ملفات خاصة

 
 

وحيد حامد..

طائر السينما الذي سافر ولم يغادرنا

د. أمل الجمل

عن رحيل كاتب السيناريو

وحيد حامد

   
 
 
 
 
 
 

على شاطئ النيل بمكانه المعتاد للكتابة بأحد فنادق القاهرة التقيت به، كان ذلك قبل عدة سنوات، عندما أُعلن عن تكريمه في مهرجان دبي السينمائي بجائزة إنجاز المبدعين.

كان الكاتب والسيناريست المصري الكبير وحيد حامد، آنذاك، عائداً قبلها بأيام من رحلة علاج بألمانيا للاطمئنان على القلب وشرايينه.

استقبلني بابتسامة رقيقة، وعلى الطاولة الممتدة أمامه استقرت أكواب الماء والشاي الأخضر، وحقيبة سفر مفتوحة كانت تحوي كتباً وصحفاً ومجلات كان يُطالعها. كنت أعلم أنه طقس يحافظ عليه منذ أغوته نداهة كتابة السيناريو للوسائط المختلفة بداية من الإذاعة التي دخلها بالصدفة، ثم السينما التي سعت إليه بنفسها بعد نجاحاته الإذاعية.

رغم ابتسامته المرحبة كان الشجن وشبح الحزن بادياً على ملامحه وهو يرنو للأفق. عندما سألته عن أحواله الصحية مشيدة بمستوى الطب في ألمانيا بادرني قائلاً: «الجسم طالما اتفتح خلاص.. لا يمكن يرجع زي الأول".

أعترف أنني شعرت بالإحباط يومها. لم أجد الإنسان المقاوم المتحدي الذي توقعته، كأن المرض لم يكتفِ بأن يأخذ من إرادته وفقط، لكن شعرت بأن المرض قد هزمه، فأصابني الحزن على حاله. والتمست له العذر لأني أُدرك تماماً أن هناك أناسا يصيبهم الوهن في مواجهة شراسة المرض، لذلك عندما سمعته لآخر مرة وهو على خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية في أثناء تكريمه بمهرجان القاهرة السينمائي، وهو يقول كلمته المؤثرة ويختتمها بأنه «أحب أيامه، وأحب السينما، وأخلص لها وتفاني في عمله» أعجبتني إرادته رغم أن الكلمات بدت كأنها رسالة وداع، ولهذا السبب بكى الكثيرون لحظتها، لأنهم شعروا به كأنه يرثي نفسه.

أعترف، أيضاً، أنني صحيح سعدت بلقائه في ذاك اليوم البعيد، وأنه تحدث إليَّ- في حوار مسجل- عن تفاصيل في تكوينه الثقافي والمعرفي لم يسردها في حواراته السابقة، وأن الحوار بيننا امتد نحو أربع ساعات، مع ذلك لم يخرج الحوار كما كنت أتوقعه أبداً، خصوصاً في ظل ما أعرفه عن جرأته المعهودة، لكنه في ذاك اليوم لم يكن معطاءً في ردوده بقدر ما توقعت، كان محافظاً متحفظاً في تعبيراته، بعض الأسئلة ترك الجواب عنها مفتوحاً دون أن يغلق القوس، قابل بعضها بالصمت؛ ربما كانت أسئلتي شائكة ومحرجة، أو ربما أراد أن يترك الأمور التي أثرتها غامضة تحتمل التأويلات، خصوصاً التأويلات التي طرحتها في مقال لي- سابق على اللقاء- عن أفلامه وعلاقته بالسلطة، وعلاقته بمخرجي أفلامه، وفي مقدمتهم شريف عرفة، ومشكلته مع فيلم أخرجه علي بدرخان، وهل حقاً أنه لم يقبل من أي نجم أو مخرج أن يقوم بتعديل أفكاره وسيناريواته؟!

رغم كل ما سبق، لا يمكن أن يُؤثر شعوري إزاء هذا الحوار على مكانة وقيمة وحيد حامد عندي، فأفلامه جزء من تكويني الإنساني والثقافي، وستظل رافدا يمتعنا عبر الأزمنة.

أتذكر أنه قرب نهاية الحوار حدثني عن الطيور التي كانت تمر أمامه- في هذا المكان البديع على نهر النيل- في نفس ذلك الموعد من كل عام، بنفس الكثافة والتشكيل والأداء الحركي في الطيران، لكنه لم يرها ذاك العام، وبدهشة طفولية كان يتساءل: لماذا اختفت؟!

لوهلة شعرت أنه يلجأ للرمز في تلك الواقعة أيضاً، فسألته عن سبب هذا الحزن، فعاد لسنوات الصبا والشباب بالقرية ليقارن بين الماضي والحاضر قائلاً: «الذكريات الطيبة تعيش معي للآن، عشت فترة الستينيات، قضيت طفولتي في القرية عندما كانت القرية لا تزال بخيرها، وعلى طبيعتها، فلم يكن العدوان قد وقع على الأراضي الزراعية. كنت أصعد إلى سطح البيت فأرى بيوت القرية المجاورة رغم أنها تبعد عنا عدة كيلومترات. كانت قيم وأخلاق القرية لا تزال على الفطرة.

الآن عشوائية البشر هي الغالبة لكل العشوائيات التي نعاني منها - يصمت لحظة قبل أن يُضيف- من الجُمل المؤلمة في «عمارة يعقوبيان» جملة حوار للفنان عادل إمام يقول فيها: «إحنا في زمن المسخ".. ثم يُضيف وحيد حامد: «فما بداخلي ليس فقط الحزن، لكن ما هو أكثر من الحزن".

أما الحوار نفسه الذي اقترب من خمسة آلاف كلمة، وتطرق لقضايا عديدة فله مناسبة أخرى.

وليرحم الله كاتبنا الكبير وحيد حامد، ولترقد روحه في سكينة وسلام، وليطمئن؛ لأنه سيظل دوما معنا بأفلامه وكلمات حواره الذي يُشكل جزءًا مهما من تاريخ السينما المصرية وميراثها.

 

موقع "مصراوي" في

03.01.2021

 
 
 
 
 

وحيد حامد: موت المؤلف الذي أحب أيامه

حسام فهمي

إنتوا إذا كنتم رخاص عند الحكومة، فأنتوا عندي غاليين أوي، أنا رقبتي فداكم، أنا مش عايزكم تزعلوا مني، وأفتكر أنا كمان مزعلتش حد فيكم، اتفضلوا أنتم أحرار.

وحيد حامد – الإرهاب والكباب

بهذه الكلمات المقتطعة من سياقها من نهاية الفيلم المصري الإرهاب والكباب، نبدأ مقالانا اليوم غداة رحيل الكاتب المصري الكبير وحيد حامد، لماذا نختار هذه الكلمات بالتحديد، وما معنى وفاة المؤلف؟ خصوصاً أننا هنا نتحدث عن المؤلف البطل الذي يحفظ اسمه وأسماء أعماله خصومه قبل محبيه. هذا ما نحاول معكم الإجابة عنه بهدوء اليوم.

سينما المؤلف

في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات كتب الناقد الفرنسي أندريه بازان سلسلة مقالات يؤصل من خلالها لفكرة أن المخرج السينمائي هو صاحب العمل، هو من يتحدث بلغة الكاميرا، الصورة، وبالتالي هو أب العمل الذي ينسب له بشكل مكتمل، هو المؤلف، والعمل ما هو إلا تعبير عن رؤيته وأفكاره ومشاعره. هذه النظرية هي ما فتحت عقب ذلك الباب لمخرجي الموجة الفرنسية الجديدة ثم عشرات من المخرجين المؤلفين من أجيال متلاحقة في كل مكان في العالم، من فرنسا إلى إيطاليا، ومن أمريكا إلى إيران، ووسط كل هذا في مصر أيضًا.

أحد من يمكن اعتباره دون شك منتميًا لهذه المدرسة في السينما المصرية حتى لو لم يكن مخرجًا، هو المؤلف وحيد حامد، فالرجل هو المالك المكتمل لأعماله، ما هي إلا معبر عن رؤياه وأفكاره وأحلامه وهواجسه، حامد اشتهر بكتابة سيناريوهاته بشكل مكتمل بما فيها التوجيهات الإخراجية التي تتعلق بمكان الكاميرا، وضعية الممثلين، وطريقة إلقاء الحوار. استكمالًا لذلك فهو بنفسه يختار المخرج في كل أعماله، وذلك ما يعرفه الجميع وبالتحديد بعد تعاونه الأول مع يحيى العلمي في أواخر السبعينيات، كسب حامد بعدها مكانته سريعًا جدًا، وأصبح هو من يختار كافة العناصر الأخرى، بما فيها البطل أيضًا، فيستبدل محمود عبد العزيز بأحمد زكي، ويستبدل زكي بعادل إمام، وهو بتعديلات كهذه يصبح البطل قبل وجوه أبطال حكمت سينما هذا العصر.

أفلام وحيد حامد إذن يحضر من خلالها بصمة المؤلف بشكل واضح للغاية، هذا يدفع النقاد والمحللين والجمهور للبحث بشكل أكبر عن هذا المؤلف شخصيًا، أفكاره وتوجهاته السياسية والاجتماعية، ومواقفه من الأحداث الراهنة والماضية، ومحاولة إعادة تفسير أعماله من خلال كل هذا. نحن في هذا المقال نختلف مع هذا بشكل مكتمل.

موت المؤلف

كل نص يعاد كتابته هنا والآن مع كل مرة يعاد قراءته فيها، لأن أصل المعني يقع بشكل حصري في اللغة ذاتها، والانطباع الذي تتركه على القارئ.

الناقد والفليسوف الفرنسي رولاند بارت

في أواخر الستينيات وبالتحديد في عام 1967 كتب الناقد الفرنسي رولاند بارت مقالته الشهيرة «موت المؤلف» في هذا المقال انتقد بارت المدرسة النقدية الكلاسيكية التي تربط النص بمؤلفه، وتحاول تفسيره من خلال الأحداث الشخصية والأفكار الشخصية الخاصة بالمؤلف، من خلال كلمات بارت التي ذكرنا جزءًا منها هنا، يحلل الكاتب الفرنسي كيف أن ربط النص بشكل حصري بالمؤلف يحد كثيرًا من تأويله ومن معناه وتأثيره، فالنص يكتسب معنى جديدًا مع كل مرة يعاد قراءته فيها، وهكذا يكتسب العمل الفني معنى جديدًا مع كل قراءة، العبرة هنا إذن بالانطباع الذي يتركه النص أو العمل الفني، بالأسئلة التي يستثيرها في كل مرة يعاد قراءته، مع كل مشاهد جديد، هكذا تصبح أنت شخصيًا المؤلف.

وحيد حامد يحرر جمهور

بمد الخط على استقامته، فلا معنى من الحكم على أعمال وحيد حامد من خلال مقال أو تصريح أو حوار تلفزيوني أجراه الكاتب الراحل في حياته، المعنى الوحيد هو بالأثر الذي تركته هذه الأعمال في جمهورها القديم، وفي كل مرة يشاهد فيها هذه الأعمال جمهور جديد.

أفلام حامد تحمل طابعًا عامًا من حب الحياة، من أبطال حالمين يصطدمون بواقعهم، أبطال منتمين للطبقة الفقيرة والمتوسطة، منهم من يحاول تغيير هذا الواقع ومنهم من يحاول الهرب منه، ومنهم من يساير التيار، الدفاع عن العدالة الاجتماعية مبدأ حاضر دائمًا منذ «الفتى الطائر» وصولًا لـ«بدون ذكر أسماء»، الظلم والفساد والاستبداد ملامح حاضرة بشكل شبه دائم أيضًا لمصر التي يتحدث عنها، والتطرف الديني والعنف الأمني حاضران بشكل دائم أيضًا.

ينتقده البعض بالعودة لتلك المدرسة القديمة في النقد من خلال تصريحاته أو مقالات رأي بشكل خاص ضد تيار الإسلام السياسي في مصر، يتهمه البعض بأنه صور الإسلاميين بشكل نمطي، وكأنهم لم يروا علي الزناتي وهو يغني يا واش يا واش يا مرجيحة في «طيور الظلام»، لم يشاهدوا معاناة وظلم طه الشاذلي في «عمارة يعقوبيان»، ولم يشاهدوا الأستاذ رشاد وهو يسير جنبًا إلى جنب مع أحمد فتح الباب في نهاية «الإرهاب والكباب» ليحمي بطل الحكاية الذي ألصقت الحكومة به تهمة الإرهاب والجنون، يبتسم كل منهما للآخر ويربت أحمد على كتف رشاد ويتنفس كل منهما الصعداء وهما يسيران في ميدان التحرير.

وبالتأكيد لا يدرك هؤلاء أن كثيرًا من إرهابي داعش قد يكونون متطابقين مع رضا ريشة الإرهابي حديث العهد الذي لا يهتم بالدين قدر اهتمامه بالسطوة والعنف والهيمنة، ولا يعرف هؤلاء أيضًا أن المعالجة الأكثر إنسانية لحسن البنا في تاريخ الفن المصري قد تكون معالجة وحيد حامد في الجماعة في جزئها الأول، الدور الذي تعاطف من خلاله كثيرون مع حسن البنا شخصيًا، وكسب من خلاله الوسيم إياد نصار مكانه كبطل أول في مصر.

بعيداً عن هذا الهراء، أنت من يحكم على المعنى، بعيدًا تمامًا عن شخص المؤلف، النص الذي تركه وحيد حامد هو البطل، والانطباع الذي يتركه هذا النص هو الأهم.

ماذا يترك أحمد سبع الليل في «البريء» من انطباع لديك، الأستاذ فرجاني في «آخر الرجال المحترمين»، عادل عيسى في «الغول»، رضا رشدي في «الدنيا على جناح يمامة»، أحمد فتح الباب في «الإرهاب والكباب»، أحلام حسن بهنسي «بهلول» وعلي الزهار في «اللعب مع الكبار»، يوسف المنسي في «المنسي»، سيد غريب في «اضحك الصورة تطلع حلوة»، الأصدقاء الثلاثة فتحى ومحسن وعلي في «طيور الظلام»، وكوابيس الوزير رأفت رستم في «معالي الوزير».

هنا يظهر المعنى، المعنى الذي تركه فينا وحيد حامد، أنت المؤلف، وبالعودة إلى اقتباس أحمد فتح الباب في نهاية «الإرهاب والكباب»، البطل صاحب المطلب الوحيد بأن تصان كرامته، ألا يوبخ ولا يُهان، فحينما سأله أحد المراسلين التلفزيونيين وهو في طريقه محاطًا بالناس في ختام الفيلم، عما حدث، أجاب البطل بالإيجاب أنه شاهد الإرهابي المعتوه، وبأن ما جاء من أجله قد تم، وهو ما ندرك كجمهور أنه لم يحدث، لكن البطل عليه أن يصرح بهذا كي تستمر حكايته، كي تستمر الأفلام في العرض، وكي تستمر الرقابة في تمرير الأعمال، هو نوع من التحايل والسخرية، التي لم تعد تنطلي على النظام الحالي للأسف، لكن ما يهم على كل حال هو ما يؤمن به هذا البطل، وما ظهر من خلال ما قدمه للناس منذ لحظات في أحداث الفيلم، استمع إلى مطالبهم الإنسانية العادلة، عن التجنيد الإجباري، العدالة، العلاج، والكرامة، حاول أن يفتديهم برقبته، وترك لهم الاختيار. أحمد فتح الباب قال لهم على لسان المؤلف قبل أن يموت «إنتوا أحرار»، وهذا كل ما يهم.

أحب وحيد حامد أيامه كما صرح في كلمته الختامية التاريخية في مهرجان القاهرة السينمائي في ديسمبر 2020، أحب أيامه السينمائية رفقة هذه الشخصيات التي ستظل حية طالما تذكرها الجمهور وأعاد مشاهدتها، وأحببنا هذه الأيام لنفس الأسباب.

مات الرجل على كل حال، عليه الرحمة، ونحن لنا الحق بشكل مكتمل في تأويل نصوصه كما نشاء، نصوصه حية ونحن المؤلفين. وما دامت نصوصًا عامرة بكل ما هو إنساني وجميل، سنظل نحبها. سنظل نتذكر أبطال نشبههم ويتحدثون بصوتنا، خصوصًا بعد أن اختفى كل من نشبههم من على الشاشة، وتم كتم صوتنا تحت تهديد السلاح.

 

موقع "إضاءات" في

03.01.2021

 
 
 
 
 

رحيل وحيد حامد... مراوغ الرُقباء

المؤلف المصري تُوفي بعد شهر من احتفاء استثنائي في «القاهرة السينمائي»

القاهرة: انتصار دردير

ودعت مصر أمس الكاتب والسيناريست الكبير وحيد حامد في جنازة مهيبة حضرها عدد كبير من نجوم الفن، رغم تزايد إصابات «كورونا» في مصر خلال الآونة الأخيرة، وتُوفي حامد بعد ساعات قليلة من دخوله غرفة العناية المركزة، بأحد المستشفيات إثر تعرضه لأزمة صحية، ومتاعب بالرئة، وضعف بعضلة القلب.

وضجّت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر أمس، برثاء الكاتب الكبير، الذي وصفه عدد كبير من الفنانين والإعلاميين والمتابعين بأنه «أسطورة الدراما والسينما المصرية والعربية».

حامد الذي يعد أحد أبرز مؤلفي السينما والدراما المصرية خلال الـ50 سنة الأخيرة، رحل عن عمر ناهز 77 عاماً، بعد حياة حافلة بالأعمال الفنية المهمة في السينما والمسلسلات التلفزيونية، محققاً نجومية نادرة بأعمال بارزة، انشغل خلالها بالبحث عن تحقيق العدالة، وإنصاف المظلومين، بعدما نجح في مراوغة الأجهزة الرقابية، لمعرفته الجيدة بقوانين الرقابة، وبتحايله على الرقباء بطرق مبتكرة وطريفة، على حد تعبيره، في ندوة تكريمه بالدورة الأخيرة بمهرجان القاهرة السينمائي، وتصدى حامد بقوة لقضايا الإرهاب والتطرف الديني والفساد السياسي والاجتماعي عبر أفلام لعب بطولتها كبار نجوم السينما، وفي مقدمتهم عادل إمام ويسرا ونبيلة عبيد وأحمد زكي ونور الشريف ومحمود عبد العزيز وليلى علوي وإلهام شاهين، ومنى زكي، وكان من أبرز أفلامه «الإرهاب والكباب، المنسي، طيور الظلام، اللعب مع الكبار، معالي الوزير، اضحك الصورة تطلع حلوة، احكي يا شهرزاد» وغيرها، كما تعامل مع كبار وشباب المخرجين على غرار عاطف الطيب، وشريف عرفة، ومحمد ياسين.

وخلال ظهوره الأخير بالدورة الـ42 لمهرجان القاهرة السينمائي منذ شهر، بدا حامد المولود في عام 1944 بمحافظة الشرقية (دلتا مصر)، وكأنه يودع زملاءه وأصدقاءه وتلاميذه ومحبيه من الجمهور العادي الذي تهافت على ندوة تكريمه لسماع «الأستاذ»، فكان صوته واهناً، وظهر مستنداً إلى عكاز، وهو يقول «تذكروا أفلامي التي ربما تكون قد أسعدتكم»، مما فجر الدموع في عيون الحضور، ومن بينهم الفنانات يسرا وإلهام شاهين وليلى علوي، وقد أحاطه الجميع بحب واحتفاء لافت، مما جعله يقول «لقد منحتموني اليوم طاقة كبيرة على الاستمرار».

لكنه رحل عن عالمنا بعد شهر واحد من منحه جائزة الهرم الذهبي تقديراً لمشواره السينمائي الحافل.

وعبرت الناقدة المصرية، خيرية البشلاوي عن حزنها لرحيل حامد بعد أيام قليلة من وفاة المخرج والممثل السوري حاتم علي، وقالت في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «أشعر أن إبداع كل منهما كان مكملاً للآخر، رغم تباعدهما، فقد كان حاتم يقدم أعمالاً ملحمية ويختار مراحل تاريخية لها دلالتها في واقعنا المعاصر، بينما كان حامد ينبش في الواقع بكل ما فيه من حساسية ومطبات ويطرح أزماته بصدق دون أن يضحك على الناس، وكانت لديه رسالة حقيقية وليست مزيفة يريد أن يوصلها للناس واستطاع مخاطبتهم على اختلاف مستوياتهم.

وأكدت البشلاوي أن مقولة «أماكنهم ستظل خاوية» عند رثاء المبدعين، تنطبق تماماً على وحيد حامد: «الزمن أصبح شحيحاً والواقع الفكري بات خاوياً لتقديم كاتب بمثل براعته وقدرته على التعامل مع نبض الناس والإلمام بالواقع ليعيد إنتاجه عبر أعمال فنية تسعد الناس وتجعلهم يتأملون ويفكرون، لذا فهو مشروع ثقافي متكامل ويكفي تصديه للإرهاب في أعمال تلامست مع الجمهور لأنه يعرف كيف يخاطب مختلف الشرائح ويدرك أن لديه رسالة ينبغي أن تصل إليهم وتؤثر فيهم».

وكان حامد قد بدأ مشواره ككاتب في سبعينات القرن الماضي بعد انتقاله من محافظة الشرقية إلى القاهرة، وبدأ بكتابة القصة القصيرة عقب تخرجه في قسم الاجتماع بكلية الآداب حيث أصدر أول مجموعاته القصصية «القمر يقتل عاشقه»، وذهب بها إلى الأديب الراحل يوسف إدريس الذي كان مفتوناً به، وبنجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي، لكن إدريس نصحه بالاتجاه للكتابة الدرامية لقدرته الفائقة على الوصف.

وقال حامد خلال لقائه الأخير بمهرجان القاهرة: «كنت أتمنى تقديم أحد أعمال إدريس للسينما، لكن ابني مروان رد الجميل بتقديم قصته «أكان يمكن أن تضئ النور يا لي لي» في أول أفلامه القصيرة.

وجاءت بدايته من خلال الإذاعة المصرية التي قدم بها عدداً من المسلسلات الناجحة على غرار «طائر الليل الحزين»، «الدنيا على جناح يمامة»، «كل هذا الحب»، والتي تم تحويل أغلبها إلى أفلام سينمائية فيما بعد. وكتب حامد 40 فيلماً سينمائياً أثار بعضها جدلاً كبيراً لتصديه لقضايا الفساد والإرهاب، و«تعرية» مشاكل المجتمع بجرأة، مما عرض الكثير منها لمشاكل رقابية ومن بينها أفلام «الإرهاب والكباب، طيور الظلام، اللعب مع الكبار، الغول، كشف المستور، الراقصة والسياسي، عمارة يعقوبيان»، لكن حامد خرج من كل تلك الأزمات منتصراً بحسب وصفه، وكشف أنه كان يتحايل على الرقابة بكتابته في السيناريو (مشهد لا أهمية له في الفيلم)، ويدرك أن الرقابة ستتوقف عنده طويلاً، فينشغلوا به، بينما تمر المشاهد الأصعب».

واتسمت قضايا أفلامه بجرأة كبيرة وتميزت بجمل الحوار التي صارت تترد ببساطة على لسان الجمهور، مفجرة قضايا مجتمعية مهمة بحسب نقاد، وقال حامد خلال لقائه الأخير بمهرجان القاهرة: «الكتابة بالنسبة لي شيء مقدس ولم أفتعل جملة حوار واحدة، بل كنت أخذ من الناس لأعبر عنهم فلم أتدن لجمل سوقية ولم أفتعل الإضحاك في أعمالي الكوميدية، وكلما شعرت بتقدم العمر كنت أخشي الجمود وأتجه للتعامل مع مخرجين شبان لأجدد فكري».

وتلفزيونياً، كتب وحيد حامد عدداً من المسلسلات الناجحة من بينها: «أحلام الفتى الطائر» لعادل إمام، «البشاير» لمحمود عبد العزيز، «العائلة» لمحمود مرسي وليلى علوي، الذي تصدي من خلاله لقضية الإرهاب، و«أوان الورد» للفنانة يسرا، والذي تعرض فيه لمشكلة الفتنة الطائفية، و«الجماعة» الذي تناول فيه نشأة جماعة الإخوان المسلمين في مصر واتجاهها للعمل السياسي، وتعرض بسببهما لهجوم شديد من أنصار الجماعة، ومن أحزاب وشخصيات تنتمي للحقبة الناصرية أيضاً، وكان حامد قد تعاقد مع «الشركة المتحدة»، لكتابة الجزء الثالث من المسلسل لكن تسببت جائحة «كورونا» في تعطله عن الكتابة، بعدما أبعدته عن مكان كتابته المفضل بأحد الفنادق المطلة على النيل، قائلاً في حواره الأخير مع «الشرق الأوسط» منتصف العام الماضي: «لم أعتد العمل في البيت ولا أستطيع الكتابة في غرفة مغلقة، بل اعتدت أن أصافح الناس في مكان تدب به حركة الحياة، وأمامي نهر النيل باتساعه، لذا فقد تعطل عقلي عن العمل بسبب هذه العزلة».

ونعت د. إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة المصرية، الكاتب والسيناريست الكبير قائلة: «إن الراحل كان خير سند للمبدعين والمثقفين والفنانين وصاحب مواقف تكتب بحروف من نور في تاريخ الوطن، وأنه نجح في إبداع أعمال خالدة عبرت عن أحلام المجتمع ولامست طموحات جيل كامل، وستبقى شخصياته خالدة في تاريخ السينما المصرية والعربية».

كما نعاه عدد كبير من الفنانين على مواقع التواصل الاجتماعي، وكتبت الفنانة التونسية هند صبري: «رحل أهم مؤلفي السينما العربية خلال خمسين عاماً، عبرت أعماله عن كل قضايا الإنسان العربي، إنه أحد الذين جعلونا نحب السينما وتشرفت بالعمل معه في فيلم «عمارة يعقوبيان»، وذكرت الفنانة درة أن وحيد حامد كان ممن ساندوها في بدايتها واختارها لتجسد شخصية «أنيسة» في فيلم «الأولة في الغرام».

 

الشرق الأوسط في

02.01.2021

 
 
 
 
 

انتهى المشوار.. هرمٌ ذهبي لنصف قرن من وحيد حامد

بقلم حسام الخولي

فقدنا اليوم أحد أهم كاتبي السيناريو في الوطن العربي، أستاذنا الراحل وحيد حامد، هنا نعيد نشر ما كتبناه قبل أسابيع قليلة أثناء تكريمه وحصوله على جائزة الهرم الذهبي التقديرية من مهرجان القاهرة السينمائي.

عصا صغيرة يتوكأ عليها. جسدٌ ممتلئ قليلًا، وخطى ثقيلة ثابتة. ملامح طفولية ربما هي ذاتها التي ظهر بها منذ أوائل السبعينيات. دخل إلى مسرح الأوبرا أمس ليتسلم جائزة إبداعية: جائزة الهرم الذهبي التقديرية عن مجمل أعماله في افتتاح الدورة 42 لأكبر وأهم مهرجان سينمائي مصريمهرجان القاهرة. قدمها له صديق مشواره المخرج شريف عرفة. دقائق من التصفيق الحاد، وقف الخلق ينظرون كيف صنع قواعد المجد وحده، لم يتحدث عن ذاته أو معاناته ولا عن الطريق الوعرة التي أحاطت رحلته أينما ذهب. لكنه اختار أن يقرأ من ورقه صغيرة أسماء لأناس ساعدوه في هذا المشوار ليشكرهم. وردد الجمهور: شكرًا وحيد حامد شكرًا وحيد حامد.

بصوته المليء بشجن مشواره الطويل، قال: “بشكر كل اللي اتعلمت منهم، وعلموني، وكان من الصعب إني أقف في المكان ده لولا حبكم ودعمكم وحبكم للسينما. بشكر كل الفرسان اللي وقفوا جنبي في مشواري الطويل في مجال التمثيل والنقد. أنا حبيت أيامي علشان اشتغلت مع الكبار”.

يسرا التي كانت في الصفوف الأولى، لم يخف على أحد دموعها المتوقعة نوعًا ما في لحظة كهذه. إلى جانبها إلهام شاهين ولبلبة وغيرهم من نجمات ونجوم حفرت كلمات وحيد حامد مشوارهم الفني من بداياته الأولى حتى آخر أعماله السينمائية في فيلمإحكي يا شهرزاد، الذي كرمت بطلته منى زكي كذلك عن مشوارها في الدورة ذاتها.

في دار الأوبرا المصرية التي تجمّع فيها بالأمس عدد غير قليل من نجوم وصناع السينما المصرية والإقليمية والعالمية، وفي أكثر من موضع وسياق كان يمكنك أن تسمع همس أحدهم عن “الأستاذ” و”تاريخ السينما”. كان متوقعًا أن تجد أسماء أفلامه تتناقلها الألسن فيما بينها لتصفه بـ”كاشف طيور الظلام”. هو البريء الأول، ومعالي الوزير، والطائر على جناح يمامة، والغول. وهو من لعب مع الكبار، وكان آخر الرجال المحترمين.

ثمة شيء ملفت للنظر في مشوار وحيد حامد كسيناريست، يشبه فيه السيناريست الأول والكاتب المصري العالمي نجيب محفوظ؛ كلاهما درسا الفلسفة. كان الأخير أستاذًا في الجامعة بكلية الآداب قسم الفلسفة، حين كان وحيد حامد لا يزال طالبًا.

يروي حامد أنه في إحدى المرات حكى لهم نجيب محفوظ الذي كان يسأل كل واحد منهم عن سبب اختياره قسم الفلسفة: “أنا لو كنت أعرف إني هطلع أديب مكنتش درست تاريخ”، أنه ليس من الضروري أبدًا دراسة الأدب لتصبح أديبًا، بينما على الإنسان دراسة كل ما تقع عينه عليه لما يساعده ذلك في تكوين وجهة نظر تجاه العالم. كلاهما، حامد ومحفوظ، بدءا من منطقة بعيدة عن الأدب، ثم انتقلا إليه بعد ذلك بصور مختلفة.

بدأ وحيد حامد مشواره بالقصة القصيرة ثم المسرح

وكلاهما، لم ينسا الكتابة المسرحية والارتكاز على المسرح كفن لا يمكن لدارس سينما حقيقي تجاهله. كلاهما كتب في النقد أيضًا. وفي الصحافة بلغة لاذعة. كلاهما صعدا رويدًا رويدًا، ثم توحشا في السينما، ليصح اسم كل منهما دليل عليها، كما أنه دليل عليهما. كلاهما وضع لنفسه نظامًا صارمًا للكتابةوحيد حامد سيعرف بجلسته الكتابية المعتادة في إحدى الفنادق المطلة على النيل.

بدايات مشوار وحيد حامد الذي لن ينتهي

في عام 1944 ولد وحيد حامد في مركز منيا القمح بمحافظة الشرقية. لاحقًا سيكوّن أسرة فنية بامتياز، شاركته خلالها السيدة زينب سويدان رئيس التلفزيون المصري سابقًا، وسينجبا أحد أبرز صناع السينما، المخرج مروان حامد الذي سيخرج أول فيلم له من كتابة والده: عمارة يعقوبيان. لم يكن مروان الوحيد الذي وقف وحيد حامد إلى جواره في بدايات مشواره الإخراجي، كذلك فعل مع شرف البنداري وتامر محسن وغيرهما.

أيضًا كان تعاون وحيد حامد مع الشباب فرصة لتجديد دمه السينمائي. وربما بدأ هذا التعاون على إثر إنشاء جماعة فنية ثقافية مع ممدوح الليثي ووائل الإبراشي وعمرو خفاجة وعادل إمام وأحمد زكي وعادل حمودة وغيرهم الكثير. سميت هذه المجموعة أحيانًا، بسخرية، “جماعة الشر”. كانوا يجتمعون كل يوم جمعة للنقاش في الفن والحياة.

بدأ الكتابة بالقصة القصيرة، ثم ألف مسرحيات مثل “آه يا بلد” التي لا تزال تحصد الجوائز مع كل عرض لها. أما أولى محاولاته الإذاعية، فكانت من خلال برنامج “46/120″، ومنه قدم مسلسلات للإذاعة، مثل مسلسل طائر الليل الحزين عام 1976 الذي نجح بشكل لافت للنظر.

أولى تجارب وحيد حامد السينمائية كانت فيلم طائر الليل الحزين

بعد النجاح الكبير للمسلسل الإذاعي، وكعادة ما كان يحدث آنذاك، كان الاهتمام مركزًا على ما نجح في الإذاعة وتحويله للعرض التلفزيوني أو السينمائي، خوفًا من المجازفة بتقديم فكرة جديدة تلفزيونيًا أو سينمائيًا.

عندما قيل لوحيد حامد إن مسلسله الإذاعي سيعمل عليه كتاب سيناريو مصور لتحويله إلى مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي؛ رفض، طالبًا أن يقوم هو بنفسه بكتابة السيناريو المصور رغم أنه لم يفعلها من قبل. وافق الإنتاج مجبرًا على ما يبدو.

هكذا كانت التجربة السينمائية الأولى لوحيد حامد محل إشادة، خاصة من المخرج يحيى العلمي. وبه زادت موهبة نجم سيصبح من علامات السينما والتلفزيون في مصر بعد ذلك، وهو محمود عبدالعزيز. كما سيؤكد وجوده مع عادل إمام بعد عملهما الأول سويًا: أحلام الفتى الطائر، المسلسل الذي استطاع منافسة مباريات كرة القدم.

يتوغل أكثر فأكثر

رسّخ حامد تواجده مع الكبار. أخذ وقته ووضع مجهوده ليحدث ذلك، وقد كان. حافظ بمجهود كبير يعلمه أي كاتب، على تواجده باستمرار وتعدد الأعمال، وبين القيمة الفنية التي تحملها الكتابة وأفكارها. وربما سنجد عدد قليل جدًا استطاع مجاراة هذا العمل الشاق. هكذا بات من غير الممكن الحديث عن تاريخ السينما المصرية دون ذكر عدد غير قليل من أعمال وحيد حامد.

ربما تجدر الإشارة هنا إلى ما كتبه المخرج الشاب إياد صالح حول مسلسل الجماعة من تأليف وحيد حامد، حين قال إنه من الأعمال التلفزيونية التي استطاعت

خلال نقاش سريع مع عدد من النقاد وصناع الأعمال الدرامية، كان لافتًا حديث المخرج الشاب إياد صالح حول مسلسل الجماعة من تأليف وحيد حامد.

في مناقشة سريعة مع عدد من النقاد حول تلك الأعمال وقراءة عدد من الكتابة التي تناولت السينما والتلفزيون مؤخرًا ملاحظة لافتة تمامًا قالها المخرج الشاب إياد صالح حول أن مسلسل الجماعة الذي كتبه وحيد حامد كان من أحد الأعمال التي ظهرت مؤخرًا وحولت وجهة جمهور الشباب المصر والعربي تجاه السينما ربما لأنها لم تعد تعتمد على النظام القديم الذي تجاوزه الزمن مع إتاحة الفرجة على الصناعة التلفزيونية في هوليود ونتفليكس وغيرها، هذا التفاني الذي وضعه وحيد حامد للسينما يظهر ربما في كل مرة كأنه المرة الأولى.

الفيلسوفة حنة آرندت في كتابتها إلى زوجها هانيرش بلوش كتبت: “أستطيع أن أعيش فقط في الحب. ولذلك كنت خائفة جدًّا من أن أضيع ببساطة، فجعلت نفسي مستقلة”. وربما تكون نفسها الكلمات التي يمكنها التعبير عن وحيد حامد ككاتب لا يمكنه عمل سوى ما يحب بما صنع تجربته الفريدة التي تخللتها المحاولة الدائمة بلا ملل.

كانت الجائزة التي حصل عليها حامد في مهرجان القاهرة السينمائي، أمس الأربعاء، مستحقة لمشوار زادت أعماله عن الـ80. ننضم إلى منظمي المهرجان بشكرًا وحيد حامد.

 

####

 

حجاب الشيخ وحيد حامد.. الوصايا الأخيرة لكاتب عظيم

بقلم جيهان الغرباوي

هل تحزن الدنيا على فقد بعض الناس أكثر من غيرهم ؟

أم أن حال الدنيا لا يجعلها تتوقف عند أحد ؟!

يبدأ العام بوفاة كاتب عظيم، عاش يحب الناس ويطالب بالعدالة ويناصر المستضفين، ويسأل عن حرية العقل وحرية الاختيار وجودة الحياة التى يستحقها المصريون، وفي في اليوم نفسه تضج الشوارع بالناس العادية الذين دافع عنهم وحيد حامد في كل أعماله، ويستمر في الأسواق البيع والشراء، و لا الساعة تقف و لا قواعد اللعبة تتغير.

رغم ذلك، نستطيع أن نقول بقلب واثق مطمئن ( اللى كتب ما متش) فحتى بعد الرحيل،  يمكث في الأرض بذور ( تنفع الناس ) غرسها وحيد حامد بيديه للضمير و الحب والإنسانية، والحلم بأيام أفضل من تلك الأيام.

الغداء الأخير

بعد أيام معدودة من تكريمه في مهرجان القاهرة السنيمائى الأخير، اتصل بى الأستاذ وحيد حامد وطلب منى الحضور غدا ضرورى، لاجتماع يوم السبت الأسبوعى الذى كنا نسميه (اجتماع الشر) في فندق كبير على النيل في جاردن سيتى، مكان تواجده الثابت والدائم و المفضل.

وكنت بطبيعتى أفوت بعض هذه الاجتماعات المهمة، التى يحب فيها الأستاذ ان يقابل عددا من أصحابه: صحفيين وكتاب وفنانين ومخرجين وإعلاميين معروفين أو باحثين شباب متخصصين في الأدب أوالتاريخ وشؤون الإرهاب والإخوان المسلمين.

في بعض المرات تغيبت عن تلك اللقاءات الأسبوعية الشيقة التى يفضفض فيها الأستاذ بخبرة السنين التى عاين وعايش فيها  السنيما والكتابة والناس الحلوة والأشرار الكبار.

وكان في نفس الاجتماعات الأسبوعية يعلق برأيه على المستجدات والأحداث في مصر والعالم وهو على يقين طبعا أنها جلسة أصدقاء مغلقة وما يقال فيها ليس للنشر او الاستغلال الصحفى.

ولما كانت تلك الجلسات جميلة وفكاهية ودافئة وغالية القيمة، يبدو أن الأستاذ تعجب من استهتارى وغيابى فأرسل لى على التليفون يسأل:  أين أنت؟

قلت له بسذاجة مفرطة اننى اعتذر عن الحضور هذه الفترة لأنى مشغولة بكورسات تعلم الأنجليزية في المعهد الثقافى البريطانى، فرد عليا ساخرا برسالة لا أنساها فيها صورة  (محمد رمضان ) يركب طائرته الخاصة، وصورة أخرى لصف طويل من الشباب يجلس على القهوة ويدخن الشيشة بملابس مناقشة الدكتوراه حيث إنهم لا يجدون عملا !

وكانت رسالة مضحكة جدا وبليغة وفي مستوى السحر والتأثير الذى تعود وحيد حامد أن يخاطبنا به معتمدا على السنيما والدراما وتوظيف الصورة والإسقاط على الواقع.

من يومها لم أتغيب لأى سبب أو حجة عن جلسات المعلم الكبير.

في اجتماعنا الأخير ، يوم السبت ظهرا في نفس المكان، قبل حوالى أسبوعين من وفاته، بدا وحيد حامد بوجه ساهم غير مألوف، كما لو كان يدارى في عنينيه هما كبيرا ، ويغطى على الألم والانشغال والحزن بإجراءات الترتيب لحفل صغير أعده لأصدقائه وأحبته المقربين، تحت عنوان الاحتفال بتكريمه في مهرجان القاهرة السنيمائى الأخير.

لكنى – يعلم الله –  كنت أحس كلما نظرت لقسمات وجهه يومها أنه حفل وداع أخير للأحبة!

حضر الحفل الفنانة يسرا التى كانت تشاركنا أحيانا الحضور في هذه الاجتماعات الصباحية وتضيف إليها مزيدا من البهجة، وكان الأستاذ وحيد يقول دائما عنها إنها أخته الصغرى، وحضر صديقه المقرب الصحفى عاصم حنفى الذى كان عادة لا يكف عن إضحاك وحيد حامد بطريقته الكوميدية في سرد آخر الأخبار والحكايات وكان الأستاذ وحيد يكن له معزة خاصة.

أما الطبيب الصيدلى الشاب هشام قابيل الذى كان يتابع أدوية علاج الأستاذ وحيد حامد، منذ سنوات وكان من المقربين لقلبه رغم صغر سنه، فقد حضر اللقاء أيضا، وجلس هادئا مبتسما  بين المدعويين الأكثر شهرة في مصر ، وهم مجموعة منتقاه من الكتاب والصحفيين والفنانين ، دعاهم وحيد حامد للقائه، في يوم كان الأخير، من الأيام التى يخرج فيها إلى مقعده المميز على النيل ومكانه المفضل لمقابلة الأصدقاء أو كتابة الأفلام  والمسلسلات، على مدى سنوات عمره الطويلة !

صورة ونصيحة وتعويذة

بقيت من هذا اليوم الأخير صورة جميلة للذكرى

وبقى في محفظتى الخاصة ورقة صغيرة وضعتها في غلاف من البلاستيك الشفاف ليحميها واسميتها ( حجاب الشيخ وحيد حامد ) من يوم كتبها لى بخط يده وطلب منى أن أحتفظ بها للأبد

مكتوب على وجه الورقة بقلمه:

تعلمى الصبر وطولة البال

مساحة حب واسعة

ثقافة عالية

تلك هى الشروط المطلوبة لتصبحى كاتبة سيناريو ممتازة

وعلى ظهر نفس الورقة الصغيرة رسم وحيد حامد شكل توضيحى وكأنه خريطة او تعويذة للنجاح

فرسم جبل وخطا صاعدا للقمة

ويومها قال لى بحنو الأب والمعلم الكبير

لا تنظرى للجبل حتى لا تتهيبى الصعود أو تجدين الأمر صعبا، فقط ابدأى واصعدى وستصلين.

مثل بطاقتى الشخصية لا يزال الحجاب معى أينما اذهب

ومثل طعم الحلوى وتورتة الشيكولاتة الفاخرة التى دعانا إليها في اليوم الأخير بقيت حلاوة الابتسامة وطعم الكلمات وصدق إحساس الأب المسؤول أمامى وفي قلبى

رحم الله وحيد حامد

وكان الله في عون عشاقه وفي عون مصر.

 

####

 

طقوس وحيد حامد.. الفلاح البسيط الذي لا يكتب إلا تحت سماء مفتوحة

بقلم أحمد صلاح

وحيد حامد، الغول، معالي الوزير، آخر الرجال المحترمين، الكثير من الأعمال الرائعة التي قدمها أحد أهرامات مصر في تاريخها الفني، والذي قدم على مدار 5 عقود العديد من الأعمال التي خلدت لحظات تاريخية في حياة الوطن.

لم يكنوحيد حامد “75 عامًا” واحدا من الكتاب الذين مروا مرور الكرام على الحياة الفنية، إذ ترك الراحل الذي توفي اليوم بعد تدهور حالته الصحية في أحد مستشفيات القاهرة، بصماته الفنية من خلال أعمال أكدت أهميته داخل الأوساط الفنية ونزعته نحو التغيير عبر السينما.

البسيط الذي عرف الناس وكتب عنهم

من القرية بدأ وحيد حامد، هناك تعرف على الحياة في صورتها الأولى، عرف البساطة والتواضع عن قرب، تعرف على طبيعة الإنسان المصري مما سهل عليه أن يكتب عنه وإليه.

يقول حامد عن تلك المرحلة: “عندما حضرت للقاهرة عشت الأحياء الشعبية، حيث كنت أسكن بالسيدة زينب، فقد عشت المجتمع كله، لحد ما ربنا أكرمني وتعرفت على المجتمع الأعلى كنت زائر ليهم ثم أصبحت منهم “طبقة الفنادق”.

على الرغم من وصولحامد إلى الطبقات العليا في المجتمع إلا أن تواصله المستمر مع الشارع جعله مفتونا بتفاصيل الحياة اليومية للمواطن المصري البسيط، قائلا: “صلتي لم تنقطع على الإطلاق بالشارع المصري، وبحب أنزل اشتري حاجتي بنفسي، وبحب التسوق، والاختلاط بالناس وكل الناس صحابي من أول بتاع الجرايد والخضري والسوبر ماركت ومعايا تليفوناتهم أو العكس”.

يقول السيناريست الراحل وحيد حامد عن ملكة الكتابة وكيف منحته حيوات غير التي عاشها، الخوض في غمار تفاصيل أبطاله وصناعة الرؤية الفنية لعمل يخلد في التاريخ أمرا جلل لا يمكن نكرانه.

يقول حامد: “منحتنى الكتابة أكثر بكثير مما سعيت له.. وأنا حتى هذه اللحظة لا أعتبر نفسى كاتباً محترفاً، وأكتب بروح الهاوى، فأنا فى حياتى كلها لم أستكتب نفسى، ولم أفرض عليها يوماً الإمساك بالورقة والقلم وكتابة أى موضوع، فقط أترك نفسى حتى تصلنى الفكرة المناسبة وبعدها أبدأ فى اختيار القالب المناسب لها، واتبعت هذا الأسلوب فى كل ما كتبت، سواء فى السينما أو الدراما التليفزيونية والإذاعية أو حتى فى كتابة المقال الصحفى، وإذا شعرت أننى لا أرغب فى الكتابة أتوقف فوراً ولا أضع نفسى تحت أى ضغوط للاستمرار بها، فالكتابة بالنسبة لى متعة، وأحب أن أرى نفسى عاشقاً ومخلصاً لها”.

طقوس مختلفة.. عالم وحيد حامد

تختلف طقوس الكتابة من كاتب لآخر، فهناك من يكتب في الليل فقط، وآخر يكتب أثناء السير حافيا، وليس غريبا أن نقول أن أحد أكثر الكتاب شهرة في العالم العربي صاحب جائزة نوبل، كنت طقوسه اليومية لا تتغير إذ وضع روتين يومي قاس لنفسه لا يمكن تجاوزه.

الأمر ذاته لوحيد حامد، يمتلك طقوسه الخاصة في الكتابة لا يمكن تجاوزها، وعن ذلك يقول: “لم أعتد على الإطلاق الكتابة فى المنزل، رغم أننى أملك غرفة مكتب فى منزلى لكنى لا أستطيع الكتابة فيها أبداً، ربما بحكم نشأتى كفلاح تربيت على الجلوس فى الحقول حيث الاتساع والبراح، ولذلك لا أميل للكتابة فى أى مكان مغلق، أحب أن أرى أمامى سماء وأفقاً مفتوحًا”.

ويستكمل حامد خلال حوار سابق أجراه لصحيفة الوطن المصرية: “بدأت الكتابة فى وسط البلد بكازينو «إكسليسيور» بجوار سينما ميامى، وكذلك كافيتريا «حورس» فى شارع 26 يوليو، ثم انتقلت إلى فندق سميراميس القديم الذى تم هدمه، ثم النيل هيلتون، وحين كنت أخرج بعيداً عن القاهرة كنت أذهب للإسكندرية على البحر بفندق «سان جيوفانى»، وكنت أجد ترحيباً كبيراً من السيد وسيم محيى الدين.

كما كان يسافر فى بعض الأحيان خارج مصر ويفصل الكتاب فى المقاهى بالأماكن المفتوحة أيضاً، مثل مقهى على البحر فى «نيس» بفرنسا، أو غيرها، فالمهم هو توافر مكان وأفق متسع.

الأهم فى ما يتعلق بالكتابة لدىّ أننى لا أكتب إلا فى النهار، وإذا جاءتنى فكرة فى المساء أظل محتفظاً بها حتى نهار اليوم التالى، فإذا استيقظت ووجدتها لا تزال عالقة بذهنى أكتبها، وإذا نسيتها أو تجاوزتها أعرف أنها لم تكن فكرة حقيقية”.

كل من اقترب من وحيد حامد والتقاه في حياته، يعرف مدى ارتباطه بأحد الفنادق التي قضى فيها سنواته الأخيرة، يرتشف القهوة ويكتب ما يجول في خاطره من كلمات: “بدأت علاقتى بهذا المكان عام 1974، حين افتتحه رئيس الوزراء عبدالعزيز حجازى، وجئت مثل كثير من الشباب فى ذلك الوقت لنستكشف هذا المكان الجديد الذى سمى «الميريديان» وقتها، وارتبطت به بسبب المنظر الساحر للنيل، وظللت أواظب على الحضور بشكل يومى من العاشرة صباحاً وحتى الساعة الثالثة تقريباً، وحدثت حالة من الألفة بينى وبين المكان والبشر، وصار العاملون جميعهم أصدقائى، وكل سيناريوهاتى تقريباً كُتبت فى هذا المكان، كما توافد على المكان للجلوس معى معظم نجوم مصر ومشاهيرها، ومنهم محمود مرسى، وعادل إمام وأحمد زكى”.

ترك وحيد حامد بوفاته جرحا غائرا في جلباب صناع السينما والدراما المصرية، ليطرح تساؤل حول من يمكن أن يخلف حامد ليتحدث عن أوجاع المصريين.

 

القاهرة 360 في

02.01.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004