ملفات خاصة

 
 

حاتم علي بين غسان عبود وزهير رمضان...الظهور المتأخر للموت

أدهم حنا

عن رحيل عراب الدراما

حاتم علي

   
 
 
 
 
 
 

كان موت حاتم علي ظهوراً متأخراً للموت. الموت بالمعنى الأنسي الحديث، كردٍّ على دلالة أخرى، "النفوق السياسي"، أي الموت الحيواني بشقّه المادي البحت، الذي يتحلل فيزيائياً وكيميائياً ويمضي بلا معنى. في الثقافة الرمزية واليومية السورية الأسدية، يبدو أننا ننفق فقط، نتحلل ونموت من دون حمل معنى. السوريون في الزمن الأسدي البعثي، كل يوم يقولون عن موتاهم: "حقّه رصاصة، حقّك فرنك، راحو ببلاش، ارتاح من هالعيشة،.." كل هذه المقولات الملعونة تشبه عالماً طبيعياً حيوانياً لا معنى فيه لأي تحقق عقلاني أو إنساني. في موت حاتم علي تحققت ردّة مختلفة، في اكتشاف أن للموت معنى مختلفاً عما يجري في بلادٍ كاملة موتاها يوصفون بأنهم ينفقون، بشكلٍ مادي صرف.

كان لحرية حاتم بالمعنى الذاتي، أثرٌ كبير، وأيضاً للفن. الجنازة حملت طابعاً بشرياً جماعياً مختاراً ومحدداً، ليس الوجدان المشترك ما جعل السوريين ينزلون في خيوط بشرية طويلة لتقديم العزاء، بل اشتراكهم كردّ فعل لاواعٍ للاعتراف بالموت الإنساني المشترك في وجه إيديولوجيا عسكرية وسياسية حاولت صنع الموت بوصفه قيمة خاوية من أي معنى. رفع الآلاف كاميراتهم وأيديهم، لتصوير الموت والاعتراف به، على أنه موت. هنا، القيمة ليست لحاتم كفنان فحسب، واعترافاً للفنان بوصفه قيمة اجتماعية وفنية، بل ما تبقى من قيمة يمكن الإجماع عليها بوجه المقتول عسكرياً أو إرهابياً أو مقاوماً. في رفض تقديس العسكرة والفاشية الأسدية التي قدست المقاتل البشع والأجوف. الموتى المقاتلون فقدوا قيمتهم، في بلادٍ لا تملك سياسة ولا عقلنة ولا معنى اجتماعياً كثيفاً للعمل الروحي الغائي. موت حاتم علي نقطة بداية لما يريده العاديون ممن لا يحترفون السياسة، ونطاق تعبيراتها كاعتراف للموت الذي يهمهم ويعنيهم خارج الأدلوجة وسياقها.

كان الخلاف إذاً على تسييس موت حاتم بوصفه موتاً. فرفض النظام نعيه (أو نعاه الأسد متأخراً)، ذلك أن طبيعة موته تفقد معناها الذي يعترف به، فالميت مَن يكون قديساً ساذجاً للتضحية، قروسطي المعنى والتعبير، من أجل وطن لا يُرى ولا يقدم شيئاً. لا موتى في هذه البلاد سوى من يتبع النظام ويموت من أجل حماية كرسي قائده ونظامه، ومن يرسل لهم عسكره ليطلقوا النار ويرهبوا الناس برصاصاتهم في الطرق.

أما المعارضة بوجوهها الكثيرة، فشاهدت الموت بوصفه شعوراً عاطفياً، وبعضهم شاهد الموت بوصفه نفوقاً حيوانياً لمن لا يملك رأياً سياسياً في وجه نظام فاشي. في المعيار السوري، غيّر حاتم علي صيغة الموت المقبولة اجتماعياً، اكتُشف الموت في مسرح الشارع. في الأصل، المواطن الفردي يشعر بأنه ينفق كحيوان ساذج، غريزة تدميرية تتفاعل داخل السوري المهان في كل شيء، بدءاً من جوعه، وانتهاءً بصوته وحاكمية رأيه. والجميع من النخب يحاول معايرة الموت رغم أنه لا يظهر سوى كنفوق. بالكاد بقي حتى اليوم مَن يحصي الموتى مِن السوريين بالأصل جراء حربهم وجوعهم وفقرهم.

لا يمكن لوم حاتم علي على رأي امتلكه في السياسة، وحتى ما يبدو فيه مبدعاً، لا يحقق له أن يبدو ملهماً اجتماعياً أو سياسياً. في نهاية الأمر، يبقى حاتم علي مخرجاً تلفزيونياً ناجحاً، ولا يمكن جعله أكثر من ذلك. في عالمٍ قديم للتفكير، فيه غسان عبود وزهير رمضان، جرت محاكمة حاتم بوصفه رجلاً بلا أخلاق ولا يستأهل نعيه حتى. فأجازوا لأنفسهم قتل حاتم بعد موته. في سياق سوري عنفي، لا تبدو فيه السياسة حرفة، ولا تبدو زهداً في آن واحد، تجري محاولات قتل إضافي بحثاً عن معنى تفوقي أخلاقي حتى على الأفراد الذي يملكون شيطاناً خاصاً بعيداً من الحامل الاجتماعي وهمومه. هذا لا يعني أننا نطالب ميتاً بموقف سياسي، لكن ألا يستطيع السوريون أيضاً مساءلة محترفي السياسي عن غايات تصرفاتهم وعملهم وقيمهم ومعانيهم التي يبغون الوصول إليها؟

كان انعكاس الموت، آلاف الأيدي المرفوعة في بلاد لا يجتمع فيها الناس سوى لقتلهم بالرصاص، أو ليمجدوا الحاكم. بحسب إدوارد سعيد مثلاً، يبدو صمت حاتم علي فقراً في الثقافة الشخصية له، لأنه نأى عن الاستبداد والتسلط والوقوف في وجهه، لكن في الوقت ذاته، ألا يملك حاتم حرية أن ينأى عن المستنقع السوري لأنه شاهد ساسة سوريا في مستنقع دم؟

"الاقتصار على العمل التخصصي لا يعني الاستسلام الفاوستي".. في ما قدمه حاتم اقتصار على دور تخصصي، جرى فيه ذاتياً الابتعاد عما يبدو حرفة أخرى، مكتفياً بأن يكون عادياً في ما يخص السياسية. مع الطابع الثري الذي وضعه في الدراما، جعل موته موتاً إنسانياً لفرد سوري خاصٌ في عمله وكيانه، في بلاد فيها النفوق البهيمي سمة عامة وواضحة.

قد يبدو خلاف زهير رمضان، رئيس نقابة الفنانين، وغسان عبود، على موت حاتم علي معياراً للحسد العقدي، لدى اثنين من مبتذلي السياسية وساقطيها. الأول لا يجعل الفن أبداً معياراً في العمل اليومي، والثاني يظن أن السياسة حرفة مبتذلة. فن الأول عدمي، بالأصل ليس فناً، بل سلطة تدميرية للبشر بوصفهم أسديين أم لا، والثاني لا يعرف كم من المخيف أن تكون ثورياً، أو حتى أن تشارك في ثورة. أقله استطاع حاتم علي الموت سورياً، مات بين مواطنيه في حريةٍ قدم فيها أعماله كفرد، لا نعرف مستوى الحرمان الذي حصل عليه، إلا أنه مات كروح وجسد، وقيمة ما قدمه انعكس في مسرح النفوق السوري كدلالة ضدّية. من هنا، يبدو غسان عبود لاهثاً ليأخذ موقعاً أخلاقياً أسوة بزهير رمضان، وهما اللذان تشي مقدمات أعمالهم بفشل ذريع في ترك الأثر.

هذا لا يعني في نهاية المطاف أن حاتم علي لن يتحمل في عيون كثر لوماً لصمته، لكن في اعترافنا بتوتاليتارية النظام الأسدي، وطبيعة الفرد الذي أنتجه، لا يبدو هذا غريباً أبداً. شيطان الفن كان كافياً ليموت حاتم كما يحب. وفي مكمنٍ آخر، هناك التسامي الذي بالغ فيه السوريون، دلالةً على بحثهم عن موت مستحق لمن يقدملهم  شيئاً، ولا يبدو متسخاً، لا بسياسة يومية، ولا بمعنى فكري وثقافي عميق. هنا جرح آخر لعشرات المفكرين والكتاب والمثقفين الذين ماتوا وظهر موتهم أيضاً كنفوق. المبالغة تأتي من عصر التلفزيون والجهل السوري بما يبدو عميقاً. سوريا حملت في تاريخها القريب، آلافاً ممن يستحقون معنى عاماً لموتهم وألماً جماعياً أيضاً. لا نقلل هنا من حاتم علي، لكنه اتزان منصف لما يجب أن يعنيه الموت أيضاً في المسرح السوري.

عارض حاتم علي النفوق السوري واستثناه، على أمل أن يبحث السوريون عن أموات يستحقون العزاء، أو يتجرؤوا على رفع أيديهم ليصوروا مآتم يستحقون الاحتفاظ بتاريخها. موت حاتم مساءلة لثقافة السورين أيضاً.

 

المدن الإلكترونية في

09.01.2021

 
 
 
 
 

رجل بحجم الشام

بروين حبيب

تعرّفت على حاتم علي أيام سرق المشهد الدرامي السوري قلوبنا بروعته، وسحرنا بجمالياته، وكنا على مدى عقود من الزمن مُحتَكَرين كمشاهدين بالدراما المصرية. شيء مختلف تماما قدمته الدراما السورية منذ بدايتها، كان أقوى من كل الأعمال التي عوّدنا عليها التلفزيون، كونه كان حقيقيا، حدّ إدهاشنا مثل المرآة التي عكست دواخلنا بكل تفصيلاتها.

حاتم علي كان واحدا من كوكبة النجوم الذين صنعوا تلك الدراما المدهشة، حيث الكل متساوون في الأداء، لا كومبارس ولا نجوم صف أول ولا ثانٍ. عرفته على الشاشة ممثلا ثم مخرجا قبل أن أجتمع به في لقاء مطوّل. شهدت إطلالاته الأولى، وشهدت نجوميته السّاطعة، ثم قرأته ككاتب قصة جد متميز، ثم ها أنا أشهد غيابه المفجع، ليعيد مشهد غيابه شريطا كاملا لعشقي لسوريا، وما عشته فيها من ذكريات حلوة من المحال أن تنسى.

غير كل المشاهد الحزينة التي قدمها حاتم علي جاء المشهد الأكثر حزنا من إخراجه أيضا، لكنّه هذه المرّة كان مشهدا فريدا من نوعه، منح فيه فرصة لجمهوره العريض أن يكون خلف الكاميرا ويكون هو أمامها يؤدي مشهده الأخير. هبّت الجماهير العربية إذن، وهبّت الشام كلها لوداعه، تبكي رحيل الحالم الذي رسم الكثير من أمنياتها الجميلة، وقدّمها لنا دافئة مشرقة عابقة بألوان من الروائح الثقافية، التي تلاقحت على أرضها وأثمرت بما هو أجمل وألذّ.

هل كان ما شعرت به نابعا من الشّام، فأوهمتني أنها شبيهة البحرين في حميميتها ومذاقها المألوف؟ أم أنّه نابع من تلك الصداقات التي تكوّنت بشكل عفوي، منذ زرت الشّام أول مرة، فما شعرت بغربة ولا بوحدة، ولا بذاك الارتياب الذي يشعر به الغريب حين يحل ببلد أجنبي؟ أدهشتني الشام بعراقتها، وأدهشني موزاييكها الثقافي الذي وجدته كما تمنيت تماما. وأذكر كيف فتحت لي ذراعيها، خاصة مبدعيها وكبارها، كنت محظوظة جدا بذلك الحضن الكبير الذي وجدتني في كنفه، وهذا موضوع يطول سرده، لكن لا يمكنني فتح موضوع حاتم علي بدون فتح بوابة صنّاع الدراما وعلاقتهم ببرنامجي «نلتقي مع بروين حبيب» فأنا أدين لهم بالكثير، فقد كانوا بالنسبة لي المدرسة الثانية والثالثة، والجامعة الحقيقية التي تعرفت من خلالها على أهم الوجوه والتجارب الدرامية. كما لا يمكنني إلاّ فتح بوابة الشّام على مصراعيها، شام الحرف العربي، مقام ابن عربي، جبل قاسيون، وكل تلك الأماكن والرموز والعلامات، التي ترسم لوحة جميلة لكل ما أعشق ووجدته. من الصدف الجميلة والمحطّات المهمة في حياتي استضافة «المخرج الكبير الكبير» هيثم حقي، لي هو وزوجته هالا محمد الشاعرة الموهوبة الذكية في بيتهما، فوجدتني محاطة بالشعر والفنون كلها دفعة واحدة في حضرتهما.

من حسن حظي أيضا أن تعرّفت على السيناريست ريم حنّا، التي استضافتني أيضا ونشأت بيننا صداقة متينة جدا. تعود صور لقائنا في مطعم النارنج في باب توما في الجانب القديم من الشام حول طاولة العشاء، وحديث شيّق قرّب مشهدية الأحلام السورية الكبيرة، التي كان يحلم بها المبدعون والفنانون. كانت تلك من أول علاقاتي بالعائلة الفنية السورية، التي امتدت حتى بعد تبعثر أهل الفن بسبب خلافات سياسية لا معنى لها. بقيت بصمة ذلك الماضي في ذاكرتي وقلبي، وها هي تطفو على السطح كما لو أنّها حدثت البارحة. في أرشيفي ذاكرة بأكملها عن المشهد الثقافي السوري، بدءا بحنا مينه الكاتب الذي عشقته من الغلاف إلى الغلاف، إلى المفكر والشاعر أدونيس، الذي احتفى بي من أول لقاء بيننا في بيته بجبلة، إلى كل من حاورتهم بحثا عن بصمات إبداعية تميز سوريا مثل، الرسام نذير نبعة الذي حاورته في أليسار بيت عربي قديم، والمفكّر الطيب تيزيني الذي رفض أن يأخذ مكافأته المالية خجلا، وأذكر أنه قال لي إنه من المفروض أن يعطوني مكافأة على دوري التنويري عبر برنامج «وجوه» عام 2002-2003. كما حاورت الكاريكاتوريست علي فرزات ملك بلاغة الصمت، والفنان العراقي جبر علوان حين كان مقيما في دمشق، والموسيقي المبدع طاهر مامللي… كلهم كانوا يمثلون الشام، فلم تكن سوريا آنذاك كما تخيلنا مجرد ورشة جديدة للدراما التلفزيونية، وإن كان ما شدّني إليها بعد الرواية هي الدراما فعليا. لقد كانت أوسع من سماء صيفية مقمرة مرصعة بالنجوم، وكانت تعد بالكثير.

ثمة أوقات يستحيل نسيانها تحدثت فيها عن تلك السماء مع صديقيَّ أمل عرفة وعبد المنعم عمايري، مع ضحكات نابعة من القلب لا تزال تنبض بالحياة في ذاكرتي. ثمة صور استثنائية لأمسية شعرية جمعت اثنتي عشرة شاعرة في الآرت هاوس، نظمتها الصديقة الشاعرة هالا محمد، وها هي تركض في شريط سحري أمام عيني كأنها حدثت البارحة، تحمل تفاصيل المكان الذي كان طاحونة قديمة قبل أن يُحوّل لفندق غاية في الجمال، ملتقىً لعشاق الشام والفن. كانت المفاجأة في تلك التظاهرة الشعرية، إقامتي في غرفة تحمل اسم المخرج العظيم مصطفى العقاد، الذي كان صديقي أيضا، وكان لكل شاعرة غرفة مجيّرة باسم فنان من الكبار، فقد حملت كل غرفة اسما، مثل نزار قباني، ولؤي كيالي، وفاتح المدرّس، وآخرين.

الأكيد أن حاتم علي صفعنا بموته صفعة مفاجئة، أعادتنا لرشدنا ولو لحين، وهذا ما جعل البكاء عليه حارًّا وحارقا، لقد بكينا في شبابه شبابنا المهدور أيضا، وبكينا عبقريته التي حرمنا منها وهو في عز عطائه، وبكينا كل خساراتنا التي لا تعوض وكأننا رأينا مستقبلا ينتظرنا في نهاية انتظاره.

تحضرني أيضا مهرجانات أدونيا للدراما، بكل زخمها وفخامتها. وتحضرني المدينة بروحها المتفرّدة، من المزرعة، إلى الحميدية، والأسواق القديمة، والعطّارين، وسوق ساروجة، إلى السيدة رقية، التي زرتها مع الكاتب والسيناريست خيري الذهبي فارتبطت في ذهني به، وبمقهى النّوفرة حيث شربنا الشاي. كما ارتبط مقهى الرّوضة ومعهد الفنون بجمال سليمان، فكانت بداية لصداقة جميلة، مستمرة إلى اليوم. يحضرني أيضا أحمد معلاّ الفنان التشكيلي الساحر الذي صمم ديكور وسينوغرافيا مسلسل «الزّير سالم» حين دعاني لزيارة موقع التصوير، ومشاهدة كل تفصيلات المكان لذلك المسلسل الرائع. كما يحضرني أسعد فضة، بقامته العظيمة، وقد ارتبط به قصر العظم، حيث صورت معه مقابلة من أجمل مقابلات برنامجي التلفزيوني.

كل هؤلاء والقائمة طويلة لذكرهم جميعا أدين لهم بالكثير، لأنهم رفعوا من مستوى برنامجي، وشكّلوا إضافات مهمة لي. ومن بينهم حاتم علي، الذي التقيته بعد نجاح مسلسله «صراع على الرمال» ويومها اكتشفت الخلفية الثقافية الواسعة والعميقة والصّاخبة لرجل هادئ، يوحي لمجالسه كل الوقت أنّه غارق في التفكير. اكتشفت القارئ النّهم، وكاتب القصّة، والممثل والمخرج الشغوف بعمله، والإنسان المجتهد بكل ما أوتي ما قوة، والنّاقد اللاذع لنفسه ولعمله. من معرفتي القصيرة به أحببت سرعة بديهته، وردة فعله الذكية، وأجوبته البليغة، وأدركت أنّه علامة فارقة في الدراما السورية التي أحببتها بوجهها السوري الخالص، بدون أي إضافات من هنا وهناك، ولي في هذا الموضوع ما أقوله، ربما في مناسبة أخرى إن سنحت لي فرصة. فلطالما وددت أن أكتب بغزارة عن «ذكريات الزمن القادم» لريم حنّا والمخرج هيثم حقي (أستاذ حاتم علي) و«الفصول الأربعة» لدلع الرحبي وريم حنا، و«عصي الدمع» و«التغريبة الفلسطينية» التي عشتها بكل جوارحي، و«الثلاثية الأندلسية» و«خان الحرير» و«الثريا»… أحببت لمسة الأستاذ المبدع وابتكارات التلميذ المجتهد، قبل أن يصبح هو الآخر معلما كبيرا، فلطالما أعجبت باستمرارية مدرسة هيثم حقي وإثمارها، وكنت كما غيري من ملايين المعجبين بحاتم علي، نحلم أن نرى وهو شاهد معنا ثمار من اجتهد في تعليمهم، لكنّه قرر أن يغادر باكرا، ولا أدري هل يمكن لصدمة موته التي وحّدت السوريين، أن تُبقي على وحدتهم هذه؟ وهل يمكن للعائلة الفنية أن ترمم الشرخ الذي شطرها نصفين؟

من شهق لموت حاتم علي مصدوما وبكاه بحرقة، وهو يتابع جنازته، سيدرك أن فجيعته وبكاءه كانا بسبب شيء مفقود أعاده حاتم إلى الحياة بموته، شيء مثل الحب، ولكنّه أكبر، شيء مثل الجمال، ولكنه أيضا أكبر، شيء كالذي فاضت به ذاكرتي، من ماضِ عبق لسوريا العظيمة، شامل وجامع لكل ما كانت تزخر به الشّام وفقدته في غفلة منها، حين تخاصم أبناؤها بعد اختلافهم بشأن مستقبلها.

الأكيد أن حاتم علي صفعنا بموته صفعة مفاجئة، أعادتنا لرشدنا ولو لحين، وهذا ما جعل البكاء عليه حارًّا وحارقا، لقد بكينا في شبابه شبابنا المهدور أيضا، وبكينا عبقريته التي حرمنا منها وهو في عز عطائه، وبكينا كل خساراتنا التي لا تعوض وكأننا رأينا مستقبلا ينتظرنا في نهاية انتظاره… وبيني وبينكم بكيت زوجته ورفيقة عمره دلع، التي أصبحت وحيدة، والخاسر الأكبر بموته، وقد حضرني إهداء خصّها به على مجموعته القصصية «موت مدرس التاريخ العجوز» : «إذا كان في القصص ما يستحق أن يُهدى فإلى الغالية د. الرحبي طبعا» كان ذلك سنة 87 وأعتقد أن الإهداء ساري المفعول إلى الأبد…

شاعرة وإعلامية من البحرين

 

القدس العربي اللندنية في

10.01.2021

 
 
 
 
 

حاتم علي... رحل المخرج ولم يهدأ الجدل السياسي

عماد كركص

لا تزال وفاة المخرج والممثل السوري الشهير حاتم علي، تثير جدلاً بين الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي داخل سورية وخارجها. ورغم أنّ أغلب السوريين على اختلاف توجهاتهم السياسية عبّروا عن حزنهم على رحيل "أب الدراما السورية الحديثة"، إلا أن نقاشاً آخر وجد طريقه إلى العلن: الموقف السياسي لحاتم علي. مناسبة هذا الحديث في الأيام القليلة الماضية كانت تقديم رئيس النظام السوري بشار الأسد العزاء لعائلة الفنان اللبناني الراحل إلياس الرحباني الذي توفي الأسبوع الماضي بعد إصابته بفيروس كورونا. الأسد نفسه الذي تجاهل، هو وكل أركان ومؤسسات نظامه الفنية والثقافية والإعلامية، رحيل حاتم علي، حتى بعد تشييعه الشعبي في دمشق. هذا التجاهل فسّره كثيرون على أنّه غضب من مخرج "الفصول الأربعة"، بسبب عدم تأييده العلني للأسد عندما بدأت الثورة، ثمّ مغادرته الأراضي السورية نهائياً عام 2012، إذ لم يعد إلى الشام إلا جثة بعد وفاته في القاهرة نهاية العام الماضي، وهو ما اعتبره سوريون كثر اعتراضاً على النظام وممارساته، تحديداً بعد شنه حرباً دموية على شعبه بعد أشهر قليلة من انطلاق الثورة.

رأي آخر قاده هذه المرة عدد قليل ممن يعتبرون أنفسهم معارضين للنظام، بينهم صاحب شبكة "أورينت" غسان عبود الذي كتب تدوينة طائفية على حسابه على "فيسبوك" بعد وفاة حاتم بيوم واحد. إذ كتب بداية "في موت المخرج حاتم علي: صمته على الجريمة التي ارتكِبت بحق الأكثرية السورية وقتل نحو مليوني شخص منها، وتدمير نحو 90 في المائة من حواضرها يحسب له، لم نكن نريد منه كعلوي أكثر من هذا الموقف، فالإنسان موقف، ولم نكن ولا نريد من العلويين أكثر من موقف صامت على الأقل". ثم أضاف: "لكن صديقي الكاتب والإعلامي محمد منصور صَلَّح لي المعلومة قبل نشرها، وأكد أن حاتم علي سُني من الجولان، وكنت أظنه علويا. تأملت: لو كان حاتم صاحب موقف إنساني رافض للجريمة الكبرى في التاريخ الحديث، كانت نسبة لا بأس بها ستنعيه سلباً، هي نسبة السوريين المشاركين في الجريمة. أما شخص بلا موقف ويحصد كماً من الثناء على إنسانيته ومن الأكثرية المتضررة فلا تُفسر الظاهرة إلا على أنها نفاق مهزوم مأزوم. إنسان صمت على جريمة إبادة جماعية مليونية ساقط إنسانياً. وموت الإنسان لا يلغي تقييمه الحقيقي".

مغادرة حاتم علي سورية إشارةٌ لعدم قبوله بانتهاكات النظام 

تدوينة عبود أعادت طرح علامات استفهام حول موقف علي الحقيقي وأثارت ضدّه حملة عنيفة من سوريين معارضين خارج سورية. ليجمع قسم كبير من هؤلاء على أن مغادرة علي سورية، وعدم عودته إليها، كما شطبه من لوائح نقابة الفنانين، ثمّ تجاهل النظام لوفاته بشكل تام، دليل على موقفه الرافض لسياسة النظام منذ عام 2011، وإلا كان بقي في دمشق، حاله كحال عشرات المخرجين الذين وقفوا إلى جانب الأسد في مذبحته المفتوحة

وما ساهم في ترسيخ وجهة النظر هذه، هو نعي النظام للرحباني برسالة مؤثرة من بشار الأسد، رغم أنه رحل فقط بعد أيام قليلة من رحيل علي جاء فيها: "عائلة الفقيد إلياس الرحباني وعموم آل الرحباني الكرام في بيروت لقد أحزننا وآلمنا خبر رحيل المبدع إلياس الرحباني، أتقدم إليكم باسمي وباسم عائلتي وجميع الشعب السوري بأحر التعازي القلبية وصادق المواساة بهذا الفقد الجلل، سائلاً الله عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته وأن يلهمكم وجميع محبي الراحل العظيم الصبر والسلوان".  مضيفاً: "لقد امتلك الفقيد، وأخواه الراحلان عاصي ومنصور، مشروعاً ثقافياً مميزاً قدموا من خلاله أعمالاً رائدة ستبقى خالدة في الذاكرة والوجدان العربي والعالمي. وأغنوا الموسيقى العربية بإبداعات شكلت إضافة نوعية في تاريخ الموسيقى والألحان. ولا شك أن هذا الإرث العظيم سيبقى مصدر إلهام وثروة تنهل منها الأجيال. بأمثال الراحل الكبير تكبر قيمة الأوطان. لروحه الرحمة ولجميع أفراد العائلة أحرّ التعازي".  

في هذا الإطار قال الصحافي السوري، علي عيد، الرئيس السابق لـ "رابطة الصحافيين السوريين" على صفحته: "وسائل إعلامه امتنعت حتى عن تغطية تشييع ابن البلد حاتم علي، فيما تدفعه الحكّة الإنسانية الوطنية التي (تنقح عليه) للتعزية رسمياً بإلياس الرحباني. حتى في الموت لا يحترم الأسد ألم السوريين.. رحم الله حاتم علي والرحباني". أما الصحافي إياد شربجي تحدث في منشور مطول عن موقف المخرج علي حيال النظام، وقائلاً: "في شباط 2011 اتصلت به أدعوه لمظاهرة أمام السفارة الليبية، فجاء برفقة زوجته الإنسانة الرائعة أيضاً الكاتبة دلع الرحبي، وحملوا الشموع وغنينا معاً النشيد السوري، كانت الثورة السورية على شفير الانفجار وقتها. قامت الثورة، وبدأت المظاهرات، وكنت أحرص على دعوة بعض المشاهير لفعاليات الثورة لنواجه رواية النظام بأن من يخرج في المظاهرات طائفيون وجهلة وعاطلون عن العمل وغرباء. اتصلت بحاتم أدعوه لإحدى المظاهرات، لكنه لم يكن متحمساً هذه المرة، ودعاني إلى منزله في مشروع دمر، ذهبت إليه، كان ودوداً كالعادة، لكنه كان محبطاً على عكس ما توقعت. سألته ما القصة، كنت أتوقع منك أن تكون بقمة سعادتك وأنت ترى المظاهرات، ولطالما تحدثنا عن الأمر؟ فقال: تتذكر شو عملوا وقت المظاهرة قدام السفارة الليبية؟ قلت له: بتذكر، لاحقونا وضربوا البعض. فرد: إياد ما حيخلوها تكمل، هاد النظام وحش وما بيقدر يعيش بدون دم، أنا بعرفهن من جوّا، يستحيل يسمح بالتغيير". 

وأضاف شربجي: "في ذلك الوقت كان حاتم يتعرض لضغوط كبيرة ليظهر على الإعلام السوري ويشتم الثورة، فظننت أن موقفه ناجم عن هذه الضغوط. لكنني كنت متحمساً جداً حينها وواثقا من انتصار الثورة، فقلت له: مو عكيفو يقبل وما يقبل، الثورة حتدعسو بطريقها، فرد: ارتباطات النظام السوري مو متل غيرو بالمنطقة، ولا أحد سيساعد على إسقاطه، وفعلا هذا ما حصل بعد ذلك. لاحقاً خرجت أنا من سورية، وتنقّل حاتم بين مصر ودبي إلى أنْ تقطعت به السبل، فهاجر إلى كندا لأجل ضمان مستقبل أولاده في مكان آمن، وكان في قمة الإحباط أنه اضطر ليهاجر إلى مكان بعيد عن روحه وأحلامه". 

تُعد تعزية النظام بالملحن اللبناني إلياس الرحباني وتجاهل التعزية بحاتم علي رغم كونه سورياً، رداً حاسماً من قبل النظام حول علاقته بالمخرج. غير أن النظام لم يستطع منع جثمان علي من العودة ليدفن في دمشق، كي لا يكون بذلك محط مزيد من السخط في الأوساط الشعبية داخل حدود سيطرته، لا سيما في دمشق، في ظل تردي الوضع المعيشي والاقتصادي، وكذلك في الأوساط الفنية، خوفًا من خسارة الفنانين الذين لا يزالون يحافظون على موقف محايد.

 

العربي الجديد اللندنية في

11.01.2021

 
 
 
 
 

إطلاق اسم المخرج السوري الراحل "حاتم علي" على شارع في مدينة طولكرم

نجوم وفن

أطلق الفلسطينيون، اليوم الأربعاء، اسم المخرج السوري الراحل حاتم علي، صاحب مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، على أحد شوارع مدينة طولكرم في الضفة الغربية تكريماً له.

ونقشت صورة لعلي على لوحة من الرخام وضعت على واجهة أحد المباني الملاصق للشارع.

وكتب على اللوحة إلى جانب الصورة "الكاتب والفنان المخرج السوري المبدع ولد في الجولان عام 1962 وشهد طفلاً مرارة النزوح بعد احتلاله والتي تتقاطع مع تراجيديا اللجوء الفلسطينية عام 1948 التي عاينها في صباه وشبابه حيث عاش في مخيم اليرموك في سورية".

وجاء فيها: "ظل وفيا لعدالة القضية الفلسطينية وحقوق شعبها المشروعة فأرخ للرواية الفلسطينية في مسلسل التغريبة الفلسطينية في مواجهة سردية المحتل"، "وأصّل في مسلسل (صلاح الدين الأيوبي) لمكانة المكان الفلسطيني المقدس في ضمائر المؤمنين مسلمين ومسيحيين".

وقال وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف: "إن تسمية هذا الشارع باسم حاتم علي جاءت تكريماً للفنان الراحل، وتخليداً لذكراه العطرة وامتناناً من الشعب الفلسطيني للأعمال الفنية الكبيرة التي قام بها".

وأضاف في بيان لوزارة الثقافة: " هذا الفنان الذي رافق القضية الفلسطينية، قضية العرب الأولى، هذه شكراً كبيرة من فلسطين إلى الراحل، وهي لفتة بأن فلسطين لا تنسى من يقف إلى جانب قضيتها العادلة ويساندها".

وتابع أبو سيف قائلاً "وهي رسالة إلى الفنانين العرب أن يعملوا من أجل قضيتهم العربية الأولى قضية فلسطين، حاتم علي الذي كان مخلصاً لفلسطين، كان يدرك أن فلسطين هي البوصلة الحقيقية للألم الفلسطيني والعربي".

وتوفي المخرج السوري حاتم علي في التاسع والعشرين من الشهر الماضي عن عمر ناهز 58 عاما نتيجة نوبة قلبية في أحد فنادق العاصمة المصرية القاهرة.

والراحل أحد أبرز صناع الدراما التلفزيونية العربية تمثيلاً وإنتاجاً وكتابة وإخراجاً، ولم يقتصر عمله على سورية فحسب، بل امتد للمنطقة العربية بأكملها.

وقال أبو سيف إن "الراحل حاتم علي آمن بأن القضية هي قضية العرب جميعاً، وناضل من أجل إيصال صوت الحق الفلسطيني، وفضح الجرائم التي ارتكبت بحق شعبنا خلال النكبة".

وأضاف "تحديداً هذا ما فعله حاتم علي في التغريبة الفلسطينية وغيرها من الأعمال الفنية التي أكدت على الحق الفلسطيني في هذه البلاد، وفضحت الظلم التاريخي الذي وقع على شعبنا على يد العصابات الصهيونية".

وبدأ علي مشواره الفني في ثمانينيات القرن الماضي ممثلاً، فشارك في مسلسلات "دائرة النار" و"الرجل الأخير" و"كهف المغاريب" و"الخشخاش" و"أحلام مؤجلة" و"الجوارح" و"العبابيد" و"الرجل س" و"التغريبة الفلسطينية".

في منتصف التسعينيات تحول إلى الإخراج وكان شغوفاً بالأعمال التاريخية والسير الذاتية، فقدم مسلسلات "الزير سالم" و"صلاح الدين الأيوبي" و"صقر قريش" و"ربيع قرطبة" و"ملوك الطوائف".

وقاده طموحه لتخطي الحدود الجغرافية، فامتدت أعماله إلى أرجاء المنطقة العربية، حيث قدم في مصر مسلسلات "الملك فاروق" و"تحت الأرض" و"كأنه إمبارح" و"أهو ده اللي صار"، وفي الخليج قدم مسلسلات "صراع على الرمال" و"أبواب الغيم" و"عمر".

وفي السينما، قدم أفلاماً روائية قصيرة وطويلة، منها "العشاق" و"سيلينا" و"الليل الطويل" و"شغف" وغيرها.

(رويترز)

 

العربي الجديد اللندنية في

27.01.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004