كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

«جلّادو» محمد رسولوف:

يحصدون الدب الذهبي في برلين

شفيق طبارة

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة السبعون

   
 
 
 
 
 
 

رسالة سياسية أرادتها الدورة السبعون من «مهرجان برلين السينمائي» التي اختتمت مساء السبت. لقد أعطت جائزتها الكبرى للسينمائي الإيراني محمد رسولوف الممنوع من السفر، الذي صوّر فيلمه المتوّج «ليس هناك شرّ» بالسرّ في طهران. لم تكن السياسة وحدها الحاضرة في الدورة، بل تميّزت الأخيرة في ظلّ الإدارة الجديدة بأفلام نوعية تعكس قضايا وشؤوناً اجتماعية ونسوية وحياتية ووجودية، مع مساحة للإنتاجات المأخوذة بالسينما بصفتها فنّاً خالصاً

برلينوصل «مهرجان برلين السينمائي» بدورته السبعين إلى ذروته المجيدة. أول من أمس السبت، أقيم احتفال توزيع الجوائز الذي قدّمه الممثل البرتغالي الألماني صاموئيل فينزي، وشهد توزيع جائزة الدب الذهبي والدب الفضي للمسابقة الرسمية، بالإضافة إلى جوائز الأقسام الأخرى في المهرجان. وكما يحصل عادة على هامش المهرجانات الكبرى، رفع بعض المتظاهرين لافتات احتجاجية، مطالبين بمزيد من الحماية المناخية. بعد مشاركة 18 فيلماً في المسابقة الرسمية (خمسة أقل من العام الماضي تحت إدارة جديدة كلياً)، ذهب «الدب الذهبي» لأفضل فيلم إلى «ليس هناك شر» للمخرج الإيراني محمد رسولوف، الذي تناول قضايا القوة الأخلاقية وعقوبة الإعدام واستكشف مساحات الحرية الفردية في ظلّ نظام مستبد. رئيس لجنة التحكيم جيريمي ايروز أشاد بالشريط الذي «طرح أسئلة حول مسؤوليتنا وقراراتنا في الحياة». لم يكن رسولوف موجوداً لتسلّم الجائزة لأنه ممنوع من السفر، فتسلّمتها ابنته نيابةً عنه (راجع المقال في مكان آخر من الصفحة).

أمّا «الدب الفضي ــــ جائزة لجنة التحكيم»، فقد كان من نصيب الأميركية إليزا هتمان وفيلمها «أبداً نادراً أحياناً دائماً» الذي قدمت فيه قصة مؤثرة عن مراهقة تريد أن تخضع لعملية إجهاض. قدمت هتمان الفيلم بلا مبالغة، بلا تفاهة، بلا لحظات إجبارية وكليشيهات. بحثت عن مفهوم مرئي يربطها بالموضوع لتقدّم به عملاً شاملاً متماسكاً. فصلت نفسها عن الحالة النفسية للحالة الفردية الملموسة والموضوعية وألقت بياناً عاماً حول موضوع تقرير المصير الجنسي.

دب فضي ثانٍ عن جائزة خاصة للدورة السبعين من المهرجان قُدّمت لفيلم «محو التاريخ» للفرنسيَّين بونوا دوليبين وغوستاف كيرفيرن. بعد عامين على فيلمهما الأخير، عاد المخرجان اللذان يقدمان كوميديا شرسة نموذجية. تدور أحداث الفيلم الجديد في أحد أحياء مقاطعة فرنسية حيث تتشابك قصص ثلاثة من الجيران في منتصف العمر بسبب علاقتهم بالتكنولوجيا. بين رسائل التواصل الاجتماعي، أشرطة الجنس، المسلسلات التلفزيونية والذكاء الاصطناعي المضلّل، تقع مشاكل عدة تدور بين الواقع والواقع الافتراضي. استخدم المخرجان هنا فكرة التكنولوجيا لرواية قصة العزلة الإنسانية العميقة لسكان ينبغي أن يتعلّموا مواجهة التطوّر العلمي أو التعامل مع أنفسهم وعلاقاتهم. نضحك كثيراً مع مرور الدقائق، لكن مع تقدّم الفيلم، فإنّه يتّخذ شكلاً أقل مصداقية، مع تصاعد التوتر الذي لا يُطاق وغرق الشخصيات في هوسها إلى درجة الإفراط. ولكن لا يزال «محو التاريخ» كوميديا ممتعة وناجحة.

الكوري الجنوبي هونغ سانغ سو تسلّم الدب الفضي لأفضل مخرج عن فيلمه «المرأة التي هربت». بإخلاصه التام لأسلوبه الجاف والمبسّط، قدم سو فيلماً روائياً جديداً يعتمد على الحوارات والصمت والمشاهد الطويلة. الشريط يتجاوز فكرة الحوارات الطويلة ليصبح أطروحة فلسفية تكافح لإيجاد التوازن. لم يكن للمخرج سوى القليل ليقدّمه ليتواصل مع الجمهور... فيلم نسيناه تقريباً مع خروجنا من الصالة.

بولا بير حصدت الدب الفضي لأفضل ممثلة عن دورها في فيلم «انداين» للألماني كريستان بيتزولد. حمل الفيلم اسم الحورية التي تغوي الرجال في الأساطير. أنداين المعاصرة تعمل دليلة في أحد المتاحف الألمانية. بعدما هجرها شريكها ليذهب مع امرأة أخرى، يتمّ لعنها وإجبارها على قتل حبيبها الخائن والعودة إلى المياه التي استُدعيت منها ذات يوم. لكن على عكس الشخصية الأسطورية، تحاول انداين في الفيلم تحدّي مصيرها. يعيد بيتزولد صياغة الأسطورة كقصة خيالية في عالم حديث ومحبط. الحسنة الوحيدة في الفيلم هي الممثلة بولا، فالفيلم مضطرب ومتجعّد، والعقدة ليست مرتبة، والرمزية المفرطة تتوه على المدى الطويل. شريط غير مكتمل وسطحي، حاول أن يقدم شيئاً أنيقاً ولكنه فشل.

الدب الفضي لأفضل ممثل ذهب باستحقاق إلى الممثل الإيطالي إيليو جيرمانو في تجسيده بطريقة ماهرة الرسام الإيطالي أنطونيو ليغابو في فيلم «بعيد عن الأنظار» للمخرج جورجيو ديريتي، الذي منح الحرية لإيليو جيرمانو لنقل كلّ شيء، وليس هناك شكّ في أن قوة الفيلم تكمن في إيليو وتجسيده لليغابو الذي يستثمر كل مشهد ليصف واقعياً التشنّجات اللغوية والصوتية والحركية ويخطفها بشكل ممتاز في لحظات التأمّل والحزن. قدّم الممثل صورة معقّدة ومقنعة لشخص وجد في الحيوانات وسيلةً لطرد شياطينه. لم يصور جورجيو ديريتي سيرة الرسام أنطونيو ليغابو، بل صوّر مأساة جسّدها بشكل بارز ممثل غير عادي يرجع له الفضل في إنجاح الفيلم (يذكرنا قليلاً بالممثل دانيال داي لويس بتقمّصه الشخصيات، خاصة فيلم «قدمي اليسرى»).

جائزة أفضل سيناريو استحقها بجدارة الفيلم الإيطالي «حكايات سيئة» لداميانو وفابيو دينوسنزو. تدور أحداث الشريط في روما، حيث تتداخل قصص أحد الأحياء السكنية خلال صيف حار. يقدم الشريط بطريقة مظلمة جزءاً من إيطاليا «المدنّسة»، حيث براءة نظرات الصغار تصطدم بخيبة أمل البالغين. كثيرة هي الشخصيات والحوارات، وقد نجح المخرجان في تقديم القصص بمهارة ضمن هذا السيناريو الصعب.

«الدب الفضي ــ جائزة لجنة التحكيم» كانت من نصيب الأميركية إليزا هتمان وفيلمها «أبداً نادراً أحياناً دائماً»

الدب الفضي لأفضل مساهمة فنية ذهب إلى فيلم DAU. Natasha للروسيَّين إليا خيرهانوفسكي وجيكاترينا أورتيل. الفيلم هو جزء من مشروع فني روسيّ مثير للجدل، لكنّ الأكثر إثارة للجدل هو الاتّهامات التي طالت مخرج الفيلم والمشروع حول اعتداءات جنسية وشائعات عن سوء معاملة من ممثلات وطاقم عمله، حتى إنّ تظاهرة حصلت خلال العرض الأول للفيلم رفعت فيه شعارات كتب عليها «DAU = العنف والإساءة». يروي الفيلم قصة نتاشا وأولغا اللتين تعملان في مطعم مكتب المخابرات السوفييتي السري. بدأت ناتاشا علاقة غرامية مع ضيف أجنبي في المعهد، لكنّ الجهاز السري يعرف ويتدخل وتبدأ سلسلة من المشاكل الكبيرة. الفيلم جزء من مشروع فني كبير بدأ عام 2006 هو كناية عن سلسلة أفلام ستقدّم مع السنوات. فكرة المشروع تمكن في إعادة المواقف والحياة والأحاسيس في ظلّ النظام الشمولي الذي أنشأه ستالين. الفيلم عمل تجريبي، يطلب التركيز بالصورة من دون إيلاء اهتمام كبير للتعبير السردي والعلاقات بين الشخصيات. تتمثل الفكرة في إعادة خلق بيئة مغلقة قدر الإمكان وبثّ جو من التوتر قريب من مناخات التجسس السوفييتي. أسلوب الفيلم ضاغط، يحرص على تقديم جوٍّ من عدم اليقين والثقة بفضل لعبة الضوء والظل. هو تجربة حسيّة، تركيب فني خيالي نجح في تَوتيرنا وسحرنا في آن.

مع هذه الأفلام والأفلام السابقة التي تكلّمنا عنها خلال عرضها في المهرجان، نصل إلى الختام، نهاية أول المهرجانات الأوروبية الكبرى. الأنظار الآن تتجه إلى «كان»، لكن المهرجان مهدّد هذه السنة بالإلغاء بسبب فيروس كورونا، ولكن لا يزال باكراً التأكّد من ذلك. إلى ذلك الحين، نبقى على أمل ألا يُلغى المهرجان لنعود إلى صالات الكروازيت ونرى من سيحمل هذه السنة جائزة السعفة الذهبية أهم جائزة سينمائية على الإطلاق.

 

####

 

«أيام» تساي مينغ ــ ليانغ: سحر السينما النقية

شفيق طبارة

كانغ يجلس على كرسي جلد بذراعين، لونه بني فاتح، ينظر بلا حراك إلى لا شيء وصوت المطر يرتفع أعلى وأعلى. هو يعاني من ألم في هيكله العضلي ويخضع لعلاج مؤلم بالوخز بالإبر الإلكترونية. نون رجل أصغر بكثير يغسل الخس والخضروات، يطبخ في منزله وحيداً، يدخّن في الشارع وينام على فرشة بسيطة. يروي «أيام» للمخرج التايواني تساي مينغ ــ ليانغ الذي شارك في المسابقة الرسمية في «مهرجان برلين»، الحياة اليومية لهذين الرجلين الوحيدين الذين نعلم القليل عنهما في البدء. يجتمع الاثنان في مشهد واحد، كانغ يستأجر غرفة في فندق، نون يدلك له جسمه بالكامل، يمارس الاثنان الجنس... يكرس الرجلان نفسيهما لبعضهما... يضعان حياتهما وراءهما لليلة واحدة، ثم يتناولان وجبة خفيفة، وينفصلان. في كاتالوغ الفيلم، كُتب أنه «بلا حوارات». لا يوجد الكثير من السرد في «أيام»، ليس بالمعنى التقليدي والعام للمصطلح، لكن هذا لا يعني أن الفيلم لا يروي لنا قصة. هناك جملة في بداية الفيلم توضح على الفور نوايا المخرج «هذا الفيلم ليس مترجماً عن قصد» لأنه في الواقع، ليست هناك حاجة لذلك. هذه الأوديسا التي تدوم ساعتين بالكاد بحاجة إلى الكلمات أو حتى الترجمة (الكلمات المنطوقة قليلة جداً وغير مسموعة وغير مترجمة). قصة ليانغ تمكّنت من التواصل معنا من دون كلمات. فقط مشاهد طويلة تطلب الكثير من الاهتمام والتفاني، وتعطي ثمارها بسحر السينما النقية للمخرج. صور قوية، تم بناؤها بعناية ومهارة، تحكي عن عالمين مختلفين وحياة اثنين. لفترة طويلة، يضعنا المخرج في حالة من الترقّب وسؤال «ما الذي نشاهده؟». يعرّفنا إلى الرجلين الوحيدين فقط عبر أفعالهما وأجسادهما. عندما يجتمعان أخيراً في الفندق، تكون لحظة عميقة سريعة الزوال. يمكن قراءتها على أنّها نهاية أو بداية. لحظة مأساة عميقة أو بصيص أمل. تساي مينغ ــ ليانغ هو سيد الاختزال، لكن مع ذلك يقدّم الكثير. التواصل في الفيلم أعلى من الكلمات واللغات. يتواصلان بطريقة أعمق من خلال النظرات واللمس. مع ذلك، فإنّ غياب الحوار لا يعني أن لا دور للصوت، بل على العكس: يعطي ليانغ مساحة كبيرة للأصوات على مزاج المشهد. أنين ألم يانغ يصبح متعةً مع التدليك. أصوات الغابة، وضجيج الشارع الذي يدخل الشقة، عناصر أساسية لا غنى عنها. هذه الأصوات والمشاهد الطويلة التي لا يحدث فيها شيء، تعطي حميمية للفيلم. إذا اخترنا أن نكون صبورين مع ليانغ، فإن النتيجة واحد من أكثر الأعمال المؤثرة والمثيرة في السينما الآسيوية المعاصرة، القادرة على تحريك أوتار العواطف فقط من خلال الإيماءات واللمس والدموع وصوت صندوق الموسيقى والمباني المهجورة والطرقات المكتظّة الفارغة في آن معاً. استعارة ليانغ للوجود والوحدة التي يرويها في أفلامه لا مثيل لها.

 

####

 

أربعة فصول متخمة بالرمزية والمعضلات الأخلاقية:

«ليس هناك شرّ» صرخة طالعة من حب الوطن وأهله

شفيق طبارة

أفلامه عالمية، حاضرة دوماً في المهرجانات. لكن ليس في وطنه الأم إيران. هناك، واجه المخرج محمد رسولوف (1972) كلّ شيء في حياته: السجن، الإقامة الجبرية. لم يُسمح له بالسفر لحضور العرض الأول لفيلمه الجديد «ليس هناك شرّ» (مع العلم بأن رسولوف ممنوع من التصوير، ويعلم أنّه لن يحصل على الموافقة على تصوير العمل، لذا لم يسجّل الفيلم، بل أرسل أربعة من مساعديه لتسجيل أربعة أفلام قصيرة منفصلة بأسمائهم، فالسلطات لا تنظر إلى الأفلام القصيرة بالريبة نفسها التي تنظر فيها إلى الفيلم الطويل، ما جعل التصوير أكثر سهولةً، وبالطبع منحه حريةً كبيرة في حركة الكاميرا والمواقع). «ليس هناك شرّ» حاز جائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم في برلين، تسلّمتها ابنة رسولوف نيابة عن والدها.

في عام 2010، حُكم على محمد رسولوف بالسجن ست سنوات بتهمة التصوير من دون إذن، قبل تخفيف العقوبة إلى سنة واحدة. وفي عام 2017، سُحب جواز سفره بعد عودته من «مهرجان كان» حيث حصد جائزة أفضل فيلم في مسابقة نظرة ما عن فيلمه «رجل نزيه». أمّا فيلمه الجديد «ليس هناك شرّ»، فيكشف فيه مرة أخرى عن معضلات أخلاقية عدة. الشريط ليس مجرّد اتّهام سطحي للنظام الإيراني، بل إنّه صرخة مؤثرة لحبّه الكبير لوطنه ولأهله. بطبيعة الحال، فإنّ الأسئلة الأخلاقية التي يثيرها الفيلم ذات خلفية حقيقية ترتبط بواقع القمع في الدولة الإسلامية. خلال المؤتمر الصحافي، قال أحد منتجي الفيلم بأن رسولوف قال: «ليس لديّ الحق في اختيار أن أكون حاضراً أو غائباً»، وأكمل: «تنفيذ هذه القيود ينمّ عن موقف متعصّب ومستبدّ للحكومة الإيرانية». وفي المؤتمر نفسه، اتّهم بعض الصحافيين في وكالة الأنباء الإيرانية الفيلم بتشويه أحكام الدولة في ما يتعلق بالقوانين.

في الماضي، قدمت برلين والمهرجانات الأخرى منصة عروض عالمية للأفلام الإيرانية، ودعت مراراً مخرجين مكرّسين في إيران أمثال جعفر بناهي (يواجه نفس القمع) للمشاركة في المسابقة، لكنهم لم يستطيعوا الحضور في الغالب. إنّه لأمر حزين أن يحتفي العالم بالفن السينمائي الإيراني، بينما ممنوع في طهران حتى أن يفرحوا بجوائزهم.

شيء شرير يلوّث المكان

صفّ من الأرجل التي تهتز وترتعش في الفراغ، تهتزّ بسبب تشنجات جسدية عنيفة، ثم فجأة تتوقف عن الحركة، ويتحرّر البول. مشهد تقشعرّ له الأبدان، وُضع بين الفصلين الأول والثاني من فيلم «ليس هناك شر» لمحمد رسولوف. المشهد يصوّر إعدام مجموعة من السجناء في إيران، حيث يتمّ إرسال مئة شخص في المتوسط إلى المشنقة كل عام. من هنا، فإن استحالة وجود نزاهة أخلاقية داخل نظام لا إنساني، وتآكل حرية اتّخاذ القرارات الشخصية بسبب التسلسلات الهرمية القمعية، والعواقب البعيدة المدى للفساد المنهجي، هي المواضيع الرئيسة لفيلم محمد رسولوف. أربع قصص مستقلة، لكنها مرتبطة بشكل وثيق. رؤى معقدة حول المعضلات الأخلاقية السرمدية، والمخاوف القائمة لجيل الشباب والكبار في إيران. عقوبة الإعدام نموذج واقعي وحشي، يدرس محمد رسولوف آثاره المباشرة وغير المباشرة، في فصول وقصص مليئة بالرمزية والنقد النظامي الدقيق، الذي لا يدين الأفراد بل السلطة والتشدّد السياسي.

حشمت هو زوج وأب مثالي، يستيقظ باكراً كل يوم. لكن إلى أين يذهب؟ لا يمكن لبويا أن يتخيّل قتل رجل آخر، لكن قيل له إن عليه فعل ذلك. لا يعرف جافاد أن تقدّمه لطلب يد حبيبته لن يكون المفاجأة الوحيدة في عيد ميلادها. بهرام طبيب غير قادر على ممارسة الطب، قرر أن يشرح لابنة أخيه سبب حياته كمنبوذ. أربعة فصول لكل فصل عنوان («قالت»، «تستطيع فعلها»، «عيد الميلاد»، «قبّلني»). هناك سرّ ما يجمع هؤلاء القصص والشخصيات، وهو واضح منذ المشهد الأول في المرأب. شخصيات تخفي شيئاً ما عن الآخرين، ويمكن أن تدخل أزمة كبيرة بسبب التناقض بين أخلاقها وواجبها. هنا يتساءل المرء: إلى أيّ حدّ يمكن أن تصل الحرية الفردية في النظام العام؟ هناك دائماً تغيير في فيلم رسولوف. تتغير السيناريوهات من المدينة إلى الجبل إلى منزل قرب النهر إلى الديكورات الداخلية العسكرية. لكن هناك دائماً شيء شرير يلوّث المكان. الإشارة إلى ظلّ النظام واضحة، فجميع المساحات مقيدة بالأصفاد، فلا مجال للهروب. الخواتم غامضة، غير متحرّرة ومدمرة ومفتوحة. وهناك شك في إمكانية التنبؤ. رسولوف يتعامل معها كلها بطريقته ويتيح للنزاعات الداخلية الظهور. يصبح الموضوع الرئيس ميلودرامياً أكثر فأكثر: نساء ورجال وصراع أجيال. يبدأ رسولوف بأخذنا في طريق ذي اتّجاه واحد، لم تعد هناك شكوك أو أسئلة، بل ثعلب يقف من أجل الحق في الحياة، ولو سرق الدجاج.

فيلم لا يتجاهل تعقيد الروح البشرية وهشاشة الإنسان

لا شك في أنّ «ليس هناك شر» يتناول عقوبة الإعدام في إيران، لكنّه يركز بشكل أساسي على مصير المنفّذين المباشرين، على الموظفين القدماء والمجندين الشباب الذين يضغطون الزر أو يسحبون السطل بعيداً عن المدانين. يعطي هذا الهيكل السردي لروسولوف منهجاً واضحاً: يجب تقديم جوانب مختلفة من ظاهرة اجتماعية محدّدة ودراستها، وأيضاً يجب أن تختلف القصص الفردية والأنشطة اليومية والحنان ورعب القتل المهني، والانتصار الشخصي المتمثل في اتّباع مبادئ أخلاقية تجرّ هنا المعاناة والصعاب. على الرغم من أنه يمكن قراءة فيلم رسولوف بطريقة مباشرة، لكنّ حنكة المخرج السينمائية تترك عن عمد الموضوع الكبير الذي نتكلّم عنه، لتنظّم من حوله قراءات وأحداثاً غير واضحة. لكن بمجرّد أن يظهر الموضوع المعني، يمكن مباشرة الرجوع إلى كلّ مشهد، كل انطباع، كل إيماءة وكل نظرة، حتى الغموض السابق يواجه الآن ترتيباً واضحاً. «ليس هناك شر» لا يوجد فيه جدلية، ولا يبالغ بطريقة ساخرة، بل هو رصين ومؤثّر تثير فيه نوبات انفعال الشخصيات رداً عاطفياً للمشاهدين. بالإضافة إلى ذلك، ينشر رسولوف في كلّ حلقة نزاعاً أخلاقياً أمامنا ويقدّمه للتقييم والرأي الفردي. توضع الشخصيات الأربع في «ليس هناك شر» (العنوان يدل على تفاهة مفهوم الشر، حيث يختبئ هذا الشر في الروتين اليومي المشترك للشخصيات) أمام اختيار القرار الصحيح أخلاقياً الذي يكون في كثير من الأحيان الأشدّ صعوبة. أربعة أماكن، أربع شخصيات، أربع نتائج في فيلم لا يتجاهل تعقيد الروح البشرية وهشاشة الكائن البشري، وينتقد الدولة المسؤولة عن هذه القرارات. وهنا تكمن المعضلة: الإجابة بنعم أو لا على فعل غير أخلاقي هو القتل. لكن القتل هنا، عليك القيام به من أجل دورك في المجتمع. من المستحيل عدم رؤية المعضلة الأخلاقية المشابهة التي يقف فيها المخرج والفنانون أمثاله الذين يجب عليهم إمّا الاستسلام للرقابة والدخول في الشرعية، أو مغادرة البلاد لتقديم ما يريدون من دون رادع. «ليس هناك شر» فيلم لا ينتقد مباشرة الفساد الإداري كما في «رجل نزيه» (2017) ولا صورة عن الرقابة في البلاد كما في «الوداع» (2011) بل يقدم مفهوم عقوبة الإعدام في النظام الإيراني من منظور المجبورين على تنفيذها. كان الفيلم مؤلماً حيناً، ومثيراً أحياناً، وأيضاً غنائياً («بيلا تشاو» تصدح في الفيلم)، وأحياناً كان درامياً بخلفية المناظر الطبيعية المذهلة لإيران. بمهارة سينمائية وسردية، ودائماً بيقين بأن هذا الموضوع لا يمكن التعامل معه ولا التحدث فيه بشكل قاطع، استحق محمد رسولوف الدب الذهبي عن جدارة.

 

الأخبار اللبنانية في

02.03.2020

 
 
 
 
 

المخرج ليس موجودا في برلين لكن "الشيطان" ينتزع الدب الذهبي

أمير العمري

الفيلم الأميركي "كلمة نادرا لا توجد وكلمة أحيانا موجودة دائما" يفوز بالدب الفضي، والمخرج الكوري هونغ سانغ سو ينال جائزة الدب الفضي لأفضل إخراج.

كما كان متوقعا تماما توّج الفيلم الإيراني “الشيطان ليس موجودا” للمخرج محمد رسولوف، بجائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم في مسابقة مهرجان برلين السينمائي الـ70. وهذه هي المرة الثانية التي يمنح فيها المهرجان جائزته الكبرى لمخرج يعاني من الاضطهاد السياسي في بلاده، كما هي المرة الثانية التي تمنح فيها الجائزة لمخرج تمنعه بلاده من السفر.

يصور الفيلم أربع قصص لأربعة مواطنين منفصلين يعيشون تبعات رغباتهم في حياة أفضل ويدفعون الثمن تبعًا لمواقفهم في هذا الاتجاه. أبطال الفيلم مخيرون ما بين المقاومة أو البقاء أحياء، هم يرفضون الاستسلام لكنهم لا يملكون القدرة على المقاومة في الوقت ذاته. أما الموضوع فهو يدور حول تنفيذ عقوبة الإعدام من وجهة نظر الشخص المكلّف بتنفيذها.

محمد رسولوف لم تسمح له السلطات الإيرانية بمرافقة فيلمه إلى برلين

ومعروف أن مخرج الفيلم محمد رسولوف محظور من العمل في السينما والسفر خارج البلاد من جانب النظام الإيراني، وهو ما منعه من حضور العرض العالمي الأول للفيلم بمهرجان برلين السينمائي. وكانت مشاكل رسولوف مع السلطات الإيرانية قد بدأت قبل ثلاث سنوات حين قدّم فيلمه المثير للجدل “رجل شريف” الذي انتقد خلاله عددا من المسؤولين الحكوميين.

وكان رسولوف، الذي يواجه عقوبة بالسجن لمدة عام (لم يتم تنفيذها بعد) قد أصدر بيانا يعرب فيه عن حزنه بسبب عدم تمكّنه من حضور العرض العالمي الأول لفيلمه الجمعة  ومضى مستنكرا، فقال إن “فرض مثل هذه القيود يكشف بوضوح الطبيعة غير المتسامحة والمستبدّة للحكومة الإيرانية”.

ليس من المعروف كيف يكون المخرج ممنوعا من التصوير ويتمكّن من التصوير في الأماكن الطبيعية داخل إيران.

ولكن ما هو معروف أنّ هناك جناحا في السلطة يغض الطرف عن تصوير مثل هذه الأفلام التي يقال إنها صوّرت سرا، كما يسمح أيضا بخروجها من البلاد للعرض في المهرجانات الدولية للإبقاء على الحضور الإيراني واسم إيران قائما في المحافل الدولية ولو من خلال أفلام “معارضة”.

جائزة الدب الفضي التي تمنح باسم جائزة لجنة التحكيم الخاصة وهي ثاني أهم جائزة بعد الدب الذهبي فقد نالها الفيلم الأميركي البديع “كلمة نادرا لا توجد وكلمة أحيانا موجودة دائما” للمخرجة الأميركية إليزا هيتمان، وهو أحد أفضل أفلام المسابقة.

أما جائزة الدب الفضي لأفضل إخراج فقد حصل عليها المخرج الكوري هونغ سانغ سو عن فيلمه “المرأة التي جرت” نظرا لطرافته البالغة وحواره العبثي الذي يعكس الفراغ القائم في حياة الكوريين من الطبقة الوسطى.

جائزة أفضل ممثلة حصلت عليها الألمانية بولا بير عن دورها المرموق في فيلم “أوندينه”، وذهبت جائزة أفضل ممثل إلى الممثل الإيطالي إليو جيرمانو عن دوره في الفيلم البديع “مخبأ بعيدا عن العيون”. وحصل الأخوان دينيسينزو الإيطاليان على جائزة أفضل سيناريو عن فيلمهما الطريف “حكايات رديئة” في حين نال فيلم “ناتاشا” وهو أحد أكثر الأفلام غرابة وابتكارا جائزة الدب الفضي لأفضل تصميم ديكور وتصميم أزياء.

رأس الممثل البريطاني جيريمي أيرونز لجنة التحكيم الدولية التي منحت جوائز المسابقة الرئيسية للأفلام الطويلة. ونالت الممثلة البريطانية هيلين ميرين تكريما خاصا من المهرجان تقديرا لمسيرتها الطويلة البارزة في عالم التمثيل السينمائي.

وهكذا أسدل الستار على دورة أراد منظموها لها أن تأتي مختلفة عن الدورات الأخيرة السابقة للمهرجان إلا أنها عانت من سوء اختيار الكثير من الأفلام التي عرضت بالمسابقة، لكن لحسن الحظ جاءت نتائج التحكيم متوازنة وجيدة ومنحت الجوائز إلى كل الأفلام الجيدة التي شهدتها المنافسة.

كاتب وناقد سينمائي مصري

 

العرب اللندنية في

02.03.2020

 
 
 
 
 

رسولوف على طريق بناهى يحصد «الدب الذهبى»!

طارق الشناوي

لم تكن مفاجأة، بل كان هناك توقع لتكرار نفس الموقف، وأقصد به حصول فيلم (لا يوجد شر) للمخرج المعارض الإيرانى محمد رسولوف على جائزة (الدب الذهبى)، كأفضل فيلم فى المسابقة الرئيسية للدورة رقم (70) التى شارك فيها 18 فيلمًا، العديد منها كان لديه ما يستحق أن يؤهله للمنافسة، ولكن ما يملكه فيلم رسولوف من سينما، بعيدًا عن أى معايير سياسية بشهادة لجنة التحكيم، منحه تلك المكانة.

ما أشبه الليلة بالبارحة، والتى عايشتها قبل نحو أربع سنوات، عندما حصد المخرج الإيرانى الكبير جعفر بناهى أيضا جائزة (الدب الذهبى) عن فيلمه (تاكسى)، وهى الجائزة التى تقف على قمة استحقاقات (برلين)، وكان الفيلم قد تعرض لنفس السيناريو الذى شاهدناه مع تلميذه رسولوف، وشارك الفيلم أيضا بالمهرجان دون حضور المخرج، لأنهم فى طهران يسحبون جواز السفر، أثناء المحاكمة، وكالعادة يسبق عروض هذه الأفلام اهتمام إعلامى، ويتحول الخبر الفنى إلى قضية سياسية، تحتل المقدمة فى كل الوسائط الإعلامية وتسرق الكاميرا، حتى من فعاليات المهرجان الأخرى مهما بلغت أهميتها.

وسط متابعة عالمية لحكاية مخرج تناصبه دولته العداء، بينما يتمتع جماهيريًا بدرجة حب وتقدير، وهذا ما لامسته عن قرب عندما ذهبت إلى طهران قبل سبع سنوات، ناهيك عن تقدير العالم كله لإبداع هؤلاء المخرجين واحتفاظهم بمكانة خاصة عند رجل الشارع، بناهى الممنوع ليس فقط من السفر، ولكن من ممارسة المهنة، حيث يلاحقه، قبل سنوات، اتهام جنائى بتشويه سمعة الوطن من خلال الكاميرا التى يحملها وترصد كل ما يجرى من صراعات كامنة، كان فيلم بناهى قائمًا على فكرة رصد عشوائى لأطياف من الشعب الإيرانى من خلال سيارته التى أحالها إلى تاكسى (أجرة)، لتوصيل الزبائن، ويبدأ فى إجراء حوار لكشف ملامح وأحلام وأيضا كوابيس مواطنيه، كان يجمع فى الفيلم بين صدق السينما التسجيلية وحبكة الدراما، وتكرر الأمر مساء أمس الأول، عند إعلان اسم فيلم (لا يوجد شر) للمخرج محمد رسولوف ليحظى بالجائزة الأهم للمهرجان، الفيلم وفقا للحبكة المنشورة فى (الكتالوج) يتناول أربع حكايات للأسرة التى تكتشف أن عائلها يعمل فى تنفيذ أحكام الإعدام، وهو مجرد أداة لتحقيق ذلك لا يهم قطعا الأسباب فهى مختلفة، ولكنه يترك مساحة لخيال المتلقى لكى يضيف هو إذا أراد أبعادًا سياسية، لتحليل تلك النظرة التى توجهها الدولة للمختلف صاحب رؤية ترنو نحو الحرية، الصرامة فى المتابعة، لكل من يخرج ولو قيد أنملة عن ترديد نفس النشيد، حتى لو لم يحمل فى يده أى سلاح، لأنهم يعتبرون أن مجرد الاختلاف سلاح، ويصبح الطريق ممهدًا للإدانة، الفيلم إنتاج مشترك ألمانى- إيرانى، جرى العُرف أن ننسب للفيلم فى هذه الحالة لبلد المخرج، عندما تتعدد الجنسيات المشاركة فى الإنتاج، وتجرى الأحداث داخل بلد صانع العمل، وبعدد من الفنانين والفنيين الذين يحملون نفس الجنسية يصبح من العدالة أن يحمل الفيلم جنسية صانعيه، برغم أن الفيلم من الناحية القانونية من المفروض أن يحمل جنسيات كل البلاد المساهمة فى إنتاجه، المخرج الإيرانى حتى لو تم تصنيفه فى جانب المعارضة، إلا أنه يشبه العديد من المخرجين الكبار فى إيران والذين لا يتمتعون برضاء من الدولة، إلا أنهم يلتزمون بالمعايير الرقابية الصارمة المفروضة على السينمائى هناك، مثل منع العلاقات المباشرة، بين المرأة والرجل، وضرورة ارتداء الحجاب فى كل المشاهد، وعدم الإسراف فى تناول مشاهد العنف أو الدماء، من الواضح أن المخرج يدافع فى فيلمه عن الحرية كقيمة واختيار البطل منوط به تنفيذ أحكام الإعدام تُقدم بداية كخيط لقراءة الفيلم، ويبقى السؤال عن كيفية تقديم هذه الأفلام، وتمكنها من الهروب خارج البلاد، رغم التدقيق والحصار الأمنى، الذى يواجه المخرج المبدع الذى يسعى للتعبير عن نفسه داخل حدود بلاده، وهو ما يفعله على سبيل المثال جعفر بناهى، وتلميذه الذى سار على الدرب وحصد نفس الجائزة محمد رسولوف.

من الجوائز التى أسعدتنى حقًا هى أحسن إخراج، التى نالها المخرج الكورى (الجنوبى) هونج سانج يو بفيلمه (الهاربة)، الخط الدرامى مباشر، ولكنه يدعوك للتأمل.

إنها البساطة الممزوجة بالوهج الإبداعى، وهى قطعًا سلاح المبدع، هادئ جدًا على السطح، بينما يغلى فى الأعماق، كان هذا هو مفتاح المخرج فى تقديم فيلمه الممتع، الذى يتناول سيدة تخرج من منزلها بعد غياب زوجها لتلتقى بثلاث نساء، ومن خلال مواقف كل منهن الشخصية والعاطفية تبدأ فى التحليل العميق لمشاعرها وزاوية رؤيتها للحياة، فهى ترى بالدرجة الأولى نفسها من خلال ردود أفعال الآخرين، وكأنهم قد صاروا مرآة لها، كما أنها مرآة لهن، لنرى النفس البشرية فى تناقضها بين الحب والرغبة، التسامح والانتقام، حتى فى العلاقة مع الحيوانات الأليفة، يحلل المخرج تلك النظرة بين التعاطف والحياد، والغريب فى دار العرض أن حماس الجمهور بلغ ذروته عندما حظى القط- لأول مرة على الشاشة- بتصفيق الجمهور، بعد أن أقنعهم بقدرته التعبيرية على الأداء.

هن على نحو ما هاربات حتى من مواجهة النفس، الرجال نتابعهم فى مرور عابر، وكاشف لحالة تلك الشخصيات، واستحق فعلا المخرج عن جدارة الجائزة، فهو منح فيلمه، إحساس الدفقة الواحدة.

وجائزة أفضل ممثل وبنسبة كبيرة كانت متوقعة، وهو ما أشرت إليه فى رسالة سابقة، لهذا الممثل إيليو جيرمانو عن الفيلم الإيطالى (المخفى جدا)، حيث نجح تماما فى تجسيد دور الفنان التشكيلى غريب الأطوار، وكأنه لا يمثل، وتستطيع أن تُدرك قوة المبدع فى ضبط جرعة الأداء، مع تلك الشخصيات التى تبدو صارخة فى ألوانها وانفعالاتها الخارجية التى هى أشبه بمصيدة للممثل، لو لم يتجاوز ذلك إلى العمق، وهذا هو بالضبط ما نجح فى تحقيقه الممثل الإيطالى فاستحق (الدب الفضى) وعن جدارة!!

 

المصري اليوم في

02.03.2020

 
 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004