كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

"دب" برلين لـ"شيطان" رسول أف:

المجتمع الإيراني سينمائياً

برلين ــ محمد هاشم عبد السلام

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة السبعون

   
 
 
 
 
 
 

اختَتَمتْ الدورة الـ70 لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"، المُقامة بين 20 فبراير/ شباط و1 مارس/ آذار 2020، مسابقتَها الرسمية بعرض "لا يوجد شرّ" ("لا يوجد شيطان"، وفقاً للعنوان الأصلي) للإيرانيّ محمد روسول أف (1972). الفيلم من المفاجآت السارّة القليلة في دورة هذا العام. اعتُبر خير ختام لمسابقةٍ، تنافس فيها 18 فيلماً. بعد عرضه مباشرة، رُشِّحَ للفوز بإحدى الجوائز، وهذا ما حصل، إذْ فاز بـ"الدبّ الذهبي". بهذه الجائزة، ازداد عدد المخرجين الإيرانيين الفائزين بها في العقد الأخير من تاريخ المهرجان، بعد أنْ نالها أصغر فرهادي عن "انفصال" (2011)، وجعفر بناهي عن "تاكسي" (2015).

"لا يوجد شرّ" سابع فيلم روائي طويل لرسول أف، الذي تكرّست شهرته قبل أعوام، بحصوله على جوائز مهرجانات دولية مرموقة، آخرها جائزة "نظرة خاصة" عن "رجل نزيه"، في الدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لـ"مهرجان "كانّ" السينمائي الدولي". لكن، فور عودته من "كانّ" ذاك العام، حُكم عليه بالسجن عاماً واحداً، وحُرِم من صناعة الأفلام مدى الحياة، ومُنع من السفر، بتهمة "تهديد الأمن القومي". لذا، لم يكن موجوداً في برلين مع فيلمه الأخير هذا.

في ظلّ قيود وأحكام قضائية صارمة، يُطرح سؤال: كيف صنع رسول أف فيلمه الأخير هذا؟ وكيف وصل إلى مهرجان برلين؟ عبقريته أهدته إلى طريقة تحايل على القيود والرقابة والقانون. فنياً، التصوير الداخلي غالبٌ طول الوقت. لكن، ماذا عمّا جرى فعلياً؟ هل ستَعتبر الدولة الأمر تحدّيا صارخا لها ولقوانينها، أم سيمرّ كما مرّ غيره سابقاً؟ لا إجابات شافية.

جديد محمد رسول أف لا يختلف كثيراً عن أفلامٍ سابقة له تطرح قضايا، وتفجّر أسئلة شائكة، تشتبك مع المجتمع الإيراني، وتركيبته المعقّدة، ونسيجه المحصور بين السياسة والدين. أجيال شابّة تتطلّع نحو المستقبل وترفض الراهن، وأخرى تكرّس السائد وتأبى التغيير وتتشبثّ بالماضي. لذا، يظهر الإيراني، المنتمي إلى الطبقة الوسطى بمقوّماتها كلّها، في قلب أفلامه، السياسية والاجتماعية والذاتية. وكغيره من المخرجين الإيرانيين، يضرب بقسوة في أعماق الفاسد والمتكلّس في المنظومة السياسية والمجتمع الإيرانيين، كما في سلوكيات الأفراد، مانحاً قضاياه أبعاداً تمسّ بشراً كثيرين، داخل إيران وخارجها.

في "لا يوجد شرّ"، ينطلق محمد رسول أف من قضية محلية، تتعلّق بنقاشٍ حول عقوبة الإعدام، بجوانبها المختلفة. القضية هذه غير مطروحة في دول ومجتمعات كثيرة، لكن ذكاء رسول أف كسيناريست يتجلّى في أنسنة طرحه، ما يجعله يمسّ كثيرين، رغم خصوصية الطرح، لا سيما أنّه لم يتطرّق نهائياً إلى أمر المحكوم عليهم بالإعدام، بل إلى منفّذيه، وتحديداً حياتهم وحياة المقرّبين منهم. يُثير الفيلم أيضاً أسئلة أخلاقية ووجودية، مع وجود أيّ إنسان آخر في المواقف نفسها لأبطال الفيلم.

ينقسم "لا يوجد شرّ" إلى 4 أجزاء منفصلة، تبدو كأفلام قصيرة، بعناوين خاصة بها: لا يوجد شيطان، قالت: "يمكنك القيام بالأمر"، عيد ميلاد، قبّلني. مع تتابعها، يتّضح الخيط الأساسي الذي يجمعها معاً، وموهبة رسول أف، المتدفّقة مع كلّ فيلم جديد يكتب له السيناريو. في الأجزاء الأربعة تلك، يختلف الطرح، وتتباين المعالجة. لكن تفاوت أداء الممثلين، وإيقاع مَشَاهد كثيرة، وقوّة كلّ جزء مقارنة بآخر، لم تضعف الفيلم ولم تقلّل من قيمته، لكنها حالت دون أن يكون تحفة سينمائية متكاملة العناصر.

أحداث الجزء الأول متعلّقة بحشمت (إحسان ميرهوسيني)، ربّ أسرة في منتصف العمر، وموظف حكومي. لا شيء استثنائيا في حياته اليومية. رجل بالغ الطيبة والرقّة والهدوء. يُراعي والدته المريضة، ويُلبّي احتياجاتها كلّها. يُعامِل طفلته بمنتهى الحنو. يناقش زوجته بلطفٍ، عن لون صبغة شعرها، الذي يصبغه لها في المنزل. كلّ هذا وغيره ينتهي مع دقّة المنبّه عند الثالثة فجراً، إذْ يستيقظ كي يذهب إلى عمله. ورغم اقتصار مهمّته على كبسة زر، فإنّ الكبسة هذه تزهق أرواح العشرات دفعة واحدة. ورغم سهولتها، تنغّص عليه حياته. ورغم أنه لم يشتك، يبدو الكبت والتوتر ملازمين له. لكن، إلى متى؟

بويا (كاوه أنجار)، شاب مجنّد حديثاً. يُدرك أنّ حياته وسفره وعمله ومستقبله رهنٌ بتأديته الخدمة العسكرية عامين متتاليين، وأنّ خدمته تتمثّل في تنفيذ أحكام الإعدام رمياً بالرصاص. يرفض الأمر، فهو يأبى التسبّب يوماً في قتل إنسان. إنّه نقيض حشمت المتمرّس، فهو شديد العصبية والتوتر والقلق والخوف. يدور بينه وبين رفاقه كلام عن الأمر. في النهاية، وبدافع من خطيبته المساندة لموقفه الأخلاقي، ينجح، رغم جبنه، في سرقة بندقية، وتهديد الجميع، والهرب وإنْ بصعوبة من المعسكر، منطلقاً مع حبيبته في مشهد ليلي في الطرقات الجبيلة لطهران، وهما يغنّيان ويرقصان بمنتهى السعادة.

في الجزء الثالث، هناك جواد (محمد فاليزاديجان)، نقيض بويا. متمرّس في تنفيذ أحكام الإعدام أثناء خدمته العسكرية، لكنّه غير متصالح مع الأمر نهائياً، كما يبدو. قبل عودته إلى قريته ومنزل حبيبته نانا (مهتاب سيرفاتي)، يخلع ملابسه العسكرية، ويستحم طويلاً في النهر، ثم يتعطّر، كمن يتخلّص من دنسٍ. يُسرع كي يصل في الوقت المحدّد لعيد ميلاد نانا. ثم يُفاجئ والديها بطلبه الزواج بها، فيرحبان بهذا بفرح بالغ. لكن الحبيبة تنبذه بقسوة، بعد إعلامه إياها بما فعله من دون قصد مع أقرب الناس إليها.

من ألمانيا، تعود الشابة داريا (باران رسول أف) إلى بلدها لزيارة عمها بهرام (محمد صديقيمهر). بلد لا تذكره كثيراً. تستغرب إلحاح والدها على ضرورة زيارة عمّها. هناك أمر خطر يُفترض بعمها أن يطلعها عليه قبل وفاته الوشيكة: عن عمله أو زواجه السابق. العلاقة بينهما تتطوّر، ما يدعو الفتاة في النهاية إلى النفور من عمّها، والاتصال بوالدها راغبة في العودة من دون معرفة أي شيء. لكن، بعد تردّد طويل، تعلم داريا الحقيقة، فتصرّ على العودة من دون منحه قبلة وداع أخيرة.

 

العربي الجديد اللندنية في

04.03.2020

 
 
 
 
 

إحصائيات «برلين السينمائى»:

330 ألف تذكرة.. 22 ألف مشارك.. 342 فيلما

خالد محمود:

كشف مهرجان برلين السينمائى عن بعض الأرقام الخاصة بالدورة السبعين، والتى تعكس زيادة عدد حضور فعاليات وأفلام المهرجان بجميع الأقسام، والذى بلغ حوالى 22000 من المتخصصين بمجال صناعة السينما أتوا من 133 دولة، كما تم بيع حوالى 330،000 تذكرة للجمهور.

وقال كل من مارييت ريسينبيك وكارلو شاتريان مديرا المهرجان: «إننا نتطلع إلى مهرجان برلين 71، ونشكر جميع الضيوف والجمهور وفريقنا الذين احتفلوا بالذكرى السبعين للمهرجان والتى استمرت على مدار أحد عشر يومًا كانت خلالها قاعات السينما كاملة العدد وكذلك لقاءات النجوم المثيرة عبر اللقاءات الفكرية وندوات الافلام ونشعر بحماس كبير لهذا الحب والشغف السينمائى فى أول دورة لنا كمسئولين بالمهرجان».

وأضاف: قدمت الأقسام المختلفة بالمهرجان للمشاهدين برنامج أفلام متعدد الأوجه ومناقشات عديدة بين الجمهور وفرق الأفلام فى المسابقات والبرامج الخاصة، حيث اجتمع عشاق السينما من جميع أنحاء العالم فى جميع الأماكن وشاركوا فى تنوع أفلام المهرجان البالغ عددها 342 باهتمام كبير.

كما حقق سوق برلين السينمائية الأوروبية (EFM) على مدار ثمانية أيام دورة ناجحة للغاية وبلغ عدد المشاركين فى السوق 11،423 (العام السابق: 10،964) وهو ما يعد رقمًا قياسيًا جديدًا. علاوة على ذلك، فإن حوالى 150 عملية إلغاء من الصين ودول أخرى بسبب فيروس كورونا لم تسفر عن انخفاض ملحوظ فى إجمالى عدد الزوار.

نظّمت سوق مهرجان برلين للإنتاج المشترك 1500 اجتماع لمشاريع الأفلام الروائية المختارة ومشروعات «سلسلة Co ــ Pro» ومبادرات الشركات. لقد وجد الكثير منهم بالفعل شركاء الإنتاج والتمويل المشترك فى المستقبل هنا فى الموقع.

ركز يوم الصندوق العالمى للسينما هذا العام على محادثات المخرج، بالإضافة إلى الاستراتيجيات المستدامة للسينما والجماهير.

قدم المهرجان حوالى 255 موهبة تحت شعار «أنت أساس التغيير».

وسوف يكون مهرجان برلين السينمائى الدولى 71 فى الفترة من 11 إلى 21 فبراير 2021.

 

الشروق المصرية في

08.03.2020

 
 
 
 
 

من الرواية إلى السينما: "بقرة" تصنع ثروات

محمد هاشم عبد السلام

يهدف صنّاع أفلام كثيرون، عبر أعمالهم، إلى طرح أسئلة سياسية واجتماعية ودينية ووجودية. أكثرها شيوعاً، وأجملها وأعمقها، تلك التي يتعمّدون تركها من دون إجابات. أحياناً كثيرة، لا يملك هؤلاء إجابات صادقة ومباشرة وشافية. أحياناً أخرى، تترك الأسئلة مفتوحة لرغبة مبدع العمل في إشراك الجمهور في إيجاد أجوبة عن تلك الأسئلة. كسر تلك القاعدة، يُفقِد العمل الفني، غالباً، إثارته وتشويقه، ويُفسد عمقه، إنْ يكن له عمق، وينحرف به صوب المباشرة أو السطحية.

يشذّ عن تلك القاعدة الراسخة فيلم "البقرة الأولى"، للأميركية كيلي ريتشارد (1964)، المُشارك في مسابقة الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي".

يملك الفيلم شروطاً فنية كثيرة. فيه تشويق وعمق وإثارة وفُكاهة. ورغم خروجه على تلك القاعدة، تنسجه كيلي ريتشارد بشكلٍ يُجيب أساساً عن سؤال مطروح في بدايته، ويفكّ لغز الحكاية، مع أنّه ليس بوليسياً. في نهايته، تظهر حقيقة ما جرى، أو على الأقلّ، يُجاب عن السؤال الرئيسي، المطروح في البداية، بطريقة شافية ووافية.

"البقرة الأولى" جذّاب وممتع للغاية. يُمكن مشاهدته كفيلم عن مغامرة وخطر وطموح وأحلام ورغبة في البقاء وتحقيق الثراء. وأيضاً عن الصداقة والولاء بين الناس. من ناحية أخرى، يُمكن مُشاهدته كفيلم عن الحلم الأميركي، بتناولٍ ومعالجة مُغايرين تماماً. كذلك يمكن اعتباره فيلم ويسترن أميركياً، مُقدّماً بمفردات مختلفة قليلاً عن المعتادة في هذا النوع السينمائي.

السيناريو لكيلي ريتشارد وجوناثان رايموند، ومأخوذ عن رواية لرايموند صادرة عام 2004 بعنوان "نصف الحياة". دراما بسيطة للغاية، تسرد ـ على نحو خطي تقريباً ـ حكاية تتطوّر زمنياً لتصل إلى نقطة البداية. للأحداث قوّتها الخاصة، وللفكرة طزاجة لافتة. مع ذلك، لا يقوم على الفكرة وقوّة الأحداث فقط، إذ يُحسَب الأداء المميّز للممثلين، واختيار مواقع مناسبة جداً للإيحاء بزمن الأحداث، والاعتناء الشديد بالتفاصيل وسردها، مع بساطة إخراج. الانطلاق زمنياً من العصر الحديث، ثم العودة إلى عام 1820، في ولاية أوريغون.

إلى جوار أحد الأنهار، تتنزّه شابّة (علياء شوكت) مع كلبها في الغابة. فجأة، ينبش الكلب التربة، وتظهر عظام بشرية. تقترب الشابّة من المكان وتبدأ النبش مع كلبها، ومع اللقطة العريضة الأخيرة، يظهر هيكلان عظميان مكتملان لرجلين، أحدهما يرقد إلى جوار الآخر. مع انتهاء التسلسل المشهدي، تحدث عودة إلى عشرينيات القرن الـ19، للتعرّف عبر الأحداث المُكتَشفة إلى قصّة هذين الهيكلين العظميين، وعلى أجوبة غالبية الأسئلة: من هما هذان الرجلان؟ ما الذي أتى بهما إلى هذه الغابة؟ مع ذلك، تظلّ كيفية موتهما أو قتلهما غير معروفة، فتخضع لتكهّنات كثيرة.

بعد افتتاح مُلغّز ومُشوّق، تظهر أشعار لويليام بلايك: "يصنع الطير أعشاشاً، وتنسج العناكب بيوتاً، والإنسان صداقة". ثم تُسرد قصّة فيغوفيتش (جون ماغارو)، المُلقّب بالطاهي، ولو (أوريون لي)، المُلقّب بالملك. الأول طاهٍ يعمل لدى صيادي فراء بائسين ومخمورين، يعتبرونه فاشلاً في الطهو، وهو بدوره لا يُطيق صحبتهم. أثناء بحثه في الغابة عن مكوّنات صالحة لإعداد وجبة عشاء، يلتقي صدفة رجلاً عارياً. يثير كينغ لو مخاوف الطاهي الطيّب والمسالم. لكن، بعد تبادل حديث قصير معه، يتّضح له أنّه مهاجر صيني، فار من روسيين لسببٍ غامض. هو جائع ومحتاج إلى ملابس.

بعد ذلك، تنشأ بينهما علاقة مودة، تتحوّل مع الوقت إلى صداقة وعمل وشراكة حياة، قبل بلوغهما معاً المصير الذي انتهيا إليه. يبحثان في الغابة عن مأوى ومأكل وفرص عمل. لكلّ واحد منهما حلم خاص، فالصيني يحلم بأنْ يُصبح مدير فندق في سان فرانسيسكو، والطاهي يريد أن يكون مدير مطعم. يحلمان بالثراء، لكنهما لا يعرفان كيف يحقّقان الثروة، ولا من أين يبدآن. لا يملكان مالاً يكفي لبدء تحقيق هذين الحلمين.

يصلان إلى مستعمرة، في أحد أطراف الغابة تلك، في أوريغون، قائمة على التنوّع الطبقي والعرقي، يشرف عليها إنكليزي ثريّ بغيض، معروف بلقب "كبير العمّال" (توبي جونز). قبل وصولهما بقليل، تدخل بقرة إلى المستعمرة، هي الأولى والوحيدة في تلك البقعة الشاسعة، فتثير انبهار الجميع. يتملّكها كبير العمال، معتبراً أنها أثمن ممتلكاته، ويعيّن حارساً لها. ذات ليلة، يتسلّل الصديقان ليحلبا البقرة. يصنع الطاهي من لبنها كعكاً شهيّاً للغاية، يبيعانه في السوق، فيحظى الكعك بإعجاب السكّان المحليين، بمن فيهم كبير العمّال، الذي يحاول مع غيره معرفة سرّ الطعم الشهي للكعك. لتجنّب بطشه، يخبره الصديقان أنّها خلطة سرية صينية الأصل. تدريجياً، يتمكّنان من جمع المال، ويدركان أنّ حلميهما ليسا مستحيلين. لكن المُشكلة، التي تواجه نجاحهما وازدهار تجارتهما، تكمن في المخاطر المتجدّدة كلّ ليلة، مع تسلّلهما خلسة للحصول على حليب البقرة. بالأحرى، سرقته من مزرعة كبير العمال.

 

العربي الجديد اللندنية في

09.03.2020

 
 
 
 
 

علا الشافعى تكتب:

بعد حصول "رسولوف" على الدب الذهبى فى برلين.. لماذا إيران؟

لماذا إيران دائماً؟ ما هو المختلف فى سينماها التى تحصد الجوائز؟ كيف يملك صناع السينما فيها ذلك الشغف وتلك الإرادة لصنع أفلامهم رغم التضييقات السياسية والأمنية؟ لم يكن المخرج الإيرانى محمد رسولوف، الحاصل على الدب الذهبى بفيلمه «لا يوجد مكان للشر» فى الدورة الـ70 لمهرجان برلين السينمائى والذى اختتمت فعالياته الأسبوع الماضى، هو المخرج الأول الذى يتعرض للحبس أو يمنع من مغادرة البلاد، بل ويقوم بإنجاز فيلم سينمائى يحقق صيتاً عالمياً، بل سبقه المخرج جعفر بناهى، الذى حُكم عليه بالسجن لمدة ست سنوات مع منعه من السفر من إيران لعشرين عاماً، حصل على الدب الذهبى عن فيلمه تاكسى عام 2015.

«رسولوف»، الذى عمل مع «بناهى»، وورث عنه الكثير من الشغف والرغبة فى الإنجاز، وعدم التوقف عن طرح التساؤلات المتعلقة بالإنسان وحقوقه، والعدالة وقدرتك على أن تكون فاعلاً، لا ترضخ ولا تستسلم، يقول: «أردت التحدث عن الناس الذين ينأون بأنفسهم عن الفعل ويقولون إن القرار اتخذته قوة عليا»، مستطرداً: «لكنهم يستطيعون فى الواقع أن يرفضوا، وهذه قوتهم».

تلك المقولة هى تماماً «مورال» الفيلم الذى قدمه «رسولوف» فى فيلمه «THERE IS NO EVIL»، الذى شارك فى المسابقة الرسمية لبرلين السينمائى وحصل على الدب الذهبى، المخرج الذى حقق شهرة واسعة بعد أن حصل فيلمه «رجل نزيه» على جائزة «نظرة ما» فى مهرجان كان الدولى فى 2017.

لكن فور عودته من «مهرجان كان» عام 2017 حُكم عليه بالسجن عاماً واحداً، وحُرِم من صناعة الأفلام مدى الحياة، ومُنع من السفر، بتهمة «تهديد الأمن القومى». لذا، لم يكن موجوداً فى برلين مع فيلمه الأخير هذا، والذى تحايل على كل القيود التى فُرضت عليه لخاطر إنجاز فيلمه، حيث كان يقوم بنفسه بتصوير المشاهد الداخلية فى حين يقوم مساعدوه بتنفيذ كل المشاهد الخارجية، حيث يقومون بتنفيذ «الديكوباج» كما قام «رسولوف» بتقطيعه ورسمه، وبعد إعلان فوزه فعّلت السلطات الإيرانية حكم السجن الصادر بحق المخرج لمدة عام، بعد أن كان موقوف التنفيذ، حيث تسلم رسالة نصية من السلطة القضائية بذلك، لكن محاميه أعلن أنه لن يسلم نفسه وسيستأنف ضد القرار.

فيلم محمد رسولوف الجديد يطرح الكثير من الأسئلة الشائكة، ويلقى بالحجارة فى المياه الراكدة وكل ما يعتبر من المسلمات فى المجتمع الإيرانى، وتدور أحداثه حول عقوبة الإعدام، وكل التساؤلات التى تدور حولها وهل علينا رفضها أم الاستسلام للقوانين الوضعية وبالطبع هى قضية شائكة حتى فى الكثير من المجتمعات الأوروبية والتى باتت ترفضها، أو تناهضها، والأبطال الذين تدور حولهم الأحداث ليسوا هم المحكوم عليهم بالإعدام، بل هؤلاء المسئولون عن تنفيذ الحكم، وهنا يكمن ذكاء السيناريو، وبناء الشخصيات الشديدة الإنسانية والتى تشعر فى لحظات أنها تشبهك كثيرا.

تدور أحداث فيلم «لا يوجد شرّ» فى 4 أجزاء منفصلة، تبدو كأفلام قصيرة تم عنونتها كالتالى «لا يوجد شيطان»، «قالت يمكنك القيام بالأمر»، «عيد ميلاد»، «قبّلنى» مع تتابع الأحداث نكتشف السيناريو الدائرى والبناء الدرامى المحكم، فهناك خط واضح يجمع كل هذه القصص، ورغم ضعف بعض الأجزاء، وتحديداً الرابع، فإن ذلك لم يقلل من الدفقة الشعورية بالفيلم وتطور أحداثه إجمالاً، وأيضاً لم يخل بإيقاع الفيلم الذى تقارب مدته الزمنية الثلاث ساعات،

أحداث الجزء الأول تدور حول حشمت (إحسان ميرهوسينى)، موظف فى جهة ما من الجهات الحكومية ويبدو لنا رب أسرة مثالى فى علاقته بزوجته، وأهلها، وابنته رجل بالغ الطيبة وشديد الصبر ويملك قدرة هائلة فى التعامل مع تفاصيل زوجته الكثيرة، وعصبيتها يناقشها بلطف وصبر شديدين لا يتردد فى الذهاب معها لكافة المشاوير من السوبر ماركت، للخياطة التى تقوم بتخييط فستان ستحضر به فرحاً عائلياً، وصولاً إلى لون صبغة شعرها، الذى يصبغه لها فى المنزل. كلّ هذا وغيره ينتهى مع دقّة المنبّه عند الثالثة فجراً، إذْ يستيقظ كى يذهب إلى عمله، وهناك نكتشف طبيعة عمله فهو يقلب السكر فى كوب الشاى الخاص به، وبعدها مباشرة يكبس بنفس اليد على زر لنكتشف أنه يقوم بتنفيذ حكم الإعدام للعشرات.

بويا (كاوه أنجار)، شاب مجنّد حديثاً. يُدرك أنّ حياته وسفره وعمله ومستقبله رهنٌ بتأديته الخدمة العسكرية عامين متتاليين، وأنّ خدمته تتمثّل فى تنفيذ أحكام الإعدام رمياً بالرصاص. يرفض الأمر، يدور بينه وبين رفاقه كلام عن الأمر، وكلما اقترب من لحظة اصطحاب المتهم الذى من المفترض أن يُعدم يدخل فى حالة من التوتر والخوف وفى النهاية، وبدافع من خطيبته المساندة لموقفه الأخلاقى، ينجح، رغم جبنه، فى سرقة بندقية، وتهديد الجميع، والهرب وإنْ بصعوبة من المعسكر، منطلقاً مع حبيبته فى مشهد ليلى فى الطرقات الجبلية لطهران، وهما يغنيان «بيلا تشاو» من أغانى الفلكلور الإيطالى التى كانت تغنيها النسوة العاملات فى حقول الأرز فى شمال إيطاليا اعتراضاً على ظروف العمل ثم تحولت لنشيد ضد الفاشية أثناء الحرب العالمية الثانية.

فى الجزء الثالث، هناك جواد (محمد فاليزاديجان)، نقيض «بويا». متمرّس فى تنفيذ أحكام الإعدام أثناء خدمته العسكرية، لكنّه غير متصالح مع الأمر نهائياً، كما يبدو. قبل عودته إلى قريته ومنزل حبيبته نانا (مهتاب سيرفاتى)، يخلع ملابسه العسكرية، ويستحم طويلاً فى النهر ويضع عطره المفضل كمن يرغب فى إزالة رائحة كريهة من جسده، وعندما يصل يكتشف أن هناك حالة حداد فى منزل العائلة على شخص شديد القرب منهم هو معلم خطيبته، لتقع المفاجأة عندما يكتشف أنه نفس الشخص الذى قام بتنفيذ حكم الإعدام فيه، قبل الحصول على إجازته.

لنصل إلى الجزء الرابع لتكتمل القصة ونعرف أن بطلنا «بهرام» هذا الذى يقارب الموت، ويعيش فى قرية نائية على الأطراف مع زوجته وجاءت ابنته التى لا تعرفه لزيارته بوصفه أقرب صديق لوالدها، لنكتشف أن «بهرام» هو والدها الحقيقى، وقد اضطر إلى تسجيلها باسم صديق له حماية لها عندما كان معارضاً سياسياً ومطارداً من السلطات، ورفض أن يساهم أثناء خدمته العسكرية بتنفيذ إعدام أحد المعارضين لنكتشف أنه ذلك المجند الهارب فى الجزء الثانى.

فيلم رسولوف «لا يوجد مكان للشر» من خلال السيناريو الذكى والكاميرا المتمهلة والمتأملة، فى حالة أقرب إلى السيمفونية والتى تحمل جملاً هادئة ثم تصل إلى ذروتها مع «كريشندو» ملىء بالإيقاعات لنعود مجدداً إلى حالة من العزف الرائق الذى ينفذ لروحك، رغم المبالغات الدرامية إلا أن الفيلم يجعلك لا تتوقف عن طرح الكثير من التساؤلات والتى تحملها معك بعد مغادرة دار العرض، بل تظل معك كثيراً، فى ظل عالم يسير بخطى واسعة نحو اللا إنسانية.

 

الوطن المصرية في

12.03.2020

 
 
 
 
 

برليناله 70: "بالأحرف الكبيرة".. والوجه المعاصر للسينما الرومانية

أحمد شوقي

اعتدنا الحديث عن السينما الرومانية من مدخل الموجة الجديدة، تلك الحركة التي بدأها مخرجون موهوبون مطلع القرن الحالي، كريستي بيو وكرستيان مونجيو وكورنيليو بورمبيو تحديدًا، لتصير علامة مميزة لأفلام شديدة الواقعية، منخفضة التكلفة، تستعيض عن الإمكانيات بنصوص مصاغة بعناية مدهشة، وأداء تمثيلي يجعل من الحكايات الصغيرة في عهد الشيوعية ميكروكوزم لما يمكن أن تفعله الديكتاتورية في أي مكان بالعالم.

إلا أن هذا الخطاب يتناسى، بوعي أو بدونه، أن تلك الموجة انتهت عمليًا، يتبقى منها أفلام متناثرة تتم دائمًا مقارنتها بالأعمال المؤسسة مع منح الأفضلية للأقدم، وأن السينما الرومانية حاليًا تمتلك موجة جديدة من صناع أفلام ذوي أسلوب مغاير، رأس حربتهم هو رادو جود، بأعمال متباينة الأسلوب بعضها نال تقديرًا عالميًا مثل "عفارم!" (جائزة الإخراج في برلين 2015)، و"لا يهم إن انحدرنا في التاريخ كبرابرة" (كريستالة كارلوفي فاري الذهبية 2018). والذي عاد إلى برلين الشهر الماضي بفيلمين دفعة واحدة، أحدهما هو "بالأحرف الكبيرة Uppercase Print".

هوس التاريخ.. بمعالجة حداثية

التاريخ له حضور دائم في سينما رادو جود، وإن كان اهتمامه في الأفلام السابقة انشغل أكثر بماضٍ أبعد كالحروب العثمانية ومحارق النازية، لكنه يعود في "بالأحرف الكبيرة" للحقبة المفضلة لدى مخرجي رومانيا: حكم نيكولاي تشاوشيسكو، وإن كانت عودة حداثية الأسلوب، تختلف كليًا في الشكل عن أفلام الموجة الجديدة، وإن كان المضمون بطبيعة الحال متشابه.

الفيلم مأخوذ عن عرض مسرحي بعنوان "مسرحية وثائقية" كتبتها جيانا كاربوناريو التي شاركت جود كتابة السيناريو، وفيه تروى حكاية صغيرة عن طالب في السابعة عشر من عمره، قام عام 1981 بكتابة شعارات مطالبة بالحرية، بالطبشور وبالأحرف الكبيرة، على جدران مدينته بوتوشاني، لتصيب كتاباته السلطات الأمنية بالذعر، وتستنفر قواها حتى يتم القبض على الشاب والتحقيق معه ومعه أسرته وأصدقائه حول فعلته "المشينة".

الملخص يوحي بفيلم مشابه لأفلام الموجة الجديدة، لكن واقع الأمر أن رادو جود يتعامل مع الحكاية بصورة مختلفة تمامًا، يمتزج فيها كسر الإيهام البريختي بالكابوسية الكافكاوية. لا أداء تمثيلي حقيقي للواقعة، بل سلسلة من التفريغات لمحاضر الشرطة ونصوص التحقيقات وتقارير مراقبة الهواتف والمنازل، يؤديها الممثلون بشكل مباشر في مواجهة الكاميرا، على خلفية ديكور مسرحي يشير إلى معالم الحقبة التاريخية دون أن يحاول الإيحاء بالواقعية.

تتوازى المشاهد المؤداة مع مواد نادرة متنوعة، أتى بها المخرج من أرشيف التلفزيون الوطني الروماني، تضم مزيجًا مما كان الناس يشاهدونه في عهد تشاوشيسكو: تغني بالإنجازات، رقصات ركيكة بابتسامات مصطنعة تملأ الوجوه، برامج خفيفة عن الرياضة والطهي، وحضور دائم لصورة واهمة برخاء وسعادة عامة لو كانت حقيقية لما أُعدم الرئيس وزوجته بعد أعوام معدودة رميًا بالرصاص، خلال ثلاثة أيام فقط من محاولتهما الهروب من الثائرين ضدهما.

عما يفعله الأسلوب

اختيار المخرج الطابع البريختي يلعب أكثر من دور على صعيد التلقي، بداية من الحفاظ على المسافة بين الجمهور والشخصيات؛ لا يرغب جود أن نتماهى مع الحكاية بل أن نفكر فيها. كذلك يمنح الأداء المسرحي منزوع الإيهام شعورًا صادقًا بأن الجميع عندما يتعامل مع السلطة، سواء كان متهمًا أو مُحقِقًا أو مُحقَقًا معه، يغدو ممثلًا بشكل أو بآخر، يؤدي حوارًا سابق التجهيز على مرأى ومسمع جمهور خفي، ثقيل الظل، كليّ العلم، اسمه النظام.

أما الدور الثالث ـ والأهم ـ في أسلوب رادو جود فهو منح مساحات التفكير والمقارنة، التفكير في عبثية الاهتمام الأمني المفرط بواقعة يمكن في سياق آخر اعتبارها مجرد نزوة تمرد من مراهق، والتي يترتب عليها دخول السلطات في أدق التفاصيل من نوعية علاقة الشاب موجور كالينسكو بوالديه المنفصلين، الهوايات التي يمارسها مع أصدقائه، وغيرها من التفاهات الموثَّقة في سجلات رسمية.

مساحة المقارنة تأتي مع المواد الأرشيفية، التي لا يمكن مع ركاكتها ألا تتخيل انغماس الجميع فيها، لا سيما ونحن نتحدث عن مطلع الثمانينيات حينما كان الإعلام الرسمي هو الخيار الوحيد، حتى أن أهم اتهام يوجه للشاب هو استماعه لإذاعة "أوروبا الحرة" الممولة أمريكيًا والتي تدعو الرومانيين لمقارنة أوضاعهم المعيشية بما يحدث في الغرب.

تلك المقارنة تُنتج ذاك الشعور الكافكاوي بانعدام الأمل، فماذا يمثله مراهق متمرد في مدينة هامشية حتى يتسبب القبض عليه أو حتى قتله في هزة لهذا النظام العملاق؟ وما الذي يملكه المحيطون به سوى الاستسلام للمصير رغبة في الأمان، ولو أدى الأمر لأن يشهد الأب ضد ابنه وينكل المعلمون بطالب مراهق، لو افترضنا إنه ارتكب خطئًا فالواجب تقويمه لا تدميره.

لوحتان ختاميتان.. الخلاصة

ينهي جود فيلمه بلوحتين متتاليتين، الأولى مُعاصرة نظريًا (فالديكور المسرحي يلغي عنصر الزمن تلقائيًا)، فيها يتحدث رجال الأمن عن ذكرياتهم حول الواقعة، مؤكدين أنهم تعاملوا مع موجور بمنتهى التحضر، وأنهم لم يقوموا أبدًا بتعذيب الشباب بل كانوا يقومون بـ"حمايتهم"، مع تعمد عدم الإجابة على اتهامهم بتسميم الشاب بالإشعاع، فقد توفي عام 1985 بلوكيميا قيل أن سببها فناجين القهوة التي كانت تُقدم له خلال التحقيقات الدورية التي استمرت شهورًا بعد الواقعة.

لا يهتم جود كثيرًا بصحة الاتهام، ففي النهاية هذا شاب ذكي تم اغتياله وإن لم يسمموه. لكنه يهتم بوضع مرتكبي الجريمة في تكوين مستمد من لوحة العشاء الأخير لدافنشي، ولكن بدلًا من الخبز والملح والنبيذ، تزدحم المائدة بأطيب الثمار وزجاجات الكوكاكولا، فقد "حموا" الشباب من الرأسمالية وقادوهم للقبور، ثم تمتعوا بثمارها دون ذرة ندم على ما فات!

اللوحة الثانية بمثابة خاتمة مسرحية (إيبيلوج) للعرض، فيها نشاهد صورة الشاب الحقيقي وكتاباته الطبشورية من سجلات الشرطة، مجرد صور صمّاء يعرضها جود دون صوت، لتصرخ برائتها بهول الواقعة. مجرد شخبطات على مساحة محدودة وكأنها كتابات على لوحة أحد الفصول الدراسية، لكنها دخلت ماكينة أمن تشاوشيسكو لتصير واقعة هائلة، صنع منها فنان موهوب مرثية سينمائية لنشاهدها بعد أربعة عقود.

 

جريدة القاهرة في

17.03.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004