كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

أفلام "البرليناله 2020":

صُور سينمائية عن أناسٍ وبيئات

برلين ــ نديم جرجوره

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة السبعون

   
 
 
 
 
 
 

يبدو أنّ "تُحفاً سينمائية" تطرح نفسها في النصف الثاني من الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"، بعد أيامٍ أولى تشهد أفلاماً غير صادمة وغير جاذبة وغير مُثيرة لحماسة ومُتَع. هذا لا يعني انعداماً مطلقاً للمهمّ والمختلف، لكن ندرة المهمّ والمختلف طاغية، علماً أنّ قولاً كهذا معنيٌّ ببعض الأفلام التي تُشَاهَد، فالبرمجة تحتوي على 342 فيلماً، بينها 88 فيلماً قصيراً و94 وثائقياً، من 71 بلداً، أي بتراجع 3 بلدان عن دورة العام الفائت. بحسب مجلة "الفيلم الفرنسي" (21 فبراير/ شباط 2020)، اختير العدد المذكور من 7924 فيلماً مُقدَّماً إلى "البرليناله"، مقابل 7861 فيلماً مُقدَّماً إليها في الدورة السابقة.

لذا، يصعب حسم الجدل بخصوص "التُحف الفنية". لكن دردشات بين زملاء وأصدقاء تتوقّف عند غياب المُدهش في برمجة النصف الأول من الدورة الجديدة هذه، في المسابقة و"بانوراما" على الأقلّ، على نقيض ما يظهر في بداية النصف الثاني. أمثلةٌ على ذلك: كوريا الجنوبية وإيطاليا وألمانيا، جهات إنتاجية لأفلامٍ تعكس وقائع عيشٍ وتفاصيل حياة، بلغة سينمائية تعتمد السرد الحكائي منهجاً، أو تختار ما يُشبه الوثائقي، المُطعّم بنَفَسٍ روائي، لالتقاطِ نبضِ اجتماعٍ وانفعالٍ ومرويّات. العنف المبطّن طاغ، لكن السلاسة في التعبير عن مسائل شخصية، مرتبطة بالوحدة وقسوة الانفصال ومواجهة يوميات باهتة لكنها مُكرّرة، تصنع صُوراً باهرة وجاذبة، وتدفع إلى تأمّل وتفكير.

مثلٌ أول: "المرأة الراكضة" (ترجمة عربية للعنوان الإنكليزي: The Woman Who Ran)، للكوريّ الجنوبيّ هونغ سونغ ـ سو. مثلٌ ثانٍ: "حكايات خيالية" (بحسب العنوان الأصلي Favolacce، بينما العنوان الإنكليزي يُترجم إلى العربية بـ"حكايات سيئة") للشقيقين التوأمين الإيطاليين داميانو وفابيو دينّوسنزو. مثلُ ثالث: "برلين ألكسندِرْبلاتز" للألماني برهان قرباني، ابن عائلة أفغانية مهاجرة إلى ألمانيا عام 1979، قبل ولادته بعامٍ واحد.

هذه الأفلام مُشاركة في المسابقة. المشترك بينها يتمثّل بجماليات الصورة، المتمكّنة من تعرية اجتماعٍ وأفرادٍ وحالات. الكوريّ الجنوبيّ مُكتفٍ بـ77 دقيقة، لالتقاط حالاتٍ مختلفة لنساء تجمعهنّ صداقة أو معرفة. الإيطالي محتاج إلى 98 دقيقة، ليتفنّن في كشف الهوّة السحيقة التي يغرق فيها الاجتماع الإيطالي، المليء بالعنف والتفكّك والتنمّر والتصادم بين الناس. الألماني يتجاوز هذا كلّه، فيصل إلى 183 دقيقة، ليروي حكاية شاب أفريقي يُهاجر سرّاً إلى ألمانيا (برلين)، فيجد نفسه في مطبات قاسية تجعله، في النهاية، يغتسل من وسخ الحياة والجريمة والتوهان، فيبدأ حياة جديدة.

سلاسة الكوريّ الجنوبيّ تفتح دروباً عدّة لبلوغ جوهر النصّ ومروياته، رغم أن لا قصة واضحة، ولا مساراً واحداً، مع أنّ هناك شخصية واحدة تجمع الخيوط والعلاقات، وتكشف بعض المبطّن فيها وفي الآخرين. عنف الإيطالي مخفَّف من دون إخفائه كلّياً، فالبيئة الصغيرة مليئة بغليان يصل في ذروته إلى انتحار جماعي لمراهقات ومراهقين، في مجتمع مفكّك ومنهار. أما العنف الألماني فأقسى وأحَدّ، لأنّ الرحلة المؤدّية إلى خلاص منشود تمرّ في محطّات تكاد تُشبه محطّات درب الجلجلة، المفضية إلى موتٍ فقيامة.

في أنحاء مختلفة من سيول، تلتقي كي ـ مي (كيم مينْ ـ هِيْ) نساء ترتبط معهنّ بصداقة أو تعارف. تزور إحداهنّ في منزلها، وتلتقي بأخرى في مقرّ عملها، مثلاً. لا شيء يحدث. الكلام كثير، يتعلّق بأحوال وذكريات وراهِن. تناول طعام، واحتساء نبيذ، وشراء هدايا، ونقاشٌ في فنون وثقافة وسينما، واستعادة ذكريات، وسوء فهم بين جيران، مسائل تحضر في الدقائق كلّها. بعض هذا يُشبه "حكايات خيالية": الإيطاليون يأكلون ويحتسون الخمر كثيراً. وعلى "هامش" هذا تنكشف أحوالهم شيئاً فشيئاً، وتظهر تمزّقاتهم واضطراباتهم وقلاقلهم ووحشيتهم وعنفهم وعدم اكتراثهم بصداقة أو "جيرة"، رغم وجود مراهقات ومراهقين بينهم، هم أبناؤهم وبناتهم. أما برهان قرباني، فمهموم بسيرة مهاجر غير شرعيّ، يغرق في الجحيم، ثم "ينبعث" منه إنساناً آخر، بعد أهوالٍ وصدمات وخيبات قاتلة.

كاميرا "المرأة الراكضة" هادئة وشبه ثابتة. عدساتها تقترب من وجوه، وتحوّل بعض الكادرات إلى ما يُشبه لوحاتٍ فنية تقترب ألوانها من الرمادي، أو الأسود والأبيض المخفَّف (الفيلم بالألوان). الصورة نقيّة. الكلام، رغم كثرته، يُكثِّف النصّ ويختزل فضاءَه ونبرتَه بما يعكس أحوالاً وأقداراً. تصوير "حكايات خيالية" مبنيٌ على تعرية أرواح ونفوس وتفكير وسلوك. عائلات مُقيمة في حيّز جغرافي صغير، تعجز عن تصرّفٍ سليم في بيئة يُفترض بها أنْ تكون هادئة، بحسب طبيعتها. الخلل داخلي، أي أنّه مُقيم بين جدران المنازل، وفي نفوس وعقول وعلاقات عائلية ضيّقة. صورة "برلين ألكسندِرْبلاتز" تمزج اللاوعي بالواقع، وتفتح الوعي على التخييلات والكوابيس. حبّ يُعطب، وصداقة تتخلخل، وانفصام واضطراب وتوهان.

 

####

 

الغزو الأميركي للعراق:

استعادة ألمانية بمعطيات سينمائية عادية

برلين ــ نديم جرجوره

"الفيلم مستوحى من قصّة حقيقية. للأسف".

هذا تعريفٌ بـCurveball، للألماني يوهانس نابر، المعروض في برنامج "البرليناله المميّزة ـ غالا"، في الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي". العودة إلى مرحلة مضطربة في العالم، عشية الغزو الأميركي للعراق (20 مارس/ آذار ـ 1 مايو/ أيار 2003)، مغرية للسينما، فالوقائع والمعطيات والتفاصيل كثيرة، وبعضها مُقتبس في أفلامٍ أوروبية وأميركية قليلة. يوهانس نابر يسرد وجهة نظر ألمانية، فـ"الجهاز الفيدرالي للاستخبارات" (جهاز للاستخبارات الخارجية تابع للحكومة الفيدرالية الألمانية، و "المستشارية" وصيّةٌ عليه) يعثر على من يؤكّد امتلاك صدام حسين أسلحة بيولوجية، وتأكيداته تُشكِّل عَصَب الخطاب الأميركي لتبرير الغزو.

القصّة حقيقية "للأسف". بداية توحي بنبرة ساخرة وانتقادية، فيرتقي النص السينمائي إلى مرتبة الإضحاك، بكيفية تصويره بعض الشخصيات، وآليات تعاملها مع المسألة، والتداخل الصِدامِيّ بين جهازي الاستخبارات الألمانية والأميركية، بالإضافة إلى توازنٍ بين تسجيلات تلفزيونية لخطابات الرئيس جورج بوش الابن ووزيري الدفاع دونالد رامسفيلد والخارجية كولن باول، وردود فعل شخصيات ألمانية، تعلم بالأكاذيب الملفّقة، لكنها غير راغبةٍ في تصرّفٍ يمنع الغزو لأسبابٍ سياسية، أو أنّها عاجزة عن إعلان أمر التلفيقات المخادعة علناً.

عنوان الفيلم اسم/ رمز لملف المسألة، المنطلقة من لحظة تقارب بين عراقيّ لاجئ إلى ألمانيا، يُدعى رافِد علوان، ومسؤولين في جهاز الاستخبارات الخارجية الألمانية. يُقدِّم علوان نفسه كمدير سابق لمصنع بذور خاضع للجيش العراقي، ويوحي لهم بأنّ "المكان" يُصنِّع أسلحة بيولوجية. بحسب الصحيفة اليومية الفرنسية "لو فيغارو" (16 فبراير/ شباط 2011)، يهرب رافِد أحمد علوان الجنابي من العراق عام 1999، ويطلب اللجوء في ألمانيا في العام التالي: "يُنتج المصنع أسلحةً بيولوجية"، يقول للأمنيين الألمان، مضيفاً أنّ للعراق شاحنات تنقل تلك الأسلحة، وأنّ للبلد مصانع سرّية. تُضيف الصحيفة الفرنسية، نقلاً عن "ذا غارديان" البريطانية، أنّ تصريحاته "أساس التبريرات الأميركية لغزو العراق عام 2003"، وأنّ الرجل "مصدر المعلومات المتعلّقة بوجود الأسلحة البيولوجية"، وأنّ علوان "يريد (من هذا كلّه) قَلْبَ صدام حسين".

في فيلم يوهانس نابر، يستعين مسؤولو الاستخبارات الخارجية بالدكتور وولف (سيباستيان بلومبرغ)، الخبير في أسلحة كهذه، وفي العراق أيضاً، إذْ يمضي فيه 3 أعوام، رفقة شابّة أميركية، يرتبط معها بعلاقة عاطفية، قبل انكشاف هويتها أمامه لاحقاً: عميلة تابعة لـ"وكالة الاستخبارات الأميركية". مهمّة وولف: التحقيق مع رافِد علوان (دار سليم)، ومعرفة ما لديه من معلومات. مفارقات كثيرة تحدث، يصل وولف في نهايتها إلى قناعة واضحة: لا شيء حقيقيا وصادقا في المعلومات هذه، فالعراق غير مالكٍ أسلحة كتلك.

سخرية المعالجة السينمائية تُثير ضحكاً. أقوال ومسالك وحركات تُساهم في الإضحاك، وتفضح عقلية ألمانية تقع في أفخاخ (تماماً كالتلفيقات التي "تُبرِّر" للأميركيّ ضرورة الغزو)، أو تُقنع أصحابها (أصحاب العقلية الألمانية) بأولوية السياسيّ على أي شيء آخر. لن تكون الحقيقة مهمّة. العميلة الأميركية تقول: "نحن من يصنع الوقائع"، فالأميركيون يريدون تصريحاً لبدء استيلائهم على العراق. الفيلم متواضع في اشتغالاته الفنية والبصرية والجمالية. تمرير نفحات كوميدية ساخرة جزءٌ من مرارة اكتشاف وقائع وحقائق، وإنْ بعد أعوام على تبيان "الخديعة" المصنوعة في البيت الأبيض والبنتاغون.

مُمثّلا الدورين الأساسيين، بلومبيرغ وسليم، يتجانس أحدهما مع الآخر في صنع جوهر الحكاية ومسار أحداثها. يؤدّيان مهمّتهما بما يتناسب وانفعالات شخصيتي الألماني وولف والعراقي علوان. الثاني، بسلوك شخصيته ونظراتها وردود فعلها، يصنع تلك المفارقات الساخرة. الأول منكمش على نفسه، فله ابنة يحاول رعايتها كأبٍ، لكنه وحيد ومنزو، وضحية مصالح استخباراتية. الاشتغالات السينمائية الأخرى تُكثِّف السرد والعلاقات والتفاصيل، ومع هذا تبقى عادية.

 

العربي الجديد اللندنية في

28.02.2020

 
 
 
 
 

عن السينما العربية المتواضعة جداً في البرليناله الـ٧٠

د. أمل الجمل

أول سؤال يتبادر للذهن عقب مشاهدة الأفلام العربية التي تم برمجتها في الدورة السبعين للمهرجان الألماني العريق - وأحد أهم ثلاثة مهرجانات في للعالم - هو: مَنْ المسؤول عن تلك الأفلام الركيكة المستوى فنياً وفكرياً، والتي لا تستحق ولا يمكن وصف أغلبها بأنها "سينمائية"، مثلما لا يمكن وصفها بالتجريبية، فالتجريب منها بريء، خصوصاً فيلم «من القاهرة إلى زرادشت»، فهو مسخ لا علاقة له بالسينما أو الفن إطلاقاً؟ حيث نشاهد امرأة تقرأ أفكاراً وأبياتاً وتحاول الربط بينها وبين زرادشت، لكنها تفعل ذلك من دون أي فن وكأنها تقرأ نشرة أخبار، طويلة بملل، ثم تترك الكادر وتخرج، وفي تكوينات لاحقة تعمل على تكوين أشكال قبيحة لا معني من ورائها سوى الاستخفاف بعقول المشاهدين، ثم يدعى صُناع العمل أن المونتاج يتم علي الهواء مباشرة، وأنه في كل مشاهده سيتم تغيير النسخة، وفوق هذا وذاك يقترحون على المشاهدين بأن يحضروا العرض التالي؛ ليقبضوا على الاختلافات بين النسختين، وكأننا مثلاً أمام "ماستر بيس". والحقيقة أنني احترمت شجاعة عدد كبير من رواد القاعة عندما خرجوا تعبيرًا عن رفضهم لمثل تلك العروض المستهينة بعقولنا.

السؤال الثاني: هل معقول أن السينما العربية من المحيط للخليج لم تُنتج أفلاماً على مستوى فني لائق يستحق المشاركة في أي من أقسام المهرجان سواء البانوراما أو حتى القسم الجديد المستحدث "إنكاونتر" حيث بلغ عدد الأفلام المعروضة بجميع الأقسام ٣٤٠ فيلماً؟!

هل حقًا يمكن أن نصدق أن دولاً مثل لبنان أو تونس أو المغرب أو الجزائز لم تُنتج خلال عام ٢٠١٩ أي فيلم يستحق العرض في برلين؟ هل يُعقل أنه لم يوجد بمصر فيلم يستحق العرض هناك؟ وهنا يظهر التساؤل: لماذا وجد الجونة أفلاماً عربية؟ لماذا وجدت مهرجانات عربية أخرى أفلامًا عربية على مستوى جيد؟ أنا شخصيًا أعلم هناك أفلامًا روائية طويلة، عربية، حاولت التقدم للعرض في برلين، وتم رفضها في هذه الدورة من البرليناله. لكن في المقابل تم عرض فيلم "هبوط" لأكرم زعتري، أو فيلم سارة فرنسيس، أو فيلم أحمد غنيم أو المسخ المسمى "زرادشت" مدعيًا أنه عملٌ سينمائيٌ، وأنه يخوض التجريب، وذلك في الحقيقة ادعاء كاذب.

خطابات إلى صديق

هل العلاقات تلعب دورًا في الخيارات والاختيارات؟! أم أنه موقف مناهض من السينما العربية؟! أو ربما الغرض منه الحط من مستوى تلك السينما؟ أم أن القيادات الجديدة في مهرجان برلين لم تنجح أو ربما لم تُجهد نفسها للبحث والتواصل مع مخرجين عرب. أو ربما لا يملكون نفس قوة العلاقات التي تميز بها ديتر كوسليك، وكان يبدو واضحًا إتاحته الفرصة للعديد من السينما العربية؟!.

على جانب آخر كان أهم فيلم عربي شاهدته هو الفيلم الوثائقي "خطابات إلى صديق" للمخرجة الفلسطينية الأمريكية إيميلي جاسر. إنه مصنوع بمهارة تحترم عقلية المتفرج، فيقدم تحليلاً، ورصدًا للمشهد في بيت لحم ومن حوله. بهدوء والتزام فني وفكري، بأسلوب وثائقي مميز الملامح وظفت إيميلي بمهارة، التعليق الصوتي الموسوم بهدوء "التون" وصدقه التعبيري، مثلما تميز بالخفة وروح السخرية، كأنها أثناء ذلك كانت تعرفنا بالمكان تحكي عن علاقتها به، تتحدث عن الجدران الشاهقة العازلة التي جعلت المكان أشبه بترسانة، أو جدران سجن عازلة قاتلة نفسيًا. فعلت ذلك وكأنها تكتب خطابًا إلى صديق تشرح له، وتحلل الوضع في بيتها وفي محيطه والذي يقع في نطاق بيت لحم.

في الندوة التي أقيمت عقب الفيلم في قاعة "كينو أرسينال واحد" عندما سئلت المخرجة الفلسطينية إيميلي: عن سر استخدام التعليق الصوتي وتوظيفه على شكل رسالة أو خطاب تكتبه إلي صديق؟! جاء ردها بأنها كانت تشعر بالتضامن وأهمية الصداقة بين هؤلاء الصحفيين والذين يحاولون نقل الصورة. من هنا جاءتها فكرة كأنها تكتب خطابا. ومن خلالها تحكي عن بيت لحم، حيث تعيش بين الجدران، أو بمعنى أدق حيث تُحاصرها الجدران، تحكي عن سنوات النضال، عن الرصاصة التي أصابتها وانفجر النزيف، عن سيارة الإسعاف التي نقلتها للمستشفى، ثم اكتشافها لاحقًا أنها صورت الجندي الذي أطلق عليها الرصاص، وترينا ذلك بالفعل.

إن إيميلي تحمل معها جواز سفر أمريكيًا، لكنها تقيم في بيت لحم، وفتحت شركة هناك للعمل وتدعو آخرين للانضمام إليها. هنا يسألها أحد الفلسطينيين الشباب: "أنت معك جواز سفر أمريكي، فلماذا تظلين في بيت لحم أو فلسطين؟! لماذا لا تهربين وتفلتين بجلدك؟".

تقول إيميلي إنها تتفهم تساؤل الشاب، لكنها أيضًا تجد نفسها وهويتها في هذا المكان. يتأكد هذا الصدق في إجابتها عندما تشاهد الفيلم. إنه فيلم بسيط هادئ غير مدعٍ، يعتمد على الأرشيف والصور التي التقطتها إيميلي بكاميراتها الخاصة، أو تلك التي التقطتها الأصدقاء بعدسات كاميراتهم، والبعض الآخر منها استعانت به من أرشيف بعض الدول، وقدمت خرائط متنوعة مختلفة توضح الاختلافات.

الموعود

أما فيلم المخرج المصري أحمد الغنيمي والمعنون بـ"الموعود" فيتحدث عن منطقة آثار الفسطاط والحراسة عليها ومنع الناس من السير بينها، لكن الدولة في نفس الوقت لا تقوم بفرض حماية جيدة لتلك المنطقة الأثرية شديدة الأهمية. رغم اللقطات الثابتة للمكان، للأطفال وهم يلعبون، للرجال الثلاثة أثناء جدالهم، رغم أهمية الفكرة، لكنه في النهاية يظل شيء أقرب؛ لتحقيق تليفزيوني، ليس به جهد إبداعي.

فيلم أكرم زعتري

أما لبنان فتشارك بفيلم "الهبوط" إخراج أكرم زعتري، وهو من الإنتاج اللبناني الإماراتي. كما تشارك أيضا في قسم "فورام" بفيلم: "كما في السماء كذلك على الأرض"، إخراج سارة فرانسيس. فاتني فيلم سارة؛ لتعارضه مع أحد الأفلام الأخرى المهمة، لكن الزملاء لم يتحدثوا عنه بشكل إيجابي. أما فيلم أكرم فحضرته وأصابني بالإحباط؛ لتراجع مستواه عن فيلم السابقة "ثمانية وعشرون ليلة وبيتاً من الشعر".

في شريطه الجديد يعتمد أساسًا الزعتري على التجريب في إصدار وتشكيل الأصوات، وبعض التكوينات البصرية، لكن التجريب به تمادي وإطالة زائدة على الحد، وتفقد التجريب معناه، إذا بدا وكأنه يملأ الوقت، ويعبئ شريطًا. وعمومًا هذا ليس العرض الأول للفيلم، فقد تم عرضه ضمن أحد المعارض في أبوظبي.

إذا استثنيا فيلم "نرجس" للجزائري كريم عينوز، لأنني لم أشاهده أيضًا بسبب تضارب مواعيد العروض مع أفلام أخرى دولية فضلت عدم تفويتها، فإنه يبقي حتى الآن الحضور العربي الوحيد المهم مُتمثلاً في اسم المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر في تحكيم المسابقة الدولية. وكذلك في اسم المخرجة المصرية هالة لطفي عضوًا في لجنة التحكيم للعمل الأول، هذه الفئة التي فاز بها قبل سنوات الفيلم التونسي "نحبك هادي" للمخرج محمد بن عطية، والذي حصل أيضًا مجد مستورة بطل الفيلم على جائزة أفضل ممثل هناك في ذات العام. إضافة إلى تواجد مركز السينما العربية والذي بدأ منذ ست سنوات بمشاركته في السوق، حيث يهتم بفتح نوافذ تُتيح اللقاءات مع المنتجين السينمائيين من حول العالم.

على جميع الأحوال تأتي المشاركة العربية الهزيلة على خلفيات دورة اتسمت بالضعف بشكل عام، تلك الدورة التي تختتم فعالياتها غدًا السبت حيث تُعلن الجوائز، ولنرى كيف ستتعامل لجان التحكيم مع الأفلام الألمانية وكذلك سينما المرأة على وجه التحديد، ومع الاثنين سيكون لنا وقفة لاحقًا.

 

موقع "مصراوي" في

28.02.2020

 
 
 
 
 

الجمهور يحمى المهرجان...

غياب عربي وحضور إيراني لا يعني بالضرورة سياسة!

طارق الشناوي

حرصت الإدارة الجديدة لمهرجان برلين، المكونة من كارلو شاتريان ومارييت ريسينيك، على وضع الجمهور كحائط صد وورقة رابحة لمواجهة المتشككين في قدراتهما على تحمل المسؤولية خلفًا لديتر كوسليك، الذي اقترب كمسؤول أول على مدى يقترب من عشرين عاما حتى حان وقت التغيير. الرئاسة الجديدة تحمل في عمقها أملًا في إحداث قفزة نوعية، وهو ما لم يحدث حتى الآن، ولا أترقب ذلك، بينما المهرجان يودع أيامه مساء الغد. كانت لدى الإدارة ورقة رابحة اسمها الإقبال الجماهيرى، من خلال التأكيد على أن الأيام الستة الأولى للمهرجان بلغت التذاكر المباعة بها نحو أكثر من ربع مليون، متفوقة بواقع 20 ألفا بالمقارنة بالأعوام السابقة، الاتهام الذي لاحق الإدارة الجديدة أنها لم تقدم دورة تليق بالرقم الاستثنائى (70).. ورغم أنه يسبق الماسى بخمسة أعوام، إلا أن دلالاته تعنى دخول المهرجان إلى بدايات عقده الثامن.. الترقب دائما أقوى من النتائج التي نراها ملموسة على أرض الواقع، قفز المهرجان فوق حاجز صلد، وهو الفيروس الصينى العابر للقارات (كورونا)، الذي احتل المركز الأول في الاهتمام الإعلامى، لما يحمله من خطر وشيك لعدوى سريعة الانتشار وغير مأمونة العواقب، إلا أنها لم تؤثر سلبا سوى في تراجع نسبة تمثيل الوفد الصينى، لأنهم لم يتمكنوا من الحصول على التأشيرات بسبب إجراءات تحذيرية وضعتها ألمانيا، مثل أغلب دول العالم أمام الصين، بل إن الدولة الصينية نفسها طلبت من مواطنيها تأجيل السفر، إلا للضرورة القصوى، رغم أنه من الناحية التاريخية فإن برلين، وبعد سنوات قليلة من بدايات المهرجان، تنبهت لأهمية تلك السينما ووضعتها داخل المسابقة الرسمية، ولم يخلُ الأمر من جوائز، وهو ما منح السينما الصينية بعدها مشروعية التواجد في العديد من المهرجانات الكبرى.. ولكن هذه المرة- وهو ما أتصور- سوف يسفر عنه أيضا مهرجان (كان)، الذي تبدأ فعالياته بعد 75 يوما، سيتكرر هذا الأمر المؤسف حقا. تجدر الإشارة إلى أنى في رحلتى إلى برلين عبر مطار باريس لم ألحظ مطلقًا أي إجراء احترازى متعلق بهذا المرض مثلما تابعت قبل نحو شهر ما يجرى مع القادمين لمطار القاهرة، حتى لو شاب الأخير قدرٌ من العشوائية.

الزحام هو البيئة الصالحة للمرض، ورغم ذلك، فإن الكمامات لا تشكل النسبة الملحوظة بين المتدافعين لمشاهدة أفلام المهرجان، الأغلبية تتسلح فقط بالمظلة للحماية من هطول المطر، الذي لم يسمح للشمس بالتعبير عن نفسها إلا فقط في مرة واحدة خجولة ويتيمة.

المهرجان أعلن مبكرًا عن موعد دورته القادمة الـ(71)، وسوف يعود مجددا لموعده في 11 فبراير، بعد أن اضطر إلى تغيير هذه الدورة بسبب (الأوسكار)، الذي كان قد غير موعده إلى 10 فبراير، فخضع (برلين) للأمر وانتقل للخلف 10 أيام ولم يتمسك بموقعه الزمنى، لأنه يعلم أنه الخاسر لو توافق مع مسابقة الأوسكار بكل ما تحمله من وهج إعلامى عبر 92 دورة.. تستطيع أن تقرأ أن المهرجان لا يتعالى أبًدا على الواقع في تعامله مع شركات الإنتاج أو الميديا.. سيعود الدورة القادمة الأوسكار إلى موعده القديم 28 فبراير وصار بينه وبين ختام (برلين) في العام القادم نحو أسبوع، ما يمنحه قدرًا من التفرد بـ(الميديا).

المهرجان لا يبدد طاقته في معارك جانبية مثل تلك التي أحيانا ما نجدها بين المهرجانات (العربية العربية)، أو (المصرية المصرية) التي يتمسك منظموها بالموعد السابق حتى لو تعارض مع مهرجان آخر في نفس التوقيت.

مهرجان (برلين) لديه قطعًا ملامحه الاجتماعية والسياسية، فهو لا ينكر توجهه.. ومنذ بدايات المهرجانات الثلاثة الكبرى في العالم، وهى طبقا للأسبقية التاريخية (فينسيا) 76، و(كان) 73، و(برلين) 70، وهى تعد بمثابة القوى الناعمة للتعبير بوسائل أخرى عن المعارك العسكرية في الحرب العالمية الثانية بين قوات الحلفاء والمحور، وسنلاحظ أن برلين يضع التوجه الاجتماعى في المقدمة، مثل تبنيه دعوة (مى تو) الذي يفضح المتحرشين وأيضا في الدفاع عن الحقوق الإنسانية للمهاجرين، حتى لو لم يلتزموا بقوانين الهجرة، وفى الدورة الماضية كانت (الطباخة) الرئيسية لحفلات المهرجان سورية الجنسية حتى تصل الرسالة بأن الترحيب قائم بأكبر نسبة للهجرة صارت في العالم، كذلك زيادة نسبة تمثيل المرأة في تنظيم المهرجان واحد من الأهداف الرئيسية.

ويبقى السؤال عن خفوت الحضور العربى، وهل هو متعمد لأنه على الجانب الآخر سنجد حضورًا إيرانيًا شبه دائم في برلين؟.. يجب أن نذكر أننا كعرب نحتفى أيضا بمهرجان (كان) أكثر، ويزداد عدد الأجنحة العربية في (كان) التي تتناثر سنويًا على شاطئ الريفييرا، ونجد في العادة تمثيلًا للمهرجانات وشركات الإنتاج، بينما نادرًا ما ألحظ ذلك في (برلين)، باستثناء مركز السينما العربية الذي يوزع اهتمامه بالعدل بين المهرجانين، ويحرص مديره ومؤسسه الباحث السينمائى علاء كركوتى على تحقيق تلك القسمة العادلة، وهذا العام منح وزيرة الثقافة التونسية شيراز العتيرى وسام شخصية العام، والتى تعذر حضورها، وعبر (سكايب) ألقت كلمة من تونس، وهى ثانى وزيرة ثقافة تونسية، حيث تم إسناد تلك المهمة قبل نحو 7 سنوات للمخرجة التونسية المعروفة مفيدة تلاتلى، إلا أنها لم تستمر طويلا.

«شيراز» شغلت قبل سنوات منصب رئيس المركز السينمائى التونسى، وهو ما يجعلها على معرفة بتفاصيل عديدة في إنجاز تلك المهمة في بلد بطبعه معجون بالثقافة والفن.

وتبقى السينما التي تتعدد مشاربها وتوجهات مخرجيها، ولدينا مثلا الأمريكى أبيل فيريرا وفيلمه السريالى (SIBERIA) سيبريا، وسؤال حتمى عن جدوى عرض مثل هذه الأفلام التجريبية في المهرجانات، وأيضا ما هي حظوظها في الجوائز، فهذا ما يستحق وقفة قادمة في الغد!!.

tarekelshinnawi@yahoo.com

 

المصري اليوم في

28.02.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004