كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

من "غولدن غلوب" إلى "أوسكار"

نديم جرجوره

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

الدورة الثانية والتسعون

   
 
 
 
 
 
 

لعلّ السؤال الأبرز، الذي تُثيره لائحة الترشيحات الرسمية لأفلام "أوسكار" 2020 (13 يناير/كانون الثاني 2020)، يكمن في سبب منح "جوكر" لتود فيليبس 11 ترشيحاً، لأنّ كثيرين يرون أنّه غير مستحقّ هذا العدد الكبير، قياساً إلى قيمته السينمائية العادية، التي يتفرّد واكين فينيكس فيها، لبراعته الاستثنائية في تأدية دور الجوكر، العدو اللدود لـ"باتمان". ومع أنّ ارتياحاً كبيراً ينتاب مهتمّين بالسينما، بفضل نيل "الإيرلندي" لمارتن سكورسيزي 10 ترشيحات، تماماً كـ"حدث ذات مرة... في هوليوود" لكوانتن تارانتينو و"1917" لسام مانديس، إلاّ أنّ التساؤل مشروعٌ بخصوص تفوّق "جوكر" على الأفلام الثلاثة تلك بعدد الترشيحات، الذي ربما ينسحب على الجوائز أيضاً، علماً أنّه نال 4 ترشيحات رسمية لجوائز "غولدن غلوب" الـ77 (5 يناير/كانون الثاني 2020)، فاز بجائزتين اثنتين منها فقط، في فئتي أفضل ممثل في فيلم درامي، حصل عليها واكين فينيكس، وأفضل موسيقى، حصلت عليها هيلدور غوينادوتّي (هذه الفئات نفسها مُرشّحة لـ"أوسكار" أيضاً، ضمن الـ11 ترشيحاً).

المقارنة النقدية، التي تفرضها مناسبةٌ كهذه (تُمنح جوائز "أوسكار"، بنسختها الـ92، في 9 فبراير/شباط 2020)، تعكس فرقاً كبيراً في القيم السينمائية بين الأفلام الأربعة هذه، لصالح اشتغالات سكورسيزي (الترشيح التاسع له كأفضل مخرج) وتارانتينو (الترشيح الثالث في الفئة نفسها) ومانديس (ترشيحان اثنان)، علماً أنّها المرّة الأولى التي يحصل فيها تود فيليبس على ترشيحٍ كهذا. سكورسيزي يحصل على جائزة أفضل مخرج عام 2007، عن "المُرحَّل" (2006)، بالإضافة إلى جائزة أفضل فيلم. بينما يحصل تارانتينو على 3 تماثيل "أوسكار"، اثنان منها في فئة أفضل سيناريو أصلي، عن فيلمي "بالب فيكشن" (1994) و"دْجانغو غير المقيَّد" (2012)، علماً أنّ The Hateful Eight، المُنجز عام 2015، حاصلٌ على "أوسكار" أفضل موسيقى، بفضل اشتغالات إنّيو مورّيكوني. أما سام مانديس، فحاصلٌ على "أوسكار" أفضل مخرج عن "جمال أميركي" (1999) في نسخة العام 2000.

المقارنة النقدية تكشف أنّ هناك رغبة هوليوودية عارمة تستمرّ في الترويج لـ"جوكر"، غير المحتاج أصلاً إلى مزيدٍ من الترويج. فنجاحه التجاري كبيرٌ (مليار و68 مليوناً و915 ألفاً و502 دولار أميركي إيرادات دولية، منذ بدء عروضه التجارية في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2019، مقابل ميزانية تبلغ 55 مليون دولار أميركي فقط)، رغم انتقادات كثيرة توجَّه إليه، جرّاء فراغٍ يُعانيه في جوانب عديدة، باستثناء الأداء الباهر لواكين فينيكس. لكنّ ترشيحات أخرى ينالها الفيلم في فئات تقنية وفنية عديدة تبدو مقبولة، رغم نيل أفلام سكورسيزي وتارانتينو ومانديس ترشيحات فيها أيضاً، وأبرزها: أفضل موسيقى وميكساج ومونتاج وأزياء وماكياج وديكور وتصوير، بالإضافة إلى السيناريو، في جانبيه الأصلي (تارانتينو ومانديس) والمقتبس (فيليبس وسكورسيزي).

للأرقام أهمية بالنسبة إلى كثيرين، من دون أنْ تحول الأرقام دون التنبّه النقديّ إلى الجماليات السينمائية المختلفة. هؤلاء الكثيرون ينتظرون 9 فبراير/شباط المقبل لمعرفة "النتائج النهائية" لـ"أوسكار 92"، قبل تفرّغهم لمتابعة يومياتهم، بانتظار موعد العام المقبل. ولعلّ غالبية هؤلاء يتناسون أنّ للسينما جوائز أخرى، لن تكون أقلّ أهميّة من "أوسكار"، وإنْ تكن جوائز "أوسكار" أكثر شعبيّة عالمية، تليها مباشرة جوائز "سيزار" (المُعادل الفرنسي لـ"أوسكار")، التي تُعلَن نتائجها الرسمية في الحفلة الـ45، في 28 فبراير/شباط 2020.

بين الأفلام الأربعة تلك، يتفرّد "الإيرلنديّ" بأن إنتاجه عائدٌ إلى المنصّة الأميركية "نتفليكس"، التي يزداد حضورها، عاماً تلو آخر، في المشهد السينمائي الدولي، والتي تبدو أكثر انفتاحاً على عرض إنتاجاتها في الصالات السينمائية التجارية، إمّا كسباً لمزيد من المُشاهدين، وإمّا رغبةً في التنافس على الجوائز، وأبرزها "غولدن غلوب" و"أوسكار". وفي مقابل ميزانية تبلغ 159 مليون دولار أميركي (بحسب IMDb)، المعروض على شاشة المنصّة منذ 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، تُحقِّق عروضه التجارية تلك 961 ألفاً و224 دولارا أميركيا فقط، بينما تُشير "فارايتي" إلى أنّ 17 مليوناً و100 ألف مُشاهد أميركي تابعوا الفيلم على "نتفليكس"، في بلدٍ (الولايات المتحدّة الأميركية) يضمّ 60 مليون مشترك في المنصّة. وتُشير المجلة الأميركية نفسها إلى أنّ 18 بالمائة فقط منهم شاهدوه كاملاً (210 دقائق) في اليوم الأول لعرضه، متفوّقاً بذلك على "إل كامينو" (2019) لفينس غيلّيغان بـ11 بالمائة، في اليوم الأول لعرضه، في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2019.

التنافس، الذي تُغذّيه شركات إنتاجية وشبكات ضغط وترويج، مستمرّ في ممارسة "ألاعيبه" المعهودة في هذا المجال، وهذا مشروعٌ، فالاستديوهات محتاجة إلى مراكمة الجوائز، لتحسين مواقعها الإنتاجية، ولرفع عدد المُشاهدين أيضاً، إذْ يُعرف أنّ للجوائز الممنوحة للأفلام المُرشّحة، أثناء عروضها التجارية، دوراً إيجابياً في ذلك. وإذْ يتفوّق "جوكر" بإيراداته الدولية، فإنّ فيلمي "1917" و"حدث ذات مرّة... في هوليوود"، اللذين تبلغ ميزانية كلّ واحد منهما 90 مليون دولار أميركي، لا تزال إيراداتهما الدولية، لغاية الآن، أقلّ من نصف مليون دولار أميركي: فللأول 66 مليوناً و672 ألفاً و784 دولارا أميركيا إيرادات دولية، منذ بدء عرضه في 25 ديسمبر/كانون الأول 2019؛ وللثاني 372 مليوناً و432 ألفاً و296 دولارا أميركيا إيرادات دولية، منذ 25 يوليو/تموز 2019.

والتنافس يشتدّ بين فيلمي سام مانديس وكوانتن تارانتينو في فئة أفضل فيلم، بعد فوز الأول بـ"غولدن غلوب" أفضل فيلم درامي، والثاني بـ"غولدن غلوب" أفضل فيلم موسيقي أو كوميدي، في حين أنّ لـ"أوسكار" جائزة واحدة في هذه الفئة، هي "أفضل فيلم".

مع "غولدن غلوب"، يبدأ موسم الجوائز التي تمنحها مؤسّسات سينمائية في دول مختلفة. ومع "أوسكار"، يشتدّ التنافس والتوقّعات، بانتظار النتائج.

 

العربي الجديد اللندنية في

16.01.2020

 
 
 
 
 

فيلم "1917" ليس أفضل الأفلام عن الإنسان في الحرب

أمير العمري

لا تكف السينما عن إنتاج الأفلام عن الحرب، سواء التي تتغنى بالبطولات، أو التي تناهض الحرب وتصور أهوالها بغرض التحذير منها ومن التورط فيها. وأحدث هذه الأفلام هو الفيلم البريطاني "1917" الذي حصد مؤخرا جائزتي أفضل فيلموأفضل إخراج في مسابقة "غولدن غلوبس".

من الصحيح أن الحرب تشهد الكثير من التضحيات، لكن الحرب ليست صنعة أو حرفة جيدة للإنسان خاصة الشباب الصغير السن، البريء، الذي لم يبدأ حياته بعد ولم يتطوع أصلا لكي يصبح إحدى آلات القتل الاحترافية بل أُرغم على الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية عندما كانت حالة الصدام المسلح تقتضي ذلك، كما حدث للشباب البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى ثم الثانية.

ولابد أن يكون فيلم "1917" للمخرج المرموق سام ميندز، أحد أكثر أفلام الحرب حظاً، لكونه صُنع في عصر تكنولوجيا السينما الرقمية، مما أتاح لمخرجه سام ميندز ومصوره روجر ديكنز، أن يختبرا مدخلا جديدا في التعامل مع المادة والموضوع والمجال المصور، بعد دراسة وافية ومتعمقة لكل تضاريس المكان وإعادة تشكيله لكي يحاكي ما كانت عليه الجبهة الفرنسية قرب نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918). ولكن هل نجح سام ميندز في خلق شكل جديد يخدم الموضوع، وهل وفق في خلق بناء درامي مقنع وقوي البنيان مع زميلته كريستي ويلسون كارينز التي شاركته كتابة السيناريو؟

استمع ميندز- كما يذكر لنا في نهاية فيلمه من خلال العبارات التي تظهر على الشاشة- إلى حكايات جده الذي شارك في الحرب العالمية الأولى كجندي بريطاني في بلجيكا. والتقط من هذه الحكايات قصة جنديين شابين يُكلفان بمهمة صعبة خلف خطوط الألمان، لتوصيل رسالة الى الجنرال ماكنزي قائد الفرقة الثانية، توجب عليه الغاء الهجوم الذي يستعد لشنه على الألمان المنسحبين من المنطقة خلال ساعات، بعد أن ثبت أن الألمان أعدوا بإحكام، كمينا سيقع فيه 1600 جندي بريطاني ويلقون حتفهم جميعا.

يقع الاختيار على المجند سكوفيلد لتوفر الدافع القوي لديه لكون شقيقه الضابط موجود ضمن الفرقة التي يمكن أن تلقى مصيرها بالموت. ويُطلب منه اختيار من يرافقه فيختار أقرب الموجودين إليه وهو بليك. وبينما يتحمس سكوفيلد لأداء المهمة، ويبدو أكثر اتساقا مع دوره، يبدو بليك مترددا، يخشى عواقب المهمة الثقيلة خاصة وأنه يتعين على الاثنين قطع الطريق الى الجبهة سيرا على الأقدام، وأن عليهما انجاز المهمة خلال ست ساعات فقط.

ما يحدث خلال تلك الرحلة يمكن تخيله من مشاهد شبيهة بما سبق أن شاهدناه في أفلام الحرب، دون إضافة حقيقية أو تصعيد مثير في الحبكة، أو التعمق بعض الشيء في الشخصيتين الرئيسيتين، بحيث يجعلنا نعرف بعض الشيء عنهما، وعن حياتهما وانتمائهما العائلي وخبرتهما في الحرب قبل قبول هذه المهمة.. ما يمكن أن تفجره المهمة من مشاعر أو أحاسيس وجودية إزاء العالم.. وغير ذلك. فلا يحدث الكثير في الفيلم الذي تعرف مسبقا كيف سينتهي، فقط سنرى كيف يلقى سكوفيلد مصرعه على يدي طيار ألماني أنقذه الاثنان وكانا يحاولان مساعدته بدلا من أسره، في مشهد مرتبك كثيرا ومن خلال أداء غير مقنع بل يبدو أقرب الى تمثيل الهواة المبتدئين، الاستقبال المباشر له هو أن البريطانيين نبلاء والألمان أوغاد.  

يصبح بليك وحيدا، يخوض بمفرده الرحلة من دون خبرة قتالية أو معرفة بطبيعة المنطقة أو العدو. لكن المطلوب منا أن نصدق أنه يتمتع بشجاعة خارقة، وقدرة خاصة على التماسك واصطياد العدو والإيقاع به في كل المواجهات، والافلات من الجندي الذي يطارده ويطلق عليه الرصاص من على مسافة أمتار خلف ظهره مباشرة. فبليك يصبح "سوبرمان"، لا تصيبه الرصاصات التي تنهمر عليه سوى بجرح سطحي بسيط.

الكاميرا هي البطل

لكن ليس هذا كله مهما، فالمهم أن يجرب سام ميندز مع مصوره البارع، تقنية توحي بأن الفيلم كله مصور في لقطة واحدة ممتدة تتحرك خلالها الكاميرا باستمرار، تلهث وراء البطل وهو يجري داخل الخنادق التي حفرها الجنود، أو وهو يعبر في صباح اليوم التالي، فضاء مفتوحا مع انطلاق الفرقة البريطانية فتنهال القنابل على الجميع من كل حدب وصوب، بينما يقفز بليك ويتجنبها ببراعة وينجح نتيجة معجزة ما، في تجاوز منطقة الخطر والوصول الى القائد قبل أن يصدر أمر إرسال "الموجة الثانية" من جنوده إلى الموت!

لم يصور الفيلم بالطبع في لقطة واحدة، وإلا لكان قد امتد لساعات عدة أو ليوم وليلة بالتحديد، وهو زمن أحداث الفيلم، وإنما صُور على لقطات طويلة تستغرق الواحدة منها ليس أقل من 10 دقائق، واستخدمت التقنية الرقمية الحديثة في إخفاء أماكن "القطع" أي توقف الكاميرا ونهاية اللقطة والانتقال الى اللقطة التالية.

هذا الأسلوب السينمائي المصطنع الذي لا تتوقف فيه الكاميرا عن التحرك، يعيبه أمران: الأول أنه يشتت الرؤية ويعيق الاندماج في الموضوع نفسه. والثاني: أنه يحرف الفيلم بعيدا عن التركيز على المشاعر والرؤية ويجعل ما نشاهده كله يأتي- ليس من وجهة نظر الجندي الذي يرحل عبر "الجحيم"، بل من وجهة نظر المصور المحايد الذي "يسجل" عن مسافة، تلك المغامرة الشاقة. يؤدي هذا الأسلوب أيضا، إلى أن يصبح أهم ما يشغل بال المتفرج هو "الأسلوب" دون أن يكون موظفا لخدمة هدف درامي محدد. فما الذي تضيفه الحركة الملتوية المستمرة للكاميرا بعيدا عن الإيحاء (المكشوف) بالطابع "التسجيلي"!  

والإيحاء بتصوير الفيلم في لقطة واحدة ممتدة ليس جديدا، فقد سبق أن استخدم هيتشكوك هذا الأسلوب في فيلمه الشهير "الحبل"The Rope ، واليخاندرو غونزاليس في "بيردمان" Birdman. أما من استخدم اللقطة الواحدة فعلا وليس كحيلة مصطنعة، فهو سوكوروف في "القوس الروسي" Russian Arcثم سباستيان سكيبر في "فيكتوريا"، لهدف جمالي يتسق مع طبيعة الفيلم نفسه.

إن أي فيلم يصور الحرب يريد عادة أن يلتقط ما يحدث من زوايا مختلفة متعددة، فللحرب وجوه كثيرة وأبعاد مختلفة وزوايا متعددة وهو ما يصوره ببراعة فيلم "دنكرك" لكريستوفر نولان، لذلك يفقد فيلم "1917" الحميمية والتفاعل الإنساني بين الجمهور وبطله الشاب ويصبح اهتمام الجمهور مركزا على الطابع المبهر للحركة. في هذا السياق أيضا يصبح الجنود الكثيرون المنتشرون على جانبي الخنادق وفي الجبهة عموما، مجرد ديكور خارجي يستكمل الملامح الهائلة التي خلقها مصممو المناظر (الجثث المتآكلة الملقاة على الرمل، الفئران وطيور الغربان التي تنهش فيها)، أي يصبحون مجرد "كومبارس".

يجب أن أقر أيضا بأنني لم أجد ما يثير الفكر والخيال في مشهد بليك وسكوفيلد وهما يفتشان عن الطعام داخل خندق تحت الأرض هجره الألمان بينما الفئران تتسلل ثم يتسبب أحدها في تفجير شرك خداعي يؤدي إلى انفجار هائل يكاد يفقد بليك حياته. كما بدا المشهد الطويل لبليك مع امرأة فرنسية ترعى طفلا رضيعا داخل منزل محطم في الريف الفرنسي، حيث يقدم بليك الحليب الذي حصل عليه من مزرعة مهجورة للرضيع، بدا مشهدا فاقد الإيقاع، ومصنوعا فقط للإثارة العاطفية. 

رؤية سطحية

إن رؤية سام ميندز عن الحرب في "1917" رؤية سطحية، من الخارج، تفتقد للبعد الإنساني بل وتبدو أقرب إلى الترويج "الدعائي" للبطولة والاحتفاء بالحرب، وتجميلها، تغيب عنها القدرة على التأمل في المصير الإنساني. وفي كل الأحوال، لا ترقى إلى مستوى التعبير الشعري، على العكس- مثلا- من رؤية تيرانس ماليك في "الخيط الأحمر الرفيع" The Thin Red Line(1998). ففي ذلك الفيلم كان هناكبطل وجودي يطرح عشرات التساؤلات حول الحرب، الجحيم، الطبيعة، الإنسان، العثور على الهوية من خلال القتل، أي على الخيط الفاصل بين العقل والجنون، وبين الخير والشر.وكان الفيلم يصور رحلة عبثية يخوضها الإنسان مدفوعا بقوى تفوقه كثيرا، نحو التدمير والحرق والقتل، كما لو كان يرى أيضا أن التاريخ البشري لم يتأسس سوى على سلسلة من الصراعات الدامية، وأن الإنسان الذي يمارس كل هذا الدمار، لا يدري السبب الذي يجعله يوغل هكذا في العنف، بحيث تصبح الطبيعة الجميلة الرائعة التي نراها في كل مشاهد الفيلم، ضحية لصراعات الإنسان.

موسيقى توماس نيومان في "1917" تبدو مفروضة على الصورة، بل ومزعجة وصاخبة أحيانا من دون ضرورة خاصة في النصف الأول من الفيلم. ففي مشاهد كثيرة كان الصمت يصبح أكثر تعبيرا. ولا يبدو عنوان الفيلم ملائما بل لا يعني شيئا. فالأحداث تبدأ في السادس من أبريل 1917، ولكن هذا التاريخ نفسه أي قبل نحو عام من نهاية الحرب الأولى، لا يعني شيئا عند المتفرج، بل إنه في الحقيقة مرتبط أكثر بواحد من أهم أحداث القرن العشرين أي الثورة السوفيتية.

لا شك أن العمل الأكثر رسوخا في الذاكرة عن الحرب العالمية الثانية كان فيلم سبيلبرغ المرموق "انقاذ المجند ريان" Saving Private Ryan(1998) وكان يصور كيف تسعى مجموعة من الجنود لإنقاذ مجند من وراء خطوط العدو، بعد أن صدرت الأوامر بضرورة استعادة هذا الجندي واعادته الى الوطن بعد مصرع أشقائه الثلاثة في الحرب. وكان تصوير سبيلبرغ لعملية الانزال في نورماندي والاشتباك مع القوات الألمانية (في مشهد يستغرق 20 دقيقة)، من زوايا متعددة، هو أكثر الصور السينمائية بلاغة في تجسيد هذا الحدث الكبير في السينما حتى اليوم.

ولعل أهم وأفضل ما ظهر في السينما عن الحرب العالمية الأولى هو الفيلم التسجيلي الطويل "أبدا لن يشيخوا" (2018)  The Shall Never Grow Oldالذي نتج عن البحث في600 ساعة من المواد المصورة المحفوظة في متحف الحرب البريطاني و100 ساعة من التسجيلات الصوتية، يروي فيها جنود وضباط سابقون، التجارب التي مروا بها في تلك الحرب، وكلها من المواد المحفوظة في أرشيف راديو "بي بي سي"، وقد أتيحت هذه المواد لمخرج الفيلم، بيتر جاكسون، أن يعيد الحياة بالصوت والألوان إلى الكثير من هذه الصور واللقطات المباشرة الحية، ونجح في توليفها معا بحيث نشاهدالكثير من الأحداث، من مرحلة التجنيد والتطوع ثم تلقي التدريب العسكري، ثم الانتقال إلى الجبهة الغربية في فرنسا وبلجيكا، ثم القتال الضاري العنيف في حرب الخنادق الرهيبة في أحراش الفلاندرز، وصولا إلى المواجهة المباشرة مع القوات الألمانية، حتى يتحقق النصر ويعود الجنود إلى بلادهم  ليجدوا أن لا أحد يشعر بقسوة التجربة التي مروا بها، حينما كانوا مجرد أطفال يافعين في الخامسة عشرة والسادسة عشرة من أعمارهم.

هذه المشاهد واللقطات تتركز أساسا على الإنسان، على الوجوه، تقترب من الفرد في إطار المجموعة، تعرض لحظات المرح واللعب وتناول الطعام، بل وحتى قضاء الحاجة في ظروف بالغة الصعوبة.ورغم التغني بالشجاعة، والتصوير المباشر للضحايا الذين سقطوا خلال القتال، إلاّ أن المغزى الأساسي الذي يخرج به المشاهد من هذا العمل الكبير، ليس تمجيد بطولات الحرب، بقدر الكشف عن أهوالها وبشاعتها، وهو ما يفتقده بشكل فادح فيلم "1917".

إنه دون شك، تجربة مدهشة في التلاعب بالصورة ومكوناتها والإعلاء كثيرا من شأن حركة الكاميرا، وتصميم اللقطة، وتحريك المجاميع، إلا أنه هذا الإبهار في حد ذاته، يطغى على المضمون وعلى "الحالة" الانسانية التي يفترض أن يجسدها لنا، فلا يبقى من الفيلم في الذاكرة بعد ذلك الكثير.

 

العرب اللندنية في

16.01.2020

 
 
 
 
 

"١٩١٧" لسام مندس: شجرة الحرب

هوفيك حبشيان - المصدر: "النهار"

في البداية، نعتقد أننا أُقحِمنا في لعبة فيديو. الدقائق الأولى توحي بذلك. جنديان بريطانيان (دين تشارلز تشابمان - جورج ماكّاي)، مطلوب منهما قطع مسافة معينة -لنقلْ من نقطة أ إلى نقطة ب -ليحطا سالمين خلف خطوط العدو مروراً بأرض محايدة، بهدف إيصال رسالة إلى ضابط، تأمره فيها السلطات العسكرية العليا بوقف الهجوم على الألمان الذي يتم الاستعداد له، والانسحاب الفوري تفادياً للوقوع في فخّ منصوب لهم.

لا يوجد شيء أبسط من هذا. لم أشاهد فيلماً حربياً حبكته بهذه الخطيّة المباشرة. كلّ ما على الجنديين فعله هو تنفيذ هذه المهمّة السهلة، في تاريخها المحدد (٦ نيسان ١٩١٧)، وبأسرع وقت. الا أننا على الجبهة (الغربية)، في جحيم الحرب العالمية الأولى، وما أدراك ما الحرب العالمية الأولى عندما تكون جندياً. لا شيء سوى موت، وتعقب الموت لك، ومحاولات متعددة للتغلّب على الموت. سام مندس يصرّ على أفلمة تلك التفاصيل التي تجعل من الجندي جندياً متروكاً لمصيره وسرعة تكيفه مع الخطر والخوف واليأس، خلال الحرب، لا بل كلّ الحروب التي يحاول الفيلم اختزال شرورها وقسوتها ووحشيتها عبر خطاب بدائي ومعقّد في آنٍ واحد. لا يرينا الـ"ماذا" المتعلّقة بالحروب فحسب، بل أيضاً الـ"كيف" والـ"متى".

الـ"متى"، أي هذا العنصر الزمني الذي يطلق سباقاً محموماً مع الوقت، هي ما ترتّب لـ "١٩١٧"، مكاناً خاصاً في موسوعة سينما الحرب. للمرة الأولى، يأتينا فيلمحربي بالزمن الفعلي للحوادث. أي انه يصوّر حدثاً استغرق في الحقيقة نحواً من ١١٥ دقيقة، منذ بدايته حتى النهاية، باستثناء قطع ينقل الفيلم من النهار إلى الليل. ما نراه هو ما حدث، ثانية بعد ثانية. مندس يختار تصويره لقطة واحدة (تقنياً ليس كذلك، ولكن يعكس هذا الانطباع). هذه الوحدة وهذا المسار هما العمود الفقري للفيلم، كلّ شيء يتحلّق حوله. لطالما كان تصوير فيلم باللقطة الواحدة أمراً مغوياً عند السينمائيين، لأنه، عدا التحدّي، يوفّر استمرارية أحاسيس تكبحها الوصلات المونتاجية واستبدال الزوايا بالطريقة التقليدية. أضف اليه، في حال هذا الفيلم، انه يمدّ الجسد، جسد الجنديين، بكلّ أشكال التفاعل مع اللحظة المترابطة.

ولكن، دعونا لا نمنح الانطباع بأن "١٩١٧" عبارة عن رقصة تقنية تدور في فراغ. العكس هو الصحيح. هذه من المرات التي نجد فيها التقنية الحديثة وقد انصهرت بالكامل مع النصّ. ولعل جزءا كبيرامن الانبهار الذي يحدث، سببه حداثة تقنية الفيلم. كان مستحيلاً الحصول على هذه النتيجة قبل عقدين أو ثلاثة. لقطة بعد لقطة، تتخلص التقنية من "تفوقها" وبراعتها، لتغدو انفعالاً، شفافية، علاقة بالزمان والمكان، إلى درجة ننساها كلياً ولا يعود هناك غير الشخصيتين ومهمّتهما. مندس يلغي كلّ شيء تقريباً، ليبقيالعلاقة المرهقة التي يحاول بناءها بين المُشاهد والجنديين اللذين سنراهما في أشكال مختلفة من الصراع، للبقاء على قيد الحياة. فيكتفي، في النتيجة، بالمشهدية الانغماسية التي تجعلنا نتعقّب مسار الجنديين ونعيش تجربتهما مع كلّ ما يترتب عليها من خوف وتحدٍّ وخلاص.

حتى وإن تضمّن الكلام الآتي شيئاً من المبالغة والادعاء، أجدني مجبراً على قوله، كي لا أخون أحاسيس تراكمت لديّ خلال المشاهدة، لم أتخلص منها عند الكتابة. في تقديري ان "١٩١٧"هو لقاء لم يتحقق بين جيمس بوند وشكسبير، عبر الزمان والمكان. انه لقاء، نعم، بين إيقاع الأول وتراجيديا الثاني. فمندس ابن الإثنين، خريج مسرح شكسبير قبل ان يرمي نفسه في حضن بريطاني آخر، هو العميل السري الشهير.

يقدّم مندس بالتعاون مع مدير التصوير الكبير روجر ديكنز، فيلماً حسّياً خالياً من معظم ما صنع مجد الأفلام الحربية: ثنائية الخير والشر. العدو والحليف. لحظات حرب ولحظات استراحة. حميمية ومشهدية عريضة. المخرج الذي سبق ان صوّر فيلماً حربياً وقع في النسيان ("جارهيد" - ٢٠٠٥ - عن حرب الخليج)، يبتعد عن كليشيه أفلام الحروب. بمساندة كلّ ما سبق وذُكر، يستمد من الأرض والعناصر الطبيعية، خصائصه السينمائية. تراب، خضرة، مياه، نار، عتمة، غبار. يعيد الجندي إلى ظرفه الأول، الذي لم تعره الكثير من الأفلام الحربية أي اهتمام، أي احتكاكه بهذا كله، أكثر من مواجهته أي عدو. أياً يكن، فإن علاقة الطبيعة بالحرب ليست جديدة، وقد أوصلها "الخط الأحمر الرفيع" لترنس ماليك إلى مستوى آخر من الوعي. في هذا الصدد، جنرال فرنسي كان يقول وهو ينظر إلى المشاهدالطبيعية التي دمّرتها الحرب: "الطبيعة تسخر من قصصنا. الطبيعة ستبقى كما هي”.

يسعى "١٩١٧” إلى كبت الأحاسيس أطول فترة ممكنة، فقط لسبب واحد: كي تتجمّع وتتفجّر عظمةً بصريةً ودوياً أبوكاليبتياً وتصعيداً مسرحياً في لحظتين باهرتين لا مبالغة في القول انهما ذروتان تعبّران عن اللقاء بين الضوء والظلمة، بين جمالية الخراب وبشاعة الطبيعة البشرية: الأولى هي مشهد الوصول إلى المدينة المدمّرة، المشتعلة بنيران الجحيم، والثانية هي مشهد الهجوم. مرة أخرى، يستمد مندس من مدرستين يعرفهما جيداً: شكسبير وبوند.

عندما تذوب الشاشة إلى السواد ويصعد الجنريك، يكون الهدوء قد عاد إلى الجبهة، والعابر قد عبر أرض المعركة من طرف إلى طرف. حينها، وحينها فقط، نعي ان ما شاهدناه ليس سوى ساعتين في حياة عسكري، وانه، بعد عودته للجلوس حيث انتشلته الكاميرا منه في بداية الفيلم، لن يبقى سوى شيء واحد يتظلل به ويحمي رأسه به: الشجرة. الشجرة التي تشهد على لحظة تحوّله من جندي إلى إنسان.

 

النهار اللبنانية في

16.01.2020

 
 
 
 
 

لماذا يرحب في "الأوسكار" بهذه الأفلام العربية؟!

سيد محمود سلام

عندما أعلنت منذ أيام أكاديمية فنون وعلوم الصور الأمريكية، عن القائمة النهائية لترشيحات جوائز الأوسكار الـ92، المقرر توزيعها 9 فبراير المقبل.. كان اللافت للنظر هو نوعية ومضامين الأفلام العربية التي تم قبولها في القائمة لتمثل سوريا، وتونس، ثم الجزائر مع تونس في فيلم مشترك، مع خروج كل الأفلام العربية التي رشحت، أو حتى التي يخرجها عرب وبتمويل أجنبي، أو عربي مشترك.

الأفلام هي؛ فيلمان في الفئة القصيرة، هما: "إخوان" إخراج مريم جبير من تونس، و"نادي نفتة للكرة" إخراج إيف بيات من تونس والجزائر.

وفي فئة الأفلام الوثائقية، فيلمان سوريان هما: "الكهف" إخراج فراس فياض، و"إلى سما" للمخرجة السورية وعد الخطيب، والمخرج البريطاني إدوارد واتس.

وما يهمنا هنا هو مضامين معظم هذه الأعمال، إذ أنه من الواضح تركيز لجان الاختيار على ما يؤكد أن عالمنا العربي يعيش على فوهة بركان، وأنه كتلة لهب مشتعلة، ولا شيء سوى الدم والخراب، و"داعش" ومع التأكيد على أن أبناء العرب هم من هجروا أهاليهم وسافروا للحرب مع التنظيم، وعادوا إلى بيوتهم بمصائر مختلفة حاملين صورًا وذكريات وحكايات عن مآسيهم، وهو ما صوره الفيلم القصير " إخوان"، الذي يصور حياة لشاب تونسي يعود إلى أسرته بعد سنوات من الحرب مع تنظيم الدولة على أرض سوريا، ويلتحق بالتنظيم الإرهابي "داعش".

حكاية مؤلمة تقدمها المخرجة مريم جوبار من خلال عرض قصة عائلة تونسية تعيش في إحدى الغابات التي تقع في شمال تونس، ويمتهن أفرادها رعي الأغنام، حيث يعود ابنهم من الأراضي السورية، بعد عام ونصف من الجهاد مع تنظيم "داعش"، وقد قطع الاتصال بهم طول هذه الفترة.

أما الفيلم الثاني والثالث أيضا فهو عما حدث في سوريا، ولكن برؤى مختلفة.. الأول "إلى سما" قامت بتصويره المخرجة وعد الخطيب في حلب إبان الحرب هناك، فسجلت بكاميراتها 300 ساعة للمخرج البريطاني إدوارد واتس، الذي شاركها المهمة، مليئة بالمعاناة، وهو واقع حدث ومرير للمخرجة وزوجها الطّبيب حمزة – مؤسس "مستشفى القدس"، التي اتخذا منها محل إقامة لهما شرقي حلب – وبعد سنوات اختارا الرحيل إلى المنفى وطلبا اللجوء في المملكة المتحدة مع ابنتيهما.

والصورة الثالثة من فيلم سوري أيضًا وهو "الكهف" للمخرج فراس غياض، وفيه ينقل تفاصيل ما حدث في مستشفى الكهف في الغوطة الشرقية، أيضًا إبان الحرب.

الأفلام الثلاثة تقريبا تتمحور حول فكرة ما حدث للعالم العربي وخاصة في منطقة الشام من تداعيات للحرب السورية، وظهور التنظيم الإرهابي "داعش".. ودخل في القائمة الفيلم المنتج من خلال تونس والجزائر "نادي نفتة للكرة" إخراج إيف بيات، وهو ناطق باللغة العربية، وليس عن المنطقة الشائكة.

السؤال اللافت للنظر، والذي أثار دهشة واستغراب كثيرين منهم نقاد، علقوا على هذا الاختيار بتعليقات تهكمية، لماذا يقع الاختيار في ترشيحات الأوسكار على الجوانب السلبية، لما يحدث في عالمنا العربي، برغم أن هناك أفلامًا رشحت من قبل مخرجيها كفيلم "إن شئت كما في السماء" وهو روائي طويل، للمخرج إيليا سليمان، ويصور معاناة الفنان الفلسطيني الباحث عن الأرض والهوية، وأشاد به النقاد في العالم، عند عرضه في مهرجان "كان" السينمائي، وفاز بتنويه، وعرض في مهرجانات عربية عديدة منها القاهرة السينمائي في دورته الأخيرة.

ومن يتابع الأفلام التي وصلت لقائمة الترشيحات سواء قصيرة، أو وثائقية، يكتشف أن معظمها مدعوم بتمويل، أو مشاركة أجنبية، كون أن الموضوع، يركز على ما يحدث في العالم العربي، و"داعش" وهو ما تركز عليه وسائل الإعلام وتفرد له صفحات في مواقع أجنبية كثيرة، ويهم كل المهرجانات العالمية.

 

بوابة الأهرام المصرية في

16.01.2020

 
 
 
 
 

ماتريوشكا من النساء المتمردات في Little Women

عليـاء طلعـت

نُشر الجزء الأول من رواية نساء صغيرات عام  1868 ليعقبه الثاني بعد النجاح الكبير لشقيقه الأكبر بعام واحد فقط، لم تعلم وقتها الكاتبة لويزا ماي آلكوت أن روايتها هذه ستقدم عدة مرات في  ذلك الفن الذي سيولد بعد حوالي ثلاثين عامًا وسيدعى السينما، وأن ممثلات عظيمات مثل كاثرين هيبورن وإليزابيث تايلور سيكن بطلات بعض من هذه المعالجات.

ولكنها لو كانت تعرف لحلمت أن تتم معالجة روايتها في يوم من الأيام على يد جريتا جيرويج بالذات، تلك المرأة في أواخر الثلاثينات من عمرها التي أتت بعد قرن ونصف، لتعيد اكتشاف رواية كلاسيكية وتبعث فيها الحياة، وتعطي شخصياتها تأويلات ربما لم تخطر على بال أجيال سابقة من الكتاب والمخرجين.

باختصار لمن لم يقرأ أبدًا رواية نساء صغيرات أو شاهد أي من الأفلام المقتبسة عنها، تدور الأحداث حول أربعة فتيات إخوة، ذهب والدهن للأشتراك في الحرب الأهلية الأمريكية، ليتركهن مع الأم يعانين الفقر، لكل من النساء الصغيرات شخصية مختلفة، ما بين الكبيرة ميج الجميلة وحكيمة العائلة، ثم الأصغر جو أو جوزفين، التي تشتعل موهبة وحدة وصخب، ثم آيمي الجميلة المغناج، وبيث الأرق والأطيب وذات الصحة العليلة.

تعتبر الرواية شبه سيرة ذاتية لما عاشته الكاتبة بنفسها مع أخوتها الثلاثة والكثير من المؤرخين الأدبيين يعتبرونها كذلك بالفعل، حققت الرواية النجاح سريعًا فطلب القراء المزيد، وتقدم لهم آلكوت بالفعل الجزء الثاني من نفس القصة -حاليًا الجزئين معروفين بعنوان نساء صغيرات- ثم كتابين آخرين يكملا مسيرة الشخصيات والجيل الثاني من العائلة.

قدمت الرواية للسينما سبع مرات، الأولى عام 1917 والأخيرة بعد 102عامًا في 2019، على يد المخرجة وكاتبة السيناريو جريتا جيرويج ومن بطولة سيرشا رونان، وإيما واتسون وفلورانس بوج ولورا ديرن وميريل ستريب وتيموثي تشالامي.

إما الموت أو الزواج 

يبدأ الفيلم بجو تذهب لناشر بأحد المجلات لتقدم له أحد قصصها القصيرة، حازت على إعجابه سريعًا لكنه طلب منها طلب محدد للغاية “لو كانت بطلتك امرأة يجب أن تزوجيها بالنهاية .. أو تموت”، نفس الناشر في الحقيقة جعل الكاتبة لويز ماي آلكوت تقدم الجزء الثاني من الرواية باسم “زوجات صغيرات”! وهو الاسم الذي جاء رغمًا عن إرادتها.

وأجبرها على تزويج البطلة جو كذلك من أي شخص سواء لوري الشاب الذي دخل العائلة فقلبها رأسًا على عقب، أو صديقها الألماني، فالزوج لا يهم، لكن الأهم أن تنتهي الصغيرة مثل أي أمرأة أخرى إلى مصير محترم بالموت أو الزواج.

جملة مثل هذه أو ما آتى بعد ذلك على لسان بعض الشخصيات هي ما يمكن أن نطلق عليه المعالجة الخاصة بجريتا جيرويج للرواية الأصلية، فهي لم تأخذ فقط نص الرواية لتقدمه على شكل صور على الشاشة، بل قامت بإعادة تفسير الشخصيات والأحداث من وجهة نظرها وأضافت لها من روحها وأفكارها ما جعلها معاصرة على الرغم من أنها تدور خلال الحرب الأهلية الأمريكية.

فربما لويزا آلكوت لم تستطع أن تجعل شخصية آيمي الجميلة تعنف لوري بهذه الحدة لأنه “ذكر” قرر إهدار مواهبه، في حين إنها “امرأة” مجبرة على الزواج طالما هي فقيرة، والأسوأ أنها لو ثرية وتزوجت سيحصل زوجها بصورة آلية على أموالها وكذلك سينتمي له أطفالها.

ذلك المعنى الذي تكرر كذلك على لسان العمة مارشا، فالمرأة لا تستطيع اختيار عدم الزواج إلا في حالتين، إما ثرية للغاية، أو لديها مهنة ما لتعيل نفسها، ولا توجد الكثير من المهن التي يمكن أن تقوم بها المرأة.

لكن في الحقيقة أن لويزا نفسها على عكس ما أجبرت على وضعه كمصير نهائي لبطلتها جو التي تعبر عنها بشكل أو بآخر، حتى آخر حياتها لم تتزوج، وعملت وأعالت نفسها وعائلتها، وبنت مدرسة كذلك لتحقق الكثير من الأحلام التي أعطت فقط بعضها لجوزفين مارش.

 ماتريوشكا جريتا جيرويج

الماتريوشكا هي تلك العروس الروسية التي تتكون من عرائس أصغر فأصغر داخل بعضهن البعض، ما أن تفتح واحدة تجد أخرى، وبالنظر إلى معالجة النسخة الأحدث من نساء صغيرات نجدها تتبع نفس الأسلوب.

فعندما كتبت لويزا روايتها التي تشبه السيرة الذاتية اسمت نفسها جو، ذلك الاسم الذي يعتبر اختصارًا لجوزفين، لكن كذلك اسمًا يصلح لكل من الرجال والنساء، واعطت بطلتها الكثير من الصلاحيات التي تمنتها ليس فقط لنفسها ولكن لكل النساء، فعلى الرغم من انتقاد الأخوات لشخصية جو بعض الأوقات لنزقها وقوة شخصيتها ورفضها للأستقرار والزواج، إلا أن القارئ يقدر فيها على الأقل موهبتها وأخلاصها.

بكلمات أخرى عندما تفتح العروس الذي على شكل جو، ستجد بداخلها لويزا ماي آلكوت، لكن ماذا فعلت جريتا بجو في معالجتها الجديدة؟

أخذت جريتا شخصية جو السابقة، وأضافت عليها المزيد، جو مارش نسخة 2019 أكثر وضوحًا من السابقة في التعبير عن أفكارها، بل يمكن أعتبارها أكثر نسوية لو كان ذلك ممكنًا، وتحمل بداخلها ذلك الشك المرعب في الذات الذي يصاحب أي مبدعة، هل تأخذ الخيارات الصحيحة؟ هل لديها الموهبة الكافية؟ من تكون، هل هي جو الأخت أم الكاتبة أم الحبيبة التي تسعى للزواج بحبيبها؟ تساؤلات جو هذه تليق بمكان وزمان.

وكذلك عند فتح ماتريوشكا جو فيلم 2019 ستجد بداخلها جريتا جرويج، مع سلفتها لويزا ماي آلكوت، فكما صبغت آلكوت شخصيتها المصنوعة جو بطبقات من أفكارها، أضافت جرويج شكوكها ومخاوفها، لتمثل جو في النهاية سلسلة من النساء القويات المتمردات.

أفضل معالجات Little Women على الإطلاق

كما قلت في المقدمة أنتجت سبعة معالجات سينمائية لرواية نساء صغيرات، كل منها بالتأكيد لها أسلوبها الخاص بما يرجع إلى رؤية كاتب السيناريو والمخرج للعمل الأدبي.

إذًا لماذا أطلق على فيلم 2019 المعالجة الأفضل؟ 

كما غيرت جريتا في تفاصيل شخصية جو، وتفاصيل باقي الشخصيات خاصة آيمي التي حولتها من فتاة مغناج إلى شخصية أقوى وأكثر وضوحًا فقد غيرت كذلك في أسلوب السرد، فبدلًا من السرد الخطي في الرواية حيث نشاهد تتابع الأحداث من البداية حتى النهاية قسمت جريتا النص إلى نصفين.

يبدأ الفيلم بالنصف الثاني من الرواية، حيث نتعرف على جو في نيويورك التي تكافح لنشر قصصها، وآيمي في أوربا تقابل لوري مرة أخرى، وعن طريق الفلاش باك نعود إلى الماضي ونتعرف على البدايات التي دومًا ساحرة.

صنعت بتلك الطريقة جرويج أمرين، الأول أزاحت عن المشاهد العارف بالرواية والأفلام السابقة ملل مشاهدة نفس التفاصيل لكن فقط بممثلات جدد، والأهم أنها ربطت بشكل ذكي بين ماضي وحاضر الشخصيات، تلك الرابطة التي ربما لم تكن واضحة بهذه الصورة في الرواية الأصلية أو المعالجات السابقة.

بالإضافة إلى تغييرات السيناريو والشخصيات، طاقم تمثيل النسخة الأحدث من فيلم Little women كان ذهبيًا بحق، اعطى الفيلم المزيد من الحيوية، بالإضافة إلى أفضل ممثل أدى شخصية “لوري” على الإطلاق.

 

أراجيك فن في

16.01.2020

 
 
 
 
 

فيلم "1917": موازنة تامة وشاملة بين الفنّ والمعنى

عبد المنعم أديب

يا له من فيلم ويا لها من تجربة. هذا الفيلم الذي سيصير أحد موادّ الدراسة في معاهد السينما في العالم. فإنَّه فيلم أيقونيّ كما "نظريَّات الكمّ" الفيزيائيَّة. إنها المعجزة التي شهدناها في أوائل العام 2020، وهي من إنتاج العام السابق. إنَّه الفيلم الذي أزاح -بجدارته- فيلم "جوكر" من جائزة "جولدن جلوب" ليفوز بأفضل فيلم. إنه تحفة العام السينمائيَّة "1917". ولا أدري ما الذي يُذكر وما لا يُذكر؛ فإنَّ أقلّ ما يكتب في هذا الفيلم كتاب منفصل وحده. لكنني سأحاول بكل جهدي إيجاز الإيجاز في مقال واحد.

الفيلم يتناول فترة "الحرب العالميَّة الأولى"؛ التي امتدَّتْ من 191-:1914. وهي حرب عظمى تقاتل فيها دول الحُلفاء (بريطانيا، فرنسا، روسيا) مع دول المحور (الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، ألمانيا، النمسا والمجر- وكانا دولة واحدة-) وراح ضحيتها عشرات الملايين. اختارها الفيلم حيِّزًا له.

وتناول بدقة عام 1917، حيث نرى الجنديَّيْنِ "سكوفيلد" و"بليك" -وهما من الإنجليز- يجلسان تحت ظل شجرة حين يتمّ استدعاء "بليك" إلى مقرّ القائد، ويُطلب منه أن يصطحب زميلاً له. فاختار زميله "سكوفيلد". وذهبا للقائد ليجدا مفاجأة كبرى ستغيِّر مجرى حياتهما. ها هو القائد يُكلفهما بمهمة تنبيه أحد الفيالق (تنظيم عسكريّ داخل الجيش) -التي تتمركز بالقرب من خطوط العدوّ- بمكيدة دبَّرتها لهم القوات الألمانيَّة لتُوقع بالفيلق كلَّه. وعليهما أن ينقلا رسالة من القائد العامّ إلى قائد الفيلق ليُلغي هجومه قبل الفجر. وقد اختار القائد هذا الجنديّ "بليك" خاصةً لوجود دافع شخصيّ هو أنّ أخاه أحد ضباط الفيلق الذي سيهلك هو الآخر إنْ لمْ يسرع لتنبيهه قبل بلوغ الفجر القادم.

هنا وفي هذه اللحظة يجد الجنديان نفسيهما في ورطة كبيرة؛ فكيف لهما أن يعبرا أراضي العدو الألمانيّ ليصلا إلى الفيلق المنشود؟! القائد قال بأن الأراضي التي سيعبرونها قد تركها الألمان، لكن عليهما أن يظلا حذرَيْن فلا أحد يعرف ما سيقابلان. إنَّها قصة شابين صغيرين كانا تحت ظلّ شجرة في دقائق سابقة، فأصبحا تحت أمطار الخطر في رحلة لا يعرف أحد عواقبها. وفي الفيلم نرى ما سيصاحبهما من ويلات في رحلتهما، ونرى مصير كلٍ منهما، ونرى هل ستنجح المهمة المنشودة أم لا؟!

ولأنَّ الفيلم يدخل في نطاق الأفلام شديدة الفنيَّة، التي لا تعتمد على قصتها لتقول ما تريد قوله؛ فلا طائل من تتبُّع الرحلة التي يخوضها الجنديان. بل الأجدى وقد انتيهنا من التعريف بالفيلم أن نفرغ إلى نقاط القوة الشديدة في الفيلم. وقد تميَّز بالكثير من نقاط القوة. فلنتناولْ كلاً منها على حدة.

قصة الفيلم ليست مناط تميُّزه فإنَّ هذه القصة قد قُدِّمتْ من قبل في أفلام حربيَّة أخرى. لكنَّ ما يمكن اعتباره تميُّزًا -وإنْ لمْ تنفردْ به- أنَّها لمْ تتناولْ الحرب من حيث القوَّاد، بل من خلال البسطاء وأحلامهم، من خلال شابين يافعين لا يعرفان إلا حضن الأسرة ودفأها ليُريك ما هي الحرب حقيقةً وما ويلاتها!

قصة الفيلم من ثيمات قصص رحلات النجاة. والفيلم بها يدخل تحت تصنيف "حرب"، "دراما"، "مغامرة". لكنَّه اختار أن يُقدم "الدراما" على الحرب والمغامرة. والفيلم من تأليف مُخرجه "سام ميندز" بالاشتراك. ولا يعد من أفلام التاريخ لأنَّه قصة يقول مؤلف الفيلم إنه سمعها من جدِّه على خلاف أفلام "التاريخ" التي تتناول حوادث بعينها. وقد رسم صانع الفيلم فيلمه على المعهود من أفلام الحرب، وقصص رحلات النجاة. وهذا قد يكون مأخذًا لولا أنَّه ضمَّنه الكثير من المعاني الفكريَّة والنفسيَّة الإنسانيَّة.

اختار الفيلم أن يعرض هذه المعاني عن طريق "التجربة المَعيشة الحقيقيَّة" فنحن نعيش حقًّا في التجربة، أيْ داخلها تمامًا وهذه نقطة الامتياز العظمى في الفيلم. ومعنى هذا أنَّه لمْ يلجأ كثيرًا إلى الحوار؛ فالفيلم كله قليل الحوار جدًّا. إنّ صانع الفيلم جعل المأساة تتحدث، لا الأبطال. هذا هو ملخص الحوار في فيلمنا. إنَّه حوار الطبيعة، حوار الخوف، حوار الرجاء، حوار العيون والوجوه، لا حوار الكلمات التي قد لا تجدي نفعًا في مثل هذه المواقف. مع هذا الفيلم في حواراته القليلة اختار معانيه بدقة، وكثَّفها في حكايات البسطاء لتصل إلى القلوب.

أما عن المعاني وهي واحدة من أكبر نقاط التميُّز في الفيلم. فقد استطاع الفيلم بالإخراج السينمائيّ المعنويّ أن يبرز الكثير من المعاني الرفيعة مثل المعنى الحقيقيّ للحرب وشقائها والويلات التي تنتظر الجميع فيها. نرى هذا في كل مشاهد الفيلم بوضوح شديد. نراه في العيون المترقِّبة، نراه في الأكتاف التي ترتعد من الخوف، نراه في دعاء الجرحى أن يعودوا سالمين، نراه في الرجال الأشداء مفتولي البنية وهم يترجون الإله أن يعيدهم إلى أحضان أمهاتهم كما يفعل الأطفال تمامًا حينما يتيهون في الطرقات. هم أيضًا يشعرون أنهم تائهون في طرقات الحياة، يتساءلون عمَّا جاء بهم إلى هذا الجحيم المستعر الذي لا يهدأ.

نرى معنى "الواجب" وفكرة "التضحيَّة" من أجل الجماعة والآخرين. ولعل ما يبرز هذا المعنى هو الخوف البالغ الذي يعرضه الفيلم في كل دقائقه، والترقُّب الذي في العيون. وبالرغم من هذا نجد الشابيْن اليافعين لا يجدان أمامها إلا الاندفاع نحو نداء الواجب، نجد "سكوفيلد" وهو يضحي بآخر ما عنده من زاد لأجل طفل صغير ويمضي لا يعرف له مُستقرًّا.

نرى -وهذه إحدى نقاط التميُّز- فكرة "العداء"، و"النظرة إلى العدو"، كيف ينظر كل جانب إلى الآخر. وهنا قد اختار الفيلم ألا يُظهر العدو إلا نادرًا وللضرورة. وكأنَّه يعزز العداء معنًى لا شخوصًا. ويقول لك: ها هو الإنسان أمام عدوه بغضّ النظر عن العدو.

نرى المعنى الأسمى في الفيلم، وأبرز ما قدمه الفيلم من معاني. وهي التحولات النفسيَّة للنفس البشريَّة أثناء الحرب. وياله من تعبير الذي سلكه الفيلم ليقول ما يريد!

فالإنسان في حال السلم غير الإنسان في حال الحرب، بل تكاد لا تعرفه هو نفسه إذا رأيته في الحالين. نرى فيه شابين في ساعات أصبحا على علاقة أشد من علاقة الأخوَّة، نرى فيه كيف تكوَّنتْ أسرة من "سكوفيلد" وفتاة ورضيعة لمْ يرهما إلا منذ دقائق حتى تودِّعه كأنَّها صارت أمَّه أو زوجته على بُعد دقائق من معرفتهما. نرى كيف يطال العطف والشفقة حتى الأعداء، كيف يصل الإنسان إلى حال لمْ يعدْ فيها محتملاً لرؤية الاختلاف بين إنسان وإنسان فكلاهما واحد في نظره إذا تكاثف عليه الشقاء؛ نشهد هذا بأعيننا عندما نشاهد "بليك" و"سكوفيلد" وهما يساعدان الجنديّ الألمانيّ وهو يُحتضر. والفيلم قد ركَّز تركيزًا على هذا المعنى الذي وصفته بـ "التحول النفسيّ للإنسان في الحروب".

ولكنْ قد يطرأ في ذهنك سؤال: كلّ هذا قد عبَّر عنه بحوار قليل. نعم.. لقد استخدم ما يُسمَّى بـ "المشاهد الرمزيَّة" وأهمها:

مشهد لنْ يُمحى من تاريخ الذاكرة السينمائيَّة هذا المشهد الذي نرى فيه البطل "سكوفيلد" وهو أمام طرقات كاملة تحترق بالنيران؛ وكأنَّه أمام جهنم حقًّا، لكنَّها جهنم الدنيا لا الآخرة. والمخرج يصوره من ظهره وهو يتهاوى من الخوف والتعب، والنيران تملأ الشاشة جميعها، ثم نرى على يساره نافورة قديمة تتشكَّل بخلفيَّة النيران على هيئة صليب "إحدى معبودات ومقدسات الديانة المسيحيَّة". كانت لحظة بالغة الرمزيَّة وهذا الصليب ذو الخلفيَّة الجهنميَّة والبطل بجانبه، ثم نجد على يمينه إنسان آخر مسيحيّ أيضًا يجري وراءه ليُرديه ببندقيته.

لقطة البطل "سكوفيلد" وهو يقف متقابلاً أمام قائده والمشهد تنيره خلفيته فقط حتى يظهرا أمام عينَيْ المشاهد وكأنَّهما شخصان رمزيَّان؛ هذا بقُبعة القائد، وهذا بطاقيَّة الجنديّ. وهو يقول له: هذه الحرب ستنتهي بآخر مَن يظلّ واقفًا على قدميْه، وسنرى البطل في النهاية واقفًا على قدميْه. وهي فيها ما فيها من مقارنة بين أحلام القائد، ورغبات الجندي البسيط.

لقطة البطل "سكوفيلد" وهو يتهاوى من التعب في النهاية وبجانبه نجد شجرة هي الأخرى واقفةً تعاني الهُزال وسقوط أوراقها -كما الجندي تمامًا- لكنَّها تقف صامدةً حتى النهاية. وأيضًا تبرز ما تعانيه الطبيعة من ويلات الإنسان.

استطاع "سام ميندز" أن يضرب مثلاً في الإخراج السينمائيّ سيظلّ يُردد وراءه طويلاً. وهنا أجد في نفسي شيئًا هو أن "ميندز" قد راعى في إخراجه أن يكون مخالفًا ويشقّ لنفسه طريقًا مغايرًا للأفلام الحربيَّة العظمى مثل "إنقاذ الجندي رايان"، "جبل هيجسو"، "دنكرك". هذا ما كان واضحًا. لقد أراد أن يصنع فيلمًا حربيًّا لينافس به السابقين، ولا يتهمه أحد بالتقليد أو بالتأثُّر. وهنا سأحاول إبراز نقاط التميُّز في أقصى حد من الإيجاز، التي أهَّلتْه ليفوز بجائزة "أفضل إخراج" في "جولدن جلوب". علمًا بأنَّ كل ما سبق يُضاف إلى الإخراج لسبب بسيط أن المخرج هو المؤلف أيضًا.

لقد استخدم "ميندز" كل ما يمكن استخدامه في إخراج الفيلم. أخرج بالتصوير، بالإضاءة، بالمكياج، وبرمزيَّة المشهد، وبهيئة الصورة الفيلميَّة. لكنَّ أبرز خصيصتيْنِ في إخراجه لهذا الفيلم هما: أنّ كل شيء كان مقصودًا بعينه، أيْ لا وجود لأيّ زوائد أو حشو طوال دقائق الفيلم، والثانية أنَّه التزم بمبدأ أن الكاميرا هي عين المشاهد. ولكي لا ندخل في تعقيدات تقنيَّة دعونا نلخص أهمَّ ما استخدمه.

اختار أسلوبًا في التصوير هو ما يُسمَّى (One Shot) أو ما يُمكن ترجمته بـ"أسلوب التصوير المُتصل" أو "أسلوب اللقطة الواحدة". وتعني ببساطة أن يستمر المصوِّر في تصويره دون أن يقطع اللقطة -لتُركَّب بعدها لقطة أخرى فيما بعد-. وهذا من أصعب الأساليب تنفيذًا على وجه الإطلاق. وقد اختاره المخرج ليحقق مُعايشةً كاملةً شاملةً بين المُشاهد وبين اللحظات المُصوَّرة.

وقد نُفِّذ بطريقة مذهلة بل قد لا تصدق أن نصف ساعة كاملة صُوِّرتْ دون أدنى قطع للتصوير. كما أنَّه اختار أحجام اللقطات الكبيرة، والمتوسطة؛ هذا ليُرينا دائمًا البيئة المُحيطة. وهو من أهم أولويات فيلمنا. وقد اختار من الزوايا "الزاوية العينيَّة" (Eye Angle Shot) وهي أن تكون الكاميرا موازية لعين الشخص المصوَّر. ولمْ يخرج عنها إلى التصوير من الزاوية العلويَّة أو السفليَّة إلا لإبراز معنى معين. وكل هذا من الصعوبة بمكان في التنفيذ، بل يكاد يكون حُلمًا.

أخرج بتصميم مواقع التصوير التي كان عليها المُعوَّل الأعظم في إدخال المشاهد في المعايشة للأجواء. أخرج بالإضاءة المختلفة في مشاهد كثيرة، بل تكاد الإضاءة أحد معارك إخراج الفيلم الكبرى التي فاز بها. أخرج بالمكياج أو التزيين ومما يدلّ على ذلك أنّ المكياج في بعض المشاهد قد غُيِّرَ دون مبرر، ما بين ابيضاض بشرة البطل قبل النهاية، وحُمرته وإشراقه في مشهد النهاية وكأنَّه يستقي الحُمرة من الشمس التي تسقط على وجهه. للأسف كان بودي أن أفصِّل أكثر في جانب الإخراج لكنَّ التفاصيل فنيَّة تقنيَّة قد تخرج القارئ الكريم من حيز المعاني التي بالفيلم.

وهناك أمور أخرى تستحق الإشادة مثل الموسيقى التي لعبت دور الحوار مع اختفائه المستمرّ، مثل الإشادة العُظمى بإدارة التصوير وطاقمه، مثل ذكاء المُلصق الدعائيّ للفيلم وجماله وأناقته، وغيرها. لكنَّ المقام يضيق بنا، الأهمّ أنّ المعاني لا تضيق.

وفي النهاية هذا هو الفيلم الذي يمكن أن نطلق عليه "فيلمًا حقيقيًّا" قدَّم فيه صانعه موازنة تامة وشاملة بين الفنّ والمعنى؛ ليُخرج لنا في النهاية أحد أعظم أفلام التاريخ التي ستظلّ محفورة في سماء الفنّ العالميّ.

 

موقع "عين على السينما" في

17.01.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004