كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 

«لن تُثلج مجددا»..

أحد روائع الجونة الذي خسرته الجوائز

د. أمل الجمل

الجونة السينمائي

الدورة الرابعة

   
 
 
 
 
 
 

التناقض الهامس هو الركيزة الأساسُ لهذا العمل السينمائي البديع القادم من أوروبا الشرقية.

التناقض بين شخصية المُدلك وعالم الأثرياء، بين الراحة على وجهه والسكينة تفيض من أعماقه، وبين التوتر والضغوط تكشفها إيماءاتهم الجسدية وإشاراتهم اللغوية.

المفارقة بين طبيعة وتفاصيل وفوضى المكان الفخم الذي يعيشون فيه وبين غرفته العارية من الأثاث في العمارة النائية الفقيرة.

التناقض على مستوى مظاهر الثراء وتوافر كل أسباب الراحة، لكن السعادة غائبة، الود والدفء الإنساني مفقودان، التقدير لا مكان له بين الكبير والصغير؛ فالأطفال يُهينون أمهم، بينما المرأة لا تحب زوجها بكل تصرفاته، ورغم أنها تضغط على نفسها، فهي غير قادرة على التواصل معه، ويظل نموذج أبيها والحنين إليه يشغل مخيلتها.

وامرأة ثانية تؤنس وحدتها بكلابها. وثالثة كيَّفت أمورها، فصارت تخون زوجها، فالوحدة مسيطرة على جميع الشخصيات؛ على الرغم من الجو الأسري ومظاهر ادعاء السعادة، حتى ضابط الجيش بكل نفوذه سيعترف في لحظة ما بضعفه واحتياجه لذلك المُدلك الغامض الذي صار رجال الشرطة يبحثون عنه.

لا ضرورة للمنطق

في أثناء مشاهدة «لن تُثلج مجددا»- الفيلم البولندي الألماني المشترك للمخرجين مالجورزاتا شوموفسكا وميخال إنجليرت- لا ضرورة أبداً للبحث عن المنطق أو المعقول.

الفيلم ذاته لن يترك لك فرصة لذلك؛ لأنه سيجعلك غارقاً في ثناياه، مستمتعاً بالكوميديا السوداء المتفجرة من تفاعل البطل الشاب المهاجر مع المحيط الثري البائس الذي تصوره الكاميرا- في انسحابها وابتعادها عنه- كأنه مقبرة قبيحة.

إن شخصية زينيا المدلك الغامض اللطيف والجذاب الذي يقوم بدوره الممثل البارع أليك أوتجوف- ستُحرك السكون والرتابة في تلك الضاحية البولندية الثرية، وكأنه بلمسات ساحرة من يديه القويتين الشافيتين سيُحرر كثيرا من سكانها من أحزانهم وآلامهم، ليس فقط عبر التدليك، ولكن أيضاً لقدرته على ممارسة التنويم المغناطيسي حتى من دون علم بعضهم، فيأخذنا في رحلة كاشفة للأعماق بكل ما فيها من قهر ورغبات دفينة، أغلبها يتعلق بالجسد، والاشتياق لإشباع رغباته، والأسباب الخفية وراء ذلك الحرمان، على الرغم من النزعة الاستهلاكية المميزة لذاك المجتمع الراقي.

العنصر الفعال

تبدو شخصية زينيا أسطورية؛ يمتلك قوى خارقة، لكنه عطوف رقيق، لا تشغله المادة، ولا الجنس، قادر على إرضاء أجساد وأرواح زبائنه، لأنه يشعر بهم كإنسان. أحياناً يبدو ماضيه كالحلم، نراه بشكل متقطع، مرات عبر وميض الذكريات المنمنمة المتدفقة برقة من صور والدته، أو من الأحلام التي تزوره، وتخبرنا عن وفاة والدته متأثرة بكارثة تشيرنوبل، وهو لا يزال طفلاً، والتي ربما منحته بعضاً من قوته الخارقة.

إن وجود زينيا في هذا المجتمع أشبه بالعنصر الفعال الضروري لكشف خبايا هذا المحيط الحيوي غير المستقر. لذلك ليس مهماً أن نعرف هويته الحقيقية. ليس ضرورياً أن نتساءل: هل كان زينيا هو ملاك الموت يتجول في الضاحية القبيحة المغرمة بالمظاهر، أم أنه مجرد شخص خارق للطبيعة قادر على إحلال السلام لمن يحتاجون إليه؟!

الأهم أن المخرجيْن نجحا في توظيفه ليكون نافذتنا للعبور إلى كل هذه الأسر والبيوت في تلك الضاحية، ليس فقط من أجل الهجاء الاجتماعي لتلك العزلة للبرجوازية المتعجرفة، ولكن أيضاً لنتعرف على خبايا مشاكلهم، وآلامهم، وأحلامهم ومخاوفهم، كاشفاً منابع القهر والقمع والكذب والبرود العاطفي في كل شخصية، من دون أن يُصدر أحكاماً عليهم، ولكن ربما يدفعنا إلى أن ننقب في أعماقنا ونحن نتأملهم.

التصوير- إلى جانب السيناريو والأداء- يحمل على عاتقه تحقيق الرؤية البصرية بالتنقل بين الألوان الرمادية الضبابية والخضراء المشبعة، لتحقيق التوازن اللوني الصعب البديع للفيلم الذي يجمع بين الواقعية القاتمة والعبثية المرعبة عبر تفاصيل المكان، الكلاب بأنينها، والوجوه المنعكسة في النوافذ، والأضواء تومض وتطفئ، والموسيقى الراقصة المعبرة عن تحرر الجسد.

الجوائز المحبطة

أعترف أنه في ختام مهرجان الجونة السينمائي الرابع أصابني الإحباط؛ لأنه لم يُعجبني توزيع الجوائز بين الأفلام.

صحيح هناك توجهات وأذواق واختيارات لجان التحكيم، لكن من حقي أيضاً التعبير عن رأيي؛ فالأفلام الفائزة لم تكن أبداً هي الأجمل بالمهرجان.

والحقيقة أن أغلب الأفلام الفائزة أعمال قاتمة، أغلبها فاز بالجائزة- أصلاً- لأسباب إيديولوجية بحتة، للمضمون الذي تتناوله، على الرغم من أنها سينمائياً (فنياً وفكرياً) ليست عظيمة.

وكانت هناك أفلامٌ أكثر منها روعة، كما حدث مثلاً مع فيلم «عايدة، إلى أين ذهبين؟»، فهذا الفيلم أقصى ما كان يستحقه هو جائزة أفضل ممثلة وفقط.

كذلك فيلم «أيام آكلة لحوم البشر»، صحيح أن الأخير عمل مهم، لكن الفيلم الساحر «صائدو الكمأ» أكثر سينمائية وفنية وأجمل منه، بل أكثر بهجة، ويُعيد الثقة لجمهور السينما في الفن السابع، مثلما يعد نموذجا للمقدرة على الجمع بين تناول القضايا الإنسانية المهمة والقدرة على جذب الجمهور، فهو عمل بالغ الأهمية في أعماقه وفي نصه التحتي، على الرغم من أنه قد يبدو للبعض مجرد فيلم عن اصطياد فطر يتم تناوله أو وجبة للأثرياء.

هذا عمل إبداعي كاشف للرأسمالية في أقبح وجوهها، وللتبدلات الواقعة في هذا المجتمع، ولسلوك البشر العدواني، وعدم الإنسانية في التعامل مع الإنسان الذي يمتلك المعرفة عندما يصير هرماً.

أعرف تماماً أن الفيلم نال الجائزة البرونزية، لكنه في تقديري الشخصي كان يستحق الجائزة الذهبية، كان يستحق أن يتقدم على «أيام آكلة لحوم البشر».

أخيراً، برأيي أن هناك أفلامًا أخرى، خسرتها الجوائز في ختام مهرجان الجونة السينمائي الرابع، ومنها الفيلم الإيطالي «الروابط»، وكذلك «لن تُثلج مجددا»، إنهما فيلمان جريئان، رائعان، مشحونان بمشاعر مكثفة، مصنوعان بعمق، ويشيان بعالم يرتجف على الحدود بين الكابوس والمأساة، وإن كان الأول قد تخلى عن روح الكوميديا، بينما احتفظ الثاني بها بشكل لافت بديع تتعانق فيه الرؤية الموسيقية مع نظيرتها البصرية.

 

موقع "مصراوي" في

22.11.2020

 
 
 
 
 

"برلين ألكسندربلاتز": عن عالم يبتلع كلّ شيء

هوفيك حبشيان - المصدر: "النهار"

يقدّم المخرج برهان قرباني قراءة أخرى، تحديثية، حرّة، مشبعة بالواقع، لرواية ألفرد دوبلين (١٩٢٩)، أكثر منها نسخة ثانية للمسلسل الشهير الذي أخرجه فاسبيندر في العام ١٩٨٠ والذي يتعذّر تقليده في أي حال. قرباني نقل الأحداث إلى برلين في أيامنا هذه، وهو بهذا أجرى تعديلاً مهماً في متن الأصل الأدبي، ذلك ان برلين دوبلين التي كانت ستزهر فوقها الإيديولوجيا النازية، ليست هي نفسها برلين التي يصوّرها قرباني طوال قرابة ثلاث ساعات. وعليه، الفيلم مشغول بمسار الشخصية الرئيسية، وإن تحاورت الأزمنة في ما بينها، على الرغم من تباعدها. 

بطل قرباني المضاد لاجئ أفريقي ثلاثيني يُدعى فرنسيس، فقد زوجته وهو في طريقه إلى أوروبا على متن قوارب الموت. فرنسيس هذا يعمل في الورش من دون أوراق ثبوتية. يغويه كائن بسيكوباتي يُدعى راينهولد، تاجر مخدّرات يعده بالمال وبحياة أفضل… لكن العالم الذي يصوّره قرباني حيناً برقّة وحيناً بعنف، يبتلع كلّ شيء. فما إن يوافق المرء على شروطه، حتى لا يعود يعرف أين تمضي به الظروف. الشعور بالذنب هاجس، والتوق إلى حياة تضمن الكرامة أساس كلّ العلل. هكذا، يجد فرنسيس نفسه في دوامة لا فكاك منها، وذلك خلافاً لإرادة إيفا وميز، الفتاتين اللتين تُغرمان به.

الفيلم بصري في المقام الأول، ألواناً، وحركات كاميرا، وتشكيل كادرات. يحتفي بالحياة والموت والحبّ والعنف وكلّ المشاعر الملتبسة والمتناقضة. يجد المُشاهد نفسه تحت وطأة جو ضاغط ومناخ مثقل بالتوتر. هذا كله يجعلنا نُستدرج إلى جحيم العلاقات الإنسانية المعقّدة والمتداخلة. هذا نصّ يتّجه بخطى أكيدة إلى مبتغاه، حيث العنف يجرّ العنف. من حطام إنسان يولد إنسان آخر، لكن إلى أين يذهب وماذا يفعل، فهذا سؤالٌ آخر، يضعنا الفيلم أمام فرصة تخيّل اجاباته المتعددة.

والداه اللذان ينتميان إلى قومية الهزارة، غادرا أفغانستان إلى ألمانيا في زمن الغزو السوفياتي لبلادهما. وصلا إلى موطنهما الجديد في نهاية عام ١٩٧٩، قبل أشهر قليلة من ولادته، وطلبا اللجوء السياسي. عاش قرباني في مدن ألمانية عدة، بسبب وظيفة والده التي كانت تتطلب التنقّل. في العام ٢٠٠٢، التحق بأكاديمية بادن فورتمبرغ. اشتغل مؤلفاً وممثّلاً ومخرجاً. نال جوائز عدّة لأفلامه القصيرة، منها جائزة النقّاد الألمان. فيلمه الطويل الأول، "شهادة" (٢٠١٠)،عن ثلاثة ألمان من أصول مسلمة يصارعون من أجل التوفيق بين إيمانهم ومتطلبات الحياة العصرية، عُرض في مسابقة مهرجان برلين حيث حطّ أيضاً جديده "برلين ألكسندربلاتز". 

 

####

 

"واحة": فيلم عن الذين لا يُمكن تصنيف ألمهم

هوفيك حبشيان - المصدر: "النهار"

في هذا الفيلم الذي عُرض في مهرجان الجونة الرابع، تدخل كاميرا المخرج الصربي إيفان إيكيتش إلى مؤسسة صحية تهتم بالشباب الذي يعاني من الإعاقة الذهنية، وكأنها تقتحمها. الدخول إلى المكان لن يكون مثل الخروج منه. بين اللحظتين، نتعرف إلى ٣ شخصيات محورية، ماريا ودراغانا وروبرت. الفيلم موزَّع على ثلاثة فصول، كلّ فصل يحمل اسم واحدة من هذه الشخصيات التي ستتقاطع مصائرها. ماريا ودراغانا سيقعان في حبّ روبرت، الشاب الهادئ الذي يلوذ بالصمت ولا يحرّك ساكناً. هؤلاء الثلاثة سيحاولون عيش حياة حُكم عليها بالاستحالة، وسيعكّرون صفو البيئة التي يصوّرها المخرج من دون ان يموضعها في سياق اجتماعي محدد. هكذا ينشأ المثلث الغرامي في ظروف يغلب عليها العنف النفسي والجسدي، حيث كلّ حادثة تصبح مسألة حياة أو موت. 

الفيلم "باطني"، معظم الأشياء تحدث في دواخل الشخصيات. ما يظهر منها ليس سوى جزئية بسيطة. عندما تعاين احدى الشخصيات جراح الأخرى، لا نفهم ما اذا كانت تحصي عددها أو تلمسها لترى عمق الألم. إلى هذا الحد، يمتنع الفيلم عن التصريح بمكنونات القلب. إيكيتش ينبذ الانفعالات وكلّ ما من شأنه ان يستدر العواطف ويصنع التضامن. هذا كله يولّد فيضاً من المشاعر المكبوتة التي يدفعها الفيلم إلى ذروتها. يلجأ المخرج إلى الصوت لتصعيد حدّة التوتر، كما ان الكثير من الأبواب تُفتَح وتُقفَل للاستدلال إلى الحالة النفسية المتبدّلة للشخصيات. 

"واحة"، فيلم بسيط عن الدعوة إلى النظر في موضوع الاختلاف ورد الاعتبار إلى الذين لا يُمكن تصنيف ألمهم. نحن حيال فيلم على قدر من القسوة يُغرق المُشاهد في العتمة، وهي عتمة التكوين البصري بقدر ما هي عتمة القلوب الممزّقة التي لا ترى أي مهرب من الألم سوى الموت. بنص كان يمكن ان يسقط في الميلودراما الخاصة بالمراهقين، يستمد إيكيتش عملاً فيه الكثير من الاختزالات والفجوات ويتوقّع من المُشاهد ان يملأها. 

درس الإخراج ال#سينمائي والتلفزيوني في كلية الفنون الدراماتيكية في بلغراد. في العام ٢٠٠٨، التحقبكامبوس المواهب في البرليناله. أنجز عدداً من الأفلام القصيرة والوثائقية الطويلة، من بينها "تارو صربياً!". في العام ٢٠١٤، قدّم باكورته الروائية، "البرابرة"، التي نالت جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كارلوفي فاري، وعُرضت في العديد من التظاهرات السينمائية الدولية. الفيلم يلقي نظرة واقعية وعصرية على حال الشباب الصربي الذي يعيش في "مجتمع فاسد لا قيم له"، على حد وصف المخرج. "واحة"فيلمه الروائي الطويل الثاني وقد عُرض في "أيام فينيسيا" الشهر الماضي.

 

النهار اللبنانية في

24.11.2020

 
 
 
 
 

تكريم فنان المناظر أنسي أبو سيف بالجونة الرابع GFF4

قراءة صوفية عن أنسي أبو سيف *

صفاء الليثي

ها هو الفتى الذي يصنع من خلاء البلاتوه الموحش مدناً وسفناً ومقاهي وحواري وقصوراً وحانات " . هكذا يصف سيد سعيد فنان المناظر السينمائية أنسي أبو سيف في كتاب تكريمه الصادر عام 2004  مواكبا للمهرجان القومي للسينما المصرية، وهي كلمات- كما يقول الناقد أحمد يوسف   تذكرك على نحو ما ببعض من روح نجيب محفوظ ، لكن المهم أنها تصوغ فكرة الصراع بين الخلاء والبناء ، بين العدم والوجود ، فالفنان في هذا الشأن خالق في مجاله ، منشيء لواقع لم يكن موجوداً أبداً

كتب الناقد الراحل عن كتاب واحد من البنائين لسيد سعيد  أنه وجد التكليف  بالكتابة - عن فنان المناظر أنسي أبو سيف طوق النجاة ، حيث يمكن له أن يغوص بكل حرية في عالم يجسد أكثر عناصر االفن السينمائي اعتماداً على الإحساس البصري المجسد ، وحيث يمكن له أن " يرى " ذاته من خلال " الآخر " سيد سعيد من خلال أنسي أبو سيف ، وفيما يشبه الفلاش باك الخاطف – تلك الأيام الخوالي حينما تقابل – في حلقة شادي عبد السلام – وأنسي أبو سيف ، الذي كان آنذاك شابا أقرب إلى الخجل والانهماك في العمل . يواصل أحمد يوسف عرضه المختلف للكتاب الذي كان فارقا عن كل كتب التكريم السائدة، أشبه بمحاورات في معاني الأشياء وعوالم الفن صورة ومعنى وفلسلفة. فيقول أن " حبكة " الكتاب تولد وتنمو كما لو كانت فيلماً يصنعه سيد سعيد ، جاء " المشهد " الأول – بعد " الأفان تتر " – في جلسة على مقهى ريش ، " الذي أصبح خلفية بلا روح " ، وهكذا يصبح الديكور وكل عناصر " المنظر " – أو الواقع – البصرية خلفية محايدة ، منبتة الصلة بما يدور في مقدمة الكادر ، وخلافا مع " الطريق " الصوفية في توطيد العلاقة بين الذات والموضوع دون وسيط ، يتدخل طرف ثالث هو داود عبد السيد الذي يقوم بدور فاعل في تحفيز طرفي العلاقة ، بما له من خبرة تؤهله لكي يدفع الكتاب – كأنه فيلم – إلى الأمام : " لدينا الزمان والمكان ، فلنبحث عن الحدث "!

والحدث الحقيقي  هنا هو الرغبة العميقة في اكتشاف أنفسنا في سياق الزمان والمكان ، والماضي والحاضر ، وهكذا تتداخل الذكريات الماضية والتجارب المعاصرة بين كوم أمبو أنسي أبو سيف ، وبورسعيد سيد سعيد ، وشبرا ، وشوارع القاهرة . إن حديث أنسي عن مدينته الجنوبية كوم أمبو ، والتغيرات الفيزيقية الاجتماعية فيها خلال العقود الماضية ، يجعل سيد سعيد ، وفي جملة واحدة وبلا فاصلة تفصل بين العالمين ، يقفز إلى مدينته الساحلية الشمالية بورسعيد ، يصنعها كلوحة سينمائية هادئة تحولت مع الأيام إلى كابوس ومتاهة!

وخلال رحلة أنسي أبوسيف في تذكر مدينته الجنوبية الصغيرة، نتعرف شيئاً فشيئاً على معنى أن تكون " فناناً للمناظر السينمائية " ، الذي نصفه خطأ بمصطلح " مصمم الديكور "  ، ودون كلمات متفلسفة يجسد لك أنسي الأماكن بعين الفنان ، مثلما فعل عندما رسم لنا – بالكلمات – معمار البيوت في المدن الجنوبية الصغيرة ، وسوق كوم أمبو ، ويتلقف منه سيد سعيد الخيط ليكمل بنفس الطريقة – وهو الفنان السينمائي – وصفه لشقة أنسي المعاصرة في الضاحية القاهريةإن " المناظر " تكتسب حياة مع رؤية الفنان ، أو أن الأماكن حية بطبيعتها ، وقدرة الفنان الموهوب تتجلى في الإمساك بها في لحظة من لحظات حياتها ، بدلا من تحويلها إلى " ديكور " مكون من قطع أثاث ميتة . وبكلمات بسيطة بليغة يوضح أنسي كيف أن للأماكن  أو لعناصر المنظر ، علاقة تفاعل لا تنتهي مع الإنسان الذي يسكن فيها . نرى العلاقة الحية بين عناصر النمط المعماري ، والجوانب المناخية والاجتماعية : الفرق بين المشربية والشيش ، وفتح النافذة أو غلقها ، وبين الحارات الضيقة ذات البيوت المتقابلة دون مسافة تفصل بينها والفضاءات الممتدة إلى المجهول والوحشة . تأمل على سبيل المثال وصف أنسي أبوسيف لمدينة كوم أمبو ، من خلال الصورة والمعمار والاكسسوار ، حيث يتلاحم البناء المعماري مع البناء الاجتماعي والاقتصادي ، وحيث لكل شيء في " المنظر " علاقة لا تنفصم بين ما هو جمالي وما هو وظيفي .

هذا التفاعل الحيوي بين المكان / المنظر ، والإنسان / الوظيفة الحيوية يعطي له أنسي أبو سيف مثالاً كاشفاً إلى درجة هائلة : الفرق بين معمار السوق ومعمار " المول " ، والفرق بين العلاقات الاجتماعية في كل منهما، يقول أنسي : " المكان الذي نراه على الشاشة يخص الشاشة وحدها ، وفيلماً معيناً بالذات ، حتى لوكانت ملامحه تشبه الواقع ، فأنا أخلق ، المكان مرتبطاً بالخصائص الذاتية للسينما ، والمكان في الفيلم يدخل في علاقات مع عناصر الفيلم الأخرى " .

 ويستمر الناقد موضحا ما لفن السينما من علاقة وثيقة مع التجارب الصوفية زأنه بمعنى ما كل تجربة فنية  بها قدر من الصوفية ، فهي ذوبان الكل في واحد ، وليس تصميم المناظر إلا جزءا من هذا الكل . إنك تجد تأكيد وجهة النظر تلك في  صفحات الكتاب ، على نحو صوفي صاف وشفاف.

ويستمر أنسي أبو سيف ويقااطع معه  داود عبد السيد ، لكي يجسد لك هذا الفن : " عندما تنتهي من كتابة سيناريو وتبدأ رحلة تحقيقه ، ستجد ثلاثة فراغات كبيرة عليك أن تملأها ، الأول هو اختيار الممثلين ... أما الثاني فهو الجانب المرئي أو التشكيلي ، يجب أن تبحث عن الشمس التي ستضيء هذا الفيلم ، شدة الضوء ولونه ومساحة الظلال ودرجاتها ، ولحظات أو مراحل اليوم من الفجر حتى الغسق والليل ، وألوان الحوائط والأثاث والاكسسوار والملابس ، ثم الطرز المستخدمة والمختارة سواء في الملابس والإكسسوار والعمارة والديكور، وهذا الجانب من أصعب جوانب تحقيق الأفلام ، خاصة في ظل الإنتاج المصري . والثالث هو التكوين الصوتي .. " .

يخبرنا داود عبد السيد بصفات ومواهب فنان المناظر السينمائية كما يجب أن يكون ، مجسداً في أنسي أبو سيف أهمها : ذاكرة بصرية تاريخية حضارية شاملة ، وجذور تضرب في الواقع الراهن ، إدراك العلاقة بين المعماري والتشكيلي من جانب ، والاجتماعي والنفسي من جانب آخر ، إدراك العلاقة بين الجمالي والنفعي ، وبين الإنسان والمكان ، وبين الواقع المادي والخيال الجامح !وهي شروط يجب توافرها في كل فنان مثقف.

هناك مبدع لفن المناظر في السينما المصرية هو أنسي أبو سيف، يكتب عنه بندية المخرج والباحث عن نظرية نقدية سيد سعيد ويكتب عن تجربة هذه التجربة ناقد أكاديمي يتبع منهجا صعبا في نقد النقد. حاولت جاهدة أن أوجز هذه العلاقة الثلاثية الشائكة التي أثارها تكريم أنسي أبو سيف في دورة مهرجان الجونة الرابعة. تكريم يجعلنا نقترب أكثر من فن هذا الفرع من فروع الفيلم والتي تبقى في عمق الصورة لا تدرك الا بالحس السليم ولا يتمكن من توصيفها الا مثقف كبير وفنان موسوعي مثلهم هؤلاء البنائيين والمحللين والمفككين العظام سعيد ويوسف وأنسي أبو سيف. 

المقال عن دراسة للناقد أحمد يوسف عن كتاب سيد سعيد بمناسبة تكريمه بجمعية نقاد السينما المصريين احتفالا بالكتاب.

 

مدونة "دنيا الفيلم" في

24.11.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004