كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 

الأفلام الروائية في مهرجان الجونة تدخل مطبخ "العالم":

(استمع).. صرخة المهاجرين البرتغاليين بوجه القضاء البريطاني الجامد

الجونة ـ عدنان حسين أحمد

الجونة السينمائي

الدورة الرابعة

   
 
 
 
 
 
 

ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة للدورة الرابعة لمهرجان الجونة السينمائي عام 2020 تنافسَ فيلم "استمع" للمُخرجة البرتغالية آنا روشا دي سوسا مع 15 فيلمًا روائيًا آخرَ لكنه لم يحصل على أي جائزة من جوائز المهرجان مع أنّ ثميته كانت حسّاسة جدًا وتهمُّ شريحة واسعة من اللاجئين والمهاجرين القادمين من جنوب أوروبا بعد انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. كما أنّ أداء الممثلة لوسيا مونيز كان مستوفيًا لاشتراطات شخصية الأم التي تقاتل من أجل استعادة أطفالها الثلاثة من عسف وظلم مؤسسة الخدمات الاجتماعية البريطانية التي أعطتهم الأذن الصمّاء، وضاعفت من معاناتهم الاقتصادية والنفسية عشرات المرّات.
لابد من القول إن "استمع" هو فيلم ثيمة أكثر منه فيلم شخصيات أو أحداث ولا غرابة في أن ينتقد مؤسسة الخدمات الاجتماعية  Social Servicesالتي تُعنى بأطفال المهاجرين أو المواطنين البريطانيين الذين تتقطّع بهم السُبل. لم تشأ المُخرجة دي سوسا أن تكتب سيناريو الفيلم لوحدها كي يخرج من إطار "سينما المؤلف" وإنما أشركت معها آرون بروكنر وباولا فاكارو فجاء مكتملاً من الناحية السردية، وسلسًا من حيث التدفّق والانسياب، وخلوًا من العثرات والعيوب التي يمكن أن تتواجد في الفيلم الأول.

سارعت المخرجة في زجّنا بمسرح الأحداث الكائن في ضاحية من ضواحي لندن لتوحي لنا بأنّ هذه البيوت لا تتوفر على الاشتراطات الصحية أو الجمالية، فثمة أثاث كثير، وجدران مغلّفة بالأوراق التي يرسم عليها الأب جوتا "روبن غارسيا" صورًا لعائلته الصغيرة التي يمحضها حُبًا من نوع خاص. وهو بالنتيجة فنان مُفلس ويعمل في مكان ما لم نتعرّف عليه جيدًا لكنّ مردودات عمله لا تسدّ احتياجات الأسرة اليومية، الأمر الذي يدفع الأم بيلا "لوسيا مونيز" لأن تعمل منظِّفة لتغطي نفقات الأسرة، ومع ذلك فهي لا تتردد في سرقة الخبر وبعض المواد الغذائية الأخرى من السوبرماركت من دون أن يراها أحد من الموظفين أو العمّال.

لا تتوانى المُخرجة من رصد الطبيعة الجميلة أو الإصغاء لصوت الطيور، وحفيف الأشجار لكنها سرعان ما تعود إلى المحور الرئيس في ثيمتها التي يتصاعد فيها النَفَس الدرامي شيئًا فشيئًا. فالقصة واقعية بامتياز، ولعلها تكرّرت مئات أو ربما آلاف المرات لكن معالجتها الفنية تختلف من مُخرج لآخر.

تتألف العائلة البرتغالية المُهاجرة من خمسة أفراد وهم الأب والأم جوتا وبيلا، والأولاد الثلاثة وهم دييغو، ولُو، والطفل الرضيع. وإذا كان دييغو يتحدث اللغة الإنكَليزية بطلاقة فإن "لُو" Lu خرساء، صمّاء، وتتواصل مع أفراد أسرتها بلغة الإشارة البرتغالية. ونظرًا لأن العائلة تحتاج مساعدة مؤسسة الخدمات الاجتماعية لكي تغطي نفقات العائلة فإنها تُوضع تحت المراقبة وأنّ أي خطأ يرتكبه الأبوان بحق الأطفال، مهما كان صغيرًا، فإنه يؤدي إلى حرمانهم من رؤية الأطفال أو التواصل معهم، وفي كثير من الأحيان يمنحونهم إلى عوائل بريطانية بهدف التبنّي الدائمي. كانت "لُو" تذهب إلى مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة، ولسوء حظ الأسرة تعطّلت سماعة الأذن ولم يعد بإمكانهم تصليحها أو شراء واحدة جديدة بدلها الأمر الذي يعيق تواصلها مع المعلّمة والطلاب. وفي الوقت ذاته تكتشف المعلّمة أن هناك رضوضًا على ظهرها الأمر الذي يدفعها إلى إخبار مؤسسة الخدمات الاجتماعية الذين يداهمون البيت صحبة عدد من أفراد الشرطة ويأخذوا الأطفال إلى مكان ناءٍ يوفر لهم السلامة والأمان. فتبدأ الأسرة معركتها مع مؤسسة الخدمات الاجتماعية ومع القضاء البريطاني وتأخذ منهما مأخذًا كبيرًا.

تتمثّل قساوة المؤسسة البريطانية أعلاه في إلحاحها على أفراد الأسرة بأن يتحدثوا باللغة الإنكَليزية فقط وأن يتناسوا لغتهم البرتغالية الأم، وقد أنهوا اللقاءات المرتقبة على أحرّ من الجمر بين الوالدين وأبنائهم غير مرة، كما وصل الأمر إلى تبنّي دييغو من قِبل عائلة بريطانية لكن الوالدين يشمّران عن سواعدهما، وخاصة الأم، التي تبذل قصارى جهدها من أجل استعادة أبنائها الثلاثة من أجل خطأ لم يقترفاه، فأيٌّ من الوالدين لم يعنّف الأطفال، ولم تبدر منهما سوى الألفة والمحبة الطبيعية تجاههم. وقد وصفت الكاتبة باولا كاستيلا حميمية العلاقة الأسرية بأنها "بأنها جزيرة من الحب في بحر من اللامبالاة". 

وفي أثناء هذه اللقاءات القصيرة تعترف إحدى موظفات مؤسسة الرعاية الاجتماعية بأن ما تعاني منه الطفلة الصمّاء "لُو" هو ليس التعنيف المنزلي وإنما هي مصابة بمرض جلدي يدعى "الفرفرية" Purpura الذي يغيّر لون الجلد إلى الأحمر أو الأرجواني نتيجة نزيف تحت الجلد، وقد ظهرت بقعُ جديدة في أثناء تواجدها في بيت الرعاية الاجتماعية الأمر الذي تتخذه وسيلة للدفاع عن ابنتها بغية استعادة أطفالها الثلاثة.

تتجلى قوة الثيمة في المرافعة القضائية حيث تدافع بيلا عن فلذات أكبادها بالقول:"أولادي ليسوا للبيع" علمًا بأن الأب قد قال في لقاء سابق:"أنني مستعد لمغادرة المملكة المتحدة لكن بعد أن أستعيد أولادي" مُنتقدًا هو الآخر مؤسسات الدولة الاجتماعية والقضائية، مُبيّنًا بأن الحكومة البريطانية البيروقراطية تتعامل مع المهاجرين، واللاجئين، والمُقتلَعين من جذورهم بمنتهى التعالي، وتنظر إليهم كأجسام غريبة، وأورام سرطانية لابد من استئصالها.

لا تكمن قوّة الفيلم في ثيمته وقصته السينمائية حسب، وإنما في أداء الممثلين وعلى رأسهم لوسيا مونيز التي لعبت دور الأم، وهي فنانة معروفة في المشهد الفني البرتغالي والأوروبي وسبق لنا أن شاهدناها في فيلم "الحُب الحقيقي" للمُخرج البريطاني ريتشارد كورتيس حيث وقفت في مواجهة الفنان كولين فيرث لتجسّد "الحب الصامت" طالما أنها لا تعرف الإنكَليزية، وحبيبها لا يُتقن البرتغالية. كما أن الطفلة "مايسي سلاي" وهي صمّاء بالفعل قد أدّت دورها بإتقانٍ عالٍ يستحق التقدير. وسبق لها أن اشتركت في فيلم "الطفل الصامت" للمخرج البريطاني كريس أوفيرتون ونالت عليه جائزة الأوسكار لأفضل فيلم حي قصير.

أمّا الرؤية الإخراجية لآنا روشا دي سوسا فهي عميقة بامتياز وتذكّرنا بعدد من المخرجين البريطانيين أمثال آلان كلارك وكِن لوتش وأسلوبهما الواقعي الذي يلامس وجدان المتلّقين، ويحرّك مشاعرهم الداخلية، فكلاهما لا يجد حرجًا في انتقاد الانتهاكات المؤسساتية بحق المواطنين ويكفي أن نشير إلى فيلم "حُثالة" الذي صوّر فيه كلارك العنف الجسدي الذي كان يتعرّض له السجناء في سجن بورستال في حقبة رئيسة الوزراء السابقة مارغريت ثاتشر. جدير ذكره أنّ دي سوسا قد أنجزت عددًا من الأفلام الوثائقية والقصيرة من بينها "مينها ألما وأنت"، "وعند البحر" وفي جعبتها الكثير من المشاريع السينمائية القادمة.

 

العالم العراقية في

10.11.2020

 
 
 
 
 

فساتين مهرجان الجونة: ثلاثة مداخل لفهم الظاهرة!

محمد سالم عبادة

للعام الثاني على التّوالي تُثير ملابس فنّانات الشاشة المصريات في حفل افتتاح مهرجان الجونة السينمائي ضجّةً كبيرة، وهي ضجّة تنوّعَت مظاهرُها بين احتشاد مواقع التواصُل الاجتماعي بالصُّوَر المُركَّبة ذات التعليقات القصيرة Memes التي تَسخَر من مقدار العُري المميِّز لتلك الملابس، وتعليق بعض المشاهير على ذلك العُري في الصحافة ووسائل الإعلام.

مصمم الأزياء المصري (هاني البحيري) انتقد بدوره تلك المُبالغة في التّعرّي وصرَّح بأنّه في عملِه التصميميّ "يخاف على جسَد عارِضَتِه"، فلم تَعُد الدَّعوَى المُضادّة التي تَصِم مُنتقِدي العُري بالإرهاب الفكريّ والتأسلُم والتديُّن الشكلي، أقولُ لم تَعُد هذه الدعوَى قابلةً للتصديق بالكامل، لاكتساح مناقشةِ المسألةِ مواقِعَ التواصُل بين أطيافٍ مختلفةٍ من المجتمع المصري

والحقيقةُ أنّ (إطلالات) الفنّانات في حفل افتتاح المهرجان تقفز أمام أعيُننا حين نتصفّح المواقع الإخباريّة دون سَبق إصرارٍ أو ترصُّد، باعتبارها أخبارًا فنّيّةً مهمّة.

ورغم أنّ العُري في ملابس فنّانات الشاشة موجودٌ بكثافةٍ أكبر في المهرجانات العالَميّة - حتى إنّ ما نسمّيه عُريًا في الجونة قد يُعتبَر احتشامًا بدرجةٍ ما إذا قِيسَ إلى حفلات جوائز الأكاديمية (أوسكار) – إلاّ أنّ طابَع التّحفُّظ المتعلّق بملابس المرأة في بقعتنا من العالَم أكسَبَ حَدَثَ الجونة فرادةً يصعبُ التغاضي عنها.

ولهذا الاعتبار يَحسُنُ بنا أن نعتبرَ عُري فساتين الجونة ظاهرةً جديرةً بمحاولة الفهم، وأن نعلُوَ درجةً فوق الجدل البسيط بين المُدافِعين عنه باعتباره مَظهرًا للحرّيّة الشخصية المقدَّسة، ومُهاجِميه باعتباره خروجًا على تقاليد المجتمع المتديّن المُحافِظ.

وفي هذا المقال القصير سنحاول أن ننفذَ عبرَ الظاهرة إلى ما وراءها، ولا ندّعي أن نتائجَنا مَصونةٌ لا يَرقى إليها الشّك، فما هي إلا محاولاتٌ لفلسفة الظاهرة، تتذرَع بمقدماتٍ مختلفة، قد تُصيب وقد تَخطئ

مَدخل من علم الأحياء التطوري- ما علاقةُ داروِن بالفساتين؟

اعتقد تشارلز داروِن أنّ تفرُّد الجنس البشري بين أجناس الثدييات بالجلد العاري من الشَّعر هو نتيجةٌ لما أسماهُ الانتخابَ الجنسيّ Sexual Selection، وهو مفهومٌ أقلُّ شُهرةً من (الانتخاب الطبيعي)، ويَعني تفضيلَ أحد الجنسَين لصفاتٍ محددةٍ في أفراد الجنس الآخَر، ينتُج عنه تغيُّرٌ عامٌّ في الطُّرُز المَظهرية Phenotypes المتعلقة بهذه الصِّفات.

ففي حالة الجِلد العاري، ربّما ظهرَت الصِّفة في عددٍ محدودٍ من إناث أسلاف البشَر، وأقبلَ ذُكورُ الأسلاف على هؤلاء الإناث مُفَضِّلِينَهُنّ على غيرِهنّ من المُكتَسِيات تمامًا بالشَّعر.

وحديثًا جدًّا استثمرَ الفيلسوف الألماني المعاصر (ڤِنفْرِيد مِنِنْﮔهَاوس Winfried Menninghaus) المتخصص في علم الجَمال والمهتمّ بدراسات الموضة، استثمرَ نظريّةَ داروِن في كتابه (علم الجَمال بعدَ داروِن: الأصول العديدة للفنون ووظائفها) ليصل عبرَها إلى نتيجةٍ مفادُها أنّ الموضة كانت جزءًا لا يتجزّأ من عملية التطور البيولوجي الديناميكيّة، فما حَدثَ مع ظهور إناث الأسلاف عاريات الجلد كان أقربَ بالفعل إلى موضة بيولوجية جديدة، وهي موضة أثبتت نجاحَها إلى درجة الاكتساح، فانحسرَ الشَّعر تدريجيًّا عن جِلد البشَر، بشكلٍ جزئيٍّ في الذكور، وبشكلٍ أقربَ إلى الكمال في الإناث

والشّاهِد هنا أنّ الطّبيعةَ في اعتقاد داروين فضَّلَت ظُهورَ الجنس البشريّ عاري الجِلد، وتدريجيًّا أدركَ الإنسان بفِطرته أنّه يحتاج إلى الملابس لأسبابٍ مختلفة، فهي تقيه الحرّ كما تقيه البرد، فضلاً عن وظيفة الملابس المهمة في تأجيل الاستجابة لدوافع الجنس، حيث بتغطية كلٍّ من الجنسَين لجسَدِه، أصبحَت الإثارة الجنسيّة موضوعًا مؤجَّلاً حالَ السعي لتأمين المأكل والمأوى، وأُحيطَت بسياجٍ مُتَنامٍ من التحديدات حوَّلَها إلى علاقةٍ سِرّيّةٍ مُقدَّسَةٍ في سرّيتها.

وبعد اجتياز مرحلَتَي الطبيعة والفِطرة (التي يمكن اعتبارُها مرحلةً جزئيّةً بُدائيّةً من الحضارة)، سارَت الحضارة نحو المزيد من التعقُّد، ومع هذا التعقُّد تنوّعت الملابس للجنسَين، وأُحيطَ جسدُ المرأة الأقربُ إلى المَلاسة بهالاتٍ من التقديس كما وُجِّهَت نحوَه سِهامُ الشيطنة بصِفَتِه منبعَ الغواية، ولا أَدَلَّ على التقديسِ الممتزِج بالتأثيم من الكلمة العربية المستخدَمَة للإشارة إلى الشطر النسائيّ من الأُسرة والعائلة، أعني (الحَريم)، حيث تجعلُ هذه المفردةُ المرأةَ كنزًا مَخفيًّا (يَحرُمُ) الوصولُ إليه على غير أهله، فإذا وصلَ إليه فإنّ (الحَرامَ) يَقَعُ لا محالة، ولفرادة الكلمة واعتناق الأضدادِ فيها دخَلت اللغات الأوربيّةَ وبقيَت فيها كما هي Harem.
لكن يبدو أنّ الحضارةَ تَنحو في مرحلةٍ ما من تعقُّدِها إلى العودة إلى الطبيعة، لكنّها لا تعودُ بريئةً خفيفةً، بل مُحمَّلَةً بحمولاتٍ ثقافيّةٍ تمتدُّ في التاريخ إلى آلاف السنين.

فكما ظهرَ في حياتنا المعاصِرة إعلاءٌ لقيمة المُنتَجات المصنوعة باليد دون تدخُّل الآلة، وكما ظهرَت الفنادقُ البيئيّة التي يستمتع نزلاؤها بحياةٍ معقَّمَة من نعيم التكنولوجيا متمثّلاً في الأدوات المنزلية الكهربائيّة ووسائل الاتصال الحديثة وغير ذلك، ظهرَت كذلك الفساتينُ التي تُبدي من الجلد البشري الأنثويّ الأملس أكثرَ ممّا تُخفي، مُعلنةً وصول صاحباتِها إلى درجةٍ من التحضُّر، يُعانِقنَ من خلالِها تدريجيًّا التفوُّق البشريّ الأنثويّ، بالتخلُّص من مساحةٍ متزايدةٍ من القماش الذي يغطّي أجسادَهنّ - فيما يُشبه عرضَ استرپتيز طويلَ الأجَل – والتخلُّص من أوهامِ الفِطرة (أو مقتضَياتِها، تبعًا لزاوية القراءة)، مع مساحات القماش.  

ولعلّ اللقطة الشهيرةَ لأحد الفنّانين المشاهير ماشيًا على السجّادة الحمراء في بذلته الكاملة، ومعه زوجتُه في فستانٍ مكشوفٍ بدرجةٍ كبيرةٍ، لعلّها تعبّر عن حالٍ عامّةٍ في حفلات مهرجانات السينما، وإذا نظرنا إليها من زاويةِ هذا المدخَل الداروِنِيّ، وَجَدنا أنّ ملابس الرجال الضافية تبدو كما لو كانت تنصُّلاً حضاريًّا من سُبَّة الشَّعر الذي يكسو الجسم في الذكور، فهو سِمَةٌ (ما قبل- إنسانيّة) إذا جاز التعبير، بينما ملابس النساء المكشوفة إعلاءٌ من قيمة الجلد العاري.

وفي رأيي أنّ الحضارةَ أصلاً تتّجهُ وجهةً أنثويّةً في معاملَتِها لجِنسَي البشَر، فهي تُعلي الإناثَ وتؤنِّثُ الذُكورَ باستمرار Continuous Effemination، وبشكلٍ شخصيٍّ لا أنسى كلماتٍ ألقاها عليّ صديقٌ أيرلنديٌّ يُدعى (ماكلاخلَن) كان يعملُ عارضَ أزياءٍ فترةً من حياتِه، واعتزلَ المِهنةَ لأنه على حدّ تعبيرِه "وجدَ أنّ مشيةَ عارِضِي الأزياء أثناءَ الديفيليه تُجبِرُه على تجاهُل موضِع حِشمتِه، مما يسبب له ارتباكًا وشُعورًا بالضِّيق".

أي أنّها مِشيةٌ تعاملُه كما لو كان أُنثَى بدرجةٍ ما! هل يذكِّرُنا هذا شَطرَ بيت المتنبّي الشهير "حُسنُ الحَضارَةِ مَجلوبٌ بتَطريَةٍ"؟!

نظرةُ سارتر- صناعةُ الأيقونة:

في نسخته من الفلسفة الوجوديّة اعتبرَ سارتر النظرةَ Le Regard التي يشعر بها الإنسان مُوَجَّهةً إليه من الآخَرين مصادرَةً لحرّيّةِ الإنسان وسَحبًا للعالَم من تحت قدمَيه، فمحض وجود الآخَر ينتقِصُ من ذاتيّتي ويلفتُني إلى وجود جوانب للأشياء لا تخصُّني وإنما تخُصُّ الآخَر، ويحوّلني إلى موضوعٍ لتفحّص الآخَر واعتبارِه.

وهو يفسّر الشعور بالخجَل في حضرة الآخَرين بناءً على مفهوم النظرة، فالخَجَل اغترابٌ عن الذّات يعتري الإنسان في حضرة الآخَر، ناتِجٌ عن تآكُل هذه الذّات بفِعل الإحساس بنظرة الآخَر إليها

ما يَحدثُ على البساط الأحمر في مهرجانات السينما هو شكلٌ غريبٌ من الخضوع لوجود الآخَرِين. فبينما تُدافع الفنانات لفظيًّا عن اختياراتِهِنّ فيما يتّصل بالأزياء، من مُنطلَق الحرّيّة الشخصيّة، فإننا حين نَنفذُ وراء قشرة الحُرّيّة هذه إلى ما وراءها لا نَجِدُ إلاّ شخصًا مستسلِمًا لتآكُل ذاتِه بفعل نظراتِ الآخَرين، سواءٌ منهم الحاضرون في مُحيط الحفل أو القابعون خلف الشاشات والمتصفحون للجرائد.

ولعلّ خيرَ تركيبٍ لفظيٍّ يُعبِّر عن هذا التآكُل في الذّات هو قولُنا (أيقونةُ جنس Sex Icon) للفنّانة المشهورة باستعراض أنوثتِها بالأزياء وغير الأزياء، فالأيقونةُ في التحليل الأخير ليست ذاتًا على الإطلاق، وإنما هي موضوعٌ مطروحٌ للنّظر والتأمُّل وربما التقديس، لكن لا يُنتظَر منه تفاعلٌ كتفاعُل الذوات البشرية فيما بينها

وقريبٌ من هذا الطّرح ما تقولُه المنَظِّرة النسوية البريطانية (لورا مَلڤِاي Laura Mulvey) عن (النظرة الذكورية Male Gaze) كمَلمح من ملامح اختلال ميزان القُوى بين الجنسَين في صناعة الفِلم، فالنساء يَفقدن ذواتِهن الإنسانية في صناعة الفِلم ويتشيَّأن Become Objectified بسبب الرِّجال ذوي المَيل الجنسي الغَيريّ المتحكِّمين في حركة الكاميرا.

وواضحٌ أنّ مَلڤِاي كانت تتحدث عن النساء أمام الكاميرا داخل الفِلم، لكن ماذا يمكننا أن نقول عن ظهور الفنانات في المهرجانات، خارج سياق الفِلم؟ هل هو تطوُّعٌ بالتشيُّؤ ورضا بتآكُل الذّات؟

ينبغي أن يستمرّ العرض- خيرٌ مَحضٌ يَخلُقُ المشكلات:

في تقديري أنّ سُلوك الوقوف للكاميرات والتنافُس في مضمار العُري أمام المصوِّرين في مهرجانات السينما، هذا السُّلوك ينطوي على رُوحٍ فنّيّة أصيلة! قد تبدو الجُملة ساخرةً إلا أنني أعنيها تماما. ولا ينبغي أن يُفهَم منها أنّ الفنانة الأوفر حظًّا من العُري هي بالضرورة الفنانة الأفضل، وإنما أعني أنّ الظاهرةَ نفسَها صادرةٌ عن تلك الرُّوح الفنّية

لدينا فيلسوفان يُكملُ حديثُ كُلٍّ منهما عن الفنّ حديثَ الآخَر في هذا المدخَل. فأوّلاً، اعتقَدَ (جون ديوي (1859-1952) أنّ كُلّ خبرة جَمالية ترتدُّ في أصولها إلى الإيقاع الناشئ عن فقدان التكامل مع البيئة ثم استعادة الاتحاد بها.

وهكذا يصبح الفنُّ قاطرةً للحضارة تشدُّها إلى الأمام، طالما أنّ الممارسة الفنية تحقق تكيفًا للمرء مع بيئته بطريقةٍ ما، وتَظهر على أثر هذا التكيف نوعيةٌ أخرى من المشكلات تتطلب بذل جهدٍ من نوعٍ مختلفٍ لمواجهتها، وهكذا دواليك في تعقيدٍ واضحٍ لدوافع الإنسان.

والشاهد أنّ الفنانة على البساط الأحمر تكون قد انتهت من تصوير فِلمٍ ما، أي أنها خارجةٌ من صناعة الفنّ الأعقد بين الفنون قاطِبَةً، يحمل في طيّاتِه التصوير والشِّعر والموسيقى والمسرحَ وكُلّ شيء! لكنّ العرض قد انتهى بانتهاء التصوير، فماذا هي فاعِلة؟!

الرُّوح الفنّية التي ذكرتُها في بداية هذا المدخل هي التي تجعلُ الفنّانة تنقلُ موضوع العرض من الفِلم إلى جسدِها، فهي بذلك تُصبِح مركزًا لصُوَرٍ في أوضاعٍ كثيرةٍ تُثري فن التصوير الصحفي مؤقَّتًا، كما تُثري فنّ تصميم الأزياء بشكلٍ ما.

إنها تحُلُّ مُشكِلَةَ انتهاء العرض السينمائيّ لتبدأ مشكلاتٍ أخرى نجدُها في تضاعيف النِّقاشاتِ حول فستانها وإطلالتِها وجرأتِها، وهكذا تجعلُ من جسدِها قاطرةً تزيدُ الحياةَ تعقيدًا وتُضيفُ إلى الفنّ فُنونا

الفيلسوف الآخَر الذي يُكمِل حديثُه عن الفنّ إطارَ هذا المَدخل هو الأمريكي الإسبانيّ (جورج سانتايانا 1863-1952)، وذلك من خِلال التمييز الذي أشارَ إليه بين القِيم الخُلُقِيّة/ الدِّينيّة من ناحيةٍ، والقِيَم الجَماليّة/ الفنّيّة من الناحية الأخرى، فبينما الأولى قِيَمٌ سلبيّةٌ تتمحور أساسًا حول ما ينبغي أن نتجنَّبَه من شُرور، تبدو القِيَم الجَماليّة إيجابيّةً تمامًا، فالمتأمّل للوحةٍ أو صورةٍ فوتوغرافيّةٍ أو مقطوعة موسيقى لا يرى من وِجهة نظر الفنّ إلا خَيرًا مَحضا.

هكذا تخطر الفنّانة على البساط الأحمر وهي لا ترى ممّا تفعلُه إلاّ خيرًا محضًا، فما هي إلا موضوعٌ فنّيّ، ولا معنى لحديث الأخلاقِ هُنا من وجهة نظرها، وهي تتوقع من الآخَرين أن يَرَوها خَيرًا مَحضًا من هذه الزاوية، رغم حتمية الجَدَل.

إنّ لسانَ حالِها يقولُ "أنا العَرض"، واللوحة العامّة لها ولمثيلاتِها في حفلات المهرجان تَنطِق باسم أغنية فريق (كوين) الشهيرة: "ينبغي أن يستمرَّ العرض The Show Must Go On"!

وبالطبع يبدو الظّرف الاجتماعي التاريخيّ الرّاهن، باحتقان المشهد بين المحافِظِين والثوريِّين على الصعيد الاجتماعي في مصر، يبدو مهيَّئًا تمامًا لتوقُّع الفنّانة أن تُثير إطلالتُها الجدل وتخلُق المشكلات، وهكذا الفَنّ.

ختامًا، لا أتوقّع أن تؤثّر الانتقادات السلبية التي صرّح بها المشاهيرُ ولاكَها غيرُهم في مواقع التواصُل على مَسار العُري في مهرجان الجونة السينمائي، فالمسألة أقرب إلى عرض استربتيز طويل الأجَل، وهو عرض يسير بحِذاء التعقُّد الحضاريّ المحموم الذي لا يعرفُ غايةً، وكما يقول المعلِّقون السياسيّون عَقِبَ حدوث تغيُّراتٍ مهمّةٍ في المشهد السياسي: "عقاربُ الساعة لا تعودُ إلى الوراء"!

 

العالم العراقية في

08.11.2020

 
 
 
 
 

قرب المسافة واشتطاط المزار في فيلم "200 متر"

الجونة ـ عدنان حسين أحمد

ما يميّز فيلم "200 متر" للمخرج الفلسطيني أمين نايفة أن السيناريو الذي كتبه المخرج نفسه قد استغرق 10 سنوات وكان واحدًا من ثلاث أفكار رئيسة اجترحها عندما كان طالبًا في مؤسسة البحر الأحمر لفنون السينما في الأردن، ثم تحولت هذه الفكرة إلى أول نسخة مهنية في عام 2013، وظل منهمكًا في تعديل وتطوير هذه النسخة وتشذيبها حتى أصبحت كما هي عليه الآن. ففكرة الفيلم مستوحاة من حياته الشخصية والأُسرية حيث يقول في لقاء له بالجونة هذا العام:" عشت طفولتى مع والدتى فى قرية فلسطينية ولكن الآن هى تعيش فى الجانب الإسرائيلى، فقبل عام 2005 كانت الحياة أسهل ولكن بمجرد بناء الجدار العازل بدأت السيطرة والهيمنة والقمع من الجانب الإسرائيلى، فجأة أصبح الوصول لبيت أخوالى صعبًا رغم أن المسافة بالسيارة 20 دقيقة". وفي قصة الفيلم نرى مصطفى وزوجته اللذين ينحدرّان من قريتين فلسطينيتين يفصل بينهما الجدار العازل رغم أنّ المسافة الفاصلة بينهما هي 200 متر لا غير. تتفاقم الأمور حين يدخل ابنهما إلى المستشفى ويُمنع الأب من زيارة ولده بسبب الحاجز الأمني الأمر الذي يضطره لأن يقوم برحلة طويلة جدًا مليئة بالمصاعب والتحديات.

يُعدّ شريط "200 متر" من أفلام الطريق التي تزّج المتلقي بالعديد من مَشاهد البلدات والمدن الفلسطينية والإسرائيلية، وهو يجمع بين شخصيات فلسطينية محلية وأخرى قادمة من منافيها البعيدة. وهناك أناس يضطرون للعبور يوميًا من المعابر الإسرائيلية التي تُذلّ المواطنين الفلسطينيين، وتسحق أعصابهم بدم بارد. ما يهمنا في هذه السردية المؤلمة والقاسية جدًا هو سفر مصطفى إلى الجانب الإسرائيلي حيث تزداد الأجور إلى أربعة أو خمسة أضعاف، كما أنّ المسافرين الآخرين قد يشكّلون ثقلاً لا يستطيع مصطفى أن يتحمّله، وهذا ما حدث بالفعل حينما رافقتهما في السيارة مجموعة من الأشخاص أحدهم قادم من المنفى مع صديقته الأجنبية التي يدّعي أنها من أصول فلسطينية لكننا سنكتشف بعد مدة من الزمن أنها تتحدث بالعبرية فتأخذ الأمور منحىً آخرَ حتى بالنسبة لصديقها الذي كان يحبها وربما كان ينوي الاقتران بها. تضم العجلة شخصيات متعددة بعضها عدمي لا يفكر بشيء، وبعضها الآخر في مقتبل العمر ويبحث عن فرصة عمل في الجانب الإسرائيلي. وحينما تصل الرحلة إلى نهايتها نكتشف أنّ عليهم تسلّق أحد الجدران الشاهقة في الطريق المحاذي لنفق عميق لكن ثمة عصابة تبتز الجميع ولا تدعهم يتسلقون ما لم يدفعوا بعض المبالغ المالية. وفي نهاية المطاف يصل مصطفى إلى المستشفى ويطمئن على ابنه. ثمة مَشاهد رمزية عديدة اشتغل عليها السينارست والمخرج فهو يتواصل مع أفراد أسرته بواسطة إضاءة المصابيح عندما يكون على الجانب الآخر لكن الجدار العازل يظل حجر عثرة في طريقه وإذا ما أراد العبور فعليه أن يتجشّم عناء السفر البعيد وما يتخلله من مصاعب جمة قد لا تخطر على بال أحد حتى في الخيال الجامح.

تفاصيل هذا الفيلم كثيرة وهي تبدأ من الأب الذي يعمل في الجانب الإسرائيلي وعليه أن يجتاز المعبر يوميًا، ويتحمل الروتين القاتل في كل شيء بدءًا من هُويات التصريح، وفظاظة الضباط الإسرائيلين، وسوء معاملتهم، مرورًا بالابتزاز الذي يتعرض له في أثناء السفر والتنقل الاضطراري، وانتهاءً بالأوضاع النفسية التي تتفاقم كلما واجه معضلة من هذا النوع الذي يهرس الأعصاب. كما يعاني الابن في المدرسة من التنمّر ويتعرض إلى الإيذاء البدني الذي تخفيه الأم خشية من غضب الوالد وانفعاله. ومع ذلك فإن مصطفى يصنع الأفراح الصغيرة في المنزل ويغازل زوجته في المطبخ بعيدًا عن أعين الأطفال. المرأة الأجنبية التي أدّت دورها الممثلة الإيطالية آنا  أونتربيرغر لعبت دور المصورة المُساندة لقضايا الشعب الفلسطيني لكن تصرفاتها قد أثارت الريبة والشكوك عندما بدأت تتحدث باللغة العبرية، والشاب الفلسطيني الآخر الذي يبحث عن عمل في الجانب الإسرائيلي كي يؤمّن قوته اليومي. هذه القصص الثانوية برمتها تؤازر الثيمة الرئيسة التي تشكّل العمود الفقري لهذا الفيلم الذي نال رضا لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائية فأسندت إلى الفنان علي سليمان جائزة نجمة الجونة لأفضل ممثل عن دوره في هذا الفيلم. كما خطف الفيلم جائزتين أخريين وهما  "جائزة سينما من أجل الإنسانية" التي مُنحت للمخرج أمين نايفة وقيمتها 20000 دولار أمريكي. وجائزة أفضل فيلم عربي أُسندت للمخرج أمين نايفة أيضًا. وثمة فيلم عربي ثالث وهو "الرجل الذي باع ظهره" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية سنتحدث عنه في مناسبة أخرى لأنه يحتاج إلى مساحة واسعة لا نتوفر عليها الآن.

 

العالم العراقية في

17.11.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004