ملفات خاصة

 
 
 

"الأب" أنتوني هوبكنز: أداء رائع

محمد هاشم عبد السلام

القاهرة السينمائي الدولي

الدورة الثانية والأربعون

   
 
 
 
 
 
 

في تجربته الأولى، "الأب" (2020)، نجح الروائي وكاتب المسرح الفرنسي فلوريان زيلّر (1979)، باقتدار شديد، في ترسيخ اسمه سينمائياً. أحد أهم كتّاب المسرح في العالم في العقدين الفائتين، نال جوائز كثيرة، وتُرجمت أعماله إلى لغاتٍ عدّة. لكنْ، يبدو أنّه غير مُكتفٍ بالكتابة الأدبية.

اللافت للانتباه أنّ كاتباً له ثقله الأدبي لم يكتب سيناريو وحوار فيلمه الأول، إذْ شارك السيناريست المخضرم كريستوفر هامبتون في كتابة سيناريو "الأب"، المقتبس من مسرحية له بالعنوان نفسه، منشورة بالفرنسية عام 2012، وفائزة بـ"جائزة موليير المسرحية" المرموقة في فرنسا عام 2014، إلى جوائز أخرى.

في إطارها العام، تتناول قصّة "الأب" موضوعاً مطروقاً في السينما: قضية الآباء كبار السنّ، وصعوبة التعامل معهم، خاصة عندما يحتاجون إلى رعاية واهتمام، بسبب مرضٍ أو شيخوخة؛ وعندما يصيرون عبئاً على أبنائهم. قصّة "الأب" تتناول تحديداً مرض الخرف أو ألزهايمر، الذي يزحف تدريجياً على عقل أنتوني (أنتوني هوبكنز) الثمانيني، ويسيطر كلّياً عليه. في "الأب"، البطل ليس امرأة، إذْ إنّ "أبطال" غالبية الأفلام التي تناولت الخَرَف نساءٌ عادةً، ومواضيعها متمحورة أساساً حولهنّ.

مثلاً، "إيريس: مذكّرات إيريس مردوخ" (2001)، للبريطاني ريتشارد أيِر: قصّة حبّ رومانسية بين الروائية المشهورة وزوجها، منذ سنواتهما الدراسية الأولى حتى إصابتها بالمرض. الفيلم مأخوذ عن كتابي "إيريس: مذكّرات" و"مرثاة لإيريس" لجون بايلي، زوج الكاتبة. ورغم أنّه من بطولة كايت وينسلت (إيريس الشابة) وجودي دانش (إيريس العجوز)، ورغم فوزه وترشّحه لأكثر من جائزة، إلا أنّ جيم برودبنت هو من فاز بـ"أوسكار" أفضل ممثل مساعد. هناك أيضاً "بعيداً عنها" (2007)، للكندية سارة بولي، الذي ترشّحت جولي كريستي لـ"أوسكار" و"بافتا" أفضل ممثلة، لأدائها شخصية فيونا، وفازت بـ"غولدن غلوب". الفيلم مأخوذ عن قصّة قصيرة لأليس مونرو، "لا تزال أليس" (2015)، للأميركي ريتشارد غلاتزر والبريطاني واش ويستمورلاند، مع جوليان مور الفائزة بجوائز "أوسكار" و"بافتا" و"غولدن غلوب" عن دور أليس. الفيلم مأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه، للأميركية ليزا جينوفا.

بالإضافة إلى "المرأة الحديدية" (2011)، للبريطانية فيليدا لويد (سيناريو آبي مورغان)، مع ميريل ستريب في دور مارغريت تاتشر، فازت عنه بـ"أوسكار" و"بافتا" و"غولدن غلوب" أفضل ممثلة. و"سبل غير مطروقة" (2020)، للبريطانية سالي بوتر، مع خافيير بارديم وسلمى حايك، غير مأخوذ عن عمل أدبي، كفيلم لويد، أي أنّهما كُتبا مباشرة للسينما: يتناول حياة ليو ومشكلته مع بدايات إصابته بالمرض (ألزهايمر)، عبر عينيّ ابنته، الشاهدة على تدهور حالته.

يُلاحظ اهتمام المخرجين البريطانيين بتقديم هذا المرض سينمائياً أكثر من غيرهم، رغم أنّ نسبة المرض، الذي يزداد انتشاره مؤخّراً، تكاد لا تُذكر في بريطانيا، مقابل مدى انتشاره في دول أخرى، أبرزها اسكندينافيا وأميركا وكندا. الأفلام مأخوذة عادة عن نصوص أدبية، ومؤدّو الأدوار الأولى فازوا بـ"أوسكار" أفضل تمثيل وبجوائز مرموقة عدّة. يؤخذ هذا بالاعتبار، بشدّة، إنْ تمّ التكهّن باسم الفائز بـ"أوسكار" أفضل تمثيل، في نسخة العام المقبل، إذْ يُتوقّع فوز أنتوني هوبكنز بها، فأداؤه يستحق أكثر من جائزة. في "الأب"، تجلّت عبقريته الأدائية، وسطعت خبرة السنين، فسحرت المُشاهد، ليس بنبرة صوته أو تعبير وجهه فقط، بل بكلّ ما لديه من مَلكةٍ وظّفها خير توظيف لصالح الشخصية: يضحك ويسخر ويحزن ويغضب ويخاف، ويبكي كالأطفال، ويرتعب، ويرقص رقصاً إيقاعياً أيضاً.

أداء غير سهل أبداً. استغرق أنتوني هوبكنز فترة طويلة للموافقة على تأدية الدور. فلوريان زيلر محقٌّ تماماً في إصراره على أنْ يؤدّي هوبكنز، لا أحد غيره، شخصية أنتوني. ورغم الأداء الفذّ للممثل، الذي يصعب عليه هو نفسه تكراره في أدوارٍ أخرى لاحقة، برز إلى جانبه أداء مُذهل وهادئ وبسيط لأوليفيا كولمان في دور ابنته آن. والممثلة فائزة بجائزتي "أوسكار" و"غولدن غلوب" أفضل ممثلة، عن دورها (الملكة آن) في "المُفضّلة" (2019) لليوناني يورغوس لانتيموس.

في "الأب"، الفائز بجائزة أفضل فيلم في الدورة الـ68 (18 ـ 26 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان سان سيباستيان السينمائي"، لا تغادر الكاميرا جدران شقّة أنتوني سوى مرة واحدة، مع آن في سيارة أجرة، قبيل نهاية الفيلم. هناك نظرات عابرة لأنتوني أو آن من النافذة إلى الشارع أو الجيران، في مشهدين أو ثلاثة. طول الوقت، ينحصر الأداء في نحو 90 دقيقة (مدّة الفيلم 105 دقائق) داخل الجدران الأربعة، مع 4 أو 5 شخصيات، أغلبها ثانوي. حوار مُكثّف وغير منقطع، إلا عندما يستمع أنتوني إلى الموسيقى. رغم ذلك، لا ملل إطلاقاً، بل إثارة وتشويق واستمتاع، وقبل هذا، هناك السينما، الحاضرة كلّياً. الفيلم غير مُمسرح، ولا حوار أو أداء أو إيقاع أو مونتاج مسرحي نهائياً.

صحيحٌ أنّ عوامل نجاح "الأب" تُعزى إلى جوانب كثيرة، كالسيناريو المحترف، والأداء العبقري، ووحدة المكان، والتصوير في الاستديو. لكنّ القبضة المُحكمة على العناصر كلها، وخلق توليفة رائعة بينها، وجعلها تعمل معاً بانسجامٍ وانسيابية وفنية، تُعزى إلى مُخرج متمكّن من أدواته، وموهوب بشدّة، ويعرف جيداً ما يُريد تقديمه. تجلّى هذا في نقطة فارقة، تُحسب لـ"الأب"، مقارنة بغيره من أفلامٍ تناولت الموضوع نفسه، إذ ابتعد السيناريست والمخرج، إلى أقصى حدّ، عن العاطفة والميلودراما، وعن شحنات انفعالية يُثيرها موضوع كهذا، ويُبرزها الأداء التمثيلي. لا يعني هذا أنّ "الأب" يتّسم بالجمود أو البرود، ويخلو من العاطفة والشحنات الانفعالية والمواقف المُؤثّرة والقاتمة. فبراعته تجلّت في وضع المُشاهدين داخل، وليس خارج، الحالة الذهنية والعقلية للشخصية، لا خارجها.

مع لقطات الختام، يُدرك المُشاهد أنّه كان في عقل أنتوني. يعيش معه عن كثب تدهور حالته الذهنية، بدءاً من مُصارحة آن بتركها إياه والانتقال إلى باريس، ثم نفي هذا، إلى أنْ يتأكّد الأمر مع مشاهد الختام.

رغم بنيته الجسمانية السليمة، يتلاشى التركيز الذهني لأنتوني تدريجياً، وتضعف قدرته على تذكّر الأسماء، وترتيب المَشَاهد، التي يتّضح أنّها محض نسيج متضارب من ذكريات مُفكّكة أو مُركّبة أو متداخلة، أمام أعين المُشاهدين وبمشاركتهم. ففي "الأب"، يعيش المُشاهد الحالة، كأنّه أنتوني، ولا يكون متفرّجاً خارجياً وسلبياً، يتلقّى المادة الفيلمية، ويتفاعل معها بمشاعره، ثم ينساها.

 

العربي الجديد اللندنية في

23.12.2020

 
 
 
 
 

كامل الباشا لـ«بوابة الأهرام»:

أردت دخول عالم السينما المصرية من بوابة «حظر تجول» | حوار

مي عبدالله

·        إلهام شاهين ممثلة قديرة وإنسانة رائعة

·        أمير رمسيس مخرج متميز وغموضه غير مزعج

·        وأحب أعمالي هو ما لم أنجزه بعد.. ولا أعرف ما هو

·        لولا جائزة «فينسيا» لكنت مغمورًا إلى الآن

·        مشاركة أفلامي في المهرجانات نتيجة وليست هدفًا

يشارك الفنان الفلسطيني الكبير كامل الباشا في بطولة الفيلم المصري "حظر تجول" للمخرج أمير رمسيس ، و الذي من المقرر طرحه في دور العرض المصرية في 30 ديسمبر الحالي، وذلك بعد مشاركة الفيلم في المسابقة الدولية ل مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الأخيرة، وتعد هذه المشاركة الأولى ل كامل الباشا في السينما المصرية رغم تاريخه الفني الحافل.

"بوابة الأهرام" التقت الفنان المخضرم وتحدث عن مشاركته في فيلم حظر تجوال ومساهماته الفنية في السينما الفلسطينية، وحصوله على جائزة أفضل ممثل من مهرجان فينسيا والعديد من القضايا الجرئية والجدلية، وكان لنا معه الحوار التالي.

·        ما سبب قبول دورك في فيلم حظر تجول؟

اسم المنتج وكنت شايف مستوى الأعمال التي أنتجها، واسم المخرج وكنت رأيت آخر أفلامه، ثم النص، أما الدور فرغم المساحة البسيطة المتاحة له في الفيلم فقد كان تحديا كبيرا أحببت أن أواجهه، أضف لكل ما سبق رغبتي الشديدة في دخول عالم الدراما السينمائية في مصر الغالية من بوابة فيها من الإبداع قدر ما فيها من الجمال.

·        كيف تقييم تجربتك الأولى في السينما المصرية؟

تجربة ممتعة ، مفيدة ، وراقية.

·        كيف كانت كواليس العمل مع إلهام شاهين وكيف تلقيت خبر حصولها على جائزة أفضل ممثلة؟

السيدة إلهام ممثلة قديرة وإنسانة رائعة، تدقق في التفاصيل بهدوء، متعاونة إلى أبعد الحدود وقد أسعدني جدا فوزها بالجائزة.

·        كيف تصف العمل مع المخرج أمير رمسيس؟ وكيف تكون طريقتك في العمل مع مخرج شاب وأنت الفنان المخضرم صاحب لقب أفضل ممثل في مهرجان فينسيا ؟

أمير رمسيس مخرج متميز وأعماله تشهد له بذلك، يفرض نفسه واحترامه على الجميع بهدوئه وثقته فيما يقوم به، يشيع جوا من الاطمئنان بين الجميع، تعليماته واضحة ومباشرة وغموضه غير مزعج، وأنا كممثل اعتدت أن أتعلم من كل من أعمل معه، ولا أقيم الفنان بعمره أو بعدد أفلامه بل بمستواها الفني، بعد الجائزة وقبلها.

·        البعض يرى أن دخولك السينما المصرية تأخر كثيرًا.. ما تعليقك ؟

لا أعتقد ذلك، كنت وما زلت منهمكا بمشروعي المسرحي في فلسطين، وباستثناء المسرحيين وجمهور المسرح لم يعرفني أحد حتى في بلدي كغالبية المسرحيين في العالم، جائزة فينيسيا قدمتني للسينمائيين وصانعي الدراما في وطننا العربي وفي العالم، ولولا بريقها وعراقتها وأهميتها لبقيت مغمورا مع آلاف الفنانين المسرحيين المتميزين جدا.

بعدها بدأت العروض تنهال علي بشكل أنهكني ولم أختر إلا ما يمكن أن يعزز الانطباع الإيجابي عني وعن الأعمال التي أشارك بها بحب، وأحب أعمالي إلي، هو ما لم أنجزه بعد، ولا أعرف ما هو، وما زال في العمر بقية بإذن الله.

·        من وجهة نظرك ما السبب في قلة الممثلين الفلسطينيين في السينما المصرية بالمقارنة بباقي الممثلين العرب؟

ببساطة السبب هو عدم وجود دراما تليفزيونية فلسطينية تقدم إبداعات الفنانين الفلسطينيين وتعرف بهم، وبالرغم من بروز بعض الأسماء من خلال السينما الفلسطينية إلا أن عددهم محدود وغالبية البارزين منهم استقطبتهم السينما والدراما التليفزيونية العالمية .

·        معظم أفلامك تشارك في مهرجانات دولية.. هل تضع هذه النقطة في معاييرك أثناء الاختيار؟

المشاركة في المهرجانات نتيجة وليست هدفا، القيمة الفنية والفكرية والاجتماعية هي شغلي الشاغل في كل عمل أشارك فيه، أما المهرجانات والجوائز فقيمة إضافية تسعدني وأعتز بها.

·        كيف ترى مشاركة السينما الفلسطينية في المهرجانات العربية و العالمية مؤخرا؟

نتيجة مشرفة وحتمية لجهد عشرات السنين في إنتاج أفلام عالية المستوى ساهم فيها مجموعة من كبار المخرجين الفلسطينيين المتميزين الخارجين من رحم المعاناة والحالمين بغد أفضل لشعبهم وقضيتهم .

·        بعض صناع السينما الفلسطينية يرون أنه آن الأوان لكي تخرج السينما الفلسطينية من نطاق الاحتلال ومناقشة الأمور الحياتية بحجة أن يتم تقديم فن متنوع.. ما رأيك في هذا؟

وهل يمكن للفلسطيني أن يصنع سينما لا تعبر عنه؟ يكفي أن تسمع أن فلسطينيا يأكل على طاولة مجاورة لك في مطعم في باريس أو القاهرة لتستحضر الاحتلال، إننا عندما نتحدث عن قضايانا الاجتماعية والاقتصادية.. الخ، لابد أن نتحدث عن الاحتلال وهذا بارز في جميع أفلامنا الجيدة وهو ميزة لنا إلى أن يزول الاحتلال، وانا هنا لا أتحدث عن سينما عاطفية شعاراتية تظهر بطولاتنا، بل عن سينما تعرض آلامنا وأحلامنا وتطلعاتنا في قالب إنساني يكشف نقاط ضعفنا وقوتنا.

·        فيلم 200 متر ناقش فكرة التأقلم مع الاحتلال وكشف عن الجوانب الخفية والسلبية في المجتمع الفلسطيني.. ما تعقيبك علي هذه الجرأة في التناول؟

لم أشاهد الفيلم حتى الآن ولا أستطيع التعقيب عليه، ومن جانب آخر لا أعتقد أن مخرجا فلسطينيا أو عربيا يمكن أن يطرح للنقاش فكرة كهذه ، قد تطرح ذلك إحدى الشخصيات في فيلم ما، هذا ممكن بهدف نفي إمكان ذلك .

أما طرح سلبيات المجتمع عموما فأنا معها وأعتقد أن ذلك يساهم في التقليل منها ومحاربتها إن عرض بذكاء ووعي.

·        كثير من صناع السينما الفلسطينية لا يستطيعون حضور المهرجانات العربية والاحتفاء بأفلامهم بسبب إشكالية عرب 48 أو للتعنت في استخراج التأشيرة.. كيف ترى ذلك؟

هذا صحيح رغم أني لا أوافق على استخدام كلمة تعنت في هذا المجال، ولنتفق أن هذا موضوع إشكالي ودقيق ولا يمكن الاستمرار في التعميم وحرمان جميع المخرجين والفنانين من فلسطينيي48 من عرض أعمالهم المنتجة محليا من المشاركة في المهرجانات العربية أو العرض في الصالات هناك، الموضوع بحاجة إلى إعادة تقييم ودراسة معمقة من النقابات، وإن لزم الأمر دراسة كل حالة منفردة واتخاذ القرار بشأنها.. أتمنى ذلك.

·        التطبيع مع إسرائيل والفن.. إشكالية معقدة جدًا تثير الكثير من الجدل.. هل ترى أنه يجب أن يترفع الفن عن مثل هذه المسميات؟

كيف يمكن للفن أن يترفع عن نبض الشارع؟ إن كل مايسيء لفلسطين وقضيتها العادلة لابد أن يعد تطبيعا مرفوضا أيا كانت الجهة التي خلفه، الإشكالية عندي ليست في مقاومة التطبيع شعبيا بل في المعايير التي تضعها بعض الجهات لتقييم الأعمال الفنية والتقرير بشأنها وإصدار البيانات ضدها، هنا تكمن المشكلة بالنسبة لي، الجهة المخولة باعتبار عمل فني تطبيعي أو غير تطبيعي لابد أن تتكون من فنانين مؤهلين ونقاد بارعين يتقنون صناعة الفنون وخفايا تلك الصناعة، وهذا بعيد عن ما يحدث على أرض الواقع بكل أسف.

·        كيف سارت الأمور مع فيلمك "التقارير حول سارة وسليم"؟ وهل حملات المقاطعة ما زالت مستمرة معه؟ و كيف فسرت ما حدث؟

سارت بشكل جيد والفيلم ما زال يعرض في العالم وفي دور العرض المتاحة، ولولا «كورونا» لعرض بشكل أكبر، أما بيان المقاطعة بشأنه فلا مبرر ولا مسوغ فني أو أخلاقي أو قانوني أو وطني .

 

بوابة الأهرام المصرية في

24.12.2020

 
 
 
 
 

تكريم وحيد حامد «2»

د. جابر عصفور

أعتقد أن المحطات الأساسية التى ترسخت فى وعى وحيد حامد هى التى جعلت منه كاتبًا يتركز انتباهه الأول على الأبعاد السياسية التى تتصل بقضية المحكومين الذين يفتقدون العدل والحرية، ويعانون التسلط السياسى والفساد الاجتماعى والنعرات الدينية المُصاحبة لكل أشكال التعصب الدينى الذى أصبح قناعًا للفساد السياسى، وذلك كله على نحوٍ يبرز الأبعاد الأربعة لرؤية عالمٍ مأزوم يُعانى مشاكل ثقيلة الوطء، عميقة التأثير، فهو عالم يعانى التسلط السياسى على مستوى العلاقة بين الحاكم والمحكوم بقدر ما يعانى الفساد الذى يترتب على هذا الاستبداد وينتشر كالوباء فى طبقات المجتمع المختلفة. ولذلك زادت الأبعاد السياسية الممتزجة بالأبعاد الاجتماعية من وطأة ما حملته السبعينيات من عمليات تديين نشرت التعصب الدينى الذى يتمسح باسم الدين.

كانت هذه الأبعاد الثلاثة للرؤية تتضافر مع بُعدٍ رابع يلازمها باستمرار فى كل أعمال وحيد حامد ، وهو البُعد الإنسانى الذى يكشف عن العام فى الخاص، وعن الإنسانى فى المحلى، وعن العالمى فى التكوينات الاجتماعية على كل مستوى من مستويات الأحداث التى ناوشتها أعمال وحيد حامد فى كل مجال من المجالات الإبداعية التى اقتحمها سواء فى السينما أو التليفزيون أو الإذاعة أو غير ذلك من وسائل الإبداع والتعبير. وقد كان فى البنية الدرامية الرباعية لأعماله دائمًا ما يغوص فى عمق الواقع ليصل من خلال آنِــيَّــتِهِ إلى ديمومته، ومن خلال طابعه المحلى إلى طابعه الكونى، ومن خلال متغيراته إلى ثوابته. ومن هنا تكتمل رباعية الرؤية السياسية والاجتماعية والدينية والإنسانية لعالمه، وهى رؤية عالمٍ يتمزق بين نقائضه، ويتقلب فى جمر تخلفه، ولا يفارق مأساة تمزقه مع عناصره التى تشده إلى التخلف والانكسار شدًّا.

وبقدر ما أصبح وحيد حامد نصيرًا للفقراء مدافعًا عنهم فى أعماله، فإنه أصبح مُدافعًا عن إنسانية الإنسان وكرامته وحريته لكى يكون الإنسان إنسانًا بحق فى وطنٍ حُر ترفرف عليه أعلام الحداثة، ورايات الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. هكذا اكتملت رؤية وحيد حامد عبر مسلسلات تليفزيونية، وأفلام عديدة، وأعمال إذاعية درامية، وغير ذلك من الأعمال التى تُدخل وحيد حامد من أوسع أبواب النجاح، وتضعه فى مكانة لا تقل عن مكانة يوسف إدريس فى القصة القصيرة. فنحن إذا تحدثنا عن أهم كتّاب الدراما التليفزيون ية فى عصرنا لن نجد إلى جانب أسامة أنور عكاشة سوى وحيد حامد ، وإذا تحدثنا عن أهم الأفلام والمسلسلات التى واجهت الإرهاب الدينى بشجاعة، لن نجد أكثر حسمًا وجذرية من أعمال وحيد حامد فى مسلسل: الجماعة وأفلام مثل: طيور الظلام و الإرهابى وغير ذلك كثير. إن وحيد حامد موهبة نادرة، منحه الله القدرة على إبداع الأعمال الفنية، وعلى الكتابة لتجسيد المواقف الشجاعة التى تميز الحق من الباطل لتقف دائمًا مع مستقبل مصر .

ولا أريد أن أستعرض أعمال وحيد حامد السينما ئية التى تجاوزت أربعين عملًا، أو أعماله فى الدراما التليفزيون ية التى قد تقترب من عشرين عملا أهمها مسلسل «الجماعة» الذى حكى فيه تاريخ تشكل حركة ا لإخوان فى علاقاتها السياسية والاجتماعية والدينية التى انطوت على التعصب الذى يصوغ قناعًا برّاقًا يخفى وراءه المطامع السياسية والنزعات الإرهابية لهذه الجماعة. وفى موازاة ذلك الدراما الإذاعية ابتداء من: شياطين الليل وليس انتهاء بـــ: عبده كاراتيه، أضف إلى ذلك السباعيات والخماسيات التليفزيون ية التى تبدأ من: العوم على رمل ساخن وتنتهى بـــ: الناس سنة 2000. ولن أنسى أعماله المسرحية التى تبدأ من: آه يا بلد (1971) وتختتم بـــ: جحا يحكم المدينة. وطوال تلك الأعوام التى تابع الناس فيها هذه الأعمال ل وحيد حامد ظهر إبداعه الذى ينتقل من القلم إلى التشكيل بالبشر النموذجيين، أو الناس الذين يجاوزون قريته إلى الوطن كله، بل إلى الإنسانية جمعاء.

وكان وحيد فى كل هذه الأعمال صريحًا إلى أبعد حد، حريصًا على إبراز القيم الإنسانية التى تتشكل حولها رؤيته للعالم، خصوصًا فى بحثه عن الحرية والعدل والتسامح والمساواة بين البشر. ولذلك هاجم ظلم الأثرياء للفقراء، كما هاجم ظلم الحكومات المُستبدة لأبناء الشعب، ووقف بالمرصاد لكل ما يؤذى المواطنين ال مصر يين، وكشف بشجاعةٍ فائقةٍ عن الأخطار التى تهدد المجتمع ال مصر ى الذى آمن به، وانتمى إلى فقرائه ومظلوميه على وجه التحديد. ولذلك كان لا بد أن يقف فى وجه الظَّلمة، وأن يكشف عن مخاطر اللعب مع الكبار وعن حق المرأة فى أن تكون مساوية للرجل، وعن التسامح الدينى الذى يجعل من الإسلام دينًا إنسانيًّا، وعن القيم التى لا بد أن يشيعها الرجال المحترمون، ويكشف أقنعة الوزراء الزائفين وبنات إبليس باحثًا عن رجال لهذا الزمان، فاتحًا كل الملفات المغلقة، كاشفًا عن المستور، موقظًا النائمين فى العسل. وفى ثنايا ذلك كله كان ملتزمًا بما يرتقى بوطنه لكى يحقق كل أحلام الحرية والعدل والكرامة الإنسانية والحياة المحترمة لكل الناس، وكانت تلك أهداف أساسية لديه لا يتميز فيها الرجل عن المرأة ولا المرأة عن الرجل، وهذا هو معنى فعل الأمر فى صيغة الفعل «احكى يا شهر زاد». وكان فى أفلامه ودراماته أشبه بضمير الأمة، يعوم بين أمواج متلاطمة، ومع ذلك استطاع أن يواصل العوم ويوصل صوته للناس.

ولا أظن أن رؤية عالم وحيد حامد قد اكتملت بكل هذه الزوايا والأركان، فعالمه الرحب لا يزال مُمتدًا أمامه، والزوايا الأربع التى يتشكل بها بناء عالمه لا تزال محتاجة إلى سد ثغراتها الناقصة التى تبدو هنا أو هناك، لكن المؤكد أن ما أنجزه وحيد حامد إنما هو إنجاز استثنائى بكل معنى الكلمة. وأتيقن أنه قد أدى دوره الاجتماعى والوطنى والدينى على نحوٍ يشبه الكمال، ولذلك أدعو الله مُخلصًا أن يمد فى عمره وفى عمرى كى أراه يتم المهمة، ويستكمل صياغة ما بقى من أحلامه على أرض الواقع فى عهدٍ نتطلع فيه إلى أن تكتمل أحلامنا عن الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والمساواة بين الجميع فى دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ حديثة.

 

بوابة الأهرام المصرية في

27.12.2020

 
 
 
 
 

مهرجانات سينمائية وأفلام سريعة التحضير والتدويل والأرباح

القدس العربي

قبل ظهور الوسائل التكنولوجية المساعدة على التواصل السريع والفوري بين مختلف الدول والأقطار والأشخاص، كانت إقامة المهرجانات السينمائية وتنظيمها عملية معقدة للغاية، فهي تستلزم تنسيقا وتدقيقا واتفاقا بين عدة أطراف للوصول إلى الفعل والغرض والنتيجة، في ضوء دراسات مُعدة سلفا، لإقناع الجهة المعنية وهي اتحاد المنتجين الدوليين، بجدوى النشاط وأهميته ومدى الحاجة الثقافية والفنية إليه، ولهذا كان عدد المهرجانات المحلية والدولية محدودا، وكان كل مهرجان موجودا يشار إليه بالبنان ومتعارفا على خصوصيته وطبيعته والدولة التي يتبعها.

أما الآن، وفي ظل الطفرات المتلاحقة تكنولوجيا وتقنيا، صارت إقامة أي مهرجان من أي نوع عملية سهلة ومتاحة ولا تخضع لأي شيء سوى التواصل الفردي مع بعض الشخصيات والهيئات، ومصادر التمويل التي عادة ما ترحب ويكون لها في الأنشطة الثقافية والإبداعية مآرب أخرى، وبناء علية لا تحتاج المسألة إلى إجراءات وأوراق واعتمادات كما كان الأمر في السابق إبان الشروع في تأسيس المهرجانات الكبرى كمهرجان القاهرة، ومهرجان الإسكندرية، ومهرجان السينما الروائية، حيث استغرق تدويل هذه الأنشطة والاعتراف بها كمهرجانات مُعتمدة، سنوات طويلة من المراسلة والتحقيق والتأكد من جديتها وانتظامها، للسماح لها بالانطلاق والتمتع بميزة الشعار الدولي كمسوغ قانوني لوجودها وبقائها وتفاعلها، وقد بذل القائمون على المهرجانات المذكورة والمؤسسون لها، وقتا وجهدا في سبيل ترسيخها وتثبيتها والمحافظة على هويتها الثقافية والسياسية، وحاربوا طويلا للحيلولة دون اختراقها وغزوها برأس المال الموجه، لقاء التطبيع الثقــــافي مع الكيانات غير المرغوب فيها.

وقد جعلت المهرجانات السينمائية القديمة والعريقة من لوائحها الداخلية، صمامات أمان مُحكمة للحماية الذاتية من أي تدخلات خارجية من شأنها العبث بالمكون الثقافي، أو الإضرار بوعي المواطن عبر رسائل سينمائية مسمومة ومدسوسة داخل المصنف الفني، وكثيرا ما تم ضبط أفلام ومصادرتها رأت لجان المشاهدة الحصيفة أنها غير لائقة، وتحتوي على مضامين سياسية معادية وأزيحت جانبا ومضت الأنشطة في مسارها الصحيح.
أما وقد تغيرت المفاهيم والمعايير وتبدلت الشخصيات والثقافات والمعارف، وتعددت وسائل الاتصال، وأصبح من الصعوبة بمكان السيطرة على الوافد من الفنون والثقافات وتحجيم الخطر المحيط بأشكال الإبداع المختلفة، فالأمر أصبح مشاعا، والمشاركات والمهرجانات والتفاعلات لم تعد مُقننة ولا مشروطة، لا يحتاج كل راغب في تأسيس مهرجان سينمائي سوى القليل من الوقت للتنسيق والتشاور وحساب المزايا والأرباح والعائد المادي الرقمي، كنتيجة لأيام وليالي الفعاليات المُقررة، حسب المُبين على الخريطة الفنية المصرية والعربية، خلال السنوات القليلة الماضية، التي ظهرت فيها عشرات المهرجانات والأنشطة والاحتفالات، وكلها ممولة ومدعومة ومربحة وغير قابلة للخسارة! ففي مصر وحدها، على سبيل المثال، يُقام على مدار السنة أكثر من عشرة مهرجانات سينمائية، لا يعرف عنها المواطن البسيط شيئا إلا ما يطالعه في صفحات الدعاية والإعلان مدفوعة الأجر، حيث تقيم المدن الساحلية كالغردقة والساحل الشمالي وشرم الشيخ والعين السخنة، عددا وفيرا بحجة دعم النشاط السياحي، وتتلقى تمويلات تحت هذا البند، وفي النهاية تُقتصر الفعاليات الفنية المزعومة على بعض الأيام لزوم إثبات الحالة، فمن مهرجان شرم الشيخ إلى مهرجان الغردقة إلى مهرجان العريش إلى مهرجان العين السخنة، تتعدد الشعارات والحالة واحدة، مجرد لعب وفرجة من دون أدنى إضافة للملف السينمائي الحقيقي.

أما الآن، وفي ظل الطفرات المتلاحقة تكنولوجيا وتقنيا، صارت إقامة أي مهرجان من أي نوع عملية سهلة ومتاحة ولا تخضع لأي شيء سوى التواصل الفردي مع بعض الشخصيات والهيئات، ومصادر التمويل التي عادة ما ترحب ويكون لها في الأنشطة الثقافية والإبداعية مآرب أخرى.

ومن الجونة إلى أسوان مرورا بالإسماعيلية ومرسى مطروح والإسكندرية، تعلو الصيحات وتتوافد الشخصيات، وتمتد السجاجيد الحمر وتُلتقط الصور التذكارية وتُعرض الأفلام الطويلة والقصيرة والمتوسطة والتسجيلية والوثائقية، وأفلام الموبايل مجهولة التصنيف والتسمية، كي تتوافر جوانب الإقناع لجهات التمويل والدعم المادي بالدولار واليورو، وبعد انقضاء الساعات الأولى لحفلي الافتتاح والختام، يذهب كل شيء أدراج الرياح وتعود السينما المصرية سيرتها المعهودة، مشكلات إنتاجية وأزمة في دور العرض، وفقر في الصناعة وهجرة جماعية للكوادر البشرية المتخصصة إلى بلاد النفط، بحثا عن فرص أكبر وأفضل للإبداع خارج المدار الإقليمي. والمشكلة ذاتها تتكرر في بعض البلدان العربية التي عرف فيها الشباب طريقهم إلى الاستثمار الكرنفالي والمهرجاني عن بُعد، فالمملكة المغربية تشهد نحو 50 انطلاقة سينمائية خلال العام، وكلها ما بين مهرجانات عريقة ومرموقة، ومهرجانات أخرى صغيرة ومُستحدثة كمهرجان فاس السينمائي، الذي أعلن عن دورته الأولى قبل عامين ولم يكتمل، ومهرجان تارزه لسينما المقهى، الذي بلغ دورته الرابعة، ويحاول جاهدا التغلب على مشكلاته بزيادة موارد الدعم واستقطاب النجوم والحصول على الأفلام، وكذلك مهرجان العودة في مدينة غزة في دولة فلسطين، يبذل القائمون أقصى جهودهم للمحافظة عليه وإبقاء رسالته النضالية قائمة، لكن القليل من الأماني فقط هو ما يتحقق، في ظل الأزمات المتلاحقة، بالحصار الإسرائيلي تارة وكورونا تارة أخرى.
عينات قليلة من نماذج كثيرة للمهرجانات المصرية والعربية المنسوبة للسينما هي ما تتوافر لها أسباب النجاح، فتؤدي الرسائل الثقافية المنوطة بها وتفي بالغرض المطلوب، بينما تبقى معظم الفعاليات والتظاهرات الأخرى مجرد أشباه لتنظيمات مشكوك في صحتها وجدواها، لا يُستثنى منها غير ما ترعاه الدول القادرة ماليا بشكل رسمي، كمهرجان جرش السينمائي التونسي، وأبو ظبي في الإمارات والدوحة، وعمان السينمائي.. وأخيرا المهرجان السعودي الناشئ على ضفاف البحر الأحمر والمُسمى بالاسم نفسه كآخر حبة في عنقود المهرجانات العربية الشابة والوليدة.

٭ كاتب مصري

 

القدس العربي اللندنية في

28.12.2020

 
 
 
 
 

«الرفاق الأعزاء».. الكشف عن فصل مظلم آخر من التاريخ السوفيتى

خالد محمود

قد يأسى التاريخ علينا مرتين، مرة عندما نعيش ظلال حادث كبير مؤلم فى الواقع، ومرة أخرى عندما نشاهد تجسيد هذا الحادث على شاشة السينما، حتى لو كانت محاولة لتضميد الجراح وتطييب الخاطر بمحاكمة رمزية للجناة، وقد يوجعنا المشهد بذكراه حتى ولو لدقائق محدودة.

دون شك يبقى للسينما الروسية مذاقها الخاص فى طرحها للقضايا المتشابكة بين المجتمع والسياسة، خاصة فى إعادة قراءتها لوقائع محددة، وفى فيلمه الأخير «أعزائى الرفاق» يقدم المخرج الروسى الشهير أندريه كونشالوفسكى فصلا مظلما آخر من التاريخ السوفيتى، دراما تاريخية يحاكم فيها ما جرى فى قصة مذبحة إضراب عمالى فى مدينة نوفوشيركاسك جنوب اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية فى يوم 2 يونيو عام 1962، عبرمزيج رائع من الهجاء الأسود وصورة لواقع يائس فى خضم أوضاع قاسية.

يلتقط المخرج أنفاس اللحظات التى سبقت، وفى أثناء، وما بعد تلك المذبحة مباشرة، وهى مذبحة حقيقية، ضحاياها عمال مصنع ديلى المحلى للسيارات الكهربائية الذين أضربوا بسبب الظروف المعيشية المتدهورة للأمة وارتفاع الأسعار فى المواد الغذائية، يثور العمال وينضم إليهم سكان المدينة ليصل عددهم إلى نحو 5 آلاف شخص فى مواجهة مع السلطة، ويتم قمع المظاهرة بسرعة ووحشية من قبل وحدات الجيش التى أرسلتها الحكومة، ولقى أكثر من 20 شخصا من بينهم مارة بالشوارع مصرعهم نتيجة إطلاق النار بالقرب من مبنى إدارة المدينة، كما أصيب 90 آخرون وفقا للرواية الرسمية للأحداث، ولكن لا يزال العدد الحقيقى للضحايا غير معروف، ويعتقد الكثيرون أنه أكبر بكثير من البيانات الرسمية.

فى سيناريو مركب بأحداثه والذى كتبه المخرج مع إيلينا كيسيليفا يقدم لنا من قلب الأحداث شخصية «ليودميلا» التى التى لعبت دورها «جوليا فيسوتسكايا»، العضوة المتعصبة والمخضرمة فى الحزب الشيوعى الحاكم، فهى من أشد المؤيدين للنظام تؤمن بصدقه ومثله العليا وتحتقر أى شكل من أشكال المعارضة بل وتطالب بإعدام المحتجين، حتى شاهدت إطلاق النار على المتظاهرين من قبل وحدات الجيش التى أرسلتها الحكومة لقمع الإضراب، وهنا تتغير رؤيتها للعالم إلى الأبد، ونرى المدينة ممزقة بسبب أعمال الشغب، والاعتقالات، والإدانات المتسرعة، وبسبب حظر التجول، وإصابة العديد من الأشخاص وفقد آخرين، وواحدة منهم هى سيفيتكا «يوليا بوروفا» ابنة ليودميلا التى تختفى وهى المتعاطفة مع المتظاهرين وسط فوضى التظاهرات، هذه لحظة حاسمة ترى أن قناعات ليودميلا التى لم تتزعزع ذات يوم بدأت تفقد الاستقرار، وتبدأ فى رحلة بحث حزين ويائس مهما كان الخطر عن ابنتها، وذلك على الرغم من الحصار المفروض على المدينة والاعتقالات المتصاعدة ومحاولة التستر من قبل السلطات.

«الرفاق الأعزاء» هى العبارة الأولى فى خطاب كانت تستعد لإلقائه أمام أعضاء الحزب الشيوعى، بهدف فضح «أعداء الشعب»، لكن ليودميلا لا تجد القوة لإلقاء هذا الخطاب، حيث تمر بأصعب دراما شخصية، وهو ما يجردها من التزامها الأيديولوجى.

ونرى عبر عدة مشاهد متتالية كيف تمزقت المدينة بسبب أعمال الشغب والاعتقالات والإدانات المتسرعة وحظر التجول، وأصيب الكثير من الناس وفقد العديد منهم، حيث تتطاير الدماء والأجساد فى لقطة طويلة فوضوية، ويلوحون بلافتات لينين ويرددون الشعارات القديمة، تبرز براعة المصور السينمائى أندرى نايدنوف فى تصوير أجواء هذه اللحظة المأسوية فى التاريخ السوفيتى، ودفن الضحايا سرا فى قبور بأسماء مستعارة حتى لا يمكن العثور عليهم أبدا، وكان المشتبه بهم الرئيسيون من بين كبار المسئولين السوفييت قد لقوا حتفهم فى ذلك الوقت ولم تتم إدانة الجناة.

وظلت تلك الأحداث مخفية حتى أوائل التسعينيات، بعد مرور عقود من الصمت الذى فرضه النظام السوفيتى، والذى أجبر الضحايا الباقين على قيد الحياة على توقيع اتفاقيات عدم إفشاء وبدأ التحقيق فيها عام 1992.

وقد لجأ المخرج إلى اللونين الأسود والأبيض فى صورة مذهلة بصريا، وهو ما يعزز رؤيته لتلك اللحظة التاريخية الخاصة للغاية.. لقد أراد إعادة بناء الأحداث التى حدثت بالفعل بأقصى درجات الدقة، والعصر الذى كشف فيه التاريخ عن فجوة لا يمكن سدها بين المثل الشيوعية والواقع المأسوى للحقائق، وذلك بوجه إنسانى، حيث صور بواقعية ورؤية شفافة، قمع المذبحة، بينما تُجبر الممرضات اللاتى يقمن برعاية الجرحى على توقيع اتفاقيات عدم إفشاء من قبل عملاء KGB مجهولى الهوية ويتم قتل المنشقين فى الشوارع.

دون شك اعتبر هذا الفيلم ــ الفائز بجائزة لجنة تحكيم مهرجان فينيسيا ــ تكريما لنقاء ذلك الجيل وتضحياته والمأساة التى عاشها مع انهيار أساطيره وخيانة مُثله حيث أراد أندريه كونشالوفسكى، بحسب شهادته، صنع فيلم عن جيل والده، ذلك الجيل الذى قاتل فى الحرب العالمية الثانية ونجا منها بقناعة لشرف الموت من أجل الوطن، ومن أجل ستالين وثقة غير مشروطة بأهداف الشيوعية، خلق مجتمع جديد من خلال جهود الملايين من الناس، مؤكدا أنه كان يرغب فى إعادة بناء الأحداث التى حدثت بالفعل بأقصى درجات الدقة، والعصر الذى كشف فيه التاريخ عن فجوة لا يمكن سدها بين المثل الشيوعية والواقع المأسوى للحقائق.

الفيلم يصور ببساطة وجمال واحدة من بشائع التاريخ وديناميكيات القوة والسرية التى كانت مركزية للاتحاد السوفيتى وكان على مخرج الفيلم وكاتب السيناريو أندريه كونشالوفسكى إعادة بناء الأحداث وجمع وثائق أرشيفية والتحدث مع أحفاد شهود العيان الذين شاركوا أيضا فى إطلاق النار.

قدمت الممثلة جوليا فيسوتسكايا ملهمة كونشالوفسكى الفترة الأخيرة، دورا صعبا ومركبا بين ولاءاتها المتناحرة بين الوطن والأمومة، كمراقب يشجع السلطات على الحكم بقبضة من حديد، ثم كأم مذعورة على ابنتها، وكم كانت تحولات تعبيراتها عنصرا مؤثرا فى البعد الدرامى للأحداث، حيث تشاهدها وهى تكافح من خلال مجموعة من المشاعر المتنافسة التى تشكل محور الفيلم، فتلك الشخصية الرئيسية لديها، حتى النهاية، موقف حنين إلى ستالين، الذى تدافع عنه حتى عندما تواجه الجرائم البشعة التى ارتكبت باسمه فى مذبحة سيئة السمعة، وتلك مسألة نفسية صعبة ومرهقة للمثلة وكما نراها فى النهاية غارقة فى النظرة إلى كلبة ترضع مجموعة من الكلاب الصغيرة وسط فوضى الصراع البشرى، مما يشير إلى أن الارتباط والبقاء هما المسار الطبيعى لكل حيوان بجانبها، فى حين يتعرض الجنس البشرى باستمرار للخطر بسبب العنف الذى يسببه الإصرار، والأيديولوجيات والأجندات السياسية.

الفيلم بمثابة قطعة سينمائية متقنة فى أصالتها تلتقط جو وشعور العصر، وتلخص التناقضات التى سادت فى المجتمع السوفيتى فى ذلك الوقت.

كونشالوفسكى قام هنا بإحياء فصل مظلم آخر من التاريخ السوفيتى، حول تغيير الولاءات واستخدام العنف تحت واجهة البيروقراطية للحفاظ على الوضع الراهن رغم الأضرار الجانبية البشرية الكبرى، هو لا يعلق على العنف لكن يمنحه كثافة رمزية تلتقط كاميرته الكثير من تلك الظروف من خلال زجاج نافذه محطم، وتحدق ليودميلا فى المستقبل فى خاتمة الفيلم الرائعة وهى تجسد مزيجا معقدا من الأمل والخوف وسط بلد من غير المرجح أن يفك هذا الصراع فى وقت قريب، إنه فيلم عن تجاوزات روسيا الماضية لاستكشاف المزيد منها، والفيلم يؤكد أن البحث دائما عن الحقيقة يستحق العناء.

مازال كونشالوفسكى يقدم أفلاما مدهشة تركز على تفكك الشخصيات والأقدار المعقدة، وهذا واحد آخر منها بعد «الجنة» و«الخطيئة» وسينافس بقوة على الأوسكار الثالثة والتسعين لأفصل فيلم أجنبى.

 

الشروق المصرية في

29.12.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004