ملفات خاصة

 
 

حاتم علي..

ناقل سحر السينما إلى التليفزيون

بقلم: أسامة عبد الفتاح

عن رحيل عراب الدراما

حاتم علي

   
 
 
 
 
 
 

** يمكن اعتبار نجاح مسلسل "الملك فاروق" نقطة تحول بمسيرة دراما الشاشة الصغيرة في مصر

لم يكن حاتم علي (1962 – 2020) مجرد صانع لمسلسلات "الفيديو"، بل كان – على النقيض – أحد الذين ساهموا في اختفاء هذه التسمية بعد تراجع الفوارق البصرية والتقنية بين مسلسلات التليفزيون والأفلام السينمائية، ونهاية عصر وصيغة وصورة الفيديو التي سادت منذ اختراع التليفزيون وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين.

يتجاوز أثر وتأثير "علي" في الفن العربي حدود المخرج والممثل والمؤلف إلى الدور الأهم: نقل سحر الشاشة الكبيرة، بصريا ودراميا، إلى الشاشة الصغيرة، مشتركا – بل وقائدا – لثورة حقيقية على الدراما التليفزيونية التقليدية بصورتها النمطية، ليس فقط على المستوى التقني، ولكن أيضا على مستوى الصيغ الإنتاجية والتسويقية.

وتضافرت أسباب وعوامل كثيرة لقيام ثم نجاح تلك الثورة التي ظهرت بشائرها منذ سنوات، وتحديدا بعد تفاقم الأزمة المالية العالمية، التي ضربت العالم ومنه منطقتنا عام 2008، وامتد تأثيرها إلى صناعة السينما، مما اضطر صناعها، من مخرجين وممثلين وكتاب ومديري تصوير ومونتيرين - إلى آخره - للاتجاه إلى العمل في مجال الفيديو، وأحدث ذلك نقلة فنية نوعية في المسلسلات جعلتها تقترب في المستوى التقني من الأفلام، سواء في الكتابة الرشيقة أو تكنيك الإخراج والتمثيل والمونتاج والتصوير بشقيه: الإضاءة والألوان.

وكان النجاح الفني والجماهيري للعديد من المسلسلات، ومنها الكثير من أعمال حاتم علي، أقوىانعكاس لتلك النقلة الفنية التي ساعد على وجودها أيضا ظهور أجيال جديدة من كاميرات الديجيتال، ومن المعدات الأخرى، خاصة فلاتر التصوير وأجهزة الصوت والتلوين.. كما كانت نفس المسلسلات أكبر دليل على نهاية عصر النجم الأوحد، حيث اعتمدت على البطولة الجماعية وإبداعات الشباب، مع اشتراك عدد كبير من النجوم والممثلين الكبار بأدوار صغيرة.

ومن خلال تلك الثورة، نجح شباب الفنانين في إسقاط نجوم الملايين، وتغيير خريطة الفيديو المصرية بشكل خاص والعربية بشكل عام، وإعادة توزيع موازين القوى وحسابات المال فيها، بالإضافة لهز عرش الموسم الرمضاني الشهير، لينتهي احتكاره للأعمال الجديدة، ولتشهد شهور العام الأخرى عرض الكثير منها.. كما انتهى إلى غير رجعة عصر مسلسلات النجم الواحد التي ظلت – لسنوات طويلة – تُوزع على عدد محدد وثابت من النجوم فيما عدا استثناءات قليلة جدا، بدعوى أن هؤلاء النجوم هم الذين يجلبون الإعلانات.

وربما لم يشعر الجمهور المصري بتفوق حاتم علي، وقيمته الحقيقية، إلا مع عرض مسلسل "الملك فاروق" عام 2007، رغم أنه كان قد بدأ مسيرة التألق قبل ذلك، في العديد من الأعمال، مثل"التغريبة الفلسطينية" و"ملوك الطوائف" و"على طول الأيام" في ثلاثة أعوام متتالية، من 2004 إلى 2006.

ويمكن اعتبار نجاح مسلسل "الملك فاروق" نقطة تحول بمسيرة الدراما التليفزيونية في مصر تحديدا، بمعنى أن هناك "ما قبله" و"ما بعده".. قبله كان معظم المخرجين، وأكرر أنني أقصد هنا الحالة المصرية، يكتفون بتصوير الحوار المكتوب – معتمدين على اللقطات المقربة للوجوه وأماكن التصوير الداخلية الضيقة – دون أي محاولة للتعميق وإضفاء رؤية شخصية للأحداث، ودون إبراز الفترة الزمنية التي تدور فيها تلك الأحداث إذا كان العمل تاريخيا.. أي كانوا باختصار يصنعون أعمالا أشبه بالجداريات التي قد تكون جميلة لكنها بلا عمق.

أما "بعده"، فأصبح التعبير عن الفترات الزمنية أقوى وأوضح، والتصوير خارج الغرف الضيقة – حتى وإن كان في ديكورات مبنية – أكثر، واللقطات المقربة أقل، و"الرغي" بدوره أقل، مع ترك مساحات أوسع للموسيقى والتأمل والصمت.. وأصبحت هناك استفادة أعظم من التقنيات الجديدة في الإضاءة والتصوير، وعلى رأسها كاميرات الديجيتال المتطورة، مما جعل النتيجة أقرب إلى الصورة السينمائية بكل غناها وعمقها وثرائها البصري والدرامي.

ومن تكنيك السينما أيضا، صار المخرجون يستخدمون كاميرا واحدة في تصوير المسلسلات، مما منحهم قدرة السيطرة على التكوينات وعمل تكوينات جميلة من خلال ضبط زوايا الكاميرا، الأمر الذي يحقق الراحة البصرية للمشاهد دون إرهاقه بصريا من خلال الإضاءة، التي أصبح استخدامها – هي والفلاتر والألوان – أنضج، في انتصار للمعايير الموضوعية على منطق "فرح العمدة" الذي كان سائدا من قبل.

وللحق، لم يقم حاتم علي بهذه الثورة وحده، ولم يصنع التحول بمفرده، بل شارك فيهما عدد من أبناء جيله، مثل التونسي الراحل شوقي الماجري – الذي كان يكبره بعام واحد ورحل قبله بعام أيضا – بأعمال مثل "أسمهان" (2008).. وسرعان ما انضم إلى التيار الجديد مخرجون مصريون مثل محمد ياسين في "الجماعة" (2010) وجمال عبد الحميد في "الشوارع الخلفية" (2011).

لا أبالغ إذا قلت إن حاتم علي أحد الذين غيروا شكل الدراما التليفزيونية العربية، ولا أقصد هنا الصورة فقط، بل أيضا التأثير والعمق، وتجاوز القيمة حدود تسلية ربات البيوت إلى آفاق الأعمال الفنية التي تبقى.

 

جريدة القاهرة في

05.01.2021

 
 
 
 
 

لماذا كل هذا الرثاء والضجه لحاتم علي؟

Heba Abd Alkader Alkull

كلام جميل : وسؤال واضح .....لكم الاجابة

#نادين_سلامة، التي قامت بمشاهد القبلة في مسلسل شوارع شيكاغو، والتي يبحث عنها المراهقون ليثيروا جانبهم الحيواني، هي ذاتها نادين سلامة التي حركت فينا أرقى أنواع المشاعر وأبكتنا تعاطفا وتأثرا، في دور "خضرة" في #التغريبة_الفلسطينية.

حاتم علي، مخرج التغريبة، أخرج من نادين سلامة أفضل ما عندها كممثلة، وجعلها تقوم بعمل تفخر فيه أمام أبنائها.

محمد عبد العزيز مخرج شارع شيكاغو، أجبرها بطريقة لا إنسانية، على القيام بمشاهد تُشعرها بالعار، حتى أنها خرجت في إحدى المقابلات تتحدث بمرارة وألم عن هذه التجربة، التي تمت مساومتها فيها على لقمة عيشها، والتي تتمنى لو تستطيع محوها من ذاكرتها وذاكرة عائلتها وذاكرة الناس!

#تيم_حسن، الذي تتتابع أمامه ملكات جمال معدلات تجميليا، لا طعم ولا لون لحضورهن، في أعمال تهبط بالفكر العربي إلى قيعان موحلة، هو ذاته تيم حسن الذي كان راوي التغريبة الفلسطينية، في دور "علي الشيخ يونس"، والذي حمل قضية نبيلة، ومثل شخصية إنسانية مركبة وذكية وعميقة.

#باسل_خياط، الموهبة الفذة، الذي هدرت نفسها مرارا في أعمال فارغة مطولة غريبة عن ثقافتنا، قُدم فيها الحب بصورة مشوهة، وطُبّع فيها، هو ذاته باسل خياط في دور "حسن الشيخ يونس" في التغريبة، الذي حمل السلاح في وجه المحتل، وعاش قصة حب بروح شهمة، وفسر للمشاهدين معنى النضال من أجل الأرض والإنسان.

#نسرين_طافش، الصبية في مسلسلات كصبايا وغيرها، والتي تقوم فيها بالاستعراض أكثر مما تقوم بالتمثيل، هي ذاتها "جميلة"، التي كانت في التغريبة عنوانا لقضايا المرأة وآلامها الحقيقية في المجتمع.

والأمثلة لا تنتهي...

إنهم الممثلون ذاتهم في كل مرة، والفرق فقط بين مخرج كحاتم علي يُخرج منهم أفضل ما فيهم، ويجعلهم فخورين بأنفسهم، ويصنع منهم أيقونات إنسانية، تؤثر في ضمائر الناس.. وبين مخرجين تجار، يعبدون المال، ويخاطبون الغرائز، ويحولون الممثلين إلى أراجوزات مصبوغة بالعار، ومسلوبة الإرادة والقضية والكرامة! منقول بتصرف

هل عرفتم لماذا كل هذا الحزن على حاتم علي؟

‏في فرق كبير بين فن هابط وفن ذات رسالة

 

الـ FaceBook في

05.01.2021

 
 
 
 
 

حاتم علي... وقائع المشهد الأخير في شوارع الشام!

وسام كنعان

ليس من باب المصادفة أن يجدد المخرج حاتم علي (1962 ــ 2020) جواز سفره السوري قبل رحيله ببضعة أيّام، ويكون حريصاً وقلقاً كعادته من أن يضيع من الشخص الذي أرسله معه إلى دمشق. كأنّه كان يتحضّر للمشوار المهيب إلى مدينته الأثيرة بعد انقطاع دام عشر سنوات! لكنّه لم يكن يعرف أنّ تذكرة الطائرة هذه المرّة ستكون ذهاباً من دون عودة، ولمرة واحدة وأخيرة. هي المرّة الوحيدة التي لن يحسب لها حساب الطيران، ولن يبحث فيها عن دواء يخلّصه من فوبيا الطائرة، التي لازمته طوال حياته، رغم أنه أمضى وقتاً يسيراً من عمره القصير على متنها. لم يحتج حبّة منوّم هذه المرّة، ولم يشّد على رجل من يجانبه من فرط التوتر عند الإقلاع أو الهبوط. نام بعمق شديد وسكينة، ولعلّ الابتسامة لم تفارق وجهه، وهو يتجه لملاقاة البلاد التي سكنته وغاب عنها من دون قصد سنيناً طوال! حطّت الطائرة ولم ينزل مسرعاً كعادته. ربما انتبه لأنّ الجلبة التي تدور خارجاً ليست عابرة. ما خطب كلّ تلك الجموع التي تتجمهر عند باب المراسم؟ هل عرف الأصدقاء بموعد رحلته، فواكبوه إلى المطار؟ ولماذا سيخرج من باب المراسم وصفّ سيارات طويل ينتظره؟ هل انتبهت سوريا أخيراً لضرورة تكريم مبدعيها، أم أنّه مجرّد تزامن عودته مع ليلة رأس السنة، وهو ما جعل تلك الطقوس تتحضّر على عجل؟ سيطول الانتظار قبل أن يهبط مخرج «أحلام كبيرة» (كتابة أمل حنّا) من باب غير ذاك المخصص للركّاب، وقد تمدّد في صندوق خشبي. عندها فقط ستعرف الجموع التي هرعت لاستقباله أنّه مات! مات حاتم علي كلّه. مثلما قال «الزير سالم» (كتابة ممدوح عدوان) عندما أخبروه برحيل كليب. لكن كيف مات؟ كيف تحضّر الموت لملاقاته. لعلّه أخذ قسطاً يسيراً من الراحة. شرب كأسه حتى آخره. وفي الطريق رمى عدة دهائه في العراء. وعندما وصل، علّق في مكان مُعتم ميدالية مفاتيحه الثقيلة. كان قد أجّل سلسلة مواعيده الطويلة، وتباهى في أحاديث الأمس أمام رفاقه بقوّته التي تسحل الطب، وتدوّخ العِلم. كان يأمل أن يكون ساطعاً بمنتهى الوضوح، قوياً بحجم فجيعة. لكنّه حقيقة دائماً ما يأتي خاوياً كملمس النعش، بارداً كثلّاجة يوضع فيها من يزوره...

رغم أنّه كان قد تعطّر، ولبس الأناقة مثل ثوب، حضر بضعة مشاهد وقرأ الكثير من المقالات. عرف أنّه سيلاقي ندّاً قويّاً. لكنه فجأة وجد نفسه ينهار عند بوابة إقامة خصمه المؤقتة. لذا، استعار كل خبثه، وجلس ينتظره على العتبة حتى نام. وبلحظة واحدة انقضّ عليه مثل قبيلة ذئاب هجينة، حتى ولو انتصرت لا تعرف كيف تواجه فريستها وجهاً لوجه! إنّه الموت إذاً، وهو يستعد ليلاقي حاتم علي. يومه لم يكن كباقي أيامه، فقد قبض على رجل التفّت البلاد حول نعشه، كما لم تفعل منذ عقد من القهر!

حالما يخرج الجسد المسجّى في صندوق بُنّي، يرتفع صوت العويل. العيون المذهولة ستحوّط سيارة الإسعاف. ازدحام الموت لم يمنع الدمع الوفير هذه المرّة.

سلاف فواخرجي، شكران مرتجى، قمر خلف، خالد القيش، وائل رمضان، مهيار خضور، المثنى صبح، فادي صبيح، محسن غازي، فاتح سلمان، سمير حسين، وصهره سامي الجنادي.. الكلّ محاصر بالصدمة ولا أحد يقوى على الكلام. بينما يجلس أخوه زياد داخل السيارة يسأل إن كان أخوه حقاً بات جسداً من غير روح؟! صوت واحد سيخترق العويل وهو يردد: «لن يكون هناك أستاذ من بعدك». إنّه صوت المخرج علي علي، رفيق دربه وشريك معظم أعماله. ما هو سر العلاقة بين الرجلين؟ ما عليك سوى أن تعرف أنّ علي سمى ابنه حاتم لتفهم عمق علاقته بالراحل. يمرّ الوقت بطيئاً لتنتهي الإجراءات الورقية وينطلق الموكب. كلّ شيء يسير بسهولة. الحواجز الأمنية، والموظفون الرسميون، وكلّ من له علاقة بالتعاطي مع المشيّعين، سيبتسم بهدوء وينطق بجمل العزاء قبل أن يترك فرصة إكمال درب الحزن. وحدة الطريق من المطار كان ثقيلاً بالعتمة، ملفوفاً بالخيبة، ومعدّاً لإتمام شكل الفجيعة. سيمرّ الموكب من ساحة الأمويين بصمت. ترى كم كان يشتاق الرجل إلى هذه الساحة التي قضى بالقرب منها، في «المعهد العالي للفنون المسرحية»، سنواته التأسيسية في الدراسة الأكاديمية. «مستشفى الشامي» صار قريباً. سيحمل النعش إلى أن تصل أخته. جملة واحدة قالتها كانت كفيلة بانهيار غالبية الواقفين. بصوت مرتجف ردّدت: «أنا فقط من يعرف كم كان قلبك يذوب لتنزل إلى الشام، يا حسرتي على هذه النزلة. قُم يا حاتم أنت في الشام!».

مضت الليلة في ثلّاجة المستشفى، قبل أن يعود المحبون في صباح اليوم التالي، ليحملوه مشياً على الأقدام إلى «مسجد الحسن» في حي أبو رمّانة. السوشال ميديا لا تزال مشتعلة، بينما سيمرّ مرة ثانية من ساحة الأمويين، قبل أن يهبط في الجامع. هناك، ستحدث سابقة بأن يقف إمام المسجد ليُثني على فنان، كما لا تفعل هذه المنابر عادةً. ليس ذلك فحسب، بل سيعدّد بعض أعماله. فالرجل كان توافقياً مع الجمهور. حرص ألا يزعج الرقيب المجتمعي، إنما كان يبحث عن ترف المتعة والدهشة اللتين أهداهما عمراً كاملاً للمشاهد. ستنتهي مراسم الصلاة، وبمجرّد أن يخرج النعش، سيقابله آلاف المشيّعين بالتصفيق، كأنّه ارتفع على منصّة تكريم. وستعلو أصوات المكبّرات بأغنيات شاراته الخالدة. ما عاذ الله أن أقول لك وداعاً، وصامت لو تكلّم.

«الله معك يا حاتم»، تصرخ إحدى السيدات فتغرق الوجوه المكمّمة بالدموع، قبل أن تتحوّل الجنازة إلى عراضة شامية يُرفع فيها النعش فوق الأكتاف بمشهد مهيب لا يمكن مجاراته... تيم حسن بين المشيعين، ومنى واصف، وسلافة معمار، وأمل عرفة، وكاريس بشار، وسليم صبري، وناظلي الرواس، وغسان مسعود المتعب من شدّة الحزن كما كلّ رفاقه. دقائق سيقطع النعش شوارع الشام في آخر مشوار له، ليستقر في مقبرة «باب الصغير» في حيّ الشاغور. هذه المفارقة الموحشة كان قد التقطها روّاد الفيسبوك، عندما نشروا له فيلماً قصيراً من إخراج رامي حنّا يلعب فيه دور مهندس مغترب يقرّر العودة إلى دمشق، ويموت بعد وصوله بساعات، فيركّز الشريط على الوقائع التي يعايشها الميّت كأنه على قيد الحياة. كان المهندس يسرد رحلته التي توقفت في مقبرة باب الصغير من دون أن يتمكّن من إكمالها!

في الأيام التالية، ستتسابق الجموع إلى صالة العزاء. كل ما يجري كان يشي بأنّ البلاد لم تصب بمقتل بعد، بل لا تزال قادرة على تبجيل من يستحق الإجلال، رغم بعض أصوات النشاز المقيتة، وتخاذل وزارة الإعلام ونقابة الفنانين عن مواكبة الحدث كما يستحق. إلا أن الجمهور قال كلمته باختصار: المبدع لا يموت! فقط يأخذ قلوب محبيه، ويمضي، فتكرّسه رحلة الأبدية تلك في وجدانهم أكثر!

 

الأخبار اللبنانية في

04.01.2021

 
 
 
 
 

«تغريبة» حاتم علي الفلسطينية… صورةُ النكبة في أذهاننا

سليم البيك

الحديث عن غياب النكبة، كحكاية، في السينما الفلسطينية، يعيدنا إليه رحيلُ المخرج السوري الجولاني الفلسطيني حاتم علي، وهو صاحب العمل الأشمل في تناول النكبة الفلسطينية في السينما والتلفزيون. الأشمل لطبيعة المسلسل (31 حلقة، 50 دقيقة لكل منها) بالمقارنة مع السينما، فتناولُ النكبة، أو عامَها، يستلزم مراحل سابقة لها وكذلك لاحقة، كتصوير زمن الاستعمار البريطاني، وما تخلله من هجرة يهودية إلى فلسطين، وما رافق ذلك من مواقف وهبات وتوترات، وتحديداً ما لحق النكبة، وفي السنوات الأولى بعدها، وقد دخل أكثر من نصف الشعب الفلسطيني حياةً ثانية في اللجوء والمخيمات.

فلا يمكن سرد النكبة، بشمولية نسبية، سوى بتصوير لما سبقها وما لحقها، وهذا ما يعطي المسلسل، لطبيعته، صفة الشمولية مقابل السينما المحصورة، عموماً، بساعتين أو ثلاث ساعات أو أكثر، إن سُمحَ للمخرج (لأسباب إنتاجية وتوزيعية) ذلك.

كان للمخرج المصري يسري نصرالله تجربة استثنائية في تصوير النكبة، وهي الأشمل سينمائياً، وذلك في فيلم «باب الشمس» المأخوذة حكايته عن رواية اللبناني إلياس خوري، لكنه فيلم تزيد مدته عن 4 ساعات ونصف الساعة، ما يساوي فيلمَين طويلَين، وهو لا يقتصر على تصوير تهجير الفلسطينيين، بل يعود إليها في «فلاشباك» مطول، في زمن راهن للعمل الفدائي الفلسطيني، بذلك لا يكون الفيلم شاملاً في استعادته للنكبة، لما سبقها وما لحقها من أحوال الفلسطينيين، مَن تهجر منهم ومَن بقي على أرضه.

لا يُطالَب أي فيلم في أن يكون شاملاً. هذا المعيار يكون، إن أردناه وبمرونة، في حال المسلسل بحلقاته التي تساوي في مدتها (في حال «التغريبة الفلسطينية») 13 فيلماً، بساعتَين لكل منها. هنا، نستطيع، زمانياً على الأقل، تقديم تصوير مفصل لحياة الفلسطينيين ما قبل النكبة وما بعدها، ومنحَ اللحظة التراجيدية أثناءها، مساحَتها.

المسلسل والفيلم صناعة عربية تامة، ففي كل من «التغريبة الفلسطينية» و«باب الشمس» جهد عربي متكامل ومتنوع، من الكتابة إلى التقنيين والممثلين. وكما كان الفضل الأساسي في إنجاز فيلم «باب الشمس» لرواية إلياس خوري «باب الشمس» قبل أن تكون للإخراج الممتاز والخاص ليسري نصرالله (مع خطأ جوهري في اختيار الممثلة لشخصية نهيلة) فالقيمة العالية لمسلسل «التغريبة الفلسطينية» تعود لمؤلفها وكاتب السيناريو لها الفلسطيني وليد سيف، قبل أن تكون لمخرج العمل المتميز عربياً، ولعله الأفضل في الإخراج التلفزيوني العربي، حاتم علي.

لا ينتقص ذلك من عمل كل من المخرجَين، بل يعطي للعمل الكتابي والتوثيقي، حيث تكون للغاية الشمولية مساحاتها الشاسعة، بمعزل عن أي تحديدات إنتاجية، وحيث يكون الجانب البحثي الكتابي أولوية، وهو من بين النقاط الأهم في تناول مرحلة تاريخية كما هي النكبة. يبقى إنجاز كل من المخرجَين هو التكييف الأنسب قدر الإمكان، والأشمل، للنص القيم المكتوب، وحديثنا هنا عن نصين تاريخيين، فالخيال في الشخصيات والأحداث، وذاتيتها، تبقى خاضعة لسياقات ووقائع تاريخية موضوعية تتحكم فيها.

ولكون الفيلم هنا أعلى قيمةً جمالياً، لطبيعته السينمائية، فهو فيلم فني ومعروض في «مهرجان كان السينمائي» عام 2004، فمقارنة المسلسل به غير صالحة من حيث فنية العمل، فقد اعتمد المسلسل في تصويره على التوثيقية، مبتعداً عن الفنية، ولعله لذلك نجح أولاً في الالتصاق بالجانب التوثيقي للنص، بدون انحرافات فنية (مرغوب فيها في الفيلم) وفي كسب الجماهيرية ثانياً، فهو يبقى مسلسلاً تلفزيونياً ورمضانياً ومعروضاً للعائلة، وهذا كان إنجاز المسلسل الأول.

«التغريبة الفلسطينية» خرج أخيراً بالشكل الأنسب له، مسلسلاً للعائلة، يحكي عن النكبة بالتعقيدات الأقل الممكنة،
بتصوير الحالات الاجتماعية السائدة آنذاك، ما قبل النكبة وما بعدها، بالقدر الممكن لجميع أفراد العائلة، وهو ما جعل المسلسل المعروض كذلك في 2004، واحداً من المراجع الفنية أو التعريفات البصرية لمفهوم النكبة، التي وصلت إلى جماهير كما لم يكن لفيلم أو كتاب أن يفعل، وهنا يكمن فضل مخرج لامع كحاتم علي، وهو الأقدر، لسيرته المهنية ما قبل «التغريبة» وما بعدها، على تصوير نص سيناريو شامل حول النكبة.

يميل حاتم علي إلى الملاحم، وإلى التاريخ، إلى النصوص الممكن، مع مخرجين مثله، تحويلها إلى مراجع فنية للمشاهدين، فما لا يصل من خلال الكتاب إلى جماهير تشاهد ولا تقرأ، أو تشاهد أكثر مما تقرأ، يصل بالمسلسلات، وهذا ما فعله في مسلسلات تعاونَ فيها مع كتاب بارزين ومختصين ـ بشكل ما ـ في التاريخ، كممدوح عدوان ووليد سيف (وإبراهيم نصرالله في مشروع لم يكتمل هو «زمن الخيول البيضاء»). من هذه المسلسلات «الزير سالم» الذي كتبه عدوان، و«صلاح الدين الأيوبي» و«صقر قريش» و«ربيع قرطبة» و«ملوك الطوائف» و«عمر» وهذه كلها كتبها وليد سيف.

لم يلتفت صناع الأفلام الفلسطينيون إلى النكبة كموضوع أساسي، كما يجب، باستثناء فيلم واحد هو «الزمن الباقي» لإليا سليمان. بمعزل عن فيلم سليمان، العملان الأهم حول النكبة كان الفيلم والمسلسل موضوعي هذه المقالة، والعمل الأكثر تأثيراً في المشاهد العربي، الأكثر تشكيلاً لصورة النكبة في ذهن العربي، العمل الأكثر تاريخية وتوثيقية ومرجعية وجماهيرية، كان مسلسل الراحل حاتم علي «التغريبة الفلسطينية».

كاتب فلسطيني

 

####

 

هجرة درامية مبكرة لحاتم علي

راشد عيسى

عثرتُ في أرشيفي على خبر صحافي قديم يعود للعام 2006 يتعلّق بالفنان الراحل أخيراً حاتم علي يعلن فيه أنه يفكّر بـ «هجرة درامية» إلى ساحة أخرى تضعه في المكان الذي يستحقه، كساحة الدراما المصرية أو الخليجية.

كان ذلك رداً على استبعاد أعماله من برمجة العروض الرمضانية في التلفزيون الرسمي، حيث لم تشهد تلك الشاشة للمخرج السوري حينذاك سوى عمل وحيد «في وقت ميت، وغير مناسب، لأسباب خاصة بمديرة التلفزيون السوري».

ويفسّر: «إن ما يجري على الساحة الفنية في سوريا يبدو مؤسفاً، ويدعو إلى التوقف والتأمل، وهو إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على انعدام الضوابط، ويفصح عن رغبة البعض في إقصاء عدد من العاملين في هذه المهنة، خاصة إذا تسلّح البعض بسطوة المال والسياسة والمناصب، فأنا أذكر جيداً ما حدث مع المخرج هيثم حقي في المواسم الرمضانية الماضية من تهميش متعمد، هو جزء من تصفية حسابات قديمة، لاختلاف في الرأي أو الهوى، وما يحدث الآن من قبل شريحة الإنتاج هذه هو جزء من ذلك، ويبدو أننا جميعاً مدعوون لدفع مثل هذا الثمن».

ويتساءل المخرج «أي معايير تلك التي خضعت لها هذه المسلسلات سوى معايير العلاقات الشخصية، والمصالح والتكتلات الفنية، والرغبة في إقصاء البعض، حتى لو أضرّ ذلك بمصالح التلفزيون العربي السوري نفسه. من الواضح أنني شخصياً، مع آخرين غيري، أدفع ثمن موقفي من مسلسل «نزار قباني» الذي أخرجه باسل الخطيب».

حاتم علي: إن ما يجري على الساحة الفنية في سوريا يبدو مؤسفاً، ويدعو إلى التوقف والتأمل، وهو إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على انعدام الضوابط، ويفصح عن رغبة البعض في إقصاء عدد من العاملين في هذه المهنة، خاصة إذا تسلّح البعض بسطوة المال والسياسة والمناصب.

لا يذكر الخبر علامَ يعترض حاتم علي بالضبط في مسلسل «نزار قباني» ولكن معلوم أن المسلسل جاء تماماً على مزاج الرقابة، إلى حدّ اعتُبر أنه جعل من نزار شاعراً بعثياً!

لا ندري بالضبط كيف مرّت السنوات الخمس التالية على الفنان، لكن الأسماء المشار إليها بقيت في مناصبها حتى وقت هجرته بعد الثورة، ولكن يمكن القول إن لديه سلفاً من الأسباب ما يكفي للهجيج، فما بالك حين تجتمع أسباب أكثر قسوة بعد العام 2011!

لذلك، لو كان هناك من يسأل اليوم عن الموقف الأعمق للنظام من حاتم علي وجنازته، فربما عليه أن يسأل المخرج باسل الخطيب والمديرة السابقة للتلفزيون، أن يسأل عن موقفهما الأعمق.

ولربما نجد الجواب في مقابلة مع الفنان عباس النوري في «خيمة» عزاء حاتم علي، عندما قال إن جنازة المخرج الراحل، مثل جنازة الشاعر نزار قباني، خرجت غصباً عن الجميع، رغم ثقافة الإلغاء! فمن هم هؤلاء الحراس الذين أرادوا إلغاء نزار وحاتم علي؟ هل هناك من يحكم البلاد سوى بشار الذي لم يقصّر النوري في مناصرته؟!

جدار الصمت

الموقف مما يجري في سوريا بات معياراً أساسياً، إن لم يكن الأوحد، عند كثير من السوريين للترحّم على أي من الغائبين! مع غياب حاتم علي اجتمعت الغالبية على الحزن عليه ورثائه، فقد كانت أعمالٌ تلفزيونية له محفورةً في الذاكرة، إلى جانب أنهم لم يجدوا في مقابلاته وتصريحاته وأعماله ما يستفزّ السوريين على الضفّتين. هذا أيضاً أتاح لمن شاء أن يفسّر على هواه، وأن يسحب الفنان بالاتجاه الذي يريد، مع أن الأرجح أن يكون فنانٌ تركَ البلاد منذ العام 2012 ومفصول من «نقابة الفنانين» غيرَ راض عن النظام، وإلا لعادَ ولو على سبيل الزيارة، بعد استقرار الأحوال نسبياً في السنوات الأخيرة.

ألا يكون الناس أكثر رأفة بضحاياهم، أولئك الذين قتلوا تحت التعذيب فقط لأنهم خرقوا جدار الصمت، أو حاوَلوا.

كثيرون من معارضي النظام وضحاياه اكتفوا بذلك الصمت كعلامة، هذه المرة عن عدم رضا حاتم علي. لقد تفهّموا صمت المخرج الراحل، لم يكونوا في وارد المطالبة بأكثر. لكن آخرين من بين الضحايا أنفسهم راحوا يمجّدون الصمت، صار الصمت فجأة فضيلة ووعداً بإبداع، على غرار ما نلاحظ في بيان حركة «ضمير» (والقول نفسه تقريباً تكرّر عند آخرين): «حاتم علي يشبه الثوار الأوائل الأنقياء بما أرادوه لسوريا من كرامة وحرية. وأما عن صمته فكل من يعرفه يعرف كم كان صمته أبلغ من صراخ، وكم كان فيه تحضير لعمل إبداعي يفجّر الصمت ويحرّك الوجدان».

الحديث هنا هو عن فنان له المنابر كلها خارج سيطرة النظام، والناس ينتظرون من نجومهم كلاماً أكثر من«التباس الخيط الأبيض بالأسود» و«تأثير مبالغ به للفنان» كما قال المخرج في إحدى مقابلاته. لن يلوم أحدٌ الفنان بعد رحيله، فالفجيعة طغت على كل شيء آخر. لكن لمَ المبالغة بمديح الصمت، إلى حدّ بدا معه كل من رفع صوته آثماً!

ألا يكون الناس أكثر رأفة بضحاياهم! أولئك الذين قتلوا تحت التعذيب فقط لأنهم خرقوا جدار الصمت، أو حاوَلوا.

 

القدس العربي اللندنية في

04.01.2021

 
 
 
 
 

التغريبة الفلسطينية... حكاية شعب لم يستسلم

مجد مالك خضر

أنتجَت الشاشات التلفزيونية كثيرًا من المسلسلات المهمّة، وحصل كلّ منها على نصيبه من النقد الإيجابي غير الخالي من المديح، أو السلبي عند ظهور هنّاتٍ أو أخطاءٍ بسيطة لم ينتبه لها المخرج، الذي يُعدّ اليد التي تحيك جميع خيوط العمل التلفزيوني من مشهده الأوّل إلى مشهده الأخير، مع امتلاكه رؤيةً معينةً للأحداث، قد لا تشبه السيناريو المكتوب، أو تعيد صياغة مشاهد جديدة لم يُفكّر الكاتب بها؛ ليظهرَ قالب المسلسل التلفزيوني في لوحةٍ رسمها المخرج في مخيلته، وأراد أن يراها النّاس في منازلهم.

ظهرت في العقدِ الأوّل من القرن الواحد والعشرين إنتاجات تلفزيونية شاركت في إثراء مكتبة التلفزيون في العالم العربي، وكانت لها بصمات لم تندثر أو تُمحى حتّى لحظة كتابة هذه السطور؛ بسبب الفكرة التي سعت إلى إيصالها، والاحترافية في معالجة حبكتها، وعدم خلوّها من عنصر التشويق في جذب انتباه المشاهدين، وجعلهم يتسمّرون أمام شاشة التلفاز، مع احتدام الجدال بينهم أحيانًا؛ لتوقع أحداث حلقاتها، والالتزام بموعدِ عرض كل حلقة منها، ومتابعتها باهتمام شديد؛ من أجل معرفة مجريات العمل.

من أشهر الأعمال التلفزيونية التي حصدت جماهيرية شعبية بين المشاهدين العرب مسلسل التغريبة الفلسطينية للمخرج الراحل حاتم علي، والذي رحل في أواخر أيام 2020، كأن هذه السنة لم تأب الرحيل، وتوديعنا، إلا بعد أن يرحلَ معها كثيرون من المبدعين، أصحاب الإنجازات الخالدة في أكثر من مجال، والمخرج حاتم علي واحد منهم؛ حيث ساهم في تقديم مجموعة من الأعمال التلفزيونية المميّزة، مثل الفصول الأربعة، وأحلام كبيرة، والعراب، والتغريبة الفلسطينية هذا العمل المتكامل، الذي يتكلّمُ عن قصةٍ واقعيةٍ ولدت من رحم المأساة، وظلّت جرحًا نازفًا لم يندمل بعد.

مسلسل التغريبة الفلسطينية يعدّ أيقونةً تاريخية؛ لأنه رسّخ القضية الفلسطينية في وجدان المشاهد العربي، وجعلها أكثر قربًا منه

جاء التفرّد والإبداع في مسلسل التغريبة الفلسطينية ناتجًا عن التعاون بين الكاتب والأكاديمي الدكتور وليد سيف، والمخرج حاتم علي، والذي بدء من مسيرة نجاحات بينهما انطلقت من السلسلة الأندلسية التي جُمعتْ في مسلسلات، صلاح الدين الأيوبي، وصقر قريش، وربيع قرطبة، انتهاءً بملوك الطوائف الذي عُرِضَ بعد التغريبة الفلسطينية بعام واحد، كما أن أغنية بداية المسلسل لها بصمةٌ واضحةٌ جدًا في نجاحه؛ حيث عبّرت في لحنها وكلماتها عن أبعاده الدرامية، وهي مأخوذة من أبيات قصيدة (الفدائي) للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، كذلك تميّز الطاقم التمثيلي بكفاءة الأداء ومحاكاة الوقائع بصورةٍ حقيقية، وهكذا ساهمت هذه التوليفة في خروج عمل التغريبة الفلسطينية إلى الضوء، وعرضه على شاشة التلفاز في شهر رمضان من عام 2004.

استمد مسلسل التغريبة الفلسطينية أهميته، وحصد شهرة واسعة تمثّلت في سعي المحطات التلفزيونية إلى تكرار بثّهِ؛ لاتّخاذه دور الناقل الحي لمعاناة الشعب الفلسطيني منذ الانتداب البريطاني إلى نكبة 1948، وما تبعها من أحداث استطاع أن يُقدّمها ببساطة ووضوح؛ من خلال يوميات شخصياته المختلفة عن بعضها في الأحوال الاجتماعية، والتي تمثّل طبقات المجتمع الفلسطيني آنذاك، ولاحقًا اجتمعوا معًا في مصيرٍ واحد، للتأكيد على عدالة القضية واستعادة الحقِّ المسلوب، مع اختلاف طريقة كلٍ منهم في التعبير عن ذاته، فنرى المقاوم يحمل السلاح للدفاع عن أرضه، والمثقف المنادي بضرورة عودة الحقوق إلى أصحابها، وحتّى المستسلم الذي قرر الصمت، وقبول الواقع بكافة تفاصيله المؤلمة، فهكذا شارك المسلسل في تسليط الضوء على القضية الفلسطينية، وجعلها أكثر قربًا من المشاهد، ونقلها بأسلوب ساهم في الحفاظ على ذاكرتها النابضة، التي تروي جانبًا من تاريخ فلسطين لجميع الأجيال.

أرى أن مسلسل التغريبة الفلسطينية يعدّ أيقونةً تاريخية؛ لأنه رسّخ القضية الفلسطينية في وجدان المشاهد العربي، وجعلها أكثر قربًا منه، وأخرجها من إطارها السياسي البحت، وهو النمط السائد والمعروف لدى الكثيرين، فأصبحت عبارةً عن سرد تجربة أشخاصٍ عاشوا النزوح واللجوء، وتعايشوا مع الألم والفقد، وتأقلموا مع حياة جديدة تختلف عن حياتهم السابقة، وأيضًا جعلت المشاهدين يتشاركون معهم هذه التجربة بكافة تفاصيلها، وبعيدًا عن أي تجميل أو تزييف أو تغيير في مسارها، لتكون التغريبة الفلسطينية حكاية شعب لم يستسلم، واستمر في المقاومة حتّى الرمق الأخير.

 

####

 

زمن حاتم علي

فوّاز حداد

يرحل حاتم علي مبكراً جداً. إذا كان هناك أوانٌ مرصود لكلٍّ حسب عمله، فقد غادرنا قبل هذا الأوان بكثير، لم يُنهه بعد، لديه الكثير ليقوله، هذا الرجل ما زال رأسه يمتلئ بالمشاريع، ترك عالمنا إلى عالم أرحب، سيكون أرحم من رؤية بلده طوال عشرة أعوام، يحترق ويُدّمر ويُنهب ويتحوّل إلى ركام.

يخلّف حاتم وراءه مثالاً استثنائياً، وجودُه صادف زمناً متقاعِساً، لم يجارِه، كان يسير على إيقاع زمن آخر، لا يشبه الزمن الدكتاتوري، كان على تضادّ معه، لا جامعَ بينهمافي المنفى، كان أملَ سورية في استعادة ثقافة بديلة، ناقدة وجادة.

لن نحار ونتساءل أين يقف حاتم، هل هو ضد النظام، أم معه؟ هل كان رمادياً؟ هذا اللون السياسي، ابتدعه السوريون تحت وطأة انقساماتهم، وتردُّدِ مواقفهم. لم يكن حاتم ضدّ بلده ليقف مع النظام، كان مع سورية حرّة موحّدة، لم يمتدح النظام، أو يمالئه، لم يبرّر له، أو يتخفّ وراء تكهّنات ومسمّيات. كان في عدم انحيازه له، انحيازٌ لشعبه.     

وُجد حاتم في زمن فاسد طاردٍ للمواهب والأعمال الجيدة

رحيله المفاجئ كان مأساوياً، فقد اختطف. يبدو أن علينا تحمّل المصائب بأنواعها، هذه المصيبة تضجّ بالدراما، ليست ملوّنة، دراما بالأسود والأبيض. فقدناه في عزّ حاجتنا إليه، كنا نعوّل عليه في الإسهام باستعادة ثورة كانت الأجمل والأعظم. لكنّ تجربته تُعلِّم، أنه مهما كانت مصائب السوريين بوسعهم النهوض وفعل الكثير في وطنهم ومهاجرهم ومنافيهم، ما دامت أنظارهم معلّقة على سورية؛ هذا درس حاتم علي.

حياته القصيرة، اتّسعت للكثير، ومثلما انتهت مبكّراً، بدأها مبكّراً، بكتابة القصة القصيرة، أصدر مجموعتين: "ما حدث وما لم يحدث"، و"موت مدرّس التاريخ العجوز". ذهب بعدها إلى فضاءات محاذية، فكان ممثّلاً وكاتب سيناريو ومخرجاً درامياً ومسرحياً وسينمائياً ومنتجاً... ليس بهذا الترتيب، كان يتنقل بينها، كانت كلّها على علاقة بالفنّ، عالمِه الأوسع، كما يفهمه، لا ينفصل فيه العمل السينمائي والتلفزيوني عن الأدب والموسيقا والفن التشكيلي، صِلاته بها كانت وثيقة، جمع بينها في تلافيف أعماله الدرامية. كان فناناً من قمة رأسه إلى أطراف أصابعه. هذا الإنتاج الغزير لم يأت من فراغ، حقّق من خلاله عالماً ثرياً، كان مشغولاً بحِرفية، من فرط عنايته بالتفاصيل.

أكتب عن حاتم متأخراً، لا الوقت ولا الظروف سمحت لي لأقول له، لقد نجحتَ وفعلت شيئاً جيداً، نحن مدينون لك. كادت أن تكون بيننا علاقة عمل أخفقت مرتين، ففي بداية رحلته ككاتب، رغب في كتابة سيناريو تلفزيوني لرواية "موزاييك"، ثم بعد سنين طويلة في إحدى ذروات تألقه كمخرج، تجددت الفكرة، لكن في إخراجه سينمائياً. كلاهما لم يتحققا. كان بودّي وربّما كان بودّه. لا آسف عليهما، آسف على أنني لم أتعرف إليه عن قرب، وإن لم أغفل عن التعرف إليه عن بعد، إنسان متواضع، بلا ادّعاء ولا دعاية، ولا أكاذيب، ولا تبجّح، ولا بهرجة، بوسعي قول الكثير عنه، ولا أعدمه حقه. كرمى لإخلاصه لعمله، وما قدمه من جهد، وما نزفه من عرق. كانت وفاته صدمةً للملايين، تعيدنا إلى تراجيديا البطل على مسرح الحياة، وهبَ حياته كلّها لهذا الفن، وكان أحد شهدائه

كرمى لإخلاصه لعمله، وما قدمه من جهد، وما نزفه من عرق

في هذه الضائقة السورية التي بلغت نصف قرن، ليس من السهل البقاء حراً، ولا حتّى على قيد الحياة، فكيف في تشييد هذا الصرح من الأعمال المتميّزة، في ظروف قاسية ومؤلمة، وكانت تعويضاً نبيلاً. مهما يكن، يغادر حاتم دنيانا، وقد أشرعت سورية أبوابها على زمنه، زمن سيمتدّ طويلاً، ويعيش طويلاً، زاداً ملهماً لرفاق الأيام الصعبة وللأجيال القادمة.

وُجد حاتم في زمن فاسد طاردٍ للمواهب والأعمال الجيدة، زمن العملة الزائفة الطاردة للعملة الجيدة. تلك إحدى المرات النادرة التي طردَ فيها الفنُّ الجيد الفنَّ الزائف

* روائي من سورية

 

العربي الجديد اللندنية في

05.01.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004