كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي (7):

مهرجان برلين يمنح فيلم محمد رسولوف ذهبيته

معظم جوائزه توزعت أوروبياً

برلين: محمد رُضا

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة السبعون

   
 
 
 
 
 
 

الوعد تم، وتوقع هذا الناقد وسواه تحقق، إذ نال «ليس هناك شيطان» للإيراني محمد رسولوف ذهبية المهرجان الألماني، وهي الجائزة القمّة بين جوائز مهرجان برلين. الفيلم كما أشرنا أول من أمس كان آخر ما عرضته الدورة السبعون للمهرجان الألماني العتيد من أفلام المسابقة التي بلغ عددها 18 فيلماً. وهو فيلم خرج من إيران بدون علم السلطات، بل تم تصويره، كما تؤكد بعض التقارير، من دون علمها أيضاً، إذ إن المخرج رسولوف ممنوع من العمل ومن مغادرة بلاده.

هناك أربع حكايات في هذا الفيلم الإيراني تدين كلها عمليات الإعدام بحق مساجين جريمة بعضهم لا تعدو اختلاف الرأي. حكاية موظف مسؤول عن تنفيذ الإعدام بشد يد الجهاز الذي سيقوم بالمهمّة. وحكاية الحارس الذي يهرب من السجن حتى لا ينفذ حكماً بسجين، ثم حكاية جندي نفذ حكم الإعدام بحق رجل لجأ إلى منزل عائلة خطيبته، وأخيراً الفتاة التي تكتشف أن والدها بالتبني نفذ حكم الإعدام بأبيها الحقيقي.

في نهاية كل حكاية، يسجل المخرج موقفه من السلطات والقانون المتعسف الذي تتمسك به. ومع كل حكاية نفهم اختيارات المخرج الذكية، لأنه إذا ما كان صنع هذا الفيلم من دون علم السلطات، فإن هذا يفسر القصّتين الأخيرتين اللتين تدوران في الريف البعيد.

ما ساعد رسولوف أيضاً حقيقة أن اختار أربع حكايات، كل واحدة تشكل فيلماً قصيراً بحد ذاته، وتم تقديم طلبات التصوير بأسماء مخرجين آخرين، قبل أن تؤول الموافقات لمحمد رسولوف الذي صوّر كل فيلم على حدة، وبشكل سري. حين أعلن رئيس لجنة التحكيم جيريمي آيرونز، فوز «ليس هناك شر»، فوجئ الحضور باعتلاء ابنة المخرج باران رسولوف المنصة لاستلام جائزة أبيها. هي إحدى ممثلات الفيلم، وصولها إلى برلين ما زال موضع تساؤل وتخمينات. لكن الواقع هو أنها كانت هناك، ورفعت الجائزة بيدها، وقالت «هذه لوالدي».

الجدير بالذكر هنا أنها المرّة الثالثة التي يفوز بها فيلم إيراني بذهبية مهرجان برلين. المرّة الأولى مُنحت الجائزة لفيلم أصغر فرهادي «انفصال» في عام 2011، والثانية عندما فاز بها فيلم جعفر باناهي «تاكسي» سنة 2015. ويلتقي فيلم محمد رسولوف مع فيلم باناهي من حيث إن كليهما من أفلام المعارضة. ويتشابه وضع المخرجين ذاتيهما، إذ إن كليهما ممنوع من العمل، ومن مغادرة البلاد، وكل منهما هرّب فيلمه إلى أوروبا من دون علم الدولة، وفاز بجائزة برلين.

لكن فيلم رسولوف أفضل من فيلم باناهي من حيث حجم طموحاته، كما من حيث إنه عمل أجرأ في نقده. على ذلك، هناك عدة هفوات، من بينها تفاوت بين مستوى بعض الحكايات (الأولى هي الأقوى والثانية هي الأضعف).

المنافس الأول لـ«ليس هناك شيطان» تمثّل بفيلم «أبداً نادراً أحياناً دائماً» للأميركية إليزا هيتمان. النقاد أحبوا الفيلم، واعتبروا معالجته لحبكة قائمة على اكتشاف فتاة شابة العراقيل الموضوعة أمامها حين تقرر إجراء عملية إجهاض. لا بأس بموضوعه الاجتماعي، ولا برسالته، ولا حتى بتنفيذه من مشهد لآخر، وهناك قدر من الطزاجة في الطرح والمعالجة. كل ممثلي الفيلم (بدءاً ببطلته سيدني فلانيغن) من وجوه جديدة أو شبه قديمة لم تلعب أدواراً بارزة فعلياً من قبل.

لكن ما يحدث على صعيد المعالجة الفنية يفتت الجهد المبذول لسرد حكاية بشكل مباشر، واندفاع حاسم صوب الوقوف إلى جانب الفتاة في سعيها. فالتصوير تم في بنسلفانيا، ثم في مانهاتن، وهذا الاختلاف سُجّل بصرياً كما إيقاعاً. على ذلك، معالجة الفيلم واقعية ونبرته مباشرة، ولا تحاول المخرجة أن توهم بشيء وتتوجه لتقول شيئاً آخر.

جائزة أفضل مخرج ذهبت للكوري هونغ سانغسو، عن فيلم «المرأة التي ركضت». ربما هو فيلم ذو مغزى، وبالتأكيد لدى مخرجه أسلوب عمل هادئ، لكن الجائزة في غير محلها، لأن إخراج سانغسو محدود إذا ما نظرنا إلى القيمة الفعلية لكاميرا لا تفعل سوى التصوير وممثلين لا يقومون إلا بالحديث.

جائزة أفضل ممثلة نالتها الألمانية بولا بير، عن دورها في «أوندين». كما تقدم الحديث في أحد هذه التقارير، تؤدي بولا شخصية امرأة عصف الحب بقلبها مرتين؛ الأولى عندما تركها من تحب، والثانية عندما عاد إليها، ما جعل علاقتها بصديقها الجديد محط أزمة عاطفية. بير تمثل الدور بإقناع وفهم كاملين، وهي سبق وأن ظهرت في فيلم سابق لمخرج هذا الفيلم، كرستيان بتزولد، هو «ترانزيت»، حيث لعبت دورها بإقناع كذلك.

أما جائزة أفضل ممثل، فذهبت للإيطالي إليو جرمانو عن «مخبوء» (توقعناها له منذ أن شُوهد الفيلم في اليوم الثاني من المهرجان). في هذا الفيلم الذي حققه جورجيو ديريتي، لعب الممثل شخصية الرسام الغامض أنطونيو ليغابو، الذي اعتبره البعض مبدعاً، والبعض الآخر وصف أعماله بالسذاجة وما دون. يحكي الفيلم عن شخصية معقدة نفسياً ومعادية، وعلى قدر من العنف الذي ينفجر لأدنى الأسباب ضرورة. جرمانو برع في الحركة وطوّع جسده ليماثل هيئة الرسم الغريبة شكلاً ومضموناً.

إذن توزّعت الجوائز المذكورة أعلاه بين إيران غير الرسمية («ليس هناك شر»)، والولايات المتحدة («أبداً نادراً أحياناً دائماً»)، وكوريا الجنوبية («المرأة التي ركضت»)، وألمانيا (الممثلة باولا بير)، ثم إيطاليا (إيليو جرمانو).

باقي الجوائز تبدو كما لو سعياً لاستكمال دائرة أوروبية في أساسها، فالأفلام السابقة كلها أوروبية (بما في ذلك التمويل الألماني لفيلم محمد رسولوف)، والحال كذلك عند التوسع في ذكر جائزة المناسبة السبعين لمهرجان برلين (جائزة خاصة هذا العام) نالها الفيلم الفرنسي «امحِ التاريخ» للثنائي توستاف كرفرن وبنوا دلفين. كذلك تم منح جائزة أفضل سيناريو لفيلم إيطالي آخر هو «حكايات رديئة» من إخراج الشقيقين داميان وفابيو د إينوشنزو. ثم سقطت كرة أفضل تصوير في حضن الفيلم الروسي «د أ يو: ناتاشا» إذ فاز بها مدير التصوير يورغن يورجز.

بالنتيجة، هذه أفضل الأفلام والاختيارات، باستثناء تلك التي منحت الفيلم الكوري جائزة أفضل إخراج، كانت صائبة، خصوصاً وأن المستوى العام والشامل لأفلام المسابقة هذا العام لم يكن بتلك الجودة التي اعتادت عليها دورات برلين السابقة.

نذكر أن هذا ما قلناه في نهاية الدورة التاسعة والستين في العام الماضي، التي بدت كما لو أن المدير السابق دييتر كوزليك لم يكترث كثيراً وقد صدر القرار بإحالته إلى التقاعد. الفارق هنا هو أن الإدارة الجديدة المؤلفة من رأسين (كارلو شاتريان ومارييت روزنبيك) ما زالت تجرب وضعها الجديد، وواجهت أربع مشكلات أساسية:

1 - المستوى العادي لمعظم ما اختارته من أفلام للمسابقة.

2 - محاولة إرضاء المحتجين على رئيس لجنة التحكيم، الممثل البريطاني جيريمي آيرونز، كونه صرّح بمعارضته لزواج المثليين قبل عدة سنوات.

3 - ثم عملية إرضاء احتجاج آخر وُجّه هذه المرّة ضد الجائزة التي حملت اسم مؤسس المهرجان طوال السنوات الماضية، وهو ألفرد باور، الذي فجأة، وبعد سنوات خدمته والسنوات التي حمل المهرجان اسمه لإحدى جوائزه، تم الكشف عن أنه كان موظفاً في أرشيف السينما تحت إشراف النازية.

4 - الزج بعدد أكبر من المعتاد من المخرجات لإرضاء الحركات النسائية النشطة. في هذا الصدد، فإن إليزا هيتمان الفائزة بـ«الدب الفضي» عن فيلمها «أبداً نادراً أحياناً دائماً» هي المرأة الوحيدة بين المخرجات اللواتي فزن بجائزة ما.

في النهاية، لا بد من العودة إلى محمد رسولوف، الذي بالتأكيد سيواجه الآن احتمالاً كبيراً بسجنه. لقد خرق قرار المحكمة الذي صدر ضده، وخدع السلطات، ووجد طريقة لإرسال الفيلم إلى برلين، وعرضه، ونال عليه جائزة.

رسولوف ليس وحده الممنوع من العمل، لكنه النسخة الأخيرة من التعسف الذي يصيب السينمائيين الإيرانيين تبعاً لقرارات الحظر على الإبداع واختلاف الرأي. ولا ننسى أن قضيته تعود إلى عامين سابقين عندما عرض فيلمه «رجل نزيه» في مهرجان «كان»، وما إن عاد إلى بلاده حتى تم سحب جواز السفر منه، وما زال مسحوباً.

قبل إعلان الجائزة ببضعة أيام، استخدم رسولوف نظام «سكايباك»، وتواصل مع صحافي من مجلة «ذا هوليوود ريبورتر» الأميركية. ستكون هذه تهمة أخرى ضده، لكنه، وكما يقول في المقابلة، لا يهتم: «عندما تعيش في ضغط ناتج عن نظام كالذي نعيشه في إيران، تجد أن عليك إما القبول وإما الرفض. بالنسبة لي، لقد اتخذت قراري لإعلان موقفي».

 

الشرق الأوسط في

02.03.2020

 
 
 
 
 

الجندرة في "البرليناله 2020": سينما أم مساواة؟

برلين ــ نديم جرجوره

مهرجانات سينمائية دولية عديدة "مهووسة" بالجندر، فتجهد في إيجاد معادلة ما بين النساء والرجال في خياراتها المتعلّقة بالأفلام أو بصانعيها الذين يُشكّلون لجان تحكيم مختلفة. لذا، تذكر إدارة "مهرجان برلين السينمائي الدولي" أنّ هناك 138 مخرجة و207 مخرجين تُعرض أفلامهنّ/ أفلامهم في الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020). تقول النسب المئوية إنّ للنساء 37,9 بالمئة (مقابل 45 بالمئة عام 2019)، وللرجال 56,9 بالمئة (مقابل 52 بالمئة عام 2019)، وإنّ هناك 8 مشاركات/ مشاركين (2,2 بالمئة) لم تؤكّد/ يؤكّد الهوية الجنسية الخاصّة بها/ به.

هذا حاضرٌ في مهرجانات كثيرة. المنتج الأميركي هارفي وينستين سببٌ أساسيّ، يُضاف إلى أسبابٍ يُعاد صوغها بعد انكشاف فضيحته، الممتدة على أعوام طويلة من التحرّش الجنسي. أسبابٌ أخرى تتمثّل بالغبن اللاحق بالعاملات في صناعة السينما، في هوليوود وأوروبا، نتيجة سيطرة الرجال على المناصب الأساسية في الصناعة. بعض مسؤولي المهرجانات يتمسّك بأولوية السينما على الجندر. يُدافع عن خياراته، لأنّها ـ برأيه ـ منبثقة من همّ سينمائي، من دون أنْ يتغاضى كلّياً عن رغبة ـ ولو مبطّنة ـ في إيجاد مساواة ما بين الجنسين. قراءة هذا في أفلام "البرليناله الـ70" صعبةٌ، فالأفلام كثيرة، والبحث عن "سينمائيّةِ" أفلام المخرجات، المُشاركة في الدورة الأخيرة هذه، يُلغي الاهتمام بالسينما كنتاج بصري وثقافي وجمالي. الأرقام السابقة تعكس الكمّ، والمُشاهدات، إنْ تتمكّن من متابعة "كلّ" الأفلام النسائية، يُفترض بها أنْ تفضي إلى قراءة نقدية مهمومة بالفنّ السابع أساساً.

"شرطة" (2020) للفرنسية آن فونتان (برنامج "البرليناله المميّزة ـ غالا") مثلٌ يُستند إليه في هذا الإطار: الإخراج لامرأة، والدور الأساسي لامرأة. لكن الاشتغال السينمائي عاديٌّ للغاية، وموضوعه "الإنساني" يُلمِّع صورة الشرطة الفرنسية، في مرحلة متّسمة بصدامات عديدة بين الشرطة وفرنسيين كثيرين، بعضهم متحدّر من أصول غير فرنسية، إما في الضواحي أو في قلب باريس. أداء فرجيني افيرا (فرجيني) مُبالَغٌ فيه أحياناً. توتّرها غير مُقنع كثيراً، رغم أنّها تعكس شخصية امرأة تعاني خللاً في عائلتها، وارتباكاً في ارتباطها بزميلها أريستيد (عمر سي)، وحملها جنيناً منه. انكسارها الانفعالي أمام توهيروف (بيمان معادي)، المُرحَّل من بلدها لـ"انتفاء" سببٍ قانونيّ للبقاء فيه لاجئاً وهارباً من بلده، متصنّع أحياناً، بل مُبالَغٌ فيه كأدائها عامة. هذه حالات تدفع إلى التساؤل عن اختياره في "البرليناله الـ70": أيكون السبب قناعة الإدارة الفنية للمهرجان بأولوية اتّخاذ موقفٍ من التعنّت الأوروبي إزاء الهجرة إلى بعض أبرز بلدان القارة القديمة، عبر السينما، بل عبر "أي" سينما ممكنة؟

Charlatan (البرنامج نفسه) مثلٌ ثانٍ، يتناقض والأول كلّياً. مخرجته امرأة. البولندية أنييشكا هولاند تعود إلى المرحلة السوفييتية في تشيكوسلوفاكيا، لتسرد حكاية مُعالِج بالأعشاب الطبيعية، يواجه تحدّيات كثيرة في حياته (قصّة حقيقية). التناقض يبرز في المسائل المختلفة، ويكشف فرقاً كبيراً بين الفيلمين لمصلحة الثاني: سيناريو (ماريك ابشتاين) متماسك بمنطق درامي وسردي يذهب إلى عمق الذات وارتباكاتها، وإخراج يوازن بين الحكاية الشخصية ليان ميكولاتشيك (إيفان ترويان) وأزمنة الخراب في بلدٍ طالعٍ من الحرب العالمية الثانية، وخاضعٍ لنظام سوفييتي استخباراتي حاد. أداء الممثل التشيكي ترويان باهر. المونتاج (بافل هردليتشكا) يمنح السرد وتقاطع المراحل والحكايات جمالية بصرية تُنظِّم الإيقاع الزمنيّ للفيلم.

هذان مثلان غير متمكّنين من اختزال المسألة. يصعب فهم آلية اختيار أفلام المهرجانات وأعضاء لجان التحكيم. إعلان النسب المئوية للأفلام وأعضاء اللجان في كلّ دورة انعكاسٌ لرغبة في إبعاد تهمة "العداء" للنساء عن إدارات المهرجانات. هناك أيضاً سؤال الحضور النسائي في إدارة المهرجان وأقسامه المختلفة. مارييت ريسّنبك، المديرة التنفيذية لـ"البرليناله"، تقول إنّ "المساواة بين الجنسين مهمّة بالنسبة إلينا، لكن الأمر يتطلّب وقتاً، فلا شيء يُمكن تحويله بين ليلة وأخرى" (مجلة "الفيلم الفرنسي"، 21 فبراير/ شباط 2020). تؤكّد أن نساء كثيرات يحضرن داخل المهرجان، فأقسام إدارية وتنظيمية عديدة، كما أقسام الصحافة والتواصل والبحث عن رعاة، معقودة على النساء: "نحن نعي تماماً مسألة التباين الحاصل في صناعة السينما، ونريد التنبيه إليها"، كما تقول، مشيرة إلى أنّ السينما "مرآة المجتمع، والمكان المثالي لمناقشة مواضيع اجتماعية".

من جهته، يؤكّد كارلو شاتريان، المدير الفني للمهرجان ما هو معروف: "حضور النساء في السينما أقلّ من حضور الرجال دائماً، وعلى هذا الوضع أن يتغيّر". بالنسبة إليه، سؤال التنوّع غير مختصّ بالنساء فقط: "هناك عمل كثير يجب القيام به، على مستوى الاكتشاف لا الاختيار". يتوقّف عند World Cinema Fund وBerlinale Talents، قائلاً إنّهما مهمّان جداً في اكتشاف مواهب نسائية (وغير نسائية): "بالنسبة إلى اختيار الأفلام، أقول إنّي ضد الكوتا. فالكوتا تبدو اختياراً داخل الاختيار، وهذا قد يؤدّي إلى نوع من الغيتو" (المجلة نفسها).

هذه تساؤلات. النقاش مستمر، ما دام النزاع مستمراً، والواقع مُصابٌ بعطبٍ متمثّلٍ بميل الدفّة إلى الرجال، وهذا عطبٌ يجب إصلاحه.

 

العربي الجديد اللندنية في

02.03.2020

 
 
 
 
 

رسائل برلين 2020: أسد إيران والحلم الألماني وذعر كورونا

حسام فهمي

المهرجانات الكبيرة تتطلب اختيارات كبيرة، هل تذهب إلى مشاهدة فيلم جميل سينمائيًا، أم تتجه لمؤتمر صحفي لنجم محبوب للغاية، الأفلام التي نتخلى عنها أثناء اختيار جدولنا اليومي، والأفلام التي تفرض نفسها علينا بشكل مفاجئ أثناء اليوم، الأفلام التي ترفض كل الصدف أن تسمح لنا بمشاهدتها، والأفلام التي تدفعنا للدخول في شجارات كلامية بعدها.

هذه هي عصارة النصف الثاني من أيام مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته السبعين، الدورة التي سجلت رقماً جيداً على مستوى الحضور الجماهيري، 330 ألف تذكرة مباعة تجعله مرة أخرى المهرجان السينمائي السنوي الأعلى جماهيرياً على مستوى العالم، بالإضافة لكونها الدورة التي استمرت من خلالها برلين في التربع على عرش المهرجانات صاحبة أكبر عدد من الأفلام التي أخرجتها نساء ضمن مسابقتها الرسمية، برلين أيضا تتفرد بكونها المدينة الصاخبة المليئة بالحياة التي يهتم سكانها ومهرجانها بحقوق البيئة، هنا لا يشرب زوار المهرجان مشروباتهم في أكواب ورقية ثم تتراكم القمامة، هنا يتجول الجميع وهم يحتفظون بأكوابهم الشخصية في جيوب معاطفهم، يحاول الجميع الحفاظ على موارد كوكب الأرض، في نفس التوقيت الذي يهرول الجميع للحاق بفيلم جديد قد يوفر إجابة سؤال «ماذا شاهدت في برلين؟».

من هرولة المعجبين الأوروبيين للتصوير مع نجوم مكسيكيين يتعرض أبناء جنسهم للتنمر والعنصرية من الرجل الأبيض في أزقة أخرى من العالم، عروض يتخللها أصوات السعال المخيفة وسط ذعر كورونا الذي يجتاح الدنيا، مروراً بحلم ألماني جميل يختلط فيه الواقع بالفانتازيا، أسر تجتمع لتشاهد عالم بينوكيو الحلو والمر، وأخيراً الختام مع أسد ذهبي توج به رجال ونساء إيرانيات صنعوا فيلماً عن حق الإنسان في الاختيار، وعواقب هذا الاختيار، الذي تغيب بسببه مخرج الفيلم عن منصة التتويج، هذه هي رسالة برلين 2020 الأخيرة.

فيلم «Undine» والحلم الألماني

الفيلم الأجمل في المهرجان، والذي استحق عن جدارة جائزة أفضل فيلم من الاتحاد الدولي لنقاد السينما، هو الفيلم الألماني Undine من إخراج أحد أبرز المخرجين الألمان الحاليين «كريستيان بيتزولد» ومن بطولة «فرانز روكوفسكي» و«باولا بيير» التي انتزعت الدب الفضي لأفضل ممثلة في ختام المهرجان.

في صباح يوم عرض Undine كان المؤتمر الصحفي للنجم الإيطالي المحبوب «روبرتو بينيني» في نفس التوقيت، روبرتو رجل يشع بهجة وحب وأمل، هو تماماً كما يتذكره الجميع في احتفاله الأسطوري بالفوز بالأوسكار التي سلمته له صوفيا لورين في عام 1999، مر أكثر من 20 عاماً وروبرتو يحمل نفس القدر من الحب والبهجة. في هذا المؤتمر الصحفي حكى روبرتو أن فرانسيس فورد كوبولا عرض عليه من قبل لعب دور جيبيتو صانع بينوكيو في فيلم من إخراجه، الفكرة كانت منذ 20 عاماً بالتمام والكمال، في عشاء دعا إليه المضحك الراحل روبن ويليامز، لكن المشروع لم يكتمل فيما بعد.

الاختيار كان في النهاية بالتخلي عن المؤتمر الصحفي، حتى لو كان أمام هذا الرجل البديع، والذهاب لقصر البرلينالي لحضور العرض الصحفي لفيلم كريستيان بيتزولد، القدر كان هنا رحيماً، فحكاية بيتزولد المبينة على القصة الأسطورية عن أصل عروسة البحر، قدمت لي شخصياً أفضل لحظات المهرجان على المستوى العاطفي والسينمائي، في كل عام نعجب بالعشرات من الأفلام، لكن فيلماً واحداً يلمسنا بشكل شخصي ويظل عالقاً بالذاكرة لفترة طويلة، Undine هو الجواب، هو الحلم الألماني الحقيقي في هذه الدورة من المهرجان.

الحلم الألماني الآخر الذي تحدث عنه الجميع في برليناله 2020 هو بالطبع حلم المهاجرين الذي يتحطم على صخرة العنصرية، والذي قدمه المخرج الألماني برهان قرباني في فيلمه Berlin Alexanderplatz، والذي رفضت كل الصدف أن تسمح لي بمشاهدته، آخرها كان حينما وصلت متأخراً، ليتم إغلاق القاعة قبل وصولي، ولأقابل على أبواب السينما مخرجاً مصرياً شاباً يعيش في برلين حالياً ويقوم شخصياً بصناعة فيلم أيضاً عن المهاجرين في برلين، اعتبرت الحكاية التي رزقني الله بها على لسانه تعويضاً مناسباً عن فيلم برهان قرباني الذي تحدث عنه الزميل محمد طارق في رسالتنا السابقة.

على عكس ألكسندر بلاتس، ففيلم بينوكيو، ضمن العروض الخاصة بالمهرجان، قد أعادته الأقدار لي لأشاهده في يوم ختام المهرجان، اليوم الذي يطلقون عليه هنا «يوم الجماهير» حيث أسعار تذاكر مخفضة وتذاكر أقل مخصصة لصناع السينما والنقاد، نصيب الأسد يذهب للجمهور في يومهم، كان العرض في قصر حديقة الحيوان Zoo Palast – أجمل سينمات برلين- وقد كان مكتملاً عن آخره، أسر وأطفال من كل الأعمار، يشاهدون معالجة المخرج الإيطالي «ماتيو جاروني» لحكاية الأديب الإيطالي «كاريو كولودي»، هنا نعود للحكاية الأصلية، بحلوها ومرها، مرها الذي حذفت منه ديزني كثيراً حينما حولت الرواية لقصة رسوم متحركة، الفيلم في النهاية وإن كان موجهاً للأطفال، إلا أنه يترك شعوراً عميقاً وحقيقياً برابط الأبوة والبنوة، رابط يأتي فطرياً لكنك عقب ذلك عليك أن تبذل مجهوداً مضاعفاً للحفاظ عليه، الفيلم يذكرنا أيضاً بعوالم ماتيو جاروني الخيالية المبهرة بصرياً، التي يسكنها في أحيان كثيرة وحوش تشبه وحوش المكسيكي الممتع غواليرمو ديل تورو.

ذعر فيروس كورونا والخوف من الأجانب

نستمر مع العروض الخاصة أيضاً، هذه المرة مع فيلم من إخراج البريطانية سالي بوتر، وبطولة الطاقم التمثيلي الأشهر في المهرجان، خافير بارديم، سلمى حايك، وإلا فاننج، الفيلم عن كاتب مكسيكي هاجر إلى أمريكا منذ سنين، ترك حبه الأول وذكريات أسرته الأولى حينما غادر، ولكنه حينما يبدأ في فقدان ذاكرته عند الكبر، لا يتذكر أثناء أيامه التي يقضيها بين عيادات الأطباء سوى ما تركه، ترافقه في رحلته ابنته الأمريكية -تقوم بدورها إيلا فاننج- حيث تبدو أنه الشيء الوحيد الذي يربطه بهذا العالم الأبيض، العالم الذي تصرخ فيه إحدى النساء في وجهه قائلة «ارحل عن بلدنا أيها المكسيكي القذر».

ينتهي الفيلم ويبدأ المؤتمر الصحفي، القاعة مزدحمة أكثر من أي مؤتمر صحفي آخر طوال المهرجان، أكثر من مؤتمر جوني ديب، أكثر من مؤتمر روبرتو بينيني، وأكثر بكل تأكيد من المؤتمر الصحفي الذي أعقب الفيلم الإيراني الفائز بالدب الذهبي، قوة الشهرة تصنع هالة مضيئة حول خافيير بارديم وسلمى حايك، الإسباني والمكسيكية من أصل لبناني، عقب المؤتمر الصحفي يهرول الرجال والنساء الألمان – المعروفون بصرامتهم وجديتهم- حول سيارات النجمين اللاتينيّين لمحاولة التقاط صورة معهم، مع الأجانب أصحاب البشرة البُنية، في نفس التوقيت الذي يحاول اليمين الألماني الفوز بالانتخابات لطرد كل المهاجرين والملونين من أرضهم البيضاء.

على جانب آخر فذعر كورونا لم يؤثر على حضور المهرجان بشكل مثير للدهشة، المئات بل الآلاف يجتمعون يومياً في قاعات عرض مغلقة، تتعالى أصوات السعال بين الفينة والأخرى، يتسرب الشك إلى ذهني، هل من الممكن أن ينقل شخص واحد العدوى لكل هؤلاء، لكنني وبعد عدة دقائق أنسى الكورونا وأغوص أكثر في عالم الفيلم. الصدفة العجيبة أيضاً أن مكتب وزارة الصحة الألمانية قد أعلن عن حالة الإصابة الأولى بفيروس كورونا صباح يوم 2 مارس، أي بعد ساعات من نهاية العروض الجماهيرية لليوم الأخير للمهرجان، هل اكتشفت برلين الإصابة ولم تعلنها حتى نهاية المهرجان!

كورونا تمثل ذعراً للجميع الآن، أخبار تتساءل عن إمكانية إقامة مهرجان كان في موعده، أخبار أكثر تشككاً تأتي من فينيسيا حيث ازدادت الوفيات في إيطاليا، مهرجان قمرة قد تم إلغاؤه بالفعل في قطر، ومهرجان سالونيك قد تم الغاؤه في اليونان، برلين كان إنجازاً بكل المقاييس إذن، فحضوره أكثر من خمسة أضعاف كل هذه المهرجانات مجتمعة.

الأسد الإيراني

كل الأفعال البشرية مرتبطة بشكل ما بالسياسة بمفهومها الواسع، حرية تنقلك، حقك في وسائل مواصلات جيدة وآمنة، قدرتك على شراء كوب شاي عقب إفطار يكفيك بقية يومك، وبالتأكيد قدرتك على الارتباط بمن تحب، والسير معها أو معه دون أن تخاف عند كل منعطف، كل هذا نحاول نسيانه حينما نعيش في مجتمعات يصبح الكلام فيها عن السياسة ضرباً من الانتحار، تتدهور كل الملفات، ننسى كل ما ذكرناه سابقاً، ونحاول أن نصنع سينما منزوعة الدسم والفكر، ثم نندهش أنها منزوعة الإبداع أيضاً.

في الفيلم الإيراني الفائز بالدب الذهبي There is no Evil، أو «ليس هناك شيطان» إذا ما حاولنا أن نترجمه بشكل أقرب لاسمه الفارسي الأصلي، يصحبنا المخرج الإيراني «محمد رسولاف» في أربع حكايات منفصلة متصلة لبشر موضوعين أمام اختيار صعب، اختيار يعيد تشكيل علاقتهم بالحياة والموت، كما يعيد تشكيل رؤيتنا لعالمهم.

الفيلم في مجمله قد يكون معادياً للتجنيد الإجباري، قد يكون معادياً أيضاً لعقوبة الإعدام، لكنه ورغم كل ذلك لا يقدم شياطين أو أشراراً، الكل بشر، المخطئ لم يظهر في الصورة، المخطئ قد يكون من وضع هذه القوانين، من يرعاها ويصر على تنفيذها، ومن يمنع محمد رسولاف حالياً من السفر، بل ومن حكم عليه بالسجن لمدة عام بتهمة فضفاضة للغاية هي نشر البروباجندا.

رسولاف قد صنع هذه الحكايات الأربع وكأنها أربعة أفلام قصيرة منفصلة، هذه هي الحيلة التي مكنته من صناعة الفيلم وهو ممنوع من العمل، ولكنه ورغم هذا الوضع الاستثنائي، قد نجح في صياغة رؤيته في شريط سينمائي ممتع، تلعب فيه البيئة الإيرانية دور البطولة، من الشوارع والأسواق المزدحمة، إلى براح الريف والبراري.

حينما خرجنا من الفيلم اتهم البعض رسولاف بمغازلة الغرب، في المؤتمر الصحفي سألت شخصياً صناع العمل ومن بينهم «باران رسولاف» ابنة المخرج، كيف يردون على من يتهمهم بنشر بروباجندا معادية لإيران، فرد منتج الفيلم بأنهم يصنعون فيلماً عن الحقيقة، مشاعر حقيقية واختيارات حقيقية لبشر حقيقيين، ولذلك على من يتهمهم بالبروباجندا أن يعيد التفكير في ما يريد أن يراه.

انتهى الحلم البرليني إذن، بضحكات ودموع السينما الإيرانية التي يمكنها الوصول لكل أرجاء الدنيا، لأنها شديدة الصلة بحكايات شعبها، بمخاوفهم وأحلامهم وشكوكهم أيضاً.

من هنا وطوال 4 رسائل، بالإضافة لحوار خاص مع المخرجة هالة لطفي، وبمشاهدات استمرت عشرة أيام، بين سينمات برلين المختلفة ومركزها الصحفي، نقلنا لكم مهرجان برلين 2020، في الدورة رقم 70 التاريخية، الدورة التي لم تمنعها كورونا، والتي سنتذكرها بالسعال المُخيف،الأسد الإيراني، والحلم الألماني.

 

موقع "إضاءات" في

03.03.2020

 
 
 
 
 

برليناله 70: "أبدًا نادرًا أحيانًا دائمًا"...

أفلام الإجهاض تبلغ ذروتها في فيلم الدب الفضي

أحمد شوقي

في عام 2007 قدم الروماني كرستيان مونجيو فيلمه الأشهر "أربعة شهور ثلاثة أسابيع ويومين"، لينال سعفة كان الذهبية ويكون أحد الأفلام المؤسسة لما سمي بالموجة الرومانية الجديدة، بحكاية مقتصدة دراميًا كاشفة سياسيًا عن فتاة تقوم بإجراء عملية إجهاض غير شرعية في ظل الحكم الشيوعي لرومانيا. وفي 2020 تأتي المخرجة الأمريكية إليزا هيتمان بفيلمها "أبدًا نادرًا أحيانًا دائمًا Never Rarely Sometimes Always" الذي يمتلك حكاية مقاربة، لتنتزع جائزة لجنة التحكيم الخاصة (الدب الفضي) من مهرجان برلين، وتغلق قوسًا فتحته السينما الرومانية قبل 13 عامًا.

هناك الكثير من التشابهات التي يمكن لمسها بين الفيلمين، لكننا سنبدأ بالاختلافات التي تجعلنا نقول أن فيلم هيتمان امتداد فني وزمني يغلق القوس ويضع قضية الإجهاض في سياق كوني معاصر مُشبع، سنحتاج بعض السنوات حتى يتمكن صانع أفلام آخر من إضافة المزيد إليه.

رومانيا تشاوشيسكو كانت دولة شمولية، تقمع الحريات وتدخل في أدق التفاصيل الشخصية لمواطنيها، وأمان الجسد ـ أي جسد ـ وحريته كانت على المحك للجميع بلا استثناء، وبالتالي فقضية كحق الإجهاض يستحيل عمليًا مناقشتها بمعزل عن الحريات بشكل عام، حتى لو سلمنا بأن المرأة تعاني تاريخيًا من قمع مجتمعي إضافي يزيد عندما يمارسه ذكور مقموعين على النساء المحيطات بهم.

أما أمريكا 2020 فهي على النقيض، مجتمع مفتوح يكفل الحريات الشخصية ويحميها، لكنه حتى وفي ظل تقنين عمليات الإجهاض، ظلت أوتمن (الوجه الجديد سيدني فلانيجان في أداء مدهش) مضطرة لخوض رحلة بالغة القسوة للتخلص من جنينها.

"الفتاة" التي لا نعلم عنها الكثير

أوتمن طالبة في المدرسة العليا، عمرها 17 سنة، تعيش في بلدة صغيرة بولاية بنسلفانيا، يبدأ الفيلم بها تؤدي أغنية في عرض المواهب الخاص بمدرستها ليقوم أحد الطلبة بالتنمر ضدها صائحًا "عاهرة"، لترد له الصاع لاحقًا خلال السهرة قبل أن نتعرف بشكل مبسط على أمها الداعمة وزوج الأم العنيف. وفي نهاية الليلة نفهم ـ وإن كنا لا نتأكد ـ من وجود جنين في رحم الفتاة الشابة.

تتعمد هيتمان ألا تحوّل بطلتها لضحية، ألا تقدم تفاصيل قصتها بشكل معتاد وتخفي الكثير من المعلومات الرئيسية، والد الجنين مثلًا، لكنها في المقابل تؤسس لامتلاك أوتمن لكل التناقضات التي يمكن أن تمتلكها مراهقة في عمرها، فهي بالغة الضعف لا سيما في مجتمع ضيق مغلق كبلدتها، وفي الوقت نفسه لديها من القوة الداخلية ما يجعلها قادرة على الانتقام ممن أذاها، وعلى خوض رحلة نحو مدينة نيويورك من أجل الإجهاض، بعد أن تعلم أن الجراحة مستحيلة في ولايتها دون موافقة أولياء أمرها.

التغييب المتعمد للمعلومات مع إجادة صياغة المتاح منها يساهم في تحقيق الفيلم معادلة تبدو نظريًا مستحيلة، فأوتمن لا تطلب شفقة أحد بما في ذلك الجمهور، والمخرجة تستبعد عمدًا كل أدوات التماهي رافضة أن "يتوحد" المُشاهد مع بطلتها، لكنها في المقابل تنجح في جعل أوتمن هي "الفتاة" بمعنى الكلمة المطلق. ليست فتاة بعينها تتعرض لمحنة تسعى للخروج منها، لكنها تصير المعادل الموضوي لأي مراهقة تعيش عصرنا الحالي، بكل ما يحيط بها من عنف معلن وخفي، وهموم يصعب التخفف منها رغم كل ما يوفره العصر نظريًا من حريات.

الرفيقة والدرب والعالم المحيط

رحلة أوتمن لم تكن لتتم دون البطلة الثانية للفيلم، ابنة عمها وصديقتها الحقيقية الوحيدة سكايلر، والتي لا توفر فقط الغطاء المالي للرحلة عبر الدولارات التي تختلسها من المتجر الذي تعمل فيه، ولكن الأهم هو كونها الغطاء المعنوي لأوتمن التي كان على الصعب عليها ـ رغم ما تمتلكه من قوة ـ أن تخوض المغامرة وحدها، لا سيما بعدما تكتشف المراهقتان في نيويورك أن إنهاء حمل الفتاة المتأخر سيحتاج وقتًا أطول مما خططا له.

عبر الطريق إلى نيويورك والليلتين الإضافيتين اللتين تقضيهما الفتاتان دون أموال في مدينة هائلة لا ترحم الضعفاء، تقدم إليزا هيتمان لوحة بديعة للصداقة بين امرأتين شابتين. صداقة خالية من الميلودراما والبكائيات والمواجهات الكلاسيكية، علاقة بالغة الرهافة، الدعم يأتي فيها في صورة فهم متبادل دون حديث، لمسة يد تأتي في الوقت الصحيح، وقدرة على تغيير مسار النقاش عندما يصير الحديث عن الموضوع الرئيسي مؤلمًا.

"أبدًا نادرًا أحيانًا دائمًا" فيلم يخلو من الأحكام المطلقة على الشخصيات، لكنه متعاطف مع جميع نسائه بشكل واضح، متفهم لما تعانينه من ضغوط تدفعهن أحيانًا لارتكاب ما يراه الآخرون خاطئًا. وبالرغم من غياب الذكر الشرير العنيف الكلاسيكي الذي يحيل حياة النساء جحيمًا، إلا أن المخرجة الموهوبة تبرع في خلق شعور عام بالتوتر والتحفز في عالم يشكل كل رجل فيه خطرًا محتملًا إلى أن يثبت العكس، بل أحيانًا يظهر الخطر بعد أن يثبت هذا العكس.

وفي المشهد الذي استمد الفيلم عنوانه منه، ورغم أن جهلنا يستمر بحقيقة ما وقع لأوتمن، فإن إجاباتها على أسئلة الاستبيان السابقة للجراحة بأحد الخيارات الأربعة "أبدًا.. نادرًا.. أحيانًا.. دائمًا"، بل وسكوتها في مواجهة بعض الأسئلة، تفتح نافذة على ظلام عاشته هذه المراهقة ذات الوجه الطفولي الذي لا يوحي أبدًا بما رآه.

إلا إن أفضل ما في الفيلم، وتحديدًا في فصله الختامي، هو ما ينقله دون كلمات عن قدرة المرأة على تجاوز الصعاب، عن شعورنا بأن هذه الفتاة البسيطة التي خاضت مغامرة مؤلمة قادرة على تحطيم أعتى النفوس، ستتجاوز تلك الليالي الثلاث وتستكمل حياتها بصورة لو رأيناها لما توقعنا أن صاحبتها مرت بتجربة مماثلة. ستضع الخبرة في نفس المكان المظلم الذي أخفت فيه كل جروحها السابقة، وتستكمل حياتها كما يليق بامرأة شابة قوية أن تفعل.

 

موقع "في الفن" في

04.03.2020

 
 
 
 
 

نساء سونغ ـ سو: يوميات عادية بلغة باهرة

برلين ــ نديم جرجوره

الكوري الجنوبي هونغ سونغ ـ سو (سيول، 1960)، يحصل على "الدبّ الفضي أفضل مخرج" عن "المرأة التي ركضت"، في مسابقة الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي". البساطة فعلُ جمالي. وفرة الكلام عاملٌ أساسي لفهم دقائق يوميات نساء يلتقين في منزل أو مقهى أو حديقة. لا شيء يُقال غير هوامش وحكايات، وبعضهنّ يتذكّر ماضياً، ويسأل عن راهنٍ، كأحاديث تحصل غالباً بين مَعارف. حركة الكاميرا شبه ثابتة، وانتقالها من مكانٍ إلى آخر، مع انتقال الشخصية الرئيسية، كي ـ مي (كيم مِين ـ هِيْ، سيول، 1980)، من مكانٍ إلى آخر، تعثر سريعاً على حيّز تثبتُ فيه لالتقاط ما يحصل أمام عدستها، ولتسجيل ما يُقال على مسمعها.

تظهر اللقطات في زمنٍ يبدو حقيقياً. الاختزال الزمني للحدث/ اللاحدث غير مهمّ، فالأهمّ كامنٌ في تلك اللقاءات، وبعضها حميميّ بين صديقتين، المفتوحة على الذات والروح، وإنْ مواربة. الصمت نادرٌ، لكنّه يُكمِل ما ترغب الصُور والشخصيات في قوله أو فعله. الموسيقى تحتال على السياق السردي، كأنّها غير حاضرة بقدر ما تحضر في صدى أو أصواتٍ أو صمتٍ. 77 دقيقة كافية لتكثيفٍ يروي حكايات نساء مُصابات بقلاقل لن تكشفها وجوههنّ بوضوح، إذْ تحتفظ تلك الوجوه بابتساماتٍ أو بملامح تُخفي انفعالاً وتفضحه في آن واحدٍ، أو تُخفيه ثم تفضحه لاحقاً، أو لن تفضحه أبداً. تلاعب بصري يفرض سلاسته بجمالية كادرات يُساهم ثبات الكاميرا في تفعيل مقوّماتها. ثباتٌ لن يحول دون تلاعب آخر، يتمثّل بـ"زوم إنْ" و"زوم آوت"، بسيط وهادئ وقليل.

الصالة السينمائية تعرض مشاهد لبحرٍ وشاطئ. صمتٌ يُتيح للأصوات الطبيعية أنْ تبني أشكالاً من العزلة والوحدة والتقوقع. اللقاءات النسائية تعبيرٌ موارِب عن هذا كلّه، والأكل والخمر جزءٌ من يوميات يُراد لها أنْ تستمرّ كي لا تُقفَل أبوابٌ على ساكني منازل تُباع بحسوماتٍ. كأنّ هونغ سونغ ـ سو (كاتب السيناريو أيضاً) يُمرِّر أحوالاً مختلفة يعيشها مجتمعه، بتلميح عابر ونادر. التصوير (كيم سو ـ مين) مترافقٌ وإضاءة تميل إلى الأسود والأبيض، لكنّها مفتوحة على الرماديّ الملائم لطقسٍ ماطر أحياناً.

"المرأة التي ركضت" (ترجمة عربية للعنوان الإنكليزي The Woman Who Ran، بينما "امرأة هاربة" تصلح كترجمةٍ للعنوان الكوريّ) بحثٌ في لغة سينمائية منبثقة من مزيجٍ بين وفرة كلامٍ، وتركيز على دقائق وهوامش، وجمال لقطات.

 

العربي الجديد اللندنية في

04.03.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004