كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

مهرجان برلين السينمائي - 1:

افتتاح مهرجان برلين بفيلم عن امرأة تنشد حرية القرار

برلين: محمد رُضا

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة السبعون

   
 
 
 
 
 
 

بدأ مهرجان برلين دورته هذا العام بدقيقة وقوف حداداً على أرواح من سقطوا في الحادثتين اللتين روّعتا مدينة هاناو الألمانية. وبذلك يظهر المهرجان موقفه غير الحيادي حول الحادثة العنيفة التي وُجهت ضد المهاجرين، حسبما صرّحت المصادر الرسمية الألمانية ذاتها.

مرتكبا الحادثة لم يضعا في بالهما مهرجان برلين، لكن المسؤولين مدركين أن الظروف العصيبة التي يمر بها العالم اليوم نتيجة الحروب التي سادت العراق وسوريا، وما تزال، قد تفجّر مواقف من هذا النوع.

ورغم ذلك، لا تلحظ تعزيزات أمنية غير معتادة: لا ترى قوى أمنية، من البوليس ومن الدرك وأجهزة أمنية أخرى، تتمشى في طول وعرض شوارع المهرجان، كما الحال في «كان» على سبيل المثال. بعض الموجودين هنا يعتبرون أن هذا دليل أمان مطلق، وبعض آخر يداهمه الشعور ببعض التوتر. وهذا البعض الأخير هو ذاته الذي استغرب عدم مشاهدة كمامات وقائية منتشرة بين الحاضرين في العروض الأولى للأفلام حتى الساعة، كما لو أن وباء «كورونا» لا يعدو كونه أكثر من مؤثرات وخدع سينمائية تقع في فيلم معروض خارج المكان.

- مشاريع جديدة

الغالب هو أنه حالما يعقد مهرجان العزم على دفع مسيرة دورته الجديدة إلى الأمام، فإن الأكثر أهمية من أي حادث أو خطر هو إنجاح الدورة، بكل ما تحمله من آمال وطموحات وجهد تم بذله طوال الأشهر السابقة؛ كل أرجائه ومنصاته وأقسامه تعمل كما لو كانت مصانع عليها ألا تتوقف قبل أن تؤمن الحد الأقصى مما تنتجه. وأحد هذه الأقسام «سوق الفيلم» التي تعقد كل سنة تحت اسم «يوروبيان فيلم ماركت». هذا العام لا يختلف في مستوى الجهد المبذول لجذب رجال الصناعة، من منتجين وممولين وموزعين، وتشجيعهم على إجراء العقود وإبرام الاتفاقات. وحقيقة أن «سوق الفيلم» في «كان» العام الماضي لم تشغل بال كثيرين، ولم تنتج عنها صفقات بمئات ملايين الدولارات كما التوقعات، شجعت السوق البرلينية على تعزيز نشاطاتها، ودعوة كثير من طاقم الصناعة لحضورها. هذا باستثناء الشركات الصينية التي لديها ما لديها من مشكلات نظراً لانتشار وباء «كورونا».

تميّزت السوق هذا العام بأنها تحمل عنواناً كبيراً، هو البحث عن «الطفيليات». فمنذ أن حظي «طفيلي» (Parasite( بأوسكاراته الأربع، وانطلق ليحقق أرقام بيع قياسية بالنسبة لفيلم كوري، والأعين مفتوحة على الفيلم الأجنبي الذي يمكن أن يعيد التجربة ذاتها هذا العام؛ التجربة التي مرّ بها فيلم بونغ دجون منذ عروضه في مهرجان «كان» السابق، والتي نتج عنها نجاحات كبيرة (نسبة للسينما غير الأميركية) في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وأكثر من رقعة أخرى حول العالم.

- المسألة تجارية محضة

«طفيلي» أكد أن هناك جمهوراً كبيراً للفيلم الجيّد الذي قد يقطف الأوسكار بيد، ويلتقط مئات ملايين الدولارات باليد الأخرى. وصل الموزّعون باكراً هذا العام، وتم إبرام العقد الأول حتى من قبل أن تفتح السوق أبوابها. شركة «A24» اشترت فيلم المخرجة كلير دنيس المقبل «نجوم الظهر» (The Stars at Noon) الذي يقود بطولته روبرت باتنسون ومرغريت كوايلي.

أحد المستفيدين من هذا الزخم الجديد للبحث عن «طفيلي» آخر هو المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد الذي أبرم مع شركة «مومنتو» الفرنسية عقداً لإنتاج فيلمه المقبل «صالون هدى»، وهي الآن تسعى لمبيعات مبكرة، حتى من قبل أن يبدأ أبو أسعد التصوير.

سيكون هذا الفيلم هو الأول للمخرج الذي سبق له أن رُشح للأوسكار في قسم أفضل فيلم أجنبي مرتين: الأولى سنة 2006 عن فيلمه «الجنة الآن»، والثانية سنة 2013. وفي هذا الفيلم الجديد، سيعاود التصوير في فلسطين المحتلة، مع منال عوض في دور امرأة تدير شبكة تجسس في صالونها، وعندما يتم اكتشاف أمرها تضطر للهرب.

مثل هذه المواضيع الشائكة تسعد المنتجين والموزعين الباحثين عن بلورة الأفلام إلى نجاحات بناء على تلك الأزمات والصراعات التي لا تزال قائمة؛ إنها عنصر اهتمام للباحثين عن أفلام تطرح مشكلات واقعية، و«صالون هدى» يبدو أحدها، فهو استلهام لقصة حقيقية (وقعت أحداثها في بيت لحم)، وبطلتها امرأة في زمن «مي تو»، والقضية الأكبر هي تكتلات القضايا القائمة بين فلسطين وإسرائيل، من دون التوغل في السياسة على نحو مباشر.

- فيلم الافتتاح

على أن «طفيلي» ليس وحده الذي يعزز هذه الطاقة الموجهة للبحث عن أفلام يمكن أن تحمل صدى بعيداً. فعام 2019 شهد نجاحات أخرى مهمّة في هذا الصدد، بينها «منارة» (Lighthouse) و«سكاكين مسلولة»، وهي أيضاً من تلك التي شقت طريقها المستقلة بنجاح عادة ما تحققه الأفلام الناتجة بالكامل من المصنع الهوليوودي.

وتشاء الصدف أن تكون مرغريت كوايلي، التي سنراها في فيلم كلير دنيس «نجوم الظهر» وهي تبحث عن حقيقة دورها في خضم أحداث أمنية تقع في أميركا الجنوبية، هي بطلة فيلم الافتتاح الذي عرض يوم أول من أمس (الخميس).

هي ممثلة صاعدة (كذا درجة في كل خطوة) منذ عامين. بدأت -أيضاً- بأفلام مستقلة، ثم اختارها كونتِن تارنتينو لدور واحدة من هيبيات فيلمه الأخير «ذات مرة في هوليوود»، وها هي الآن تقود بطولة «سنتي السلنجيرية» (My Salinger Year)، للمخرج الشاب فيليب فالارديو.

الفيلم مأخوذ عن رواية كتبتها جوانا سميث راكوف عن الفترة التي قضتها موظفة في وكالة بيع نصوص أدبية، قبل أن تكتب وتبيع روايتها الأولى. جوانا راكوف ولدت في نيويورك، وليس في مدينة أميركية أخرى نزحت منها إلى نيويورك، كما في الفيلم. لكن هذه المفارقة لا تكفي لوصف الفيلم بأنه لا يستلهم الرواية استلهاماً شبه كامل.

جوانا في الفيلم، كما تؤديها كوايلي، فتاة رومانسية وديعة تترك لوس أنجيليس، وتصل إلى نيويورك، ثم تتصل ببعض الأصدقاء لكي تبيت عندهم. تتعرّف على موظف في مكتبة، وترتبط معه بعلاقة حب. وقبل أن تصل الأمور إلى تبادل العواطف، كانت قد وجدت عملاً في تلك الوكالة التي تديرها امرأة صارمة اسمها مرغريت (سيغورني ويڤر). طموحات جوانا ليست العمل سكرتيرة، كما اكتشفت أن هذا هو حالها، بل أن تكتب وتبيع وتحقق مستقبل في هذا الميدان. العمل سيمنعها، والخلاف مع صديقها يستشري، ما يجعلها تكتشف أنها سوف لن تحقق ما تصبو إليه إلا من خلال الانفصال عنه والاستقالة من العمل.

خلال الفيلم، يتكاثر الحديث عن الكاتب الأميركي جيروم سالينغر (أو J. D. Salinger كما يُشار إليه). وهو بدوره كاتب فعلي برز في الخمسينات والستينات، ثم قاد حياة بعيدة عن الأضواء فيما بعد. وفي مطلع التسعينات (الفترة التي تقع فيها أحداث الفيلم)، يعاود الظهور (توفي مطلع سنة 2010) راغباً في التعاون مع الوكالة لنشر رواية جديدة. جوانا كانت على إلمام كبير بأعماله وتتوق لمقابلته، لكنها لا تتعرّف عليه (في الفيلم) إلا قبيل نهاية الفيلم عندما يأتي في زيارة.

سيغورني ويڤر لا تقود البطولة، لكنها تخطف الأنظار الممعنة كلما ظهرت؛ تجربة الممثلة الشابة مرغريت كوايلي حيال تجربة ويڤر صعبة المقارنة. نعم، كوايلي لديها البراءة والعزم والتمثيل الجيد الذي يبرز هاتين الخاصيتين، لكن ويڤر هي التي تجسد الشخصية كما لو كانت هي. حركاتها تصبح تلقائية، تخرج من شخصيتها الحقيقية لتصبح مديرة الوكالة بلا جهد يذكر.

فترة حاسمة

لكن الفيلم، الممعن في ترداد أسماء الروائيين والشعراء تأكيداً على خلفياته الأدبية، يعاني من ملل بعض فتراته. السيناريو جيد، لكنه يتلكأ في الوصول إلى النتائج التي هي في الأساس متوقعة، والنهاية لا تحمل شحنة قوية، بل تنساب بالهدوء نفسه.

ما يلعب الدور المهم هنا هو حسن تقديم نيويورك التسعينات. إنه عن المدينة التي كانت تمر في مفترق الفترة بين الآلة الطابعة والكومبيوتر، بين القديم والحديث، التقليدي والمعاصر، التي ما زالت تعكس هذا التوازن حتى اليوم. وهناك ذكاء معالجة من قبل المخرج الشاب (ثامن عمل له وأكبرهم حجماً)، واختيار مرغريت كوايلي في مكانه، والمخاطرة هنا تكمن في أنه لم يصنع فيلماً من بطولة امرأة من قبل، والآن يجد نفسه ليس أمام فيلم من بطولة نسائية، بل يدور حول شخصية حقيقية في الواقع.

كثير من التعليق والحديث للكاميرا، لكن هذا يمر في قناة مبررة، فجوانا تلجأ لقراءة رسائل القراء الذين يبعثون بخطاباتهم عبر الوكالة، لكن سالينغر كان قد طلب من الوكالة ألا تحوّل له أي خطاب. وتجد مرغريت نفسها منجذبة إلى الخطابات التي تحمل ردّات فعل تكشف عن شخصيات مرسلي الخطابات. ففي تعليقاتهم ورغباتهم في التواصل مع مؤلفهم المفضل، يكتبون عن أنفسهم ويشرحونها. وهذا يزكي علاقة جوانا بالحياة، وربما -وهذا ليس وارداً في الفيلم- كان واعزاً خفياً لترك الوكالة ومحاولة الاستقلال بقرارها للمرة الأولى.

- برلينيات

انتقد الرئيس دونالد ترمب فوز «طفيلي» في حفلة الأوسكار الجديدة، في خطاب ألقاه في ولاية كولورادو مؤخراً، فقال: «والرابح هو… فيلم من كوريا الجنوبية. لدينا ما يكفي من المتاعب التجارية مع كوريا الجنوبية. دعونا نعود إلى (ذهب مع الريح) و(صنست بوليفارد)… أفلام كثيرة عظيمة».

كما لم ينسَ براد بت من نقده. وكان الممثل قد انتقد الرئيس الأميركي إثر فشل محاكمته، فرد عليه الرئيس في خطابه قائلاً: «لم أكن معجباً ببراد بت. نهض وقال شيئاً متكلفاً. إنه شخص متكلف».

تتمتع السينما الألمانية بدعم حكومي قدره 300 مليون دولار في السنة، والنتائج الإيجابية بادية على هذه الدورة. وفي الحقيقة، إن عدداً كبيراً من الأفلام مدرج هذا العام للتنفيذ. أحدها أول فيلم ألماني عن رواية إريك ماريا ريمارك «كله هادئ على الجبهة الغربية» (All is Quiet on the Western Front) التي قامت هوليوود بتصويرها مرّتين (1931 و1979).

سخاء بولندي بالنسبة لعمليات دعم الصناعة السينمائية هناك، نتج عنه في العام الماضي تحقيق 23 فيلماً. إذا تم تصوير فيلم أجنبي في بولندا، فإن 30 في المائة مما تم صرفه في البلاد خلال التصوير سيعاد إلى المنتج. أما الميزانية المقررة لتحقيق أفلام بولندية، فقد بلغت 33 مليوناً و500 ألف دولار.

 

الشرق الأوسط في

22.02.2020

 
 
 
 
 

افتتاح باهت لمهرجان برلين 70: التغيير من أجل التغيير؟

برلين - هوفيك حبشيان

المصدر: "النهار"

الأشياء بدت مختلفة مساء الخميس في أرجاء قصر البرليناله الواقع في ساحة بوتسدامر: محطة المترو التي أقفلت بعدما اعتدنا الخروج منها، المركز التجاري الذي جلسنا فيه لسنوات أقفل ايضاً، بعض الصالات التي حذت حذو المركز، حفل العشاء الرسمي الذي انتقل من شارع إلى شارع. هذا كله كان ملحوظاً بوضوح تام منذ اليوم الأول لانطلاق الدورة السبعين لمهرجان برلين السينمائي (٢٠ شباط/ ١ آذار). وكأنها لعنة ديتر كوسليك الذي غادر الادارة ليسلّم المقاليد إلى كلٍّ من كارلو شاتريان (مديراً فنياً) ومارييت ريسنبيك (الادارة العامة). كوسليك الذي هيمن على التظاهرة السينمائية الأضخم في ألمانيا طوال نحو عقدين من الزمن، حافظ على استقرارها لسنوات، ليس من دون هجوم شرس وُجِّه ضده في السنوات الأخيرة. استقطب الرجل عدداً كبيراً من النجوم والأفلام المهمة والقامات الأوروبية الكبيرة، جاعلاً من البرليناله أحياناً منصّة لإطلاق المواقف السياسية. وهناك، منذ الآن، مَن بدأ يفتقده!

المشهد كان أبوكاليبتياً بحقّ. هذا ما عدا التفاصيل المتعلقة بالبرمجة: اضافة من هنا وحذف من هناك… وكأن "التغيير من أجل التغيير" هو شعار المرحلة.

مقابل حزمة التغييرات المرتقبة، لا يوجد أي نية عند القائمين على المهرجان في جعل هذا الحدث السنوي أقل تسييساً. فالبرليناله لا يزال من المهرجانات الأوروبية النادرة التي تعطي الكلمة لمسؤولين سياسيين ليلة الافتتاح، متيحةً لهم القاء خطب طويلة مشحونة بالنيات الحسنة. وبما ان الدورة تحمل الرقم ٧٠، فهذا يفتح المجال للمزيد من اعلان المواقف والسرديات الايديولوجية التي تضع تاريخ المهرجان في قلبها. فمَن لا يفهم الألمانية، ولم يحرص على وضع سمّاعات الترجمة الفورية على اذنيه مساء الخميس خلال الافتتاح، أغلب الظن انه سمع جيداً أسماء مثل هتلر وألفرد باور، مؤسس المهرجان الذي كانت تُمنح جائزة باسمه قبل ان تُلغى هذا العام بسبب فضح جريدة ألمانية قضية تورطه في النازية. فكلّ شيء هنا في المهرجان، مرتع اليسار الألماني، عرضة للتجاذب السياسي، من قضية اللاجئين إلى فتح صفحات قديمة من التاريخ الألماني المعاصر.

التوصيف بأن المهرجان سياسي، دقيق وليس دقيقاً كان يقول كوسليك في احدى مقابلاتنا معه. تأسّس البرليناله خلال الحرب الباردة العام ١٩٥١، وهذا الادعاء أنه مهرجان سياسي يتأتى من كون برلين كانت دائماً عاصمة للسياسة، وخصوصاً في كلّ ما يختصّ بالعلاقات بين الغرب والشرق. بحسب كوسليك "أحد المبادئ التأسيسية لهذا المهرجان هو خلق تفاهم بين البشر. قبول الآخر والتسامح ركيزتان هنا. يا للأسف، هذا الكلام اليوم يُصنَّف في إطار السياسة. ما إن تنطق بإحدى تلك المفردات، حتى تُتهَّم بالتدليس السياسي. هذه أمور يجب أن تكون طبيعية في عالمنا، لكن عالمنا ليس في وضع جيد. بهذا المعنى، نعم، نحن مهرجان أكثر ميلاً للسياسة مما هي حال المهرجانات الأخرى".

يجب التأكيد ان الأجواء المهيمنة على البلاد، لم تساعد لاجراء افتتاح "مسالم"، منفصل عن مجمل ما يحدث على أرض الواقع، إلى درجة انه فرض نفسه فرضاً. نتيجة ذلك، تم الوقوف دقيقة صمت تكريماً لضحايا الاعتداء الإرهابي الذي وقع قبل ساعات من الافتتاح في مدينة هاناو (ولاية هيسن) غرب البلاد. استغل المخرج الكندي فيليب فالاردو، صاحب فيلم الافتتاح "عامي مع سالينجر"، ليبدي تضامنه مع الشعب الألماني قائلاً ان فيلمه يجلب ضوءاً صغيراً في زمن الاضطراب.

وكانت الصحافة شاهدت فيلم الافتتاح هذا قبيل عرضه الرسمي بساعات. أقل ما يقال انه لا يليق بافتتاح مهرجان من مكانة برلين. ليس لأنه لا تتوافر فيه عناصر الجذب، من نجوم وموضوع وضخامة مشروع، ولكن لأنه يجسّد كلّ ما هو وسط سينمائياً. لا نستطيع ان نطلق عليه لا صفة الجودة ولا صفة السوء. هو في مكان ما بين كلتا الصفتين، هناك حيث الكثير من الأفلام تبدأ وتنتهي. نوع العمل السينمائي الذي تنساه في اللحظة التي تضع فيها قدمك خارج الصالة. حتى المخرج بدا انه لم يصدّق ان فيلمه اختير للافتتاح. أحد الصحافيين نقل ما يأتي عنه: أنجزتُ فيلماً متواضعاً من دون ان أطمح إلى الوصول لمرتبة "كونغوراما" و"السيد لزهر". يصعب التصديق ان فالاردو ذكر فيلمين من أفلامه كشيء يجب الامتثال به. هاكم مخرجاً يعترف انه لم يرتقِ إلى نفسه، وهي أصلاً، ليست ذات شأن كبير.

بعيداً من أي جدل أو مهاترة يمكن ان يحدثهما خيار كهذا في مهرجان صفّ أول يدّعي أنه يجمع زبدة الأفلام، يمكن التوقف عند نقاط عدة أبرزها الموسيقى والتمثيل في عمل فالاردو. الفيلم مسرحه نيويورك التسعينات (صُوِّر في مونتريال)، وهو عن سيرة جوانّا راكوف (مارغريت كوالي). نشهد دخولها إلى مكاتب ج. د. سالينجر الأدبية التي تديرها سيدة صارمة في منتهى الجدية والوضوح (سيغورني ويفر). تفوز جوانّا بوظيفة السكرتيرة المساعدة لها، عليها ان تطالع رسائل القراء التي تصل إلى سالينجر وترد عليهم، وتقوم بأعمال كثيرة لمصلحة الكاتب الذي كان يعيش كناسك بعيداً من الأنظار. في موازاة ذلك، تعيش مارغريت قصهها الصغيرة، علاقات وانفصال، وتحاول ايجاد مكان لها داخل وسط ثقافي يتميز بالطبقية.

This ad will end in 14

رواية سالينجر، "الحارس في حقل الشوفان"، لطالما ألهبت قلوب المراهقين. عبّر فيها عن هواجسهم. آلاف الرسائل كانت تصله من المعجبين والمعجبات، لكن الكاتب كان قرر عدم الرد عليهم منذ أكثر من ٤٠ سنة، وكان يكلف شخصا آخر لهذه المهمة، مستخدماً نماذج عدة لردود جاهزة.

الفيلم ليس عن سالينجر، ولا ينشغل به كثيراً. لنتفق على هذه النقطة. هذا فيلم عن فتاة في الخامسة والعشرين طموحها الكتابة، وطيف سالينجر الملقى عليها سيكون ذا مردود كبير. هناك متعة معينة في اقتحام بيئة الكاتب. هو غائب عنها تماماً لكنه حاضر في أدق تفاصيلها. المتعة الأخرى تتمثّل في رؤية زمن آيل إلى السقوط، مع كلّ ما يمثّله في الوجدان الأدبي. التكنولوجيا الحديثة، أكانت رسائل الكترونية أم كومبيوترات، تجعل الطباعة على الدكتيلو والمراسلة التقليدية أشياء تنتمي إلى الماضي، رغم اصرار مديرة المكتب على الحفاظ عليها. وسط هذا كله، تمثّل الوافدة الجديدة مارغريت، دمّاً جديداً. ستدخل بعض الروح إلى مكان، نام فيه الزمن إلى الأبد. مكان يحرسه ناس يكبرونها سنّاً وتجربة وخبرةً ومهمتم الوحيدة هي صون ارث الكاتب الذي لم يقدّم أي جديد منذ ٣٠ عاماً. الميزات النادرة التي يملكها الفيلم تخرج من هذه النقطة تحديداً: الكونتراست بين عالم على وشك الانهيار، بقيمه ورموزه ونظرته الجامدة إلى الأشياء، وعالم لم يولد بعد كلياً. وفي هذا يشبه الفيلم ما يحل بالمهرجان حالياً، بعد تسليم السبعيني كوسليك الدفة إلى الأربعيني شاتريان.

بالرغم من ان مارغريت تجسّد الوجه المضيء والواعد لهذه البيئة، والبقية ليسوا سوى ماضٍ وأفكار متصلّبة، فإن الشخصيات التي يقدّمها الفيلم لديها ما يكفي من الثقة في ذاتها لنتعلّق بها حتى لو لم نحبّها ولم نؤيدها. هذه حال سيغورني ويفر على سبيل المثل. هي شخصية "سلبية" في تعاطيها وسلوكياتها اليومية، ولكن يتبين مع الوقت ان مارغريت مفتاحها.

في المقابل، لا نجد أي شيء شخصي في الفيلم، بالرغم من تصريحات المخرج التي تقول العكس. ان يتماهى مع شخصية مارغريت، فهذا لا يجعل الفيلم ذا طابع شخصي. لم نرَ الا عملاً تنفيذياً يتراوح بين الجيد والمتوسط. إيقاع يحافظ على تماسكه أحياناً وتعاقب المَشاهد، قبل ان ينكمش في أحايين أخرى. بالتأكيد، هناك لحظات جميلة، هنا وهناك، لكن مجمل العمل يبقى باهتاً، على غرار الطعام الصحي الذي تم تقديمه في سهرة الافتتاح. هذا فيلم يقول ما لديه ثم يضب أشياءه ويمضي، من دون ان يصمد في الذاكرة. وأكاد أجزم ان أحداً لن يتذكّره في نهاية المهرجان.

الأيام القادمة ستتيح لنا اكتشاف المسابقة بأفلامها الـ١٨ التي يترأس لجنة تحكيمها الممثّل جيريمي أيرونز، وكذلك الأعمال المعروضة في أقسام البرليناله. هناك هذا العام تحت إدارة شاتريان، عدد من السينمائيين الذين لا يسدّون جوع السينيفيليين، لكن الرهان عليهم قد يكون في محله اذا ما قدّموه على مستوى عال فعلاً. أكثر من نصف عدد المخرجين المشاركين في المسابقة ليسوا بعد من أصحاب الدهشة السينمائية. في المقابل، ان ساحة مارلن ديتريتش على موعد في الأيام المقبلة مع أسماء مثل فيليب غاريل وتساي مينغ ليانغ وأبيل فيرارا وهونغ سانغ سو. لننتظر ماذا ستحمل لنا هذه الدورة التي انطلقت من دون حماسة.

 

النهار اللبنانية في

22.02.2020

 
 
 
 
 

الافتتاح مع فيلم عن الأدب والحب والحياة:

طيف ج. د سالينجر يخيّم على البرليناله

شفيق طبارة - رسالة برلين

برلين | بفيلم لطيف وأنيق (خاصة في الأزياء)، ودقيق، يتحدث عن عالم الأدب، لا يفتقر إلى الحسية، ولا يقدم شيئاً.... آمن إلى درجة الملل... بريء، ليس أصيلاً ولا يثير اهتماماً، افتتح «مهرجان برلين السينمائي» دورته السبعين أول من أمس. «سنتي مع سالينجر» (خارج المسابقة الرسمية) هو عنوان الفيلم الذي اختارته الإدارة الجديدة لافتتاح المهرجان. شريط مقتبس عن رواية (مذكرات بالاسم نفسه) لجوانا راكوف من إخراج الفرنسي الكندي فيليب فالاردو، مخرج فيلم «السيد لزهر» (2011)، الذي حصد جائزة الجمهور في «مهرجان لوكارنو السينمائي» (سويسرا)، وتم ترشيحه لجائزة «أوسكار» أفضل فيلم أجنبي في العام نفسه.

«الحارس في حقل الشوفان» رواية مميزة وأحد أكثر الكتب شعبية في القرن العشرين. مؤلفها ج. د. سالينجر (1919 ــ 2010) كان ولا يزال لغزاً. انسحب وعاش في عزلة في وقت مبكر في الستينيات. الرسائل التي لا تعد ولا تحصى التي يبعث بها إليه المعجبون ومخرجو الأفلام والناشرون والصحافيون، تذهب مباشرة إلى وكيلته الأدبية التي تضعها في قطّاعة الورق بعد الرد بطريقة وجيزة. أحد الأمناء المكلفين بكتابة الردود والرفض هو جوانا راكوف، التي جاءت الى نيويورك في منتصف التسعينيات بحلم أن تصبح كاتبة. بدأت رحلتها كمساعدة في إحدى أقدم الوكالات الأدبية في نيويورك. تجربتها في الرد على الرسائل، وبكونها مؤلفة طموحة، وضعتها راكوف في كتاب، حوّله المخرج فالاردو بدوره إلى فيلم سينمائي. والنتيجة شريط تدور أحداثه في خريف 1995، يضم ممثلتين تستحوذان على الشاشة كلها بعفوية، خاصة سيغورني ويفر كمديرة صارمة، خلف روح طريفة.

في الواقع، تزعم جوانا (مارغريت كوالي) أنها جاءت إلى نيويورك لزيارة صديقتها، لكنها أرادت البقاء لتصبح كاتبة. تعيش في شقق رثة، وتكتب في المقاهي. هذه كليشهات تريد جوانا أن تعيشها. بدا الأمر في وكالة مارغريت (سيغوري ويفر) الأدبية، حيث أهم عملائها هو سالينجر نفسه. إحدى مهمات جوانا الأولى هي قراءة الرسائل المبعوث بها الى عنوان الوكالة لسالينجر والرد عليها، بعبارات الرفض نفسها التي لم يتم تحديثها منذ 30 عاماً. بينما تحاول جوانا التوفيق بين حياتها العاطفية وطموحها ككاتبة ووظيفتها كمساعدة، تتأثر ببعض رسائل المعجبين، إلى درجة أنّها لا يطاوعها قلبها لوضعها في آلة تقطيع الورق قبل الرد عليها بطريقة شخصية!

تدور أحداث الفيلم في التسعينات، لكنه في الواقع يبدو كما لو كان في الثمانينيات أو حتى السبعينيات. لا تزال الوكالة تستعمل الآلة الطابعة، والعالم يقرأ الصحف المطبوعة. هناك ركن للتكنولوجيا في الوكالة، ولكن هذه الشكوك حول التكنولوجيا هي إحدى الطرائف الدائمة في الفيلم. هو عمل عن الادب والحب والحياة، لكنه ساذج، بسذاجة الجملة السابقة. هذه الدراما الخفيفة بالتأكيد، ليست لعشاق سالينجر. إنّها ضحلة جداً لتكون كذلك بصراحة. فالشيء الوحيد المقنع هو طاقم التمثيل. الفيلم خفيف بطريقة تعسفية، لا يؤذي أحداً، شخصياته سطحية وشاحبة، غير واضحة، تفتقر الى العمق النفسي، ويصعب فهمها على المستوى العاطفي. ما أراده المخرج هو القليل من الدراسة الاجتماعية والثقافية والعاطفية، والقليل من التكريم لنيويورك، ونكهة نسوية (حديثة) خفيفة، ولكن هذا القليل من كل شيء يبقى عاماً بشكل مثير للضجر.

ما تبقى هو قصة جميلة، شوهدت سابقاً ولكنها أكثر شخصية الآن (لأنها قصة حقيقية). فيلم افتتاحي متواضع، يرضي بطريقة ما الجميع، فقط لأنه مألوف، خفيف وليس متطلباً. يعامل الكلمة والكتاب باحترام، رشفة من الماضي القريب، حيث الحلم كان أسهل!

 

الأخبار اللبنانية في

22.02.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004