ملفات خاصة

 
 
 

كوثر بن هنية نحو الـ"أوسكار":

الواقع نواةٌ واشتغاله سينمائيّاً متفاوتٌ

نديم جرجوره

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

الدورة الثالثة والتسعون

   
 
 
 
 
 
 

اختيار "الرجل الذي باع ظهره" (2020)، للتونسية كوثر بن هنيّة، في اللائحة القصيرة لجوائز "أوسكار" في فئة أفضل فيلم أجنبي (6 فبراير/ شباط 2021)، دعوة إلى استعادة بعض ملامح اشتغالاتٍ تحاول المخرجة، عبرها، تثبيت حيّز لها في المشهد السينمائي. تضمّ اللائحة القصيرة 15 فيلماً. الكلام يتردّد دائماً مع إعلان اللائحة سنوياً: هذه الأفلام غير مُرشّحة رسمياً. الترشيحات الرسمية تصدر في 15 مارس/ آذار 2021، وبعد 10 أيام تُعلن النتائج النهائية، وتُمنح الجوائز. هناك احتمالٌ للتأجيل، بحسب ما ستؤول إليه أحوال العالم، بسبب كورونا.

أفلامٌ مختارة في اللائحة القصيرة تمتلك سينمائيةَ اشتغالٍ أفضل وأهمّ من جديد كوثر بن هنيّة. هذا لن يحول دون مُشاهدة الفيلم العربيّ الوحيد الذي اختير في اللائحة. لكوثر بن هنيّة مسار يجمع السينمائيّ بحيوية اجتماع وعيشٍ وتبدّلات، في بلدها تونس. جديدها يخرج من بلدها إلى مزيج الهجرة السورية، بسبب الحرب والعنف والخراب، بقصّة حبّ منسوجة على مفردات فنّ حديث. الروائي الرابع هذا يختلف عن أفلامٍ روائية طويلة سابقة، بعضها يتفنّن في إلغاء كلّ حدّ فاصلٍ بين الروائي والوثائقي. "شلاّط تونس" (2014) مثلٌ أساسيّ. "زينب تكره الثلج" (2016) يتخفَّف قليلاً من وثائقيّته، من دون التحرّر المطلق منها. "على كفّ عفريت" (2017) يستعين بالوثائقيّ ما يُغذّي نصّاً يروي شيئاً من اللاحق على "ثورة الياسمين" (17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 ـ 4 يناير/ كانون الثاني 2011)، مبتعداً عنها في الوقت نفسه.

استناد أفلامها إلى وقائع مختلفة جزءٌ من اشتغالها السينمائي. غليان مجتمعها حافزٌ لها على إنجاز أفلامٍ، تستلّ حكاياتها من أحوال أفرادٍ يعانون مصاعب وتحدّيات، فتتحوّل قصصهم معها إلى معاينة أعمق لجماعة وبلدٍ. إصرارها على واقعية الحكايات يمنح أفلامها مصداقية وجماليات، رغم أنّ بعض اشتغالاتها مُصابٍ بارتباكات في الكتابة والمعالجة غالباً، وهذا نادرٌ. الوثائقي الأول، الوحيد لها كفيلم وثائقي متكامل، بعنوان "الأئمة يذهبون إلى المدرسة" (2010)، يعكس امتلاكها أصول مهنةٍ توثِّق وقائع بلغة الصورة. والفيلم القصير في سيرتها السينمائية له حضور، وآخر إنتاجاتها "بطيخ الشيخ" (2018) يُثبت براعتها في الاختزال الدرامي والتكثيف السرديّ، ويحول دون بهتانٍ أو خللٍ يحصلان، أحياناً، في أفلامٍ طويلة.

هذا كلّه منبثقٌ من استناد كوثر بن هنيّة إلى وقائع وقصص حقيقية. "شلاّط تونس" عن رجلٍ يقود دراجة نارية ويُطارد نساءً يمشين سيراً على الأقدام، ويشطب أردافهنّ بموسٍ. "زينب تكره الثلج" يروي حكاية مراهقة، تجد نفسها أمام تحدّ صعبٍ بعد وفاة والدها: عليها اختبار الهجرة رفقة والدتها، التي تستعيد حبّاً قديماً لها مع رجلٍ مهاجر إلى كندا. "القصّة حقيقية": تعريفٌ بـ"على كفّ عفريت"، المأخوذ عن كتاب "مذنبة لكونها اغتُصبت" (ترجمة حرفية للعنوان الأصلي باللغة الفرنسية Coupable D’avoir Ete Violee)، لمريم بن محمد، صادر عام 2013: شابّة تونسية (28 عاماً) يغتصبها 3 شرطيين، بعد خروجها من سهرةٍ مع خطيبها، ذات مساء في سبتمبر/ أيلول 2012. ما يحصل لاحقاً يُشبه العيش في جحيم بلدٍ واجتماعٍ مُصابين بذكورية قاتلة، وبانعدام أي تأثير إيجابيّ لثورةٍ تريد تغييراً جذرياً من دون القدرة على بلوغه.

السينما حاضرةٌ. التداخل البصري بين التوثيق والسرد الحكائيّ، رغم اختلاف حجم كلّ واحد منهما في كلّ فيلم، يؤكّد حساسية كوثر بن هنية إزاء تقليص المسافات بين الأنواع، من أجل السينما أساساً، ومن أجل سينما واقعية أيضاً.

التفاصيل الحقيقية في "الرجل الذي باع ظهره" ("العربي الجديد"، 6 يناير/ كانون الثاني 2021) قليلةٌ، فالفنان التشكيلي البلجيكي ويم ديلفوا (1965) معروفٌ باختباراته الفنية "المتطرّفة"، إذْ يستعين بأجساد أفرادٍ في اشتغاله، محوّلاً إياها إلى لوحات. أحد مانحي أجسادهم مشهورٌ بفن الوشم، يُدعى تيم شتاينر (1971). مع بن هنية، يُصبح "الرجل اللوحة" سورياً هارباً من بلده، في بداية "ثورة 18 مارس" (2011). رغم تأكيدٍ كهذا، لن يكون اعتقاله مرتبطاً بالثورة، بل بمناداته بها في قطار، تعبيراً عن حبّه لشابّة، يريدها زوجة له، لكنّ أهلها يُزوّجونها ديبلوماسياً يعمل في سفارة بلده في بلجيكا.

رغم أهمية الحكاية، يوصف "الرجل الذي باع ظهره" بالعاديّ، وبعض النقد يراه مرتبكاً، كتابة ومعالجة. مع هذا، تختاره "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" في لوس أنجليس في لائحة تضمّ إليه 14 فيلماً، بعضها أهمّ وأجمل وأعمق.

هذا غير أساسيّ، مع أنّ لـ"أوسكار" ثقلاً معنوياً يطمح إليه كثيرون. الأساسيّ كامنٌ في الاشتغال السينمائي، ولكوثر بن هنية محطّات مهمّة فيه.

 

####

 

6 "غولدن غلوب" لـ"مانك" فينشر

لوس أنجليس/ العربي الجديد

رغم كورونا وشروطه القاهرة في العيش والعلاقات، يبدأ موسم الجوائز السينمائية في العالم، في الأيام القليلة المقبلة، بدءاً من هوليوود. في 3 فبراير/ شباط 2021، أُعلنت الترشيحات الرسمية لجوائز "غولدن غلوب"، التي ستمنحها "جمعية الصحافة الأجنبية في هوليوود" لأفلامٍ سينمائية وأعمال تلفزيونية، في 28 فبراير/ شباط الجاري. منذ أيامٍ، بدأت "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" في لوس أنجليس إعلان اللوائح القصيرة للأفلام المختارة للترشيحات الرسمية لـ"أوسكار" في الفئات المختلفة، علماً أنّ الترشيحات الرسمية ستُعلن في 15 مارس/ آذار 2021، والجوائز ستُمنح في 25 إبريل/ نيسان المقبل.

في "غولدن غلوب"، يحصل "مانك" (131 دقيقة، تعرضه "نتفليكس" منذ 4 ديسمبر/ كانون الأول 2020) لديفيد فينشر على 6 ترشيحات رسمية: أفضل فيلم، للمنتجين فينشر نفسه وسِيان تشافن ودوغلاس أوربيانسكي؛ وأفضل إخراج لفينشر أيضاً؛ وأفضل ممثل لغاري أولدمان، الذي أدّى شخصية هرمان جاي مانكوفيتس، كاتب سيناريو "المواطن كاين" (1941) لأورسون ويلز؛ وأفضل ممثلة مساعدة لآماندا سايفريد، مؤدّية شخصية ماريون ديفيس، الممثلة التي تُصبح عشيقة ويليام هيرست، أبرز الشخصيات الإعلامية الأميركية حينها (ثلاثينيات القرن الـ20 وأربعينياته تحديداً)، التي يستوحي مانكوفيتس منها شخصية المواطن كاين؛ وأفضل سيناريو لجاك فينشر (والد ديفيد)؛ وأفضل موسيقى لأتيكوس روس وتْرنت رِزْنُر.

بالأسود والأبيض، يكتفي "مانك" ("العربي الجديد"، 18 ديسمبر/ كانون الأول 2020) بالأشهر التي يُمضيها هرمان جاي مانكوفيتس في كتابة السيناريو، في منزل ريفي بعيداً عن العالم (بعد تعرّضه لحادث سير أدّى إلى كسر قدمه)، مع "فلاش باك" متكرّر لأحداثٍ وحالاتٍ وعلاقاتٍ سابقة، في مرحلة صعبة تمرّ بها الولايات المتحدّة الأميركية، خصوصاً بعد الانهيار الاقتصادي الكبير عام 1929، وآلية عمل الاستوديوهات الهوليوودية وسطوتها التي لم تتمكّن من "النيل" من ويلز نفسه، وصعود الشيوعية والاشتراكية، والعالم المخمليّ، والنقاشات السياسية وكيفية الإنتاج ومفهومه، وغيرها من التفاصيل التي ترافق سيرة مانكوفيتس، النزق والعصبيّ والسكّير.

 

العربي الجديد اللندنية في

12.02.2021

 
 
 
 
 

15 فيلماً عالمياً في عنق زجاجة الأوسكار

السودان غاب... وتونس الترشيح العربي الوحيد

هوليوود: محمد رُضا

أعلنت أكاديمية العلوم والفنون السينمائية قائمتها القصيرة من الأفلام التي اختيرت للتنافس على جائزة أفضل فيلم عالمي (أجنبي، كما كان اسمه). هي المرحلة الثانية من الترشيحات. الأولى ما بعثت به الدول ومؤسساتها من أفلام التي يزيد عددها كل عام عن 75 فيلماً يزيد حيناً ويبقى ضمن هذا المعدل أحياناً.

هذه المرحلة الثانية تؤدي إلى مرحلة ثالثة وهي اختيار الأفلام الخمسة التي ستدخل السباق فيما بينها تمهيداً للمرحلة الأخيرة وهي إعلان الفيلم الفائز في حفلة الأوسكار الثالث والتسعين المقبلة.

هذا هو المنوال في كل سنة منذ العديد من الأعوام. المختلف هذه المرّة أن «القائمة القصيرة» تتألّف، وللمرّة الأولى، من خمسة عشر فيلماً وليس تسعة أفلام كما في غالب السنوات السابقة (في بعضها بلغ عدد الأفلام في هذه الفئة عشرة).

يعكس هذا أكثر من مجرد اهتمام بالسينما الناطقة بلغات أجنبية. يعكس وفرة الأفلام التي استحقت الترشيح ويعكس رغبة الأكاديمية في الاعتراف بعالمية السينما ومصادرها المتنوّعة ويعكس أيضاً نمو الصناعة السينمائية (المحاصرة اليوم بمشاكل خلقتها ظروف الوباء) إلى أفق جديد لم يتوفر من ذي قبل.

مسابقة «أفضل فيلم بلغة أجنبية» أسست رسمياً سنة 1957. الدول التي تنافست على أوسكار هذه المسابقة كانت خمسة (لم يكن هناك، ولعشرات السنين بعد ذلك التاريخ، ما يُعرف بالقائمة القصيرة) هي اليابان («الفيتارة البرموزية») لكن إتشيكاوا وألمانيا («كابتن كوبينيك» لهلموت كوتنر) والدنمارك («كيفيتوك» لإريك بولينغ) وفرنسا («جيرفيز» لرينيه كليمان) وإيطاليا («لا سترادا» لفديريكو فيلليني). وهذا الأخير هو الذي فاز بالأوسكار الأول في هذا التقليد.

قبل ذلك العام جرت العادة توزيع جوائز شرفية لأفلام وشخصيات بعضها عالمي. كانت مستحقة في معظم السنوات، لكنها بدت عشوائية وبالتأكيد غير منظمة في منهجها.

منذ عام 1957 داومت الأكاديمية الاهتمام بالسينمات العالمية لكن الترشيحات لم تكن ذات تنوّع كبير. كما الحال في الأفلام المذكورة أعلاه غلب على الترشيحات الرسمية لهذه الجائزة الأفلام القادمة من القارة الأوروبية (الغربية آنذاك بعدما تم تقسيم القارة سياسياً إلى شرق وغرب).

وصول عدد الأفلام في القائمة القصيرة إلى الرقم 15 خطوة تعزز أهمية الأفلام العالمية بالنسبة للأوسكار كما تعزز الأوسكار بالنسبة للدول العالمية. هذا الاهتمام المتبادل والاعتراف بقيمة الأعمال الناطقة بلغات بلدانها، قد يكون تمهيداً لانتقال الترشيحات الرسمية (المرحلة التالية) من خمسة أفلام فقط إلى تسعة كما حال أوسكارات الأفلام الناطقة بالإنجليزية.

- الترشيح

ما يلفت الاهتمام الجاد هنا هو أن سبعة من أفلام القائمة أتت من دول أوروبية. الثماني الأخرى خارج أوروبا. تلك الأوروبية تتكوّن من بوسنيا («كيو فاديس، عايدة»)، جمهورية التشيك («شارلاتان»)، الدنمارك («دورة أخرى»)، روسيا («الرفاق الأعزاء»)، فرنسا («كلانا»)، نورواي («أمل»)، رومانياجَمَعي» Collective).

أما الدول غير الأوروبية فهي تونس («الرجل الذي باع ظهره»)، تشيلي («العميل الجاسوس»)، غواتيمالا («لا لورونا»)، هونغ كونغ («أيام أفضل»)، ساحل العاج («ليلة الملوك»)، تايوان («شمس»)، إيران («أطفال الشمس») والمكسيك («لم أعد هنا»).

وصول تونس وغواتيمالا إلى هذه القائمة يتم للمرّة الأولى. بالنسبة لفيلم كوثر بن هنية «الرجل الذي باع ظهره» (العنوان الإنجليزي للفيلم «الرجل الذي باع جلده») الشامل على عدّة مواضيع ضمن سياق قصّته، فإنها المرّة السابعة التي تتقدّم فيها تونس للاشتراك في سباق أفضل فيلم عالمي. أما غواتيمالا فهذه مرّتها الثالثة التي ترسل فيها فيلماً للترشيحات. كما عرضناه سابقاً فإن فيلمها «لا لورونا» حدث رائع على صعيد السينما كفن، لجانب أن موضوعه يلقي نظرة جديدة على الديكتاتوريات اللاتينية.

خمسة من الأفلام الخمسة عشر هي من إخراج نسائي بينها «الرجل الذي باع ظهره»). واثنان من هذه الأفلام تسجيليان («جَمَعي» لإلكسندر ناناو و«العميل الجاسوس» لميتي ألبردي).

ثلاثة أفلام من هذه المذكورة في القائمتين الأوروبية وغير الأوروبية تم ترشيحها قبل نحو أسبوع لجوائز غولدن غلوبز وهي الفرنسي «كلانا» والغواتيمالي «لا لورونا» والدنماركي «دورة ثانية» لكن قوّة هذه الأفلام الثلاثة وجودتها لم تكن ستغيب عن اهتمام اللجنة الأكاديمية التي توصّلت للأفلام الخمسة عشر.

إلى حد كبير كان الأمر مخيباً للآمال بالنسبة لصانعي (وموزّعي) الفيلم السوداني «ستموت في العشرين».

فيلم أمجد أبو العلا الإنساني الذي يفوح بنسيم من الواقعية الشعرية حظي بإعجاب النقاد على نحو واسع وعلى عشرة جوائز مختلفة من عشر مهرجانات (بينها فريبورغ (الجائزة الكبرى) ومالمو للسينما العربية (أفضل مخرج) وأيام قرطاج السينمائية (أفضل سيناريو) وعلى النجمة الذهبية (مهرجان الجونة) كما على جائزة مهرجان هامبورغ للإنتاج بين أخرى.

هل هناك طريقة لفهم سبب فوز الترشيح التونسي المتمثّل بفيلم «الرجل الذي باع جلده» وعدم فوز «ستموت في العشرين»؟ على المرء أن يسأل كل فرد في لجنة الترشيحات، كلاهما جيد لكن الفيلم التونسي يتميّز بلمعة أوروبية وبتمويل عالٍ، بينما يواكب الفيلم السوداني إطاره المحلي بميزانية محدودة. هذا فارق ملحوظ لكنه لا يجب أن يؤدي إلى فهم سبب التفضيل.

نلحظ غياب الفيلمين معاً في ترشيحات سيزار الفرنسية (أعلنت قبل أيام قليلة بدورها). قائمة «أفضل فيلم أجنبي» تحتوي على أفلام ناطقة بالإنجليزية. كون المسابقة فرنسية، ونلحظ أن أربعة منها أوروبية المنشأ وهي بريطانيا («1917» لسام منديس ولو أن الفيلم ارتبط بتمويل أميركي أيضاً) وبولندا («كوربوس كريستي» ليان كوماسا، الذي ينعى الأخلاقيات والمبادئ الدينية المختلفة) والدنمارك («دورة أخرى» الفيلم الوحيد في القائمة الذي يظهر في القائمة الأميركية) وإسبانيا («عذراء أغسطس» ليوناس ترويبا). الفيلم غير الأوروبي الوحيد هو «مياه داكنة» لتود فيليبس (الولايات المتحدة).

طبعاً الغياب لف بجناحه أفلاماً أخرى مهمّة توسلت الوصول إلى هذه القائمة (على الأقل) بينها الفيلم البولندي «كوربوس كريستي». من بين الأفلام التي نالت رعاية نقدية عالية ولم تتمخض عن دخول لائحة الأوسكار فيلم ناوومي كواسي «أمهات حقيقيات»… لكن إذا ما كنا نريد أن نكون واقعيين فإن فيلم هذه المخرجة اليابانية ليس من بين أعمالها المشهودة حقاً.

جوائز الأوسكار بحد ذاتها أكثر طموحاً في تغطية نتاجات العالم، وهذا سبب مهم للتنبؤ بأن عدد الأفلام التي ستخرج من أنبوب الاختبار الحالي إلى الترشيحات الرسمية سيرتفع إلى أكثر من خمسة أفلام كما هو الحال الراهن. إن لم يكن هذا العام فبالتأكيد قبل بلوغ الأوسكار عامه الـ100 بعد سبع سنوات.

 

الشرق الأوسط في

12.02.2021

 
 
 
 
 

إلى الأوسكار.. "الرجل الذي باع ظهره" وفاوست السوري

محمد صبحي

منذ عرضه العربي الأول، أواخر العام الماضي في مهرجان الجونة السينمائي، بدا واضحاً أن فيلم "الرجل الذي باع ظهره" يستكمل مسار مخرجته التونسي كوثر بن هنية، صناعةً وإنتاجاً واستقبالاً. فالحفاوة التي قوبل بها لم تكن غريبة على السينمائية التونسية التي تعرف كيف تختار التيمة أو الفكرة التي تأخذ طريقها إلى الرواج والانتشار وإثارة الجدل و"الترند". تتميز المخرجة بأنها ذات توجه خاص في أفلامها حققت نجاحاً على أكثر من صعيد، وهي تنقلت بين الوثائقي والروائي، وعرض فيلمها الوثائقي الطويل "الأئمة تذهب إلى المدرسة" في مهرجان أمستردام للأفلام الوثائقية، كما فاز فيلمها الثاني "زينب تكره الثلج" بجائزة التانيت الذهبي من مهرجان قرطاج خلال دورته الـ27. وعرض فيلمها الروائي الطويل الأول "على كف عفريت" في مهرجان "كان" 2017...

وبعد تناولها، في الأعمال الثلاثة الماضية، العلاقات بين النساء والرجال، تروي كوثر بن هنية في فيلمها "الرجل الذي باع ظهرهقصة سام، وهو شابٌ سوري حساس ومندفع في علاقته بعبير التي تزوجت غيره. تستلهم حدثاً "حقيقياً" مع سيناريو يتضمن باسقاطات اجتماعية وسياسية ذاتية المرجع، وصوَّرته بطاقم "متنوع" الخلفيات والمشارب أمام الكاميرا وخلفها. هو استلهام لفكرة من الجسد المتشَيِّء الفاقد للروح، الجسد الموشوم في معرض فني. تقول المخرجة في حديث صحافي: "هي فكرة غريبة ومثيرة تنطوي على قدر من الكوميديا السوداء، فليس هناك أكثر من أن يبيع الإنسان جِلده، فكانت هي نقطة البداية لفيلمي وغلّفتها بشكل أساسي بأزمة اللاجئين السوريين الذين التقيت بأعداد كبيرة منهم، وكان التحدي بالنسبة إلي هو الربط بين عالمين مختلفين، عالم الفن المعاصر بكل ترفه، وعالم اللاجئين بكل فقره ومعاناته". 

يروي الفيلم حكاية تفطر القلب، وتلامس أوتاراً حسَّاسة عند كل ذي ضمير، إذ تنتظم معاناة اللاجئين السوريين وصراعهم، مع الحدود وتصاريح الإقامة خلال رحلة الخروج واللجوء القاسية، وما يتخلّلها من استغلال وإساءة وابتعاد عن مبادئ حقوق الإنسان. قصة الفيلم كتبتها كوثر بن هنية، مستلهمة إياها من الفنان البلجيكي فيم ديلفوي (1965) وعمله الموشوم على ظهر السويسري تيم شتاينر، باتفاق غريب بين الإثنين يقضي بأن يجول شتاينر في صالات العرض حول العالم ليعرض نفسه كـ"عمل فني حيّ"، في مقابل حصوله على نسبة من الإيرادات. الأغرب، أن هذا "العمل" اقتناه جامع أعمال فنية ألماني، مع الالتزام بسلخ جلد شتاينر حين موته، ليعلّق المالك "عمله الفني" على جدار منزله.

وقد حضرت المخرجة معرضاً فنياً في متحف اللوفر، لأعمال ديلفوي، فرأت شابّاً بظهرٍ عارٍ موشوم بصورة العذراء مريم يعلوها هيكل عظمي، يجلس في إحدى غرف المتحف، وصُدمتْ حين علمت أن وشم ظهره جزءٌ من المعرض. ثم كتبت سيناريو الفيلم في مسودته الأولى خلال خمسة أيام، وغيَّرت جنسيتَي الفنان و"عمله"، ورفدت القصة الأصلية بقصة حبّ يائسة وتعليقٍ حادٍ على عالم الفنّ المعاصر وسوقه.

أدوار الفيلم الرئيسة، يؤديها الممثل الكندي من أصل سوري، يحيى مهايني، إلى جانب الممثلين الفرنسيين ليا ديان، وكريستيان فاديم، والبلجيكي كوين دي بو، والإيطالية مونيكا بيلوتشي، واللبنانية السورية دارينا الجندي، والتونسيين نجوى زهير وبلال سليم، والتصوير للبناني كريستوفر عون (وهو نفسه مدير تصوير "كفرناحوم"). وعُرض الفيلم للمرة الأولى ضمن قسم "آفاق" في مهرجان فينيسيا السينمائي، حيث حصد مهايني جائزة أفضل ممثل، ثم عُرض في مهرجان الجونة المصري وحصد هناك جائزة أفضل فيلم روائي عربي، وأخيراً اختارته أكاديمية هوليوود ضمن لائحة مختصرة من 15 فيلماً للمنافسة على "جائزة أوسكار أفضل فيلم عالمي". دورة حياة مألوفة ومتوقعة. وكتبت المخرجة في صفحتها في فايسبوك، بالإنكليزية: "نعم فعلناها.. وصلنا للقائمة المختصرة للأوسكار 2021. شكراً لكل من أحب (الرجل الذي باع ظهره)".

في التنفيذ السينمائي، تعيد بن هنية صياغة أسطورة فاوست الذي باع نفسه للشيطان، في إطارٍ معاصر، يسمح فيه لاجئ سوري لفنان أميركي باستخدام ظهره كلوحة مرسوم عليها وشمٌ يمثل "تأشيرة شنغن" ضخمة ومُفصَّلة، في محاولة منه لتصحيح عواقب مجيئه إلى العالم في الجانب الخاطئ منه. سوري حكمت عليه الحرب بدخول السجن وملاحقته أمنياً، ففرَّ إلى لبنان طلباً للأمان والحرية، ولم يجدهما، بل عانى مرارة العيش وشقاء الحياة، ثم جاءته الضربة الكبرى بزواج حبيبته وسفرها إلى بلجيكا مع زوجها الدبلوماسي السوري، ليقرر الذهاب إلى هناك بأي ثمن لاستعادة حبيبته. هناك، في أوروبا التي وصلها بقبوله الصفقة إياها، يُعرض في المتاحف مثل لوحة، مع الإضاءة المناسبة، يعطي ظهره لجمهورٍ لا يراه وبدوره لا يريد الجمهور رؤيته.

كعادة السينما التونسية، يتطرق الفيلم إلى قضية موضع جدل كبير في السنوات الأخيرة، سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً: أزمة اللاجئين، ومن ورائها تعامل الدول الغربية مع مبادئ وأسس حقوق الإنسان، ممزوجة بنقد اجتماعي لتسليع البشر وأخلاقيات الفنّ المعاصر، بطريقة مشابهة لما فعله سابقاً فيلم "المربع" (2017، روبن أوستلند)، و"حيوانات ليلية" (2016، توم فورد)...

الإخراج في فيلم هنية، في جانب منه مدروسٌ ومميَّز، خصوصاً في بعض الخيارات الأسلوبية الهادفة إلى التأكيد على جماليات الفيلم، وإن بدا بعض المَشاهد كما لو كان وافداً من مسلسل تلفزيوني لربّات البيوت. الجيد هنا هو تطوّر الرؤية البصرية وديناميكيتها اللافتة في بعض المشاهد، وأداء الممثلين، الذين يعملون كقوة دافعة للفيلم بأدائهم الجذَّاب والمحسوب والمُقنِع، باستثناء مونيكا بيلوتشي التي يمثّل اختيارها (ودورها نفسه) علامة استفهام كبيرة، وإن كانت مفهومة قيمتها التسويقية.

ويتنافس الفيلم التونسي في اللائحة القصيرة للأوسكار، مع أشرطة من إيران، فرنسا، رومانيا، النروج، تايوان، هونغ كونغ، روسيا، ساحل العاج، تشيلي، المكسيك، غواتيمالا، تشيكيا والبوسنة. ومن المتوقع أن يقام احتفال توزيع جوائز الأوسكار الـ93 في 25 نيسان/أبريل المقبل، في هوليوود، على أن يُبثّ عالمياً عبر شبكة ABC التلفزيونية الأميركية.

 

المدن الإلكترونية في

12.02.2021

 
 
 
 
 

"الأوسكار" تبدأ إعلان قوائمها القصيرة والحضور العربي "خافت"

لا مفاجآت كبيرة في الترشيحات وترقب للحفل المنتظر

حميدة أبو هميلة كاتبة

تتجه الأنظار صوب أي جديد يخص حفل توزيع جوائز أوسكار 2021، وهو الأول في زمن كورونا، بعدما أُلغي حفل 2020 بسبب تداعيات الوباء الذي غير معالم الحياة في العالم، الذي سيعقد في 25 أبريل (نيسان) المقبل على مسرح دولبي في لوس أنجليس في الولايات المتحدة الأميركية، بدل فبراير (شباط)، جراء استمرار انتشار عدوى كورونا. وبعد أيام من إعلان قائمة ترشيحات جوائز "غولدن غلوب"، أعلن الموقع الرسمي للأوسكار عن القائمة الطويلة لتسعة من فروع الجوائز السينمائية البارزة في نسختها الـ93.

حضور عربي خافت في القائمة القصيرة

كشفت أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة في الولايات المتحدة الأميركية عن بعض ترشيحات قائمتها القصيرة، والتي تتضمن مجتمعة 24 فئة، على أن يعلن عن بقيتها تباعاً. وأكثر ما لفت أن لا مفاجآت كبيرة فيها، باستثناء الحضور العربي الضئيل للغاية، تقوده النساء، متضمناً فيلمين عربيين، أولهما في قائمة جائزة أفضل فيلم دولي "غير ناطق بالإنجليزية" وهو "الرجل الذي باع ظهره The Man Who Sold His Skin"، الذي يمثل تونس من إخراج كوثر بن هنية، بحيث نال تكريمات وإِشادات عدة، وحصل على جوائز بينها جائزة التمثيل لبطله يحي مهايني في مهرجان فينيسيا السينمائي 2020، والجائزة الكبرى بمهرجان الجونة السينمائي في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ومن ضمن المشاركين في بطولته النجمة الإيطالية مونيكا بيلوتشي، وقصته تدور حول مهاجر سوري هارب من الحرب يظل عالقاً في لبنان لعدم وجود وثائق معه تؤهله للسفر إلى أوروبا حيث يسعى للقاء حبيبته.

والفيلم العربي الثاني للمخرجة الفلسطينية فرح نابلسي بفيلم "الهدية" ـThe Present، الذي ترشح ضمن قائمة الفيلم الروائي القصير، ويسرد معاناة الفلسطنيين في الضفة الغربية ومن طولة صالح بكري. وسبق أن فاز الفيلم بجوائز في مهرجانات دولية عدة بينها كليفلاند وبروكلين وكليرمون فيران للفيلم القصير. ومن أبرز ما تضمنته قائمة جوائز أفضل فيلم قصير أيضاً أفلام""Feeling Through، و "The Human Voice"، و"The Kicksled Choir" و"White Eye" و" Two Distant Strangers".

أفلام نتفليكس تسيطر مجدداً

تضم القائمة القصيرة لترشيحات أفضل فيلم أجنبي "غير ناطق بالإنجليزية" هذا العام 15 فيلماً بعد التعديلات التي أجرتها الأكاديمية أخيراً، إذ من المعتاد أن تتضمن عشرة أفلام فقط، ومن بينها أفلام من الدنمارك وفرنسا وروسيا وإيران ورومانيا وتايوان، ومن المنتظر أن تعلن القائمة النهائية لترشحيات الأوسكار هذا العام في فروع الجائزة كافة في 15 مارس (آذار) المقبل، تتضمن خمسة أفلام فقط في كل فئة.

من ضمن القوائم المعلنة أيضاً ترشيحات أفضل فيلم وثائقي وتضمنت 15 عنواناً كذلك، بينها ""Dick Johnson Is Dead، "76 Days" Time " The Mole Agent " The Painter and the Thief" My Octopus Teacher" كما تكررت أفلام نتفليكس في قوائم عدة ومنها"The Midnight Sky" " Mank" " The Trial of the Chicago 7" " The Life Ahead" في موسم الجوائز، حيث تصدرت ترشحيات جوائز "غولدن غلوب" الذي ستوزع في 28 من الشهر الجاري. كما ظهر فيلم "Tenet" لكريستوفر نولان في قائمتي جائزة أفضل "مؤثرات بصرية وموسيقى تصويرية".

منافسة قوية وإصرار على حفل جماهيري!

من ضمن قائمة أفضل فيلم وثائقي قصير " Hunger Ward و A Love Song for Latasha  The Speed Cubers وHysterical Girl"، وتشتعل المنافسة أيضاً على جائزة أفضل أغنية أصلية وبينها أغنيات أفلام  "The Life Ahead Minari، و One Night in Miami و Mulan و The One and Only Ivan، The Trial of the Chicago 7، Sound of Metal"، ويظهر عدد منها أيضاً في قائمة أفضل موسيقى تصويرية والتي تضم  " Ammonite، و News of the World، و Blizzard of Soul، و Da 5 Bloods، و The Invisible Man، و Jingle Jangle: A Christmas Journey، و The Life Ahead، و The Trial of the Chicago 7، و Mank، و The Midnight Sky، و The Little Things، و Mulan، و Soul، و Tenet، و Minari"، وتضمنت القوائم المعلنة كذلك أفضل مكياج وتصفيف شعر، وأفضل فيلم رسوم متحركة قصير.

حتى الآن يصرّ القائمون على حفل أوسكار المرتقب أنه سيكون في حضور الجمهور ولن يكون افتراضياً، بعكس حفل "غولدن غلوب"، فهل تتغير تلك اللهجة وهذا الإصرار في ظل استمرار تفشي الوباء على الرغم من انتشار حملات التطعيم؟

 

الـ The Independent  في

12.02.2021

 
 
 
 
 

فيلم «الأب» من إنتاج مشترك بريطاني فرنسي:

قساوة التجربة ومرارتها عندما تنهار الذاكرة

مروان ياسين الدليمي

بعد مشاهدة فيلم «The Father» إنتاج مشترك بريطاني فرنسي نهاية عام 2020 يتعزز الاحساس لدى المتلقي بقسوة اللحظات التي يعيشها أشخاص يقعون تحت مرارة تجربة الخَرَف أو مرض الزهايمر، حيث تشيخ ذاكرتهم، وتتوقف عن أداء وظيفتها الطبيعية، ما يجعلها عاجزة عن إغاثتهم لفهم العالم وإدامة التواصل معه، وتتسبب هزيمتها في حدوث انكسار وانهيار علاقاتهم الإنسانية مع أقرب الأشخاص إليهم فتنهار صلتهم مع ماضيهم وتنسل الأسماء والأحداث والأماكن من الذاكرة، مثلما تسقط أوراق الشجر في موسم الخريف. ونحن نتابع أحداث فيلم «الأب» نعجز عن ان نتحكم بعواطفنا ونمنعها من التقهقر، كيف تتداعى حياة العجوز أنتوني (مثل شخصيته أنتوني هوبكنز) لما بدأ يفقد قدرته على التواصل مع ابنته وزوجها وممرضته ما إن أخذت أعراض الزهايمر تظهر عليه، ليصبح مثل طفل صغير يخفق في التعبير عما يدور في خلجاته، وتتفاقم حالته سوءا بعد ان تبدأ ذاكرته ترتكب الهفوات، فينسى مثلا اين وضع ساعته اليدوية، ويفشل في معرفة زوج ابنته آن، ويخفق في اتخاذ قرارات صائبة، مثلما فعل عندما طرد الممرضة التي تسهر على رعايته، فاتهمها بسرقة ساعته اليدوية، مع انه عثر عليها داخل شقته بعد ان كان قد وضعها في غير مكانها.

قبل ان يقتحم الفرنسي فلوريان زيلر مؤلف ومخرج الفيلم عالم الإخراج السينمائي في هذا الفيلم، كان منغمرا بكل حواسه في كتابة النصوص المسرحية، حتى ان معظم العاملين في المسرح الفرنسي المعاصر يكاد ان يجمعوا على انه رغم عمره الصغير 41 عاما يعد الأهمَّ من بين كتاب المسرح، وسبق ان وصفته صحيفة «الغارديان» البريطانية «أمتع مؤلف مسرحي في عصرنا» وتشير سيرته الذاتية إلى موهبته المبكرة، ففي عام 2002 أصبح استاذا محاضرا بمعهد العلوم السياسية بباريس ولم يكن في حينه قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، ثم اقتحم عالم الكتابة الروائية ليحقق نجاحا مذهلا عندما فازت روايته الأولى «ثلوج اصطناعية» بجائزة مؤسسة هاشيت، كما فاز بجائزة «انترالييه»عن روايته الثالثة «الانبهار بالأسوأ». لكنه بعد هذا النجاح وجد نفسه مهووسا في الكتابة للمسرح، فحققت نصوصه نجاحات ساحقة على خشبات المسارح الفرنسية والأوروبية، والملاحظ ان تجربته الأولى كمخرج سينمائي في هذا الفيلم لم يتنصل فيها من أسرار حرفته المسرحية، فعلى الرغم من ان الأحداث تجري في مساحة صغيرة داخل شقة ضيقة إلاَّ ان هذه التقنية المسرحية /المكانية تمكن من توظيفها سينمائياً، بالشكل الذي أصبح معادلا موضوعيا لما أصبح عليه العالم من غلاظة وتبلد في الإحساس بعد ان مس الخرف ذاكرة العجوز أنتوني.

حقائق أم تخيّلات

يعيش أنتوني وحيدا بعد ان تخطى العقد الثامن من عمره، ولا شيء يفعله سوى الاستماع إلى الموسيقى وقراءة الكتب، نراه جالسا باسترخاء تام على كرسي وهو يقرأ في كتاب بين يديه مستمتعا بسماع الموسيقى. فنركن نحن أيضا إلى حالة من الاسترخاء تماثل استرخاء العجوز، لكن السيناريو في ما بعد يكسر توقعاتنا مشهدا بعد آخر، فيتعزز لدينا الإحساس باننا نتابع شخصية سقطت بما يشبه كابوسا وهي في حالة يقظة، حيث نتفاجئ مثله بظهور ابنته آن (مثلتها اوليفيا كولمان) وزوجها بول، والممرضة لورا، فإذا بهذه الشخصيات تختفي بين فترة وأخرى لتحل بدلا عنها شخصيات بملامح وهيئات مختلفة ولكن بنفس الاسماء والصفات الاجتماعية، بذلك نكون أمام ثلاث شخصيات تنشطر لتتحول إلى ست. وكأن الزمن الذي يتحرك بشكل عبثي يمضي في جريانه وفق قواعد لا منطقية، لكنها بنفس الوقت تبدو طبيعية ومنطقية ولا تستدعي استغراب الشخصيات الست، حتى ان العجوز هو الآخر يتلقى اللامنطقية في الحركة بردود أفعال طبيعية، لانه لم يعد مدركا لحقائق العالم الذي يحيطه، بعد ان دخلت ذاكرته في مرحلة معقدة، غدت فيها الأشياء والوقائع ضبابية، هل هي ملموسة أم مجرد تخيلات؟

أزاء الحال الذي وصل إليه أنتوني تجد ابنته نفسها عاجزة عن ان تحل محل الممرضة التي طردها، لانها مضطرة إلى ان تغادر لندن لتقيم في باريس مع حبيبها، فتحاول خلال اللحظات التي تقضيها مع والدها في الشقة ان تجعله يشعر بالمتعة عندما تزمع ان تطهو له دجاجة، ولكن ما ان تعود من التسوق، يكتشف بان لا وجود لدجاجة، ولا شخصية آن وبدلاً من ذلك يتفاجأ بوجود ممرضة جديدة لها نفس اسم الممرضة السابقة، كما يظهر طليق آن الذي يصفع العجوز على وجهه أكثر من مرة، وسيتفاجأ أيضا بأن ابنته لم تكن متزوجة، ولم تعد موجودة في إنكلترا.

تداخل الزمن

سيناريو الفيلم يواجهنا بزمن مزدحم بالأحداث والحوارات التي تتكرر مع تغير الشخصيات، وهذا السياق في الحبكة يقودنا إلى الإحساس بتداخل حركة الزمن بين الماضي والحاضر، ويصبح بالتالي من غير الممكن التمييز بينهما، كما يرسخ فكرة الفوضى والانهيار التي باتت عليها ذاكرته حتى بدا عاجزا عن فك الاشتباك بين الماضي والحاضر، ومن نتائج إصابته بالخرف انه لم يعد متيقنا من الأحداث التي عاشها والشخصيات التي عرفها، كما تداعت امكاناته في التفكير والسلوك المنطقي، فأصبح في ردود أفعاله عندما يضحك ويبكي ويتحدث أقرب إلى سلوك طفل صغير، وبمقتضى هذا السياق نكون أمام لعبة درامية تنتظم فيها سلسلة مفاجآت، وهكذا يضعنا السرد السينمائي أمام ست شخصيات تتحرك مثل بيادق الشطرنج محطمة بذلك توقعاتنا في تبادلها للأدوار وتنقلاتها السريعة والمباغتة، وهذا ما سيدفع بنا إلى ان نتقاسم مع الرجل العجوز العالم الغامض الذي وجد نفسه فيه، ولنتشارك واياه حالة التأرجح بين الحيرة والإرباك.

تقنية مسرحية في رؤية سينمائية

ما ينبغي الإشارة إليه ان هذه التغيرات المربكة تجري في لعبة سردية سينمائية تم سحبها من عالم المسرح الذي تحتمل آلياته الدرامية الانتقال بين الأحداث والأمكنة وفق تقنيات لا واقعية، حيث بالامكان ان يتداخل الوهم مع الواقع وفق علاقة شرطية متفق عليها بين المتلقي والعرض المسرحي، والتحاور مع العالم المسرحي فرض حضوره لان سيناريو الفيلم استند على نص مسرحي بعنوان «الأب» لمخرج الفيلم نفسه، وسبق ان تم تقديمه على خشبة مسرح «هيبرتو» الفرنسي عام 2012 ونال نجاحا مدويا مما أهله ان ينال جائزة «موليير» التي تعد في المسرح الفرنسي من أرفع الجوائز، ثم جاءت النسخة السينمائية الجديدة في نهاية 2020.

سحر الأداء

وجد هوبكنز في شخصية العجوز أنتوني المكتوبة بعمق واضح، مساحة من الإشتغال تفرض عليه تحديا كبيرا، خاصة وان هناك تقاربا مع الشخصية من حيث العمر، رغم انه صرح في أكثر من لقاء، بانه لم يجد صعوبة في تقديمها، وما يعنينا انه تحرك بين لحظات عاطفية بغاية التعقيد، توزعت بين الغرور والخوف والغضب والرقة، ومسيرته كممثل تؤكد لنا بانه مهووس بأداء مثل هذه الشخصيات، وهنا تتجلى فرادته لانه يدرك جيدا أهمية ان يحافظ على الأداء لتحقيق التناغم، ولكي لا يسقط في الاستعراض كما يحدث لدى الكثير من الممثلين عندما يؤدون مثل هذه الشخصيات، وهوبكنز سليل مدرسة المعلم الروسي ستانسلافسكي (1863 -1938) في التقمص الداخلي للشخصية، وبما يملك من خبرة متراكمة في التعامل مع الشخصيات المركبة، كان من الطبيعي ان نجده على قدر كبير من الحرفية وهو يمسك بتفاصيل الشخصية، ولم ينجرف إلى المبالغة، مع وفرة المشاعر المختلطة التي نسجها المؤلف بنعومة فائقة، فقدمها لنا بمهارة ساحر يملك الحرفية للسيطرة على حواس المتلقين سواء في تحكمه بتقنيات التعبير الصوتي أو الجسدي، وبطاقة تعبيرية نقلتنا إلى إحباطات الشيخوخة عندما يقضي التعب والفوضى والإرباك على قدرات الإنسان العقلية، فنجده ينهار ويبكي مثل طفل صغير على والدته راجيا ان تحضر لانقاذه، وكان هوبكنز في هذا المشهد قد وصل إلى مرحلة من الأداء المذهل والمؤلم في آن، فلا غرابة في انه وضعنا أمام انفسنا إذا ما قادنا التقدم في السن إلى ان نمر بمثل هذه التجربة، ولن نبالغ إذا ما قلنا بأن هوبكنز صاحب التاريخ العريق المرصع بالشخصيات الشكسبيرية على خشبة المسرح البريطاني، وفي أداء شخصيات غريبة في مشاعرها ومواقفها وتركيبتها النفسية على شاشة السينما، قدم لنا في هذا الفيلم واحدا من أعظم فصول الأداء في مسيرته الفنية الحافلة بالانجازات. وما يثير الإعجاب في أدائه بعد ان تخطى عتبة العقد الثامن من عمره ان جذوة الحماس لديه لم تنطفئ بعد لإثبات قدراته، وتصرف مثل شاب طموح هاوٍ لفن التمثيل، وبدا كما لو انه يخوض قتالا شرسا لإثبات موهبته وامتحانها في أدق التفاصيل، بمعنى انه ما يزال لم يرتو من نبع التمثيل مع انه بدأ مسيرته الفنية قبل أكثر ستين عاما، وفي هذا الدور وصل إلى ذورة العطاء الذي يمكن ان يقدمه الممثل، لانه لم يتعكز على تنميطات جاهزة لخداع المتلقي واستقطاب اعجابه، بل تعامل مع الشخصية منطلقا من دوافعها وحالاتها النفسية، ورسم من خلالها على الشاشة صورتها الداخلية في حضور مرئي، وهذا يدفعنا إلى ان نستبعد مقارنته مع أي ممثل آخر، بمن فيهم اولئك الذين ينهلون من طريقة ستانسلافسكي ربما نستثني من ذلك الممثل الانكليزي الفذ والمعتزل مبكراً دانيال دي لويس الحائز على ثلاث أوسكارات، والذي لم ينافسه بهذا الامتياز أي ممثل آخر خلال تاريخ هذه الجائزة التي ابتدأت عام 1929. والحديث عن الأداء التمثيلي يقودنا إلى التوقف عند الممثلة اوليفيا كولمان التي أدت شخصية آن ابنة العجوز، وسبق لها ان فازت بالأوسكار، ولاشك أن حضورها إلى جانب هوبكنز قد رفع من سقف التنافس على الأداء، ومنحنا مباراة شديدة السخونة بين اثنين من أرفع الممثلين الانكليز.

 

القدس العربي اللندنية في

13.02.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004