ملفات خاصة

 
 

"أهو ده اللّي صار"

معن البياري

عن رحيل عراب الدراما

حاتم علي

   
 
 
 
 
 
 

انصرفت المراثي للمخرج حاتم علي، الوفيرة المستحقّة، إلى التنويه بأعماله، الاجتماعية السورية والثلاثية الأندلسية والتغريبة والتاريخية والفانتازية التاريخية، وبـ "الملك فاروق" (أحيانا)، ولم تكترث بمسلسله البدوي "صراع على الرمال" (2008)، ولا بأعماله الثلاثة الأخيرة في الدراما التلفزيونية المصرية. وفعلت هذا أيضا الصحافة الفنية العربية (باستثناء المصرية)، بل إن استعاداتٍ غزيرةً فيها لتجربة الفنان البديع، عند وفاته، خلت من الإتيان على هذه المسلسلات الثلاثة، جودةً أو تميّزا، ضعفا أو ترهلا، وهي محسوبةٌ على صاحبها، ومن المفيد التعريف بها جيدا، ليس فقط لأن حاتم علي انتقل إلى رحمة الله، بل لأنه مخرجٌ كبيرٌ ومتفرّد في الدراما العربية، وبالتالي يكون طيّبا أن يعرف الجمهور الذي أحبّ "التغريبة الفلسطينية" و"الزير سالم" (وغيرهما) ما صار عليه الأداء الجمالي لمخرجهما في طوْره المصري، وهو الأخير له.

من دون تطويل كلام، "أهو ده اللّي صار"، آخر مسلسل لحاتم علي، فاتنٌ بحق. جيد جدا، حتى لا يأخذني الحماس وأصفه بأنه ممتاز (هو كذلك لولا تفاصيل غير كثيرة). إن كان هذا المسلسل قد ظلمه، بعض الشيء، عدم عرضه في موسم رمضان 2018، فشوهد في شتاء 2019، فإن الظلم الأكثر له في تجاهل صحافة المنوّعات، العربية (غير المصرية) له، تقييما وتحليلا ومتابعة، ما يعود إلى الكسل المقيم فيها، فيما هو "إضافةٌ قيّمةٌ في مسار الدراما العربية"، كما رأته القاصة الأردنية، بسمة النسور، في مقالتها في "العربي الجديد". وهذا صحيحٌ، وما كان ممكنا أن يكون صحيحا لولا اجتماع البراعة الإخراجية، واللمسة المشهدية اللافتة في كاميرا حاتم علي، مع كفاءة عبد الرحيم كمال (1971) في كتابة نصٍّ متقنٍ في ثراء محكياته، وأيضا في مُرسلاته ومضامينه، عندما نهض على تعزيز فكرة الجمال والفن والثقافة والحب والشغف في مواجهة كل تطرّف وجهل وتخلّف وإرهاب. و"إذا اجتمع النص القوي مع الإخراج الفائق بلغ العمل غايته"، كما كتب صاحب "التغريبة الفلسطينية"، وليد سيف، في توديعه حاتم علي في "العربي الجديد" (4/1/2021).

المخرج الحاذق هو الذي يستنفر كل طاقات الممثّل الجيد وإمكاناته، والمسلسل المعنون باسم أغنية شهيرة لسيد درويش (ثم فيروز) كسب فيه الممثل الجديد نسبيا، محمد فراج (مواليد 1982) فرصة استثنائية، فشاهدنا منه أداءً تفوّق فيه على نفسه، في دور موسيقي ومغنٍ مولع بالحياة، محبّ، وطني، سيما وأن المسلسل قدّمه في أطوارٍ عمريةٍ امتدّت من اليفاعة إلى الشيخوخة. وربما يعود قولُه عن حاتم علي (قبل وفاته) إنه مخرجٌ كبيرٌ وعبقريٌّ إلى هذا الأمر الذي ينسحب، بدرجاتٍ متباينة، على ما أدّاه الممثلون الآخرون، وغالبيتهم من الوجوه الشابة، وبحضورٍ متألق للنجمة سوسن بدر، في أداء دور امرأة بلاستيكية الملامح والمشاعر، ثم عجوز ملتاعةٍ من تصاريف الزمن. ولا يُغفل أداء روبي، المرجّح أن "أهو ده اللّي صار" انعطف بها إلى منزلةٍ متقدّمةٍ في تجربتها ممثلة دراما، سيما وأن دورها في هذا المسلسل، اللافت عن حق، كان لشخصيتين، في زمن راهن وأزمنةٍ قديمة، بلهجتين، قاهرية وصعيدية. ولا تزيّد في وصف المشاهد في الصعيد في المسلسل إنها كانت من روائع حاتم علي المعهودة. ومن مفارقاتٍ أنك تشاهد إتقان "نادرة" (روبي) حماية نفسها وبنتيها من الكوليرا لمّا أخذت بتعليمات العزْل الصحي في منزلها الفقير في البلدة الصعيدية البائسة (عام الكوليرا 1947 في مصر)، وتشديدها على غسل اليدين في الأثناء (أُنجز المسلسل قبل جائحة كورونا).

.. "أهو ده اللّي صار" مقاطع متصلة من مائة عام في مصر، من 1908 إلى 2018. عن التاريخ عندما يتعلق بالناس، وينكتب عن الناس. عن الفن والتعلّق بالجمال، فترى نجوم الغناء والمسرح في مصر حاضرين شخصياتٍ مشاركة، أو في متن الحكايات الشائقة، ومنها حكاية "ريا وسكينة" بكيفيةٍ أخرى، ترى منزل كافافيس، وترى يونانيين وشواما (يظهر حاتم علي ممثلا نحو دقيقتين في إحدى الحلقات بلهجةٍ سورية) في الإسكندرية. وجاء مشهد وفاة الخادمة نادرة، بعد عزفها الأخير على البيانو في قصر نوّار باشا (متخيّل ومصمّم باحتراف عال) الذي عادت إليه سيدةً فيه، لمّا تزوجها محبوبها العتيق، يوسف الأول، كثير المغازي والإيحاءات. .. والمسلسل غزيرٌ في هذه وتلك. ولأن كل إيجاز مخلّ، لا يحسُن إيجاز عمل درامي ثقيل القيمة، بديكوراته المتقنة، وبثراء تلويناته الاجتماعية، أزياء ولهجاتٍ وفضاءات، وبالحنين الضافي فيه، بالتوازي الأخّاذ بين ماضٍ وراهن، بالتنازع بين خير وشر، بالتناوب بين فقر وغنى .. بكل شيءٍ فيه.

 

العربي الجديد اللندنية في

08.01.2021

 
 
 
 
 

حاتم علي: حارس الصندوق الأمين أرخ السردية الفلسطينية بأمانة وصدق قل نظيرهما

خزامى رشيد

رحل حارس الصندوق الأمين، الذي لم يعد يحتمل كل ذلك الأرق والألم المضني، الذي نعيشه ونكابده يوميا، ويكابده معنا بحسه المبدع وروحه التواقة لتقديم الأفضل دوما.

رحل حاتم علي في عز عطائه ونضوجه الفني، وهو ما زال مشغولا بهموم الإبداع والتفكير، بما قد ينجزه بعد، لولا أن الموت اختاره ليغلق ستارة عام 2020 المظلمة بأشد خسارتها وجعا.

غادرنا ابن الجولان المحتل، تاركا وراءه إرثا فنيا وبصريا وإبداعيا، جمع الناس حوله واتفقوا على تميزه وتفرده، إذ كانت أعماله مثار إعجاب النقاد والمشاهدين والمثقفين معا.

اختبر النزوح في طفولته لتسكن هذه الذاكرة مخيلته، فتملأ روحه بذاكرة مثقلة بوجع النزوح، هذه الذاكرة التي خبأها في طيات روحه، مازجا إياها بأوجاع اللجوء الفلسطيني في رائعته “التغريبة الفلسطينية” حيث كان لنشأته وترعرعه في منطقة مجاورة للمخيم الفلسطيني الدمشقي مخيم اليرموك ودراسته في مدارس مخيم اليرموك، أثر كبير في رغبته في إنجاز عمل درامي يؤرخ السردية الفلسطينية بأمانة وصدق، قل نظيرهما عن بقية الأعمال التي تناولت القضية الفلسطينية.

مشروع نجم

اختار دراسة التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، تخرج من المعهد في عام 1986، ليبدأ مشواره الفني ممثلا في العديد من الأدوار الاجتماعية والتاريخية والبدوية، لعب دوره التمثيلي الأول في مسلسل “دائرة النار” للمخرج هيثم حقي، كتب العديد من المجموعات القصصية “مات 3 مرات” ” البارحة واليوم وغدا” و”آخر الهوى” بالإضافة إلى عدد من النصوص الدرامية، ليدخل في ما بعد في تجربة الإخراج التلفزيوني، حيث قدّم العديد من الأعمال التلفزيونية الناجحة والمميزة، التي أحبها الجمهور وقدر قيمتها، لأنه ببساطة احترم فيها ذائقة المشاهد وعقله، فالفن والعمل التلفزيوني وإن كان لا يخلو من مغامرة الخسارة، إلا أن تجاربه التلفزيونية العديدة حوّلها حاتم علي إلى مغامرة ناجحة مميزة، مغامرة تنوع فيها بين التاريخي والاجتماعي من أهمها “الزير سالم”، “ربيع قرطبة”، “التغريبة الفلسطينية”، “الفصول الأربعة”، “صلاح الدين الأيوبي”، “عمر”، “ملوك الطوائف”، “صقر قريش”، “قلم حمرة”، “أوركيديا”، “عصي الدمع”، “العراب”، كما أنه دخل مغامرة الفيلم السينمائي بفيلمي “آخر الليل”، و”العشاق” والفيلم القصير “شغف”، بالإضافة إلى إخراجه للعديد من المسلسلات المصرية كـ”الملك فاروق”، “تحت الأرض”، “كأنه مبارح”، “أو ده يلي صار”.

أعمال كثيرة أخرجها حاتم علي بعناية فائقة، فمن منا لم تأسره أحداث وشخصيات “الزير سالم” لرائعة الكاتب الراحل ممدوح عدوان، ومن منا لم يردد “لا تصالح”، وكأنها آخر وصايا عهد رومانسية الثبات والمقاومة.

من منا لم يجد حكايته الاجتماعية البسيطة في حوارات الـ”فصول الأربعة”، لريم حنا ودلع الرحبي من منا لم يجد ضالته في قراءة التاريخ، والبحث في تفاصيله وردهاته في “ربيع قرطبة”، “صلاح الدين الأيوبي”، و”عمر” وغيرهما من الأعمال التاريخية التي أنشأت بعدا وجسرا عميقين لامتداد التاريخ وقراءته بعمق وتبصر، من لم يبك هجرته وتغريبته الفلسطينية، تلك التغريبة التي أعادت سردية اللجوء الفلسطيني بعمق وحس ومسؤولية، بدون مزاودة، أو تربص لوقائع غريبة عن الحقيقية التاريخية، من منا لم يحفل بإنصاف حكايتنا الفلسطينية التي تاجر بها من تاجر، فأعاد صياغتها دراميا وفنيا، فأنصفت صورتنا التي شوهتها أروقة السياسية والمصالح والمنافع الضيقة.

عبقرية الكاتب والمخرج

 ثنائية جدلية مميزة جمعته مع الكاتب الفلسطيني وليد سيف، فأنجزا معا وأخرجا من صندوق الذاكرة جزءا من دموع وحرقة قلوب جداتنا وأجدادنا، المقتلعين قسرا من وطنهم فلسطين، من منا لم يستمتع بفيلمه “الليل الطويل” ومن منا مازال ينتظر حارسا أمينا كحاتم علي ليعيد صياغة وكتابة سردية التغريبة السورية، ليخرجها من صندوقها المعتم، ويعيد إخراجها بأمانة كما فعل في تغريبتنا الفلسطينية. أمل كبير بمنجز قد يقترحه حاتم علي انقطع فجأة تاركا فراغا أليما في قلوب محبيه في كل الوطن العربي، حيث أمتلأ فضاء الفيسبوك ووسائل التواصل بمرثيات توجز الاحترام والتقدير لفنه ولمسيرته وحزنا على رحيله المفاجئ، فقد أجمع الناس على اختلاف مشاربهم وآرائهم واتجاهاتهم، اجتمعوا والتقوا جميعا ليردوا شيئا من جميل حراسته لصندوق ذاكرتهم الأمين، اجتمع الناس في رثائه بعد أن فرقتهم السياسة والحروب والغربة، اجتماعا يلخص الاحترام الدفين والتقدير لمسيرته الفنية الحافلة بالعطاء والتميز والتحدي والشجاعة. فعالم التلفزيون والإنتاج التلفزيوني غالبا ما يحكمه عالم المال والتسويق والشروط المسبقة، إلا أن حاتم استطاع القفز فوق براثين الاختلاطات الصدئة التي تؤرق وتبطئ، بل تتجاهل القيمة الإبداعية للعمل التلفزيوني بمراهنته الدؤوبة والشجاعة على تجاوز الخطوط الحمر، مراهنته المرهقة التي كلفته الكثير، وآخر تلك التكاليف التي كلفته حياته.

كان حاتم علي متأنيا في اختيار نصوصه وممثليه وأدواته الفنية، فلم يستسهل يوما ويتماشى مع لعبة التسويق والمنافسات التلفزيونية المحمومة، فقد حافظ حاتم علي جوهرة الاختلاف عبر لعبة التأني، التي تعبر عن حس المسؤولية والالتزام الأخلاقي تجاه ما سيقدم ويعرض للناس، لم يتزلف ويجامل وكأنه في كل مرة يردد وصية الزير سالم لا تصالح، فلم يتصالح مع القوالب المفروضة على العمل التلفزيوني، لم يتصالح مع الاستسهال والاستنساخ، ولكنه أتقن بجديته واحترامه ما يوجب على المخرج تقديمه ونقله بأمانة، فقد أتقن بإبداعه ومسيرته الفنية الطويلة معادلة يصعب حلها في هذه الزمن الرديء. فوداعا لأيقونة الفن وحارس الصندوق الأمين ستبكيك دمشق كلها في يوم وداعك وسيبكيك من غرفت من حياتهم أجمل التفاصيل، فعبرت بهم إلى الشاشة الفضية فكنت بحق حارس الصندوق الأمين.

 

####

 

ذاكرة للشاشة الصغيرة!

لينة عطفة

(في وداع حاتم علي)

الشرط غير الطبيعي الذي يعيش ضمنه الإنسان العربي في بلدان تحكمها أنظمة قمعية استبدادية قروسطية، تجعله كأنما يعيش داخل قفص حديدي مقفل، فيكون عاجزاً عن الانطلاق والتعبير عن نفسه، يجهل كيف يلتقط عواطفه ويعبّر عنها، وإذا تمكن من التعبير قليلا فإنه يبقى تعبيرا محدودا ومجتزأ.

أن يمتلك الإنسان موهبة ما في بلدان كهذه، فذلك ضرب من المعاناة المضاعفة لأنه يجد نفسه مقيّدا عاجزا عن التعبير عنها، أو عن تأدية ما تمليه عليه هذه الموهبة. والعبقرية هي أن يجد المبدع وسيلة يحتال بها على كل هذا القمع والضغط الهائل الذي يُمارس عليه ليقدم من خلالها إبداعه، ويجعل رسالته تصل إلى الناس فيخلق تواصلا مع الآخرين وبين الآخرين.

أمام الرقابة والتقارير والموافقات الأمنية، وأمام المحرمات والتابوهات والخطوط الحمراء، عدا عن بنية العلاقات وطرق الوصول، في بلد مكرّس لعبادة الفرد، تمكنت أسماء قليلة من مناورة كل ذلك القمع، حالمة بوطن حر وإنسان يعيش بكرامة، أسماء قليلة لمعت في سماء ظلمتنا العربية في ظل ما نعيشه منذ عقود. قلائل تمكنوا من تجاوز القيود والاحتيال على الجلاد ومنح الناس أملا بالتغيير المقبل؛ أملا في أن ثمة من يفهمهم ويراهم ويستمع إليهم، وأن وجودهم ضروري ومحقق وله غاية وقيمة إنسانية.

وللأسف ومع تقادم الزمن، ومع تطور أدوات الاستبداد وقمعه للثورات، التي حاولت أن تغير الواقع، ومع تلقي أنظمة القمع الدعم الهائل من كل العالم، سواء بشكل مباشر أو عن طريق تجاهل رغبة الإنسان العربي في الحرية، وتجاهل الجرائم المرتكبة والانتهاكات المريعة لحقوق الإنسان؛ ولأن الاستبداد نقيض الإبداع، تراجعت الحالة الثقافية -على ضآلتها- أمام تعاظم القيود وسيل العنف والقمع، وتابع الطغاة سحق روح الإنسان وقيمته، ورغبته في تحقيق ذاته، وفي الوصول إلى معنى وغاية للوجود.

المبدعون الذين أضاؤوا لنا طريقنا عاليا فقدناهم، إما بالتغييب داخل السجون أو بالتغييب داخل بوتقة القمع، أو بالانكفاء واليأس، أو الموت، لكن الأقسى على الإطلاق أن يقبل المرء برهان الهروب والمنفى ليستمر في إبداعه، ثم يخطفه منا الموت بدون مقدمات فيكون الموت كالقتل كما يقول المتنبي: إذا ما تأملت الزمان وصرفه / تيقنت أن الموت ضرب من القتل. لقد قتل الموت حاتم علي بعمر لم يتجاوز ثمانية وخمسين عاما، وهو في توقّد العطاء، ليرحل فجأة، تاركا متابعي أعماله في ذهول وخيبة وعدم تصديق. ترك حاتم علي بصمة هائلة في ذاكرة جمعية جريحة تبحث عن هوية، ضمن ظروف قاهرة لا يستطيع الإنسان العبور منها أو تجاوزها. كانت أعماله من الأشياء القليلة التي أعادت للسوريين ذاكرة جميلة، وخلقت لهم أحلاما وشكلت لهم رؤية جديدة للواقع.

يتجلى ذلك في مسلسل «الفصول الأربعة» الذي كان بمثابة مرآة ونافذة على العالم، العالم الذي كرس نظام حافظ الأسد كل جهوده لعزلنا عنه، وعن كيفية تطور المجتمع وكيفية العيش، وكيفية التعاقد الاجتماعي بين بعضنا كعوائل وأسر وأفراد. مسلسل اجتماعي لطيف، منجز بمنتهى الصدق والإخلاص، أعاد للمواطن السوري قليلا من الرؤية الحقيقية للواقع ليعود إلى ذاته ويتواصل مجددا مع واقعه، وليتذكر أنه إنسان يملك حلما ورغبات، وله أسرة ليست معزولة عنه وليس معزولا عنها. وبنقلة نوعية في الدراما السورية استطاع تسليط الضوء على الحياة الحقيقية التي حجبها نظام الأسد. استطاع تسليط الضوء على حقوق المرأة وحالها في المجتمع الذكوري الأبوي، وعلى القضاء، والفساد وقمع الحريات، والحرمان الذي يعيشه الإنسان السوري، في أعمال متنوعة لامعة مثل «عصي الدمع» «أحلام كبيرة» «على طول الأيام» وغيرها الكثير. تمكن من كل ذلك محايلا نظام القمع مجاهدا في سبيل إخلاصه لمهنته ومشروعه.

حاتم علي قدم الكثير ليس فقط للدراما والفن، بل أيضا للإنسان العربي، إذ نحن ضمن عصر الظلمة الذي نعيشه الآن، عاجزون عن التواصل الحقيقي والبناء مع تراثنا، عاجزون عن فهمه، عاجزون أساسا عن بناء المعرفة، فالإنسان العربي لا يملك ترف القراءة، والأجيال العربيّة مجهّلة لا تستطيع التواصل مع كتاب، لا تستطيع أن تقرأ تحت ضغط الحياة في البحث عن أبسط وسائل العيش اليومي، كالغذاء والماء والغاز والكهرباء، فالثقافة تصير من الكماليات بالنسبة لإنسان مهدد بلقمة عيشه.

نقلت أعماله لأجيال من الشباب العربي، الكثير من التجارب الإنسانية، وعرضت الكثير من الأسئلة وسردت التاريخ في أعمال عديدة منها «الزير سالم» الذي كان من كتابة الكاتب والشاعر ممدوح عدوان، إضافة للأعمال التي كانت نتاج ثنائية رائعة شكلها مع الكاتب وليد سيف، ولعل ألمعها كان «حكاية الأندلس» التي استعرضت تاريخ الأندلس السياسي والأدبي والاجتماعي، وتفاصيل الماضي وشخوصه، بمزج خرافي بين الدراما والتأريخ، وبومضات تنبه المتفرج إلى موقعه ودوره، وتضيء له معنى الحرية ومعنى العمل، وكل ما دمره الاستبداد؛ فذهب بالدراما لما هو أبعد من التسلية والتوثيق، وجعل منها كتابا يستطيع المشاهد أن يتعلم منه ويبني ثقافة، وبالتالي منح التلفزيون نجمة كانت دائما من حصة السينما، وهو تمكنه من التأثير في ذاكرة المتلقي فلم يكن ما قدمه عابرا، بل بقيت شخوصه وحبكاته ماثلة حاضرة ولها زاوية في ذاكرتنا.

كنا ننتظر ساعة الكهرباء كي نشاهد عملا جديدا لحاتم علي، كنا ننتظر ساعة الكهرباء لنشاهد مسلسله، الذي كان بالنسبة لنا كساعة التنفس في السجن، ساعة للتواصل مع العالم الخارجي المعزولين عنه، والتاريخ الخائفين منه؛ التاريخ الذي تجرأ حاتم علي على أبطاله لينقلهم لنا بصورة جديدة، صورة لا تطابق مفاهيمنا لقيمة الخير والشر، بل مستمدة من الإنسان الذي يحمل كافة التناقضات. في مسلسلات عديدة مثل «الزير سالم» «صلاح الدين» و «عمر» و «ثلاثية الأندلس» فتمكن من أنسنة أبطالنا وضوارينا، وهو ما لم يجرؤ عليه أحد قبله!

كما أنه وثّق في أحد أعظم أعماله «التغريبة الفلسطينية» النكبة والشتات ومأساة الشعب الفلسطيني، ومأساة تهجير الفلسطينيين، هجرة بعد هجرة ونزوحا تلو نزوح؛ الشيء الذي عاشه حاتم علي مرتين، مرة عندما نزح وعائلته طفلا من الجولان السوري المحتل، ومرة كما ملايين السوريين، الذين هجّرهم النظام الأسدي، ليموت نازحا غريبا ويعود إلى وطنه في كفن، بينما تبكيه عيون السوريين في شتاتهم الكبير في كل أصقاع الأرض مسمرين أمام الشاشات يراقبون بذهول رحيل البطل.

شاعرة سورية

 

####

 

دفاعاً عن الفنانين السوريين

د. فيصل القاسم

دعونا نتفق أولاً أن أفضل منتوج صدرته سوريا على مدى العقود الماضية للعالم العربي هو الدراما السورية؛ ويعود الفضل بذلك طبعاً إلى تلك الكوكبة من المخرجين والممثلين والممثلات والفنانين والفنانات والمؤلفين الذين دخلوا ملايين البيوت العربية – دون استئذان – بروائعهم التي تصل إلى مستوى العالمية في بعض الأحيان، وقد أحدثت الثورة السورية للأسف شرخاً كبيراً بين الشعب السوري والفنانين، لا سيما وأن بعضهم انحازوا بشكل مباشر وواضح للثورة، وضحوا بمستقبلهم وأرزاقهم، بينما هاجر بعضهم دون أن يعبر عن موقف واضح ومباشر مما يحدث في سوريا. أما البقية فقد ظلّوا في البلد، واضطروا إلى مداهنة النظام بمهاجمة الثورة أو على الأقل الامتناع عن دعمها.

طبعاً لا يمكن أن نضع كل الفنانين في بوتقة واحدة، فشتان بين من وقف مع الثورة بشكل مباشر وخرج في مظاهرات، وكتب وعبّر عن موقفه الصارخ ضد النظام في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة، كالرائعين عبد الحكيم قطيفان، وسميح شقير وفارس الحلو، ومي سكاف، ويارا صبري، وجهاد عبدو، ومكسيم خليل، وفدوى سليمان وآخرين، وبين الصامتين أو الذين انحازوا للنظام على الأقل ظاهرياً. ولا ننسى الذين اعتقلوا بسبب مواقفهم من الثورة الشعبية كالفنانة ليلى عوض التي تعرضت للسجن بسبب موقفها الداعم للمنتفضين، ومن قبلها عبد الحكيم قطيفان الذي سُجن لسنوات قبل الثورة.

وفي الوقت الذي نرفع فيه القبعة للذين انحازوا للحق بشكل مباشر وخسروا كثيراً كسميح شقير صاحب الرائعة التاريخية أغنية “يا حيف” وأصبح أيقونة بكل المقاييس، إلا أننا يجب ألّا نكون قاسين جداً مع بقية الفنانين السوريين الذين لم يأخذوا موقفاً واضحاً، ويجب ألا ننسى تاريخهم العظيم في فضح النظام وتعريته عبر أعمالهم الفنية بشكل غير مباشر منذ عقود. صحيح أن الفنان الذي يكون مباشراً في تصديه للظلم والطغيان يحتل مرتبة أعلى في قلوب الشعوب من الذين لا يواجهون بشكل مباشر، لكن هذا أيضاً يجب ألا يجعلنا نشيطن الجميع لمجرد أنهم صمتوا؛ ونحن هنا نتحدث عن الكبار فقط من الفنانين، ولا شأن لنا بالشبيحة الذين يحتلون نقابة الفنانين أو يتصرفون كالأنذال كمخبرين ونبيحة مأجورين لصالح أجهزة الأمن، وهم معروفون للقاصي والداني، هؤلاء خارج التصنيف أصلاً وهم عناصر أمنية قذرة شكلاً ومضموناً لكن بلباس فنانين؛ أم البقية فلا يمكن مقارنتهم بنقيب الفنانين الرخيص الذي يسمسر لأجهزة الأمن التي عينته مخبراً وشبيحاً لإرهاب الفنانين والفنانات في سوريا.

 كيف تريدون منا مثلاً أن نهاجم المخرج الكبير الراحل حاتم علي لأنه لم يقل أي كلمة ضد النظام ولم يقل أي كلمة لصالح الثورة؟ هل تريدون منا أن نشطبه ونشيطنه ونخرجه من الملة لهذا السبب؟ لماذا ننسى أعمال حاتم العظيمة التي كل حلقة منها تساوي آلاف المظاهرات وآلاف المنشورات وآلاف الشعارات الثورية؟ وكذلك طبعاً نصوص ممدوح حماده!  لقد سبقنا فنانون كثيرون إلى الثورة ضد الظلم والطغيان والطاغوت بعقود وعقود؛ لقد قالوا بطرقهم الفنية الخاصة ما قلناه أثناء الثورة وأكثر بكثير، لقد كانوا سباقين إلى فضح الطواغيت وبخاصة الطاغوت الأسدي بسنوات وسنوات.

هل يا ترى دريد لحام وهو أشهر فنان سوري، وهو من أوصل أفكار محمد الماغوط الثورية التي سبقتنا بالثورة بعقود وعقود بطريقة فنية عظيمة لملايين المشاهدين، هل هو مجرد ممثل أو موظف سلطة أو أداة تنفيس فني في أيدي النظام؟

ليس مطلوباً منك أن تخرج في مظاهرات وتشتم النظام كي تكون ثورياً، بإمكانك أن تكون ثورياً بعملك أياً كان. هل هناك عمل فني تاريخي لحاتم علي مثلاً لا يتعاضد مع مفهوم الثورة في أي مكان من هذا العالم؟ وكذلك الأمر بالنسبة للفنان الكبير ياسر العظمة؟ كيف تريدون منا أن ننسى إرثه الفني العظيم على مدى عقود لمجرد أنه لم يخرج في مظاهرات، ولم يشتم النظام بشكل مباشر ولمجرد أنه عاد إلى سوريا؟ هل ترك العظمة أصلاً أي جانب سياسي أو اجتماعي أو ثقافي إلا وثار عليه في أعماله الفنية الرائعة؟ هل ترك شيئاً لم يفضحه ويفككه بروائعه الجميلة؟ هل يصبح ياسر العظمة خائناً للثورة لمجرد أنه لم يعبر عن رأيه على مواقع التواصل أو لأنه عاد إلى البلد؟ ألم تكن كل أعماله ثورة بكل ما في الكلمة من معنى بطريقتها الخاصة؟

هل يا ترى دريد لحام وهو أشهر فنان سوري، وهو من أوصل أفكار محمد الماغوط الثورية التي سبقتنا بالثورة بعقود وعقود بطريقة فنية عظيمة لملايين المشاهدين، هل هو مجرد ممثل أو موظف سلطة أو أداة تنفيس فني في أيدي النظام؟ أضع هنا عشرات إشارات الاستفهام على هذا الكلام.

باختصار، ليس كل من صمت أو بقي في سوريا من الفنانين ملعوناً مطعوناً؛ لا أبداً، فحتى بشار اسماعيل الذي يحسبه البعض على النظام قال في النظام ما لم يقله مالك في الخمر، وفي آخر منشوراته كتب وصية ساخرة يقول فيها: “عندما أموت أريد أن أتبرع بكل أعضائي، ما عدا الأصبع الوسطى، أريد أن أتركها للحكومة السورية”، أي النظام طبعاً. وبصراحة عندما أشاهد باسم ياخور الذي يحسبونه على النظام وهو يؤدي دور ضابط المخابرات الطائفي القذر النذل السفيه الوحشي الساقط بطريقته الساخرة: أتساءل، هل يمكن لهذا الفنان الذي يشيّطن ويسفّه ويمسح الأرض بهذا النموذج الأمني الطائفي البغيض بهذه الطريقة الفنية الكوميدية ويجعلنا نحقد عليه، هل يمكن أن يكون مع النظام السافل أو مع هذه التركيبة الطائفية القميئة؟ وللأمانة فإن أداء باسم ياخور الرائع للشخصية الأمنية السورية الطائفية جعل السوريين وأنا شخصياً أكره وأمقت هذا النموذج الأمني الحقير أكثر بعشرات المرات، وأتمني لو أدوسه بقدمي.

أخيراً نقول: رفقاً بالفنانين والكتّاب والأدباء والمثقفين السوريين الذين كتبوا عن الثورة وتناولوها في أعمالهم قبل أن تحدث، من ينسى مسلسلي “ضيعة ضايعة” و”الخربة” لممدوح حماده، لقد كانت بعض حلقات “الخربة” أكبر إدانة للنظام، ودعوة حقيقية للثورة على “أبو نايف وأبو نمر” رمزي القذارة والوساخة السياسية الأسدية، ألم ينته مسلسل “الخربة” بثورة حقيقية؟ ولا تنسوا أن في الحلقة الأخيرة من “ضيعة ضايعة”، كما يشير أحد المعلقين، تصاب إم الطنافس التي ترمز لسوريا بمجزرة كيماوية؛ وقد حدث هذا بالفعل في سوريا بعد سنوات قليلة من عرض المسلسل!

 لقد سبق الكتّاب والفنانون الشعب بسنوات في الثورة ومهدوا لها، لقد كانوا طوال الوقت في أعمالهم وكتاباتهم يحذروننا مما سيحل بسوريا، وهذا عمل ثوري بامتياز لا يقل أهمية مطلقاً عن كل أشكال الثورة الأخرى. فطوبى لمن شارك من الفنانين بشكل مباشر سابقاً ولاحقاً، وكل الشكر للفنانين للذين شاركوا بأعمالهم الفنية والدرامية القيمة.

 

القدس العربي اللندنية في

08.01.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004