استفان لينرت و ليلا كيتسلينكر و تسولت فيج و لاتسولو جيفر و يولي ياكوب و أجي كوبريك.. (ضوء طبيعي) المجر / لاتفيا / فرنسا / ألمانيا اخراج "دينس ناجي" مع فيرينك سابو وتاماس جارباتش ولازلو باجكو.. الفيلم الأول لـ " أونا بيليكولا دي بوليسياس" (فيلم شرطي) المكسيك من اخراج "آلونسو ريوتسالاسوس مع مونيكا ديل كارمن و راؤول بريونيس.

يعد برنامج الـ "برلينالة" الخاص بأفلام المسابقة الدولية، مهما، وواحد من أكثر أقسام المهرجان تنوعا. تتضمن قائمة هذا العام "أقصد بذلك أقسام المهرجان" أحد عشر مسارا. ومن نجوم هذه الأفلام تينا تورنر وميشيل فايفر ولوكاس هيدجز ومايكل كين وأوبري بلازا وجودي فوستر وبنديكت كومبرباتش وطاهر رحيم وشايلين وودلي ومارك دوبلاس وناتالي موراليس. ومن منظور لقاءات استعادة الشعور بالاكتشاف سيتم تقديم دعم الأصوات الجديدة في السينما وإعطاء مساحة أكبر لمختلف الأشكال السردية والوثائقية في اختيار الفيلم الرسمي. وستقوم لجان التحكيم باختيار الفائزين بجوائز أفضل فيلم وأفضل مخرج بالإضافة إلى الجائزة الخاصة للجنة التحكيم والإعلان عنها في مارس.

 

المدى العراقية في

03.03.2021

 
 
 
 
 

أوراق برلين السينمائي (3) الفلسطينية الغاضبة واللبناني الحزين

أمير العمري

في اليوم الثالث من دورة مهرجان برلين الـ71 المغلقة فقط على الصحفيين والسينمائيين من صناع الأفلام المشاركة والموزعين، شاهدت الفيلم الفرنسي “ماما الصغيرة” Petite Maman للمخرجة سيلين سكياما وهو عمل صغير محدود الطموح، يصور العلاقة بين طفلتين في الثامنة من عمرها، تصبح إحداهما بمثابة أم للأخرى التي تعاني من غياب الأم، في شكل أقرب إلى اللعبة. ويثبت الفيلم مجددا، كيف تؤدي فكرة ضم 50 في المائة من أفلام المخرجات إلى برامج المهرجان، إلى نتائج لا تخدم المهرجان، فهذا أحد أفلام المسابقة، لكنه لا يرقى إلى مستوى التسابق على الجوائز بسبب هشاشة موضوعه وتكراره الفكرة وغياب البعد الدرامي منه غيابا يفسد القدرة على الاستمتاع به رغم ان زمن عرضه لا يزيد عن 72 دقيقة.

تركز اهتمامي بعد ذلك على فيلمين خارج المسابقة، الأول هو الفيلم المصري الثاني في المهرجان وهو فيلم “كما أريد” للمخرجة الفلسطينية المقيمة في مصر سماهر القاضي الذي يعرض ضمن قسم “لقاءات”، والفيلم اللبناني الثالث في المهرجان وهو فيلم” أعنف حب” للمخرجة إيليان الراهب ويعرض ضمن قسم “بانوراما”.

كلا الفيلمين من النوع الذي نطلق عليه “الفيلم غير الخيالي” فهما لا يخضعان للتعريف الكلاسيكي للفيلم الوثائقي أو التسجيلي. ولكن بينما يبدو الفيلم الأول “كما أريد”، مزيجا بين الريبورتاج وغير الخيالي، الشخصي، يبدو الفيلم الثاني “أعنف حب” عملا غير خيالي تترك فيه مخرجته العنان كثيرا، لك تستخدم أساليب متعددة وطرق فنية مختلفة في رواية قصة فيلمها بحيث يمكن اعتبار الفيلم من أفلام “ما بعد الحداثة”.

أتوقف أولا عند الفيلم الأول، وهو أول أفلام مخرجته سماهر القاضي، الفلسطينية ابنة رام الله، التي درست السينما في معهد القاهرة للسينما، ونالت تمويلا لفيلمها من فرنسا وألمانيا والنرويج. الموضوع الأساسي لهذا الفيلم هو ظاهرة التحرش بالنساء في القاهرة. ويبدأ الفيلم في 25 يناير 2013 وسط التجمعات الكبيرة في ميدان التحرير بوسط القاهرة احتفالا بالذكرى الأولى لسقوط نظام الرئيس مبارك. وهنا تقع أحداث التحرش والاغتصاب الجماعي لعدد من النساء في قلب الميدان، ومن تلك الحادثة التي رصدتها الكاميرات، ينطلق غضب المخرجة، لتبحث وتتابع الظاهرة وتتوقف أمام أبعادها المختلفة وأسبابها التي تكمن في المفاهيم الذكورية المسيطرة على مجموع الناس، وفي مشاهد جريئة تمسك سماهر بالكاميرا وتعتبرها سلاحها في مواجهة أي متحرش محتمل، تسلطها على كل من يتابعها ويتحرش بها بسبب ملابسها التي تبدو في أنظار العامة، مختلفة عن الملابس السائدة لدى النساء في مصر حاليا، وتعلن أنها ستتابعه ولن تتوقف إلى أن تكشفه للعالم. وهو ما يسبب نوعا من المواجهات الطريفة بينها وبين عدد من الرجال الذين تحتك بهم ومنهم من ينتحل صفة ضابط شرطة ويريد الاستيلاء على الكاميرا وربما أيضا، يتحرش بها وبصديقتها.

يتضمن الفيلم الكثير من المشاهد الوثائقية لاحداث الشارع المصري بعد تولي محمد مرسي حكم البلاد، من مظاهرات غاضبة، تشارك فيها النساء بقوة، وكذلك الوقفات الاحتجاجية التي تنظمها جماعات نسائية ضد التحرش واحتجاجا على تغاضي السلطة عما يقع من أحداث شائنة.

إلا أن الفيلم لا يسير في خط واحد لاعادة تأسيس وتوثيق أحداث الغضب العام وصولا إلى الإطاحة بحكومة الاخوان في 30 يونيو 2013، بل تنتقل سماهر طوال الوقت لتتأمل في مسار حياتها بعد ان أصبحت حاملا للمرة الثانية. لديها الآن طفل في السابعة من عمره لا يمكنه أن يفهم لماذا احتكت أمه بذلك الشاب الذي تحرش بها ولمس جسدها في الشارع. وهي أيضا ترتد الى طفولتها والى علاقتها بأمها في رام الله، ومناخ القمع والحصار الذي ولدت ونشأت فيه، باعتبارها بنت، محظور عليها أن تتصرف على طبيعتها أو تخرج، أو ترتدي ما تشاء من الملابس، بل إن والدها يهددها أيضا بالقتل لو أصرت على الذهاب لدراسة السينما في القاهرة مما يدفعها الى الهرب من واقعها والاقدام على مغامرة السفر الى مصر وتحرير نفسها من كل أشكال التبعية والاستلاب.

إلا أن هناك ندبة تظل في القلب من ناحية علاقة سماهر بوالدتها.

إنها تشعر بالغضب من ناحية الموجة العامة المهيمنة التي تقلل من شأن المراة وتبيح الاعتداء عليها والحد من حريتها، وهي غاضبة أيضا من ما تعرضت له في طفولتها من قمع من جانب أسرتها. والفيلم بأكمله ينتقل بين العام والخاص، وسماهر التي نراها وهي حاملا في الشهر التاسع، تسترجع من خلال الصور وخلق بدائل تمثيلية، تلك العلاقة الملتبسة المشوبة في الوقت نفسه بحب عميق وحنين جارف. فلابد أن الأم نفسها كانت نتاجا لمجتمع ذكوري بقيمه المتزمتة التي تستند على الإسلام، وهو ما يدفع سماهر ربما، إلى النزول في أحد المشاهد المثيرة الى الشارع في القاهرة لتوقف مجموعة من الفتيات في عمر الزهور، جميعهن محجبات وتسألهن عن سبب الإصرار على ارتداء هذا الحجاب، فيتمسكن كلهن بضرورته أولا كفريضة دينية، ثم أيضا كضمان لعدم تعرضهن للتحرش من جانب الرجال. والفتيات يستعن بولد أو اثنين من صغار السن كثيرا، يرددن ما معناه أنه لو تخلت زوجته في المستقبل عن الحجاب لطلقها على الفور دون أسف. وتلتمس الفتيات للرجال العذر إن هم اعتدوا على فتاة ترتدي ملابس قصيرة كالتي ترتديها سماهر نفسها، كما يسخر منها الرجال ويهددها أحدهم بضربها إن لم تتوقف عن ملاحقة الشاب الذي ضايقها وتحرش بها في الطريق!

هذه الفلسطينية الغاضبة هي نموذج للمرأة العربية التي ترفض الخضوع حتى لو كانت قد ارتضت، كما نرى في نماذج كثيرة في هذا الفيلم، ارتداء الحجاب والجلباب الطويل، بل إن حضور المرأة عموما في حركة الثورة المصرية يتأكد طول الوقت من خلال ما نشاهده من وثائق مصورة قد لا تكون جديدة تماما، لكن سماهر نجحت في صياغتها في سياق يخدم فكرتها.

هذا عمل مركب.. ربما كان يمكن أن يصبح أفضل واكثر تماسكا لو كانت سماهر قللت من استعراض مشاهد تسجيلية من الثورة المصرية وركزت أكثر على موضوع فيلمها الأساسي وهو ظاهرة التحرش، واستعانت أيضا بمقابلات مع بعض المسؤولين ورجال الدين وعلماء النفس، لتقدم صورة أكثر شمولية لمجتمع خاضع بالكامل للفكر المتخلف والنظرة المتخلفة للمراة وتهميش وجودها في المجتمع.

اللبناني الحزين

يبدو فيلم “أعنف حب” (العنوان بالانجليزية معناه “حرب ميغيل”)، أكثر تركيزا ودقة وإتقانا بل ومن ناحية الطموح الفني، لما تتمتع به مخرجته إيليان الراهب من خبرة.

قصة الفيلم تدور حول رجل، لبناني مسيحي، عانى في طفولته وشبابه المبكر في لبنان كل أصناف القمع والقهر والسخرية من جانب أمه والمجتمع ككل، وعندما أراد أن يثبت لأسرته الكاثوليكية المحافظة أنه يمكن أن يكون “رجلا” بمفاهيم الذكورية السائدة، التحق بميليشيا الكتائب اللبنانية وخاض تجربة قصيرة في الحرب الأهلية اللبنانية حينما كان قد بلغ بالكاد سن العشرين. وقد تركت هذه التجربة ندوبها المتعددة على “ميشيل” الذي غادر لبنان في منتصف الثمانينيات إلى أسبانيا حيث ترك لنفسه العنان للتحرر من أسر الماضي، وترك نفسه كما أراد، أي يتماثل مع أقرانه من مثليي الجنس، وخاض الكثير من المغامرات الجنسية مع مئات الشباب على حد قوله، ولكنه مازال يشعر بالذنب لأسباب لا يكشف عنها بوضوح (هل مارس القتل خلال الحرب الأهلية؟).. كما يشعر بعدم التحقق رغم انه متحقق بمفهوم الآخرين، فهو يجيد أربع لغات على الأقل، ويمارس عملا ناجحا في مجال السياحة والترجمة بل وقد اصبح من نجوم المجتمع بعد صدور كتاب عن تجربته في لبنان وإيطاليا كمثلي رافض للقيم التي نشأ عليها ومتمرد على الأسرة والكنيسة والسلطة والرفاق.

الفيلم عبارة عن رحلة داخل عقل هذا الشخص الذي قام بتغيير اسمه أيضا إمعانا في رغبته التخلص من هويته اللبنانية والانتماء للمجتمع الجديد الذي احتضه وأتاح له الحرية كلها، فقد غير اسمه  ميشيل إلى “ميغيل”، وعبر عن توجهه الجنسي بشكل مفتوح، ورغم ذلك ها هو يقف أمام المخرجة إيليان الراهب التي تظهر في الفيلم كثيرا كطرف محاور ومشاكس ومستفز لميغيل- ميشيل، تصوره وهو يضحك ويبكي، يروي ويتذكر، يرفض ويحتج عليها ويثور، في حياته اليومية، وفي عمله، وفي جولاته، وتعود به الى أماكن كثيرة شكلت محطات هامة في حياته حيث يسترجع معها ومعنا عبر هذا الفيلم “الاعترافي” الكثير من المواقف والذكريات: إلى برشلونة التي يقول إن تاريخ ميلاده الحقيقي يبدأ عندما جاء إليها للمرة الأولى عام 1993 (هو من مواليد 1963)، بعد ان قضى بضع سنوات في مدريد، ثم الى غرناطة والأندلس، ومنها إلى دمشق وبيروت.

إنه يريد أخيرا، بعد مرور كل تلك السنوات، أن يتصالح مع نفسه ومع ماضيه الذي ظل دائما يهرب منه بل ومن مواجهة ذاته. وهو يترك العنان للبوح في بعض الأحيان، لكنه يحجم عن الاعتراف في أحيانٍ أخرى، عندما يشعر بالتهديد، بأن وقع وما سيعترف به يمكن أن يدينه ويشوه صورته أمام من سيشاهدونه. ولكن هل هو يهتم حقا؟

في لحظات كثيرة نعرف أنه قد تخلص من كل الأطر المقيدة، مثل العقيدة المسيحية التي يسخر منها، ومن فكرة الارتباط بأحد (هو يقيم علاقات متعددة مع الرجال من دون أي ارتباط أو حب) ويبقى بحثه الشاق عن الحب هو أكثر ما يؤرقه. معاناته من غياب الحب في حياته من طفولته ومن شعوره بأن أمه كانت دائما تفضل شقيقه الأصغر “إيلي” الذي يعيش في باريس عنه. وهو يقيممع امرأة اسبانية منذ 18 عاما ولكنمن دون أي علاقة جسدية بينهما، فهي تيقم علاقات مع من ترغب وهو كذلك فكل منهما يتمتع بحريته الجنسية.

لقاءات وانتقالات أماكن كثيرى تأخذه إليها إيليان لكي تساعده على استدعاء الذاكرة، وفي خضم ذلك تحاول هي أيضا أن تفهم الموضوع الذي شغلها كثيرا في أفلام سابقة، أي موضوع الحرب الأهلية والصراع الدموي بين الفصائل اللبنانية الذي لايزال يلقي بظلاله بقوة حتى اليوم.

لا تلجأ إيليان إلى أسلوب التسجيلي التقليدي، بل تستخدم في فيلمها الكثير من الأساليب المختلطة والصور ومقاطع الأفلام القديمة ومناظر من بيروت كما صورها سياح في الماضي، من حقبة الستينيات، وتعيد تمثيل بعض المواقف في حياة بطلها “ميغيل” باستخدام ممثلين منهم من يلعب دور والده أو شقيقه أو امه، وتمزج بين التصوير الحي ومناظر التحريك (الأنيماشن)، وكذلك الكثير من صور الجرافيكس والكوميكس، في سلاسة وانسيابية، تجعلنا نضحك مع ميشيل أو ميغيل، الذي نشاهده يضحك كثيرا وينطلق كرجل محب للحياة، إلا اننا نستطيع أن نلمح في مشاهد أخرى، بوضوح، كيف أنه مازال يشعر في قرارة نفسه بالحزن الدفين على غياب الحب في حياته وعلى وفاة أمه دون أن يستطع أن يراها ويفضفض لها عما في أعماق قلبه ويسمع منها كلمة حب.

 إنه يتخيل انه عرفه مرة واحدة مع رجل يدغى “توني” يتذكر أنه فر معه من بلدة لبنانية بعد دخول القوات السورية، ووضع رأسه فوق فخذه واستغرق في النوم على سطح قارب، ولكنه سيصدم في النهاية عندما تعثر له إيليان على “توني” وتواجهه به في نفس المكان من لبنان، فلا يتعرف عليه توني ولا يتذكر ما يرويه عن هروبهما معا في القارب ويقول إنه لابد ان يكون قد قضى ما لا يزيد عن ساعة واحدة في تلك البلدة!

فيلم بديع ومؤثر وشديد الجرأة سواء من ناحية الأسلوب أو الموضوع، والمخرجة لا تترك أي تفصيلة في حياة بطل فيلمها من دون ان تبحث وتنقب فيها وتسعى للكشف عما وراءها، وعن مغزاها في سياق مواجهة الذات، والرغبة في فهم ما جرى قبل 37 عاما وما أعقب ذلك وصنع هذا الرجل الذي نراه بكل تناقضاته.

في أحد المشاهد يروي لها أنه حلم ذات يوم، في الماضي من زمن الحرب الأهلية، أن لبنان قد انفصل بجسده كدولة عن العالم العربي والتحم بايطاليا وأصبح جزءا منها، وأن المسلمين (السنة يقصد) قد غرقوا، كما تم التخلص من الشيعة، وأراد أن يتخلص من الدروز ولكنه تذكر أن منهم مسيحيين أيضا، وهي مشكلة. ونحن نرى ذلك من خلال الرسوم وفن التحريك.

وعندما تسأله المخرجة سؤالا أخيرا: كيف تريد ان ينتهي هذا الفيلم، فيقول على قارب في البحر يسير بعيدا عن لبنان.

 

موقع "عين على السينما" في

04.03.2021

 
 
 
 
 

أوراق برلين السينمائي (4) إيران تتزين وتخلع الحجاب

أمير العمري

لم اشاهد كل أفلام المسابقة المعروضة في الدورة الخاصة من مهرجان برلين السينمائي إلا أنني لا أستبعد أن يفوز بها- كما حدث في العام الماضي- الفيلم الإيراني “قصيدة البقرة البيضاء” فهو أفضل ما شاهدت حتى الآن.

الفيلم الإيراني يتميز كثيرا عن غيره رغم بنائه التقليدي، على العكس مثلا من الفيلم الروماني “حظا سيئا للجنس أو بورنو مجنون” Bad Luck Banging or Loony Porn  للمخرج “راضو جود الذي فاز فيلمه البديع “عفارم” (2015) بالدب الفضي. وهو في فيلمه الجديد ينحو نحو البناء الحر الذي يقوم على الاسقاطات الساخرة التي تصل حد العبث  والسخرية السوداء، من كل أشكال النفاق الاجتماعي والسياسي، في رومانيا وفي العالم، ولكنه يمتلك خيطا رفيعا يتابع معه كيف تواجه مدرسة في مدرسة ثانوية مأزقا كبيرا بعد ان تسلل إلى برنامجها التعليمي الذي توجهه لطلابها عبر الانترنت، شريط فيديو من نوع أفلام البورنو الجنسية الفاضحة وشاهده الطلاب. ويتعين عليها أن تواجه آباء طلابها في اجتماع عام لتقرير مصيرها رغم أنها لا تعرف كيف تم ادخال هذا الشريط الفاضح إلى برنامجها التعليمي.

هذا اول فيلم حقيقي من عالم “الكوفيد – 19″، فنحن نشاهد كيف يرتدي الجميع الكمامات الواقية حتى في الشارع، وكيف تلفت المدرسة المتزمتة نظر البائعة في أحد مراكز التسوق إلى أن الكمامة انزلقت عن أنفها، وكيف يسخر بعض عجائز الرجال من التباعد الاجتماعي بالقيام برقصة بالعصي التي تفصل بين كل منهم مسافة متر ونصف، إلى جانب تعليقات أخرى بالصوت والصورة تبدو كما لة كانت منتزعة من “الميديا الجديدة” في حين أنها كلها مصنوعة خصيصا للفيلم الذي يص إلى أقصر درجات العبث والجرأة وفضح التركيبة المتناقضة للنساء والرجال في رومانيا، والزيف الاجتماعي ورفض تصوير الجنس رغم عدم الممانعة في الحديث بكل صراحة ومباشرة فجة عن الممارسة الجنسية.

بطبيعة الحال هذا الفيلم ليس من الممكن عرضه في العالم العربي الذي أسدل عليه وعلى ثقافته منذ ثلاثة عقود على الأقل، حجاب كثيف من التزمت السياسي والاجتماعي والثقافي، أدى إلى “إخصاء” الفكر، وطرد كل فكرة حرة طموحة تسعى للاقتراب من المشاعر الحقيقية للبشر، فالحديث عن المكبوت في الفيلم العربي حديث مستتر بالرمز، مع اسدال قناع من الحشمة المفتعلة على اللغة. لكن هذا على أي حال، موضوع آخر.

اشترك في إخراج الفيلم الإيراني “قصيدة البقرة البيضاء” Ballad of a White Cow  كل من المخرج بهتاش صناعيه، والممثلة مريم مقدم، التي تقوم أيضا بدور البطولة في الفيلم، وقد أضفت عليه لمسة نسائية واضحة من خلال مشاركتها في كتابة السيناريو فهذا أساسا، فيلم عن قوة المرأة وقدرتها الهائلة على الصمود بطريقتها الخاصة في وجه مجتمع ذكوري ظالم، يتجاهل وجودها أصلا. لكنه بالتأكيد أبعد من هذا كثيرا.

من المتوقع أن يتعرض هذا الفيلم للكثير من المشاكل داخل إيران، من جانب السلطات، لكونه يتجاوز في تفاصيل كثيرة، قواعد الراقبة على السينما ويضرب بها عرض الحائط. هذا فيلم آخر عن عقوبة الإعدام من وجهة نظر مناهضة بقوة لتطبيقها. تماما كما كان فيلم العام الماضي لمحمد روسولوف “لا وجود للشيطان”. إلا أنه يتجاوز مجرد كشف هشاشة النظام القضائي الذي يطبق تلك العقوبة لكي يوجه النقد الشديد أولا للتشبث بالفكرة الدينية المستمدة من النص القرآني نفسه التي تقضي بالقصاص. ولكن ماذا لو وقع القصاص على رجل بريء كما يحدث بالضبط لزوج بطلة فيلمنا هذا “مينة” التي يتم إعدام زوجها لتترك دون حول ولا قوة، مع ابنتها الصغيرة التي ولدت صماء، “بيتا” (في السابعة من عمرها)، ثم يتضح فيما بعد أن زوجها رغم ارغامه على الاعتراف بجريمة قتل لم يرتكبها، أن القضاة أخطأوا بعد ان اعترف القاتل الحقيقي بالجريمة؟

في حوار جريء يدور في الفيلم بين اثنين من هؤلاء القضاة، يقول أحدهم: كان من الأفضل الحكم بالسجن لأننا في حالة اتضاح البراءة كان يمكننا أن نطلق سراحه.

يقول له زميله: ولكنها إرادة الله وحكمه. وكان الرسول محمد (ص) نفسه يطبقه بعد الاستماع لشهادة رجلين. وقد شهد رجلان هنا عليه.

نعم ولكن الآن اتضح أن الشاهدين تآمرا ضده وأحدهما هو القاتل الحقيقي أي أنهما من شهود الزور. لقد أخنا حياة رجل دون ذنب بموجب شهادة زور. كان يمكن أن نعيد له حياته لو لم نكن قد حكمنا باعدامه!

وهل كنا سنعيد له 20 عاما من حياته لو كان قد قضى عليه بالسجن مدى الحياة؟

لكن الأمر لا يتوقف هنا. فالزوجة “مينة” التي تأمر لها المحكمة بتعويض قدره 270 مليون كومان (أكثر من ستة آلاف دولار) تصر على ضرورة أن يعتذر القضاة عن تشويه سمعة زوجها الذي أعدم ظلما، وهي تواصل السعي من أجل ذلك دون كلل، ولكنها في الوقت ذاته تواجه معركة أخرى مع والد وشقيق زوجها الراحل. فوالده يريد أن يحصل على حضانة الطفلة لأنه يرفض أن يتركها تعيش مع امرأة وحيدة (أرملة)، وشقيق الزوج الراحل يريد أن يتخذها عشيقة له أو ربما يطمع في الزواج منها بينما هي لا تطيقه.

ومينة أيضا أصبحت مهددة بالطرد من الشقة التي تقيم فيها لأن صاحب المنزل لا يقبل وجود امرأة وحيدة، خاصة وانها استقبلت في بيتها رجلا. من هو هذا الرجل؟ إنه رجل غامض هبط عليها فجأة ذات يوم، قال لها إن اسمه “رضا” وأصر على منحها مبلغ مالي كبير، بدعوى أن زوجها كان قد سلمه له للاشتراك معا في مشروع ما لم يتحقق، وعندما يعرف بمشكلتها مع صاحب المسكن، يمنحها شقة قديمة يمتلكها في أحد العقارات ويظل يتردد عليها ويساعدها ويتلطف مع ابنتها رغم ما يرتسم على وجهه طول الوقت، من علامات التجهم.

سيتضح أن هذا الرجل ما هو سوى القاضي الذي أصدر حكمه بإعدام زوجها، وأنه يشعر بالذنب، ويريد التكفير عن ذنبه، بل إنه يستقيل من عمله احتجاجا على غياب العدالة عن النظام القضائي، ولرفضه الشديد لعقوبة الإعدام خاصة وأنها كانت المرة الأولى له التي يصدر فيها هذه العقوبة. أما “مينة” فلا تعرف حقيقته بل تقترب منه تدريجيا وتشعر نحوه بالثقة ثم بالحب، تصر على أن يأتي معها ومع ابنتها الى السينما، وعلى أن يذهبوا جميعا معا في نزهة خلوية. إنه يصبح تدريجيا الزوج البديل لها والأب البديل لابنتها التي تتعلق به كثيرا.

يموت ابنه الشاب الفوضوي عازف الموسيقى بشكل مفاجئ بسبب افراط في تناول المخدرات، وكان هذا الشاب قد غادر منزل والده كنوع من التمرد (يظل مصير زوجة رضا غامضا ولكننا نفهم أن الطلاق وقع بينهما من سنوات).. بعد وفاة الابن يصاب رضا بانهيار عصبي وتسرع مينة لتنقله الى المستشفى ثم تأخذه الى شقتها لترعاه. وبعد أن تتحسن حالته، تكون قد بدأت تقترب منه أكثر، وتشعر نحوه بمشاعر المرأة، تهتم أكثر بمظهرها، يفارقها الحزن، تخلع الأسود، وترتسم الابتسامة على وجهها بل ويعرف الضحك أيضا طريقه إليها.

ماذا يمكن أن يحدث والحال هكذا؟ رجل يشعر بالذنب، هو المسؤول عن موت زوجها، وامرأة تتطلع للحياة، لا تكاد تصدق أن الله قد أرسل إليها هذا الرجل “الصديق” الوفي الذي يمنحها كل شيء؟ وماذا يمكن أن يحدث عندما تعرف في النهاية حقيقته؟

ليس هذا مهما رغم أن الفيلم ينتهي بالطبع بالتواء في الحبكة ومفاجأة صادمة، لكن المهم أن فيلم “قصيدة البقرة البيضاء” الذي يبدأ بآية من سورة البقرة هي “وإِذ قال موسَى لقومه إِن اللَّه يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوُا قال أعوذ بِاللَّهِ أن أكون من الْجاهِلين”، ثم بلقطة لبقرة بيضاء تقف في ساحة ضخمة مثل ساحات الإعدام العسكرية بينما يصطف عشرات الجنود على الجانبين يحملون أسلحتهم، يتجه أكثر نحو تكسير التابوهات الموروثة في السينما الإيرانية، فهو أولا يشير بوضوح إلى كون ابن القاضي مدمن للمخدرات ويجعله يموت من الافراط في الجرعة، وثانيا يصور جارة “مينة” في العمارة السكنية التي ستنتقل إليها وهي تمتلك كلبا أليفا، بينما يستنكر القاضي (رضا) وجود كلب في البيت بدعوى أنه “نجس” طبقا للمفهوم الإسلامي، فتدافع هي عنه وتقول إنه مجرد حيوان أليف، وفي مشهد آخر تقول صاحبة الكلب إنها حريصة على عدم تركه يغادر المنزل لأن الكلاب ممنوعة في الشوارع، وثالثا: تفقد مينة عملها في مصنع الألبان، بعد اضراب العمال عن العمل واعتقال الكثيرين منهم، وهو ما يعد ايضا من المحرمات في السينما الإيرانية.

في أحد أكثر المشاهد سخرية من الرقابة تقوم الابنة الصغيرة “بيتا” بصبغ شعر أمها. لكن الأم تضع على مقدمة رأسها طاقية من البلاستيك الأبيض كتلك التي تستخدم في الحمام، وتترك الجزء الخلفي فقط من شعرها واضح لكي تقوم الطفلة بوضع الفرشاة عليه لتصبغه. وهو مشهد يمنحنا تأثيرا كوميديا ساخرا مقصودا بالطبع!

هنا حديث أكثر من مرة عن فيلم من الأفلام الإيرانية التي صنعت قبل الثورة الإسلامية وهو فيلم “بيتا”  (1972) للمخرج حاجير داريوش، بطولة المطربة والممثلة الشهيرة غوغوش التي امتنعت تماما عن الظهور الفني بعد الثورة، ثم هاجرت عام 2000 الى الولايات المتحدة.

وتقول “مينة” إنها أطلقت على ابنتها اسم “بيتا” تيمنا بهذا الفيلم، بل وتقوم بتشغيل نسخة من هذا الفيلم أكثر من مرة حيث نشاهد غوغوش من دون حجاب بوضوح تام في مخالفة صريحة لقواعد الرقابة الإيرانية. ولكن يأتي المشهد الأكثر جرأة والذي نعتقد انه قد يؤدي إلى محاكمة الممثلة مريم مقدم وشريكها في  الإخراج.

بعد أن تتوثق العلاقة بين مينة ورضا (الذي سنعرف أن اسمه أمين في النهاية)، تستضيفه في بيتها، تعد له الطعام، يجلس الاثنان معا في الشرفة في الليل في جو شاعري يوحي بالتهاب المشاعر. لكنه ينسحب الى غرفة النوم في الداخل. تظل الكاميرا من بعيد في منظر عام مسلطة على مريم جالسة في الشرفة في المقدمة، بينما يجلس رضا في الخلفية البعيدة يمكننا أن نراه بوضوح. هذا التكوين الذي يجمع الاثنين في كادر واحد، مع إضاءة هادئة تكشف المطلوب فقط في الصورة، يوحي بما تفكر فيه مينة، وما يشعر به رضا. وفي اللقطة التالية نراها تقف امام المرآة، تتزين بوضع الماكياج على وجهها، تطلي شفتيها باللون الأحمر، تزيح الحجاب جانبا، ثم تنزعه تماما عن رأسها لتظهر الممثلة، لأول مرة في فيلم إيراني عارية الرأس بشعرها الأسود الجميل. تقف أمام باب الغرفة التي يرقد فيها رضا. تتردد لحظة، ثم تفتح الباب وتنفذ الى الداخل.

إن مينة هنا لم تسمح فقط بإقامة رجل ليس زوجها في منزلها في مخالفة للقانون، بل تسري عنه بلمس جسده بيدها أكثر من مرة (وهو محظور طبقا للرقابة) ثم تخلع غطاء الرأس أمام الكاميرا، ثم توحي لنا في اللقطة التالية بأنها ستمارس معه الجنس. وهو مشهد شديد الأهمية لأنها في المشهد التالي ستعرف من يكون “رضا”، وتنهار حياتها فوق رأسها، ويموت حلمها ببدء حياة جديدة، وتحسم أمرها وتنتقم وتحقق “القصاص” بطريقتها الخاصة!

يتميز الفيلم بوجود سيناريو ممتاز، واضح القسمات مع شخصيات واضحة المعالم، محدودة، دوافعها واضحة، وتسلسل منطقي للمشاهد، وحبكة لا تقوم على الصراخ والعويل بل دقة في اختيار طول المشهد وما يكتفي منه، وانتقال بالقطع في الوقت المناسب بعيدا عن الاستطرادات والشروح التي لا ضرورة لها، ومراعاة للعلاقة بين الكتل والفراغ، واختيار ممتاز للأماكن الطبيعية، وتوزيع للضوء يجعل الصورة تبدو طبيعية، والضوء يأتي من مصادره الطبيعية، في النهار وفي الليل، في الداخل وفي الخارج، ولقطات الكلوز أب القريبة للوجوه، تجعلنا أحيانا نرتعد ونحن نقترب من انعكاس الحدث على وجه “مينة” في حين لا نرى الحدث نفسه (الإعدام)، ولا توجد قفزات، ولا استعراضات بالكاميرا، ولا ثرثرة في الحوار، مع أداء تمثيلي عبقري، صامت لكنه معبر من خلال قسمات وجه الممثلة مريم مقدم التي تحمل كل عذاب الدنيا، لكنها تمتلك أيضا قوة شكيمة تدفعها الى مواصلة التحدي والعيش والإصرار على تربية ابنتها الصماء، والوقوف في وجه المؤسسة الرسمية لانتزاع حقوقها.

 

####

 

فيلم روماني صادم يحصد “الدب الذهبي” في مهرجان برلين

برلين- عين على السينما

مهرجان برلين يعلن جوائزه الرئيسية قبل يوم من انتهاء العروض المخصصة عبر الانترنت للصحافة والصناعة.الدب الذهبي يذهب الى الفيلم الروماني “حظا سيئا للجنس أو بورنو مجنون” Bad Luck Banging or Loony Porn للمخرج “راضو جود الذي يعتبر واحدا من أكثر الأفلام جرأة وتحررا في السرد، ولكن بحريفة عالية، من مخرج يعرف جيدا ماذا يريد، وماذا يفعل، ماذا يضم وماذا يستبعد، ساتيرية ساخرة عبثية مجنونة عن عالمنا في زمن كورونا، مع مشاهد جنسية مباشرة بكل تفاصيلها تصدم أصحاب النفوس الضعيفة، وتعليقات ومناقسات في الجنس شديدة الجرأة كلها في سياق ساخر

ونال جائزة الدب الفضي (لجنة التحكيم الخاصة” الفيلم الياباني عجلة الحظ والخيال”، كما منحت اللجنة جائة خاصة للفيلم الألماني “السيد باخمان وطبقته”.

ونال الدب الفضي لأحسن اخراج الفيلم المجري “ضوء طبيعي”.

أما أحسن تمثيل (سواء لممثل أو ممثلة) فحصلت عليها مارين إيغرت عن دورها في فيلم “أنا رجلك” الألماني.

ومنحت اللجنة جائزة أفضل سيناريو لفيلم “مقدمة” الكوري للمخرج الطليعي هونغ سانغوسو.

 

موقع "عين على السينما" في

05.03.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004