كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

"الجوكر".. عندما يُغادر البهلوان السيرك

نرمين يسر

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

الدورة الثانية والتسعون

   
 
 
 
 
 
 

متى ضحكت على ألعاب البهلوان؟، وفي أي مرحلة عمرية كان يُثير ضحكك؟، ولماذا أصبح يُثير لديك الرثاء والشفقة؟؛ بل ولماذا يُخيفك أحيانًا؟، ربما لأنه مجهول الملامح؟أم لأنه كاذب ويدعي السعادة، في حين أنه ينزف جرح داخلي غير مرئي؟.

أثارت شخصية البهلوان خيال السينمائيين منذ أن أداها شارلي شابلن وأخرجها فيدريكو فيلليني، وكتب عنها العديد من كُتّاب الدراما النفسية مثل ستيفن كينج،والذي قدّم شخصية أشهر بهلوان مرعب في عالم الأدب والسينما. رغم هذا يبقى السؤال الأهم وهو لماذا نخافه؟.

"المهرج مضحك فى حلبة السيرك.. لكن ما شعورك لو فتحت بابك بعد منتصف الليل لتجد نفس المهرج واقفًا فى ضوء القمر؟".

هكذا قال الممثل العظيملون تشانى الأكبر؛ ربما هذا ما يجعلنا بدورنانشعر بالخوف من شخص يُطلي وجهه بألوان مُبهجة وزاهية، والتي من المفترض أن تعكس شعور البهجة على المشاهدين؟. قد نجد الإجابة عند صلاح جاهين في أغنية "شيكا بيكا" من فيلم "المتوحشة" وعند المخرج فيلليني في فيلم "لاسترادا" في شخصية "زمبانو"، التي لعبها أنطوني كوين، والمخرج باز لورمان في فيلم "الطاحونة الحمراء"، وبالطبع"السيرك"الذي أدى فيه الدور ببراعة شديدة شارلي شابلن،أو حتى عبر مثال محلي للغاية عند نجيب الريحاني، الذي لم يؤد دور البهلوان أو قامبصبغ وجهه بالألوان، ولكنه دائمًا ما يُقدّم دور الضاحك ذو الوجه الملون والقلب النقي شاهق البياض، والملون بلون الأحزان والهزيمة، شأنه كمعظم البهلوانات المنبوذين والمهزومين الذين يضحكون على هزائمهم، ويعتقد الآخرين أنهم فرحين.

"الجوكر" الذي صنع ثورة يتمناها جميع المهمشين

آرثرفليك ممثل كوميدي فاشل لا يُثير ضحك مشاهديه،أو كما اعتاد أن يُقدّم نفسه في تعريف مثير للشفقة والإحباطأمام جمهوره "عندما تسألني أمي عن أحوالي في الدراسة كنت أجيبها أنه لا تعنيني المدرسة لأنني سوف أصبح ممثل كوميدي وكل ما أنطقه سوف يُضحك المشاهدين"؛ ومن ثم ينظر إلى هؤلاء الذين يتوقع منهم إطلاق الضحكات، ولكنهم لا يفعلون سوي الابتسامة في مجاملة واضحة؛ يقول "نعم.. تمامًا كما توقعت أمي". جملة كهذه كفيلة بأن تُثير الشفقة والتخوف في آن واحد، شفقة على الممثل الطامح سئ الحظ، والتخوف من ردة فعله للانتقام من العالم الذي لم يُعيره الانتباه الذي أراده.
الفيلم باختصار يدور حول تيمة بسيطة تكررت مرارًا عن فنان كوميدي فاشل ومريض نفسي، تتراكم عليه ضغوط الحياة ويتوقف الدعم الطبي الذي يمده بالأدوية، فيتحول إلى قاتل غاضب يُطلق الرصاص على كل من يقف عقبة في حياته التي أرادها أسهل مما هي عليه
.

في طفولته نجد صبية الشوارع يتكالبون عليه، ويكيلون له اللكمات والركلات حتي يسقط أرضًا حزينا وباكيًا،وعندما يكبر فإن زميله الذي يتسبب في فصله عن العمل عن طريق إعطائه مسدس حقيقي، فيسقطأرضًا رغمًا عنه في أثناء عرضه أمام أطفال المشفى الذي من المفترضأن يقوم بالترفيه عنهم وليس إرهابهم، بل ويتعرض للتنكيل في عربة قطار كرد فعل نته\ج عن حماية فتاة استنجدت به من مضايقات ثلاث شباب بدت عليهم الرفاهية، فيُطلق أول طلقات مسدسه على هؤلاءالشباب، ويستمر هكذا حتى تتكاتف طبقة المنبوذين التي يُمثّلها الجوكر آرثرومن يشبهونه من الطبقة الكادحة وبعض المواطنين ذوي الأصول الأفريقية، ويصنعون منه بطل شعبي كجميع الطبقات المتواكلة التي تنتظر من يقودها حتي إذا كان بهلوان.

سيناريو عادي قام خواكين بإثراءه

"آمل فقط أن موتي يُصبح مفهومًاأكثر من حياتي..من هنا كانت البداية"..

إنها تيمة بسيطة، وسيناريو تمت كتابته بدون مجهود مضني أو حبكة سيكودرامية يتوجب لكتابتها استشارة الأطباء النفسيين. السر في أداء خواكين فينيكس، وموسيقى الأيسلندية هالدير جونادوتير التي اعتمدت بذكاء شديد على الأغاني الحزينة الكلاسيكية في مشاهد الاعتداء الجسدي غير المبرر علىآرثر البهلوان في حارة ضيقة -أول لقطات الفيلم-أو في جلسته النفسية مع طبيبته عندما يقول بعد ضحكة هيستيرية "أهو أنا فقط أم أن الوضع يُصبح أكثر جنونًا بالخارج؟" لتجيبه الطبيبة بأن الأمر أصعب بكثير، لأن الناس يُعانون بالخارج من البحث عن العمل، ومشاهد البكاء والضحك في آن واحد مثل مشهد الرقص أمام التلفزيون، والبكاء الصامت الصادر عن آرثر، وتجربته لسلاحه الجديد، الذي اعتبره ملاذ أخير يمكن في أكثر من حياة استخدامه كمصدر قوة؛ هذاإلى جانب موسيقاها التصويرية؛ ومن تلك الأغاني التي أجادت اختيارهاsmile جيمي ديورانت، وأغنية what difference a day makes لدينا واشنطن، وأغنية الموعد الغرامي لآرثر وصوفي/زازي بيتزأغنيةmy funny valentine لفرانك سيناترا feeling good لديانا سيمون،وغيرها من الأغنيات المؤثرة التي تبدو ضاحكة ومتفائلة، بينما تُخفي بين سطور كلماتها أحزان كبيرة وفاجعة غير محتملة.

We are all clown

"أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس

جلجلت به صحيوا الخدم والحرس

أنا المهرج.. قمتوا ليه.. خفتوا ليه

لا في إيدي سيف ولا تحت مني فرس".

أن اتذكر كلمات صلاح جاهين عن حالات المهرجين يدفعني إلى الجنون، فكيف أتعاطف مع قاتل سوى أنني -ومعظم المشاهدين- وقعنا في حب هذا القاتل المريض بالضحك اللاإرادي، ولا يجد دعم الأدوية التي تجعل حالته أكثر استقرارًا، يحيا بالكاد ويرعى والدته المريضة، أعتقد أن الإجابة تقع في نفس السؤال؛ وذلك تسبب في مخاوف لدى الكثير من الحكومات بعد عرض الفيلم، في أن كل المهرجين أو المهمشين المظلومين، والضاحكين ظاهريًابينما باكية قلوبهم فيأن يتكاتفوا لصنع ثورة على الأثرياءمن السياسيين والإعلاميين الكاذبين-وما اكثرهم- من أجل تحقيق العدالة بأنفسهم، والتي عجزت حكوماتهم عن تحقيقها لهم، بعد أن يُبرز الفيلم دعم سُكّانمدينة جوثام للجوكر القاتل الغاضب، ويحملونه على الأكتاف مُهللين له وهم يرتدون قناع البهلوان مثله. هي الحالة نفسها التي انتابت سكان لندن في فيلم “V for Vendetta” فخرجوا جميعًا يرتدون القناع كرمز ناقم على السُلطة.

من أكثر الشخصيات التي أثارت حنق الجوكر، بخلاف توماس واين، السياسي ومرشح الكونجرس/ بريت كولين، هو ذات الشخص الذي دعمه في بداية حياته من خلال برنامجه الشهير هو موراي فرانكلين/روبرت دي نيرو، الإعلامي في فرصة حقيقية، وليس مادة للسخرية التي امتلأت حياتهم بها وامتلات قلوبهم حقدًاالمحبوب، والذي يسخر من أمثال آرثر، لكي يُحقق أعلى مُشاهدة لبرامجه على حساب مجموعة من (الغلابة) الطامحين وكراهية لها.

الفيلم مُثير لمشاعر الشاب المُهمّش الذي يشعر بالدونية،والذي لعبه فينيكس ببراعة منقطعة النظير. يقود فينكس جمهور المشاهدين خلفه ويتلاعب بمشاعرهم بين أصابعه في سلاسة وليونة. يشعر آرثر بالحزن فيُبكي بعض المرهفين،أو يبتسم كالطفل عندما شعر لأول مرة أن العالم يهتم به وقت أن ارتدى الداعمين له قناع البهلوان، وفي ابتسامته لصوفي جارته التي أحبها.

بين الحزن والانكسار والسعادة، يصنع المخرج آتوود فيليبس لقطات أسند فيها دور البطولة للأماكن ومدلولاتها، مثل السلالم التي كان لها دورًا كبيرًا في التماهي مع الحالة النفسية لآرثر صعودًا وهبوطًا طبقًا لحالته، بعد جولات تتراوح بين الهزيمة والانتصار. الألوان هي بطل فيليبس الآخر، حيث اتفقت الألوان مع الأحداث المُتغيرة في مزيج رائع، مثل ستائر المسرح بألوان قوس قزح قبيل إطلاقه الرصاص على الإعلامي الشهير،أو اللون الرمادي في الشوارع والأسود لأكياس القمامة المنتشرة على جانبي الطريق،مع ضخ بعض الدخان في الهواء، فتتعكر الأجواء باللون الرمادي في مشاهد القتل والانتقام، ولا سيما القهر الذي يدفعه لذلك.

 

الدستور المصرية في

09.10.2019

 
 
 
 
 

"الجوكر" .. أغنية حالمة للشر!

إسراء إمام

يُراقب "آرثر فليك" لقاء عشوائيا مع أحدهم في برنامج "موري" الشهير، يأخذ في دراسة حركات دَخلَة الضيف، حتى يحفظها عن ظهر قلب، وبما أنه سيكون ضيفا في نفس البرنامج لاحقا، فإنه يتدرب منذ الآن على أن يحظى بدَخلة موفقة، حتى وإن كانت لا تشبهه بالكامل، حتى وإن كانت منقولة عن غيره ومطبوعة على هيئته بخاصية النسخ واللصق!

ينتهي "آرثر" من حفظ دَخلَته، وينفذها بنجاح، وبعدها يجلس على الأريكة، ثم يبدأ إذا في التحضير للطريقة التي سيتحدث بها مع "موراي"، يحاول مرارا وتكرارا نطق الكلمات التي يعنيها صحيحة، والجمل التي يقصدها متوازنة، لكن أعصابه تخونه، وتأزُمه يغلبه، فلا يخرج منه إلا حديثًا هشًا، ابتسامة مرتعشة، ودقات قلب مسموعة. هو مازال يسعى لينال تقدير الناس، يَفنِي نفسه ليحظى بإعجابهم، وهذا بالضبط ما يُحفِز خوفه، ويُوقِظ مواضع نفسه المُمَزعة، التي طالما طالها الأذى منهم، ورغم ذلك مازالت تتوق لتوطيد أواصر العلاقة معهم!

على العكس نراه في أوج ثقته بنفسه، عندما يذهب إلى اللقاء بالفعل، فهو الآن متحررًا، لا يقيده انتظار انطباع ما من أحدهم، لم يعد يُعنيه أحد، هو سيد الكل، متوهجًا، واثق الخطى يمشي ملكًا، متواريًا خلف الستار، مُتأهبًا بجسده ليرقص رقصته الأثيرة، لنفسه وأمام نفسه، يَدلف إلى المسرح بجسد متناغم، وروح طليقة، يُقدم دخلة مغايرة تماما غير تلك التي سبق واجتهد في تحضيرها، دَخلَة تلائمه أكثر، وتعبر عنه بشدة وكأنها مكتوبة بإسمه.

هو الآن متكاملا بنقصه، عادلا بظلمه، حرا بأسر نفسه له!

نفس المعنى يتكرر ثانية عند مقارنة حالة "آرثر" وهو يصعد سلم الحي الذي يقطنه، منهكا، بينما يبدو السلم بعيد المنال، لا نهائي الدرجات، وبين حالته قبيل نهاية الفيلم وهو يتهاوى من فوق نفس الدرج، بجسد صاخب ومتسق الحركات، وكأنه قد عثر أخيرا على إيقاعه الساحر الخاص.

يقول "تشانك بولانيك" في رائعته الروائية "نادي القتال": "الخلاص يكمن في الوصول إلى الحضيض، فعندما تفقد كل شئ تصير حرا لتفعل أي شيء، عليك تحطيم كل شىء لكي تكون شخص أفضل"، وقد فعلها "الجوكر"، ولم يبقي على أي شيء ليخسره، فببساطة حينها فقط استطاع ملاقاة نفسه، والشعور بوجودها حية حقيقية.

الطريق إلى الخلاص

عندما تعرف مسبقا أن فيلم Joker سيُقدِم لشخصية "الجوكر"، أي سيُفند لك الأسباب التي تفسر وجود شخصية مثل "الجوكر" في هذا العالم. فعليك التخمين بأنه في موضع حرج، فالملابسات التي بصدد تناولها لابد وأن تبدو مقنعة، وخصوصا وأن "آرثر" الذي سيستيقظ في داخله غول "الجوكر" شاب طيب، مفرط الحساسية، ورغم أن مثل هذه التحولات لا تصيب إلا هؤلاء ذوي القلوب الهشة، إلا أن الجنوح إلى الضفة النقيضة لازال يتطلب مزيد من الضغوط الحقة.

ولكن مخرج وكاتب الفيلم "تود فيليبس" كان واعيا لتلك النقطة، فأحال بينها وبين سيناريو الفيلم، ولم يجعلها تنل منه، بل عمل بكد لكي تكون هي بذاتها موضع قوته. "فيليبس" بَنى تدرج الظروف التي خلقت "الجوكر" بحذق، ونجح في تجسيدها كمرحلة انتقالية مؤثرة وصادقة، تبدأ بعرض تلك الصراعات التي يخوضها "آرثر" يوميا مع عالم البشر من حوله، سواء في المعاملات اللئيمة التي يلقاها من زملائه في العمل، أو من جائعي الشارع التواقون لاسترداد كرامتهم المهدرة بيد الحكومة عن طريق فرض فتوتهم على المستضعفين أمثال "آرثر". إنها حرب نفسية ضارية يصبح فيها طرفا رغما عنه، تبدو هينة مقدورا عليها، لكنها بالتراكم ترسب في قاع روحه نهم الوحش.

ولكن بمفارقة ما يتطور شكل الضغط، ويأخذ منحى أعنف، عندما تتجمع عدة ملابسات بالصدفة لتخلق أزمة شديدة الاحتقان.

يُطرد "آرثر" من عمله نتيجة تلفيق خبيث من صاحبه، تمنع الحكومة تمويل الجلسات النفسية التي كانت الحل النصف جيد لاستقرار حالة "آرثر" العقلية، أما الطامة الكبرى تكمن في اكتشافه لحقيقة مرض أمه العقلي، والذي كان سببًا في سوء معاملته منذ الطفولة وجعله عرضة للحالة النفسعقلية التي أضحى عليها الآن. ربما كانت مثل هذه الظروف هي ما يقصده "بولانيك" بتوصيف "الحضيض"، ذلك الحضيض الذي لا يقبل بأقل من الموت أو الولادة، فإما أن يموت أمامه رجل طيب، أو يستيقظ من بين ضلوعه المسخ المنتظر.
نغمة حالمة للتَحَطم

يتحدى "بات مان/بروس واين" "الجوكر" في فيلم dark knight 2008، حينما يخبره متيقنا "أريدك أن تعلم أن ثمة أناس في هذه المدينة (غوثام) مازالت تؤمن بالخير"، فيجيبه "الجوكر" حينها وبدون تفكير" نعم، سيظلوا يفعلون ذلك، ولكن حتى تتحطم أرواحهم تماما"، إنه تقريبا يتحدث عن نفسه، عن قصة تهشم روحه، والتي قد نكون تخيلناها حينها وشعورا من العنف يرافقها جنبا إلى جنب مع شعور القهر، ولكن المخرج "تود فيليبس" حينما اختار أن يجسدها في عامنا هذا في فيلم Joker آثر أن ينفي عنها صفة العنف، حتى وإن لم يستطع أن يبدل من القهر شيئا. فنرى مثلا "آرثر" في أحلك لحظات انتشاؤه بالعنف، يجنح إلى الرقص، سواء برقة توحي بالتحليق كما شاهدناه يفعل بعد ممارسته القتل لأول مرة في المترو، أو برعونة وصخب كما فعلها في المشهد التالي لقتله صديقه اللئيم وقبل أن يذهب ليقتل مجددا في برنامج يذاع على الهواء مباشرة.

فكرة ربط تحطم روحه بالرقص، تعود مجددا لتأكيد ملازمة هذا التحطم للتحرر بشكل ما، كما أنها قد أضفت على قصة تهاوي "آرثر" وتحوله لغول مُتعطش للإنتقام نعومة تليق بالرقة التي عهدناها فيه منذ أول مشهد في السيناريو، أنت لم تستغربه بعدما أصبح قاتلا، ولم تشعر بالخوف منه ولو بمثقال ذرة حينما قرر أن يقتل مجددا وبدم بارد، وإنما تبدو متوحدا معه، تستمع إلى موسيقاه الداخلية حتى وإن تغيرت موجاتها.
تضافر مع كل هذا، تلك القدرة المذهلة التي يمتلكها "واكين فينيكس" مُتحكِما في أدائه، ومُجسدِا ببراعة لذلك التحول الناعم لـ"آرثر"، مشاهد كُثر اختلطت فيها نظرة تَوَعُده بدموع حسرته وبقايا نقاؤه، ومشاهد أكثر امتزجت فيها نفضة ثورته بإرتعاشة وجعه وغربته، كان طفلا ببساطة حينما يقتضي الأداء، واستطاع أيضا أن يكون غولا كسيرا لايزال يملك طفلا يطل من قلبه وعينه، هكذا بدى في مشهد استضافته البديع مع "موري"، ومشهد تَزَعُمه لحركة الفوضى في الشارع، إضافة إلى مشهد الختام، وغيرها من المشاهد الأخرى.
صورة ذكية

قدم المخرج "تود فيليبس" عدة لفتات بصرية ذكية، قد لا يسعك تمييزها بوضوح لكنها ساهمت حتما في تهيئة الأجواء المقبضة التي اتسم بها الفيلم، وسللها إلى روحك بإمتياز.

فنرى تلك اللقطات القريبة من حركة ساقي "آرثر" حينما كانت تسأله طبيبته عن يومياته، إضافة إلى التركيز البصري على حركات يديه، وهو يعافر في تكتيف الواحدة منهما بالأخرى، تلك الربكة الجسدية الظاهرية، كانت توحي بحالة "آرثر" الداخلية المتدهورة أكثر مما تبدو بمراحل.

مشهد آخر ساهم "فيليبس" بصريا في تكثيف وقعه المخيف، وهو المشهد الذي قتل فيه "آرثر" الثلاث شبان، حيث مهد قبلها عن ما سيقع من فاجعة، حينما كانت إضاءة لمبات المترو تنقطع لفترات محسوبة، فيظلم المكان تماما، بينما نرى الشباب وقد تغيرت أماكن تواجدهم فجأة، في الوقت الذي كانوا يلتفون فيه حول "آرثر" استعدادا لضربه بدناءة، وهم يدندنون. هذا إلى جانب زن الصفير المزعج الذي اعتلى شريط الصوت بعدما أخذ يطلق أكثر من رصاصة على أحد منهم وقد حاول الهرب، في دلالة واضحة طبعا على ما أصابه من تشوش بعدما استفاق وأدرك أنه قام بقتل ثلاثة أشخاص.

 

موقع "في الفن" في

09.10.2019

 
 
 
 
 

فيلم «Joker»: سردية مضادة ستتحول لكلاسيكية سينمائية

أحمد عزت

طالما استمتعت بصناعة الأفلام الكوميدية، لكن شيئاً ما تغير في العالم، خلال السنوات القليلة الماضية. بالنسبة لي، دائماً كانت الكوميديا مبنية على الحقيقة، لكن في السنوات الماضية، صارت الحقيقة منفرة، من الصعب أن تكون مضحكاً، إذا كانت الحقيقة منفرة.

— المخرج الأمريكي تود فيليبس.

في فيلمه الأحدث والأكثر جدلاً (JOKER)، مبتعداً عن الأفلام الكوميدية التي شكلت غالب مسيرته كمخرج، يبني تود فيليبس فيلمه حول شخصية آرثر فليك/ خواكين فينكس مهرج يعمل لدى إحدى الوكالات التي تدير مواهب غير تقليدية، ويحلم أن يصير كوميدياناً، مؤدياً للعروض الكوميدية. آرثر فليك ليس سوى شرير عالم الكوميكس الأكثر أيقونية، الجوكر، خصم باتمان الأشد بأساً، لكن في مرحلة مبكرة قبل أن يصير الشخصية التي نعرفها جميعاً، يستغل فيليبس شعبية الجوكر ليمرر خلاله سردية مضادة للسردية التقليدية التي اعتدنا عليها، مهرج فيليبس يقلب عالم (DC) رأساً على عقب، بحيث يصير الشرير التقليدي هنا، بطل الهامش المضطهد الصاعد ضد نخبة رأسمالية مستبدة، بينما يضع بطلنا التقليدي بروس وين/ بات مان موضع إدانة مسبقة، حين يكبر الابن المدلل للنخبة الفاسدة عمن سيدافع؟

نكتة فيليبس التي لن تضحك أحداً

يفتتح فيليبس فيلمه بمشهد داخل الوكالة التي يعمل لديها آرثر تتحرك الكاميرا ببطء في اتجاهه، وهو جالس أمام المرآة، على الجانب الآخر من الكادر لدينا زملاء العمل، لا أحد يبدو أنه يعير اهتمامه لآرثر، مؤطراً بذلك من البداية عزلة بطله. يجاهد آرثر أمام المرآة من أجل أن يضع ابتسامة على وجهه، حركة الكاميرا المهتزة والمحمولة باليد تعكس اضطراب داخله، نشاهد انعكاسه داخل المرآة عبر لقطة وجهة النظر الذاتية لآرثر، ومنذ هذه اللحظة يستند فيليبس في سرده بشكل يكاد يكون كاملاً إلى السرد المقيد برؤية آرثر الذاتية، نعايش معه نفس الكابوس، ونتلقى معه الضربات التي تتوالى على جسده وروحه، نهبط معه بطيئاً نحو هاوية الجنون، محققاً بذلك قدراً هائلاً من التوحد مع بطله.

شخصية مثل شخصية الجوكر تكتسب قدراً هائلاً من جاذبيتها، عبر غموضها، نحن لا نعرف على وجه اليقين ماذا حدث في ماضي الشخصية لتؤول إلى ما هي عليه الآن. آلان مور الدي كتب المزحة القاتلة والذي كان قد أشار إلى أن الجوكر في ماضيه كان كوميدياناً فاشلاً، قال عن شخصية الجوكر:

ينبغي لماضيه أن يظل مجهولاً، وإذا أردنا أن نضيئه، ينبغي أن نجعله قابلاً لكل الاحتمالات.

هذا المنظور الذاتي للسرد، مع وجود سارد غير موثوق به مثل آرثر، نتيجة أن لديه تاريخ مع المرض العقلي، ولأننا نكتشف عبر السرد أن هناك فانتازيات أو هلاوس يعيشها آرثر لم تحدث في الواقع، مثل حكاية الحب مع جارته، أو مشهد آخر أثناء مشاهدته برنامح مقدم العروض التلفزيونية الشهير موري فرانكلين/ روبرت دي نيرو، الذي يعتبره آرثر مثله الأعلى، يتخيل أشياء لم تحدث فعلاً. قرب نهاية الفيلم ومع قطع الدعم الحكومي لعلاجه النفسي، يتوقف آرثر عن تناول علاجة، وتتدهور حالته العقلية، وبالتالي يصير السرد هنا تحت رحمة عقله المشوش والمعذب والآخذ سريعاً في الهبوط نحو جنون كامل.

وبالتالي لأننا مقيدون برؤية آرثر، فنحن لا نعرف على وجه اليقين نسبة الخيال من الحقيقة فيما نراه على الشاشة، وهذا يحافظ على غموض شخصية الجوكر. على الرغم من محاولة فيليبس إضاءة شخصية الجوكر عبر ماضيها، يظل هذا الماضي قابلاً لاحتمالات عدة، خاصة مع النهاية التي تلقي بالشك على سردية الفيلم بكامله.

المرجعيات والإحالات السينمائية للفيلم

يعتمد فيليبس في تيمات فيلمه وتكنيكه الإخراجي على العديد من المرجعيات السينمائية، كما يكتنز فيلمه أيضاً باحالات إلى أفلام أخرى، بعضها مجرد تحية لمخرجين تأثر بهم وألهموه، وأخرى تثري نصه، وتقدم مفاتيح مهمة لقراءته، يحاول فيليبس أن يجذر  كل شيء في الواقع، جوثام هنا أقرب إلى نيويورك نهاية السبعينيات، وبداية الثمانينيات، التأثير الأكبر على فيلم فيليبس يعود للمخرج مارتن سكورسيزي خاصة في فيلميه سائق التاكسي وملك الكوميديا، التي تتبنى تيمات الاغتراب، والوحدة، وحيث شخصيات مضطربة تتجاوز كونها ضحايا لمجتمع متفسخ عبر العنف.

هنا تأثر بأفلام سيدني لوميت ذات النبرة الغاضبة مثل (Network)، (serpico)، وتحفة ويليام فريدكين (french connection). هناك أيضاً إحالات إلى سايكو هيتشكوك، حيث الابن المستحوذ عليه من شخصية الأم،فيلم زورو، حيث البطل يمارس انتقامه تحت قناعه الأيقوني. لدينا أيضاً تحفة شابلن (moden times)، حيث حالة شارلي الأساسية، هي حالة المتشرد الأبدي، هجائية مبكرة لمجتمع الرأسمالية وعصر الآلة التي تسحق الإنسان بين تروسها.

هذه المرجعيات والإحالات تجعل من فيلم فيليبس، نصاً غنياً بالمجازات،شديد التركيب، مثلما تضيء بطله وعالمه.

كيف تكونت شخصية الجوكر إذاً في نسخة فيليبس؟

في سبيل نقده للمجتمعات الرأسمالية الحديثة، وما تتركه التغيرات الاقتصادية والاجتماعية على بنية العائلة، يتحدث الفيلسوف هربرت ماركيوز عن تقوض سلطة الأب في هذه المجتمعات، يتحدث عن مجتمع بلا أب، وما يتركه ذلك على البنية  النفسية للأفراد، يتكون لدينا نمط جديد من الشخصيات المتشظية، شخصيات ذات هوية سائلة ومتغيرة نتيجة فقدانها الدعم الداخلي (القيم والأفكار التي يتم استبطانها عبر شخصية الأب)

هذه أول ما نلاحظة على جوكر فيليبس، الذي يفتقد إلى رمزية الأب في حياته النفسية، إنه شخصية متطايرة، بلا مركز أو ثقل داخلي. لا توجد لديه قناعات أو أفكار خاصة، كل شيء مفروض عليه من الخارج، حلمه الذي  يسعى إليه يائساَ، أن يصير كوميدياناً، هو حلم أمه الفصامية التي تتوهم أشياء لا وجود لها: أنت خلقت لتجلب السعادة لهذا العالم البائس. تناديه دائماً (هابي) دون أن تنتبه لمدى بؤس واقعه. إنه متوحد تماماً مع الصورة المفروضة عليه من الأم، برسونا/ قناع المهرج الذي يتناقض تماماً مع داخله المتألم، ربما هذا ما يفسر ضحكاته القهرية، إنها ضحكات مؤلمة يكاد يختنق تحتها، لأنها لا تعكس حقيقة ذاته.

حتى لجوؤه للعنف كحل، لم يأتِ عن قناعة داخلية، بل باقتراح من زميل عمل، حين يعطيه  مسدساً، وما يحدث بعد ذلك، إنه دفاعاً عن نفسه يستخدمه للقتل، لكن العنف الذي مارسه، جعله موجوداً ومرئياً، هو الذي اعتقد دوماً أنه غير موجود، لقد حرر العنف موسيقاه الداخلية، منحه الرقصة التي ستصير بمثابة إعلان عن ميلاد شخصيته الجديدة.

هذه الذات المتشظية، بين جنون الأم وخيانة الأب (سواء الأب الحقيقي المجهول، أوالبديل/ موري فرانكلين) تفتقد تماماً للمعنى والقيمة في حياتها. مع مجتمع رأسمالي ضاغط، شديد الاستقطاب،متفسخ وغارق في الفوضى، على غرار المجتمعات التي يصفها جيل دولوز، بأنها مجتمعات تنتج الفصام مثلما تنتج الشامبو والسيارات. يأتي انفصام آرثر،وجنونه عنيفاً، وحاملاً لقوة مشاعره السرية، ومتوهجاً بالهلاوس.

الأفكار الذهانية/ أعراض الجنون التي يعاني منها آرثر هي محاولة عقله المضطرب لخلق منظور جديد للعالم، عالم يكون فيه مرئياً وموجوداً ومحبوباً. هلاوس علاقة الحب مع جارته، أو مع موري فرانكلين، حين يصعده إلى جانبه في دائرة الضوء ليخبره، إنه يتمنى لو كان ابنه الحقيقي، أو ما يحدث عند نهاية الفيلم، حين يصير رمزاً وأيقونة لانتفاض الهامش المضطهد.

نشاهده بعد أن حرره فوضويو جوثام من أسر الشرطة، في حالة إغماء مشكلاً هيئة صليب على جسد إحدى السيارات، ومن حوله الحشود تهتف له أن ينهض، وهو ما يحدث فعلاً، ينهض جوكر فيليبس ليرقص رقصته على أنقاض المدينة التي طالما اضطهدته، يرسم هذه المرة ومن دون جهد ابتسامة دموية على وجهه الجديد.

القناع الهزلي للجوكر

يكتب ميلان كونديرا:

عندما يمنحنا المأساوي وهم العظمة الإنسانية، فإنه يحمل لنا شيئاً من المواساة، أما الهزلي فهو أكثر قسوة، إذ يكشف لنا بعنف افتقار كلي شيء إلى المعنى.

هذا ما يقصده جوكر فيليبس، حين يقول لأمه بعد أن اكتشف الحقيقة، وقبل قتلها:

لقد كنت أعتقد أن حياتي تراجيديا، ولكنني اكتشفت أنها كوميديا.

أن حياته بلا معنى تماماً، وهو ما يحاول عبر جنونه أن يجد حلاً له، أن يجد معنى لحياته.

جوكر فيليبس، رقصة مجنونة وكرنفال فوضوي وهزلي، يحمل روح اللحظة الحالية للعالم، يستعير فيليبس الحالة الذهنية لبطله، ليعيد تشكيل العالم حسب رؤيته محملاً فيلمه بهذيانات مخيفة.

فيلم فيليبس المتوج بأسد فينسيا الذهبي، يحمل في داخله من الأصالة والثراء، ما سيجعله، على ما نظن يصمد في مواجهة الزمن، متحولاً إلى كلاسيكية سينمائية.

 

موقع "إضاءات" في

09.10.2019

 
 
 
 
 

مشاهد العنف والقتل لا تثير اشمئزاز الجمهور

«جوكر».. فيلم على حدود الخطر

مارلين سلوم

لا تجد دائماً أفلاماً تحكي عن مريض نفسي، يكون هو بطلها الرئيسي، بل ومحركها، ومصنفة «جريمة»، وفيها مشاهد غير قليلة من العنف، والقتل، وفي الوقت نفسه غير معقدة، سلسة في سياق أحداثها، تقنعك فتقبل عليها بلا اشمئزاز، أو نفور. «جوكر» الذي شهد إقبالاً كثيفاً منذ عرضه نهاية الأسبوع الماضي، محققاً أرباحاً غير مسبوقة لشركة «وورنر بروس» هذا العام، حيث فاقت إيراداته في ثلاثة أيام فقط، ٢٣٤ مليون دولار، بينما تكلفته الإنتاجية لم تتجاوز ال ٥٥ مليوناً؛ فيلم يأخذك إلى عالم الأفلام النفسية غير المعقدة، كأنك في مسرح، وأمامك ممثل عبقري يجمع كل التناقضات، وكل الوجوه في وجه واحد، ويعبّر عن حال الإنسان في مجتمعات عدة، وعن السياسة، وما يسمّونه ثورات، ومن يحركها.

ليس العمل الأول الذي يتناول شخصية «الجوكر» المعروفة، التي أطلقتها شركة «دي سي كوميكس» عام 1981، وآرثر هو الأخ غير الشقيق لبروس واين الذي يصبح باتمان، ونراه طفلاً في هذا العمل، ولا العمل الأول الذي يجعل من المهرّج قاتلاً، لكنه قد يكون الأكثر تميزاً وإتقاناً، لدرجة أنك ترغب في التصفيق للمخرج، وكاتب العمل تود فيليبس، وشريكه في التأليف سكوت سيلفر، والبطل جواكين فينيكس، الذي يستحق الأوسكار عن هذا العمل، (علماً بأن الفيلم حاز جائزة الأسد الذهبي لأفضل فيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي)، كذلك فريق العمل خلف الكواليس من ماكياج، إلى إضاءة، وصوت، وموسيقى.

فيلم يمشي على حدود الخطر، يقدم لك المجرم مع كل الخلفيات والدوافع التي أدت به إلى ارتكاب جرائم بشعة، بهدف الانتقام، والمفروض ألا تتعاطف معه؛ ويقدم لك البطل المريض نفسياً، الذي يتناول مجموعة أدوية تساعده على الحفاظ على توازنه كي يستمر في عمله، وإعالة والدته المريضة، ومواجهة ظروفه المادية، وفقره، لكنه يفاجأ بإلغاء المساعدة، وتوقف العلاج، وعدم منحه أي مساعدة من قبل الدولة، ما يعيده إلى الوراء فتتدهور حالته تلقائياً. والمفروض أن تتعاطف معه. هنا تكمن قوة المخرج في القدرة على إقناعك بالقصة، وعدم الغرق في دهاليز الأمراض النفسية، والتعقيدات التي قد يضيع في متاهاتها المشاهد، وعدم تبرير الجريمة بشكل يدفع بالجمهور، خاصة المراهقين والشباب، إلى التعاطف معها، واعتبارها واقعاً لا بد منه.

اسمه آرثر فليك. الوجه غامض، مع بعض التشوهات. وظيفته إضحاك الناس، ورسم قناع المهرّج على وجهه يومياً. نحيل، مبتسم دائماً، يعاني ضحكاً هستيرياً، يدخله في أزمات كثيرة، يخسر عمله بسببها. يتعرض للتنمر من مراهقي وعصابات الشوارع. ويكبت وجعه إلى أن توحي له حركة عفوية من جارته صوفي (زازي بيتز)، بالرد على من يغضبه، أو يسخر منه بالقتل رمياً برصاص مسدس أهداه إياه زميله بهدف مساعدته على حماية نفسه، في إسقاط تلقائي على شيوع اقتناء الأسلحة من قبل الأفراد في أمريكا بحجة الدفاع عن النفس. ويعيش قصة حب وهمية مع صوفي، ويختلط عنده الخيال بالواقع.

«أسوأ ما في المرض العقلي، أن الناس يتوقعون منك أن تتصرف كأنك لست مريضاً». هذه العبارة التي دوّنها آرثر في مفكرته، تعكس وعيه التام بمرضه، وانزعاجه من عدم تقبّل الآخرين لوضعه الاستثنائي، وتجاهلهم له بشكل تام. وحين يستخدم سلاحه لأول مرة، فيقتل ثلاثة شبان يعملون في شركة توماس واين المرشح للانتخابات، (بريت كولن)، ولا تتمكن الشرطة، ولا التحقيقات من التعرف إلى المجرم لأنه «مهرّج» رسم على وجهه فضاعت ملامحه الحقيقية، يشعر بذاته وبأنه «حقق شيئاً ما». وتصدّر الخبر الصحف والشاشات يوحي له بأنه أصبح مهماً، وأن ما فعله جعل العالم يتحدث عنه.

في نوبات الضحك التي تنتاب البطل، مشهد رائع في عمق مدلولاته، وصعوبة أدائه، و«عبقرية» التمثيل فيه. ضحك قوي لدرجة الاختناق، تشعر بأنه نابع من القلب، بينما القلب يرتعش خوفاً، وحزناً، أو غضباً. ابتسامة خلفها رغبة جامحة في القتل. إنسان يبدو سعيداً بلا هموم، وأعباء، بينما الوحدة تمزّقه، وحقيقة والدته تدفعه إلى المزيد من الجنون. وجواكين فينيكس الذي خسر الكثير من وزنه من أجل هذا الدور، لدرجة أن تظهر عظام قفصه الصدري في أحد المشاهد كأنه هيكل عظمي يتنفس، منح الشخصية أبعاداً كثيرة، تفوّق بها على كل من سبقوه من نجوم أمثال جاك نيكلسون، وجاريد ليتو، وهيث ليدجر الذي سارع الجمهور إلى إجراء مقارنات بينه وبين جواكين لمعرفة أيهما أفضل «جوكر».

روبرت دي نيرو، يؤدي دور موراي فرانكلين، مقدم برنامج «توك شو» مشهور، يتقاطع طريقه مع طريق آرثر الشديد الإعجاب به، عندما يقدم فقرة في إحدى الحلقات، يسخر فيها من الممثل الكوميدي آرثر فليك، ثم يستدعيه إلى برنامجه لأن الحلقة حققت نسبة مشاهدة عالية. إنه المشهد الفصل، والوصول إلى ذروة القصة، ومضمونها، مع انتشار الفوضى في الشوارع، الكل يضع فيها قناع «جوكر». شباب ثائر، غضب وتكسير، مواجهة مع رجال الأمن. والمشهد الأجمل هو إفلات آرثر من بين أيدي الشرطة، وإشرافه على الموت، ثم صحوته مجدداً منتصراً، زعيماً مجنوناً، يرسم ابتسامة بالدم على وجهه، والشباب من حوله يهتفون. مشهد مرسوم بحرفية عالية، يجسد الكثير والكثير من المعاني، ينتقد الدول التي لا تعير اهتماماً للأمراض النفسية، ولا تدعم المرضى ليتمكنوا من تلقي العلاج على نفقتها، علماً بأنهم الأكثر حاجة للدواء، ويشكلون خطراً مباشراً على أنفسهم، وعلى الآخرين، وعلى الدولة التي ينتمون إليها أيضاً.

صورة طبق الأصل ل«الربيع العربي»

مشهد خروج الشبان مرتدين أقنعة على وجوههم، وحالة الفوضى التي أثاروها، ومواجهتهم مع رجال الأمن، والتخريب، كأنه صورة طبق الأصل لانطلاق ما سمي بالربيع العربي، حيث ارتدت مجموعات قناع «مجهول» يشبه الجوكر بالأبيض والأسود، وكان هو شعار تلك المجموعات التي تحركت لهدم دول، ورفض الأنظمة.. كأن الفيلم يقول إن من تحركوا لتخريب دولهم انساقوا خلف «جوكر» ما مريض نفسياً.

marlynsalloum@gmail.com

 

الخليج الإماراتية في

09.10.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004