كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

ألم ومجد: تعرية ذاتية لبيدرو ألمودفار

محمد كمال

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

الدورة الثانية والتسعون

   
 
 
 
 
 
 

)الحب ليس كافيا لإنقاذ من نحب).. تلك الجملة أراها الأهم للمخرج الإسباني الكبير بيدرو ألمودوفار في أحدث أفلامه "Dolor y Gloria" أو "ألم ومجد" ومن عند تلك الجملة بدأت الألآم تظهر على السطح وتسيطر ويصبح لها الكلمة العليا، وتتحول الامجاد إلى ماضي سحيق، فلم يكن الحب ضامنا للمخرج المتقاعد (سلفادور مالو) في أن يستمر في مجده، فقد المهنة، الحبيب، الأم، الأصدقاء ولم يتبقى منها سوى مجموعة من الذكريات.

(الحب ليس كافيا لإنقاذ من نحب).. تلك الجملة أراها الأهم للمخرج الإسباني الكبير بيدرو ألمودوفار في أحدث أفلامه "Dolor y Gloria" أو "ألم ومجد" ومن عند تلك الجملة بدأت الألآم تظهر على السطح وتسيطر ويصبح لها الكلمة العليا، وتتحول الامجاد إلى ماضي سحيق، فلم يكن الحب ضامنا للمخرج المتقاعد (سلفادور مالو) في أن يستمر في مجده، فقد المهنة، الحبيب، الأم، الأصدقاء ولم يتبقى منها سوى مجموعة من الذكريات.

المخرج الإسباني الكبير دائم التطرق في أفلامه السابقة إلى ذكرياته وهواجسه وإحباطاته وأيضا ميوله الجنسية كأنها أسئلة محورية يحاول الإجابة عنها طوال الوقت يرتكز على المساحة العميقة في العلاقة الإنسانية بين الشخص وعوالمه المختلفة مهما تباينت مساحات تلك العلاقات ، وفي أفلامه إرهاصات لعلاقته بوالدته وأهل قريته وحياته في العاصمة بعد ذلك ، لكن هذه المرة في "ألم ومجد" نحن أمام عمل يشبه السيرة الذاتية لمخرجه وهو ما يتم التأكد منه بمجرد النظرة الأولى إلى البوستر الدعائي للفيلم الذي يحتوي على صورة البطل الرئيسي أنطونيو بانديراس وفي الخلفية نجد ظل صورة المخرج بيدرو ألمودوفار كأنها رسالة منه إلى المشاهدين بأن ألمودوفار ظل لشخصية سلفادور التي جسدها بانديراس.

في المشاهد الأولى يضعنا ألمودوفار أمام خطين رئيسين سلفادور المخرج المتقاعد بسبب ظروفه الصحية والتي سببت له آلام جسدية ونفسية وإحباطات كبيرة، وسلفادور طفلا حيث نشأته في أسرة فقيرة تعيش في بيت أقرب إلى الكهف وعلاقته بوالدته (بينلوب كروز) التي ألحقته بمدارس دينية نظرا لفقر الأسرة، لكن كعادة ألمودفار في أفلامه بمرور الاحداث تزداد الخطوط وتنتقل من حيز ضيق إلى مساحة أكبر بشكل تصاعدي، كما ظهر في الفيلم فالأمر أشبه بمراحل رسم لوحة فنية أو بناء منزل.

يعيش سلفادور وحيدا حياة محبطة محاطة بالألم رغم أمجاد الماضي ويقوم أحد المراكز السينمائية في مدريد بترميم أحد أفلامه القديمة ويدعوه مع بطل الفيلم لافتتاح النسخة الجديدة وحضور مؤتمرا صحفيا بعد 32 عاما من العرض الأول للفيلم الذي لم يكن سلفادور راضيا عن أداء البطل ألبرتو "أسير إتكسينديا" ولم يسمح له بحضور العرض وقتها والأمر الذي تسبب في قطيعة بينهما طوال 30 عاما ، واضطر سلفادور للذهاب إلى ألبرتو بعد كل هذه الأعوام و الذي بدوره ساعد سلفادور في تناول الهيروين الذي كان سبب رئيسي ليعود من خلاله أكثر إلى ذكريات ماضيه في القرية مع والدته.

اتجه مسار الأحداث ناحية عودة العلاقة بين سلفادور وألبرتو خصوصا وانهما يشتركا في مسألة تناول الهيروين ثم ينتقل ألمودوفار إلى مساحة أكبر قليلا مع سيناريو "إدمان" الذ كان قد كتبه سلفادور عن الانفصال الذي حدث له مع عشيقه فريدريكو "ليوناردو سباراجليا" والذي يقدمه ألبرتو على مسرح صغير في مدريد وللمصادفة يكون فريدريكو حاضرا ويبكي أثناء العرض، مع فريدريكو يخرج ألمودوفار الخط الثالث من جعبته لتظهر شخصية العشيق الذي انفصل عن سلفادور وهاجر إلى الأرجنتين وتزوج وأنجب ابنين أخبر أحدهما بعلاقته القديمة مع سلفادور.

والخط الرابع يظهر مع إدواردو جار سلفادور في القرية الذي يكبره في المرحلة العمرية يعمل كبناء ويرسم اللوحات لكنه غير متعلم فيعقد صفقة مع والدة سلفادور ان يتولى تعليمه القراءة والكتابة بينما يقوم إدواردو بترميم وبناء الحوائط داخل كهف المعيشة المتواضع ، ومن خلال إدواردو أيقن سلفادور ولعه بأجساد الرجال ومعرفة ميوله الجنسية ، وبرغم انتهاء علاقتهما بعد دخول سلفاردو المدرسة اللاهوتية الا أن ظهور اللوحة التي رسمها له إدواردو بعد مرور 50 عاما تلوح باحتمالية بحث سلفادور عن جاره القديم رغم نفيه القيام بذلك.

الخط الخامس والأهم في قصة ألمودوفار الذاتية كان علاقته بوالدته في أيامها الأخيرة ففي البداية ظهرت العلاقة بين الأم وسلفادور الطفل بشكل طبيعي لكن بمرور الوقت قطع سلفادور تلك العلاقة بعدما رفض أن تعيش والدته معه في مدريد متعللا بزخم تجربته السينمائية لكن في حقيقة الأمر أن تخبط سلفادور وترنحه بدأ بعد ان ابتعد عنها ثم أحبط تماما في الحياة بعد أمرين الأول وفاة والدته والثاني انتهاء العلاقة بينه وبين فريدريكو.

استطاع بيدرو ألمودوفار أن يعرض مجموعة من الخطوط الدرامية بتحكم كبير وعبقريته أن كل هذه الخطوط ليست بين الشخصيات وبعضا لكن كلها مرتبطة بشخصية واحدة "سلفادور" نشعر كأن كل شخصية تحصل على حيزها الصغير على الشاشة ثم تبتعد لتفتح المجال أمام ظهور شخصية جديدة تحمل خط آخر أكبر وأعمق لتظهر جانب آخر في شخصية سلفادور كأن ألمودوفار الذي بدأ حياته بالغناء في الكنيسة والمدارس الدينية يعترف بآلامه ويعري أخطائه أمام جمهوره صحيح هي عادة ألمودفار في كل أفلامه لكن في "ألم ومجد" نشعر بأنه يجلس على كرسي الاعتراف في الكنيسة.

اختلفت الشخصيات الرئيسية للفيلم في طبائعهم وذكرياتهم ومشاكلهم لكنهم اتفقوا في أمر واحد وهو قسوة العاصمة وما تحولت إليه مدينة مدريد من قبح فلم تعد ملاذ آمن مثل الماضي فجميعهم تخلوا عنها ماعدا سلفادور هو كما قال يريد أن يتركها أيضا لكنه يحتاج إليها كأمل أخير لعودة أمجاد الماضي التي حققها أثناء حياته فيها.

الأداء التمثيلي كان أحد أهم نقاط القوة في الفيلم أنطونيو بانديراس لا يقلد ألمودوفار بل يجسد روحه ومشاعره وظله إن جاز التعبير ، برغم أنها ليست التجربة الاولى للثنائي معا الا انها الأفضل لبانديراس مع ألمودوفار لكن هذا لا يمنع أن أداء بانديراس ومساحة دوره الكبيرة غطت وظلمت ممثلين أخرين خصوصا الثنائي الأفضل في الفيلم رغم صغر مساحة دورهما " آسير إتكسنديا" و"ليوناردو سباراجليا" خصوصا الثاني فقد قدم أفض أداء في ثلاثة مشاهد فقط وتفوق تماما في المشهد الذي جمعه مع بانديراس في منزل الأخير فقد كان حضور سباراجليا أفضل بكثير من آخر أعماله في الفيلم الأرجنتيني "المتهمة".

"ألم ومجد" تعرية ذاتية لبيدرو ألمودوفار اعترف فيها بآلامه وحالة الفقدان والإحباط رغم هالات المجد المحيطة به ، عن مخرج وجد في السينما ودرب للحياة وخلاص من الفقر والتدين ،وضع نفسه الهشة الضعيفة أمامنا ، كشف عن أخطائه وشعوره بالذنب تجاه والدته التي اعترفت بأنه لم يكن الابن المثالي رغم أنها قدمت له كل شيء ، ألمودوفار يصل لقمة مجده السينمائي وأيضا إلى قمة آلامه سواء كانت الجسدية أو الأخرى التي تتعلق بالذكريات ، يخشى من الأحباء إذا توقف عن العمل لهذا كان البكاء بعد أن انهى سلفادور تصوير آخر مشهد في فيلمه الجديد "الرغبة الأولى" الذي جمع بين الأم "بينلوب كروز" و سلفادور الطفل.

 

موقع "أويما 20" في

05.10.2019

 
 
 
 
 

"جوكر"... الشرُّ الذي لا يُفنَى

عمر بقبوق

في ولاية كولورادو الأميركية عام 2012، دخل إلى صالة السينما رجلٌ يرتدي زي شخصية "جوكر"، أثناء عرض فيلم "باتمان، ذا دارك نايت رايزز" Batman The Dark Knight Rises، وأطلق القنابل المسيلة للدموع وفتح النار على المشاهدين. أدى ذلك إلى موت 12 شخصاً من الجمهور، وإصابة العشرات بحروق، قبل أن تتمكن الشرطة من اعتقال الجاني، المدعو جيمس هولمز، ليفاجئ الشرطة عندما فسر سبب ارتكابه للجريمة بقوله: "أنا الجوكر".

محتوى عنيف

واليوم، تعود تفاصيل هذه المأساة إلى الواجهة من جديد، مع اقتراب موعد عرض فيلم "جوكر" الذي أخرجه تود فيليبس وأنتجته شركة "وارنر برذرز" بالتعاون مع "دي سي"؛ إذ أعلنت روزي سيرفانتس، الناطقة الرسمية باسم شرطة لوس أنجليس، أن الشرطة الأميركية عزمت نشر المزيد من عناصرها حول دور السينما التي ستبدأ بعرض الفيلم، بسبب المخاوف المتزايدة المتعلقة بمحتواه الذي وُصف بـ "العنيف". وكذلك قررت سلسلة دور عرض "لاندمارك" حظر دخول مشاهدين يرتدون أزياء وأقنعة خلال عروض الفيلم. مع العلم أن هذه التصريحات والقرارات جاءت كاستجابة للرسائل التي أرسلها أقارب بعض ضحايا حادثة 2012 لشركة "وارنر برذرز" المنتجة، أعربوا فيها عن قلقهم إزاء محتوى الفيلم الجديد وتداعياته.

أكثر الشخصيّات الشعبيّة شرّاً

من الممكن أن نفهم هذا القلق، لأنَّ شخصيَّة "جوكر" تعتبر أكثر الشخصيات الشريرة شعبية في عالم الأبطال الخارقين، ولأنَّ الفيلم الجديد سيعطي هذه الشخصية دور البطولة لأول مرة بتاريخ السينما، بعد أن كان "الجوكر" دائماً يؤدي دور البطل المضاد في الأفلام والمسلسلات التي تتناول حكايات "باتمان". ويعود تاريخ الشخصية إلى سنة 1940، عندما ظهرت في سلسلة القصص المصورة التي تحمل اسم "باتمان"، ويعود الفضل في اختراعها إلى جيري روبنسون الذي صوّر "جوكر" كشخصية مهووسة بالقتل. وكان من المقرر إنهاء حكاية شخصية "جوكر" في الظهور الثاني لها في القصة المصورة، لكن المحرر ويتني إيليزورث عدّل هذا التفصيل، بإضافته مشهدٍ يدل على أن "جوكر" استطاع أن ينجو بعد مشهد يصور موته. وتكرر موت شخصية "جوكر" في القصص المصورة، وعودته للحياة والظهور، لتعطي تلك الحكايات التي تعتبر الأساس المتين الذي بنيت عليه أفلام الأبطال الخارقين، بعداً أسطورياً لشخصية "جوكر"، ساهم في ازدياد شعبيتها، لتصبح مع مرور الوقت الشخصية التي ترمز للشر الذي لا يفنى.

تحدٍّ فنّي

ومنذ الظهور الأول لشخصية "جوكر" في السينما سنة 1989، بأداء الممثل جاك نيكلسون، حظيت بإعجاب المشاهدين، لتطغى شخصية البطل المضاد على شخصية البطل "باتمان". وبفضل أداء نيكلسون الأسطوري، أصبحت شخصية "الجوكر" تحديّاً كبيراً أمام أي ممثل يرغب بأدائها في الأفلام التالية. وتمكن هيث ليدجر من الارتقاء بالشخصية، إذْ كان أوَّل من يتفوق على نيكلسون، عندما أدى الدور في فيلم "ذا دارك نايت" (2008). ومن بعدها تحولت شخصية "الجوكر" إلى لعنة، بسبب ما أصاب ليدجر عقب أدائه الدور، إذ عانى من الكثير من الأمراض والهلوسات التي انتهت بموته.

هذا التاريخ الغريب المرافق لحكاية تجسيد شخصية "جوكر" زاد من المخاوف المتعلقة بعرض الفيلم، ووضع الشركة المنتجة التي رغبت بإعطاء "الجوكر" دور البطولة، في موضع الدفاع عن النفس، لتصدر تصريحات دفاعية غريبة من نوعها، تؤكد فيها أنها لا تسعى لتمجيد الشخصية، ولتؤكد أن حكاية الفيلم لا تشجع بأي شكل من الأشكال على العنف، وتنهي تصريحاتها بأنها تريد فقط أن يستمتع المشاهدون بالفيلم، باعتباره إنجازاً سينمائياً.

 

العربي الجديد اللندنية في

05.10.2019

 
 
 
 
 

فيلم «pain and glory»: رغبة ملحة في المكاشفة والبوح

أحمد عزت

الرغبة الأقوى التي تملكتني، حين أمسكت بالكاميرا للمرة الأولى، كانت أن أحكي، وأن أحكي.

— المخرج الإسباني بيدرو المودوفار.

دائمًا، ما نجد أفلام المودوفار غارقة في سردية حكائية. المودوفار الذي يرد كل شيء في سينماه إلى قانون الرغبة، يمكننا أيضًا أن نرد سينماه إلى رغبته في الحكي، رغبة ملحة في المكاشفة والبوح.

في حكاياته، كان المودوفار دائمًا مخلصًا لعالمه الشخصي، ينثر ذاته وذكرياته في ثناياها. إذا كانت سينما المودفار ذاتية للغاية، ففيلمه الأحدث (pain and glory) هو أكثرها ذاتية وحميمية.

الألم والمجد

لدينا مخرج سينمائي اسمه سيلفادور مالو/ أنطونيو بانديراس، يسقط عليه المودوفار الكثير من سماته الجسدية والنفسية، يمنحه ذكريات طفولته، إذا كان المودوفار حاضراً في أفلامه السابقة عبر رغباته، وهواجسه، وحساسيته الخاصة، حيث كان يوزع ذاته على شخصياته، لكن هنا لا مجال للخلط، ولا رغبة في التخفي، القناع الذي يستعيره هذه المرة ليكشف ذاته، قناع شفاف تماماً، إذاً لايمكننا التفكير في سلفادور ماليو بمعزل عن ألمودوفار.

يمكننا أن نصف فيلم ألمودوفار بأنه فيلم خريفي، فسلفادور، مخرج سينمائي يتقدم به العمر صوب الموت. يغمر المودوفار،الذي يصف النقاد سينماه بأنها سينما الجسد والمشاعر، جسد سلفادور ومشاعره بلون غسقي. ليس في الجسد هنا متسع لصخب الرغبات، ومشاعره تدور في دوائر مفرغة من الندم والإحساس بالذنب. يحاول فقط أن يراوغ جراح جسده وروحه، أن يتصالح مع خطايا ماضيه.

يفتتح المودفار فيلمه بتتابع من اللقطات تقول الكثير عن بطله، وعالمه، نشاهد في كادرات مغمورة بالأزرق البارد سيلفادور معلقًا تحت ماء المسبح، مغلقًا عينيه، وفاردا ذراعيه، يبدو كما لو كان مصلوبًا في ذلك الوضع، بعيدًا عن العالم الخارجي، تتحرك الكاميرا باتجاهه، يقطع  المودفار، لتستعرض الكاميرا في حركة رأسية ندبة جراحية بطول ظهره، يستعيد المودوفار حركة الكاميرا تجاهه، لتننهي بلقطة مقربة له، ثم عن طريق المزج، يأخذنا ماء المسبح إلى ماء آخر هو ماء طفولته، في كادرات مغمورة بضوء الشمس، نشاهد سلفادور رفقة أمه وصديقاتها على شاطئ نهر يغسلن الثياب ويغنين:

سأكون بجانبك دائمًا، ياللجمال

سأكون بجانبك دائمًا،

حتى أموت حبًا.

ثم يقطع ثانية بين وجه الطفل المبتهج، ووجه سيلفادور الطافي فوق ماء المسبح متألمًا.

هذه اللقطات الافتتاحية يؤطر من خلالها المودوفار عزلة بطله، وألمه، رغم السكينة التي توحي بها الكادرات التي تصوره معلقًا تحت الماء، فإن الألم حاضر في صورة الجرح، ووضعية الجسد المصلوب، ثم هذا التقابل الذي يخلقه بين برودة الكادرات التي تدور في الزمن الحالي، وبين دفء الذكريات المستعادة يعزز ذلك المعنى.

ثم كلمات الأغنية التي تغنيها الأم وصديقاتها، تضعنا أمام رجل مهجور ووحيد، ستكتشف أيضًا لاحقًا أن والدته، توفيت، وهو بعد لم بتجاوز ذلك. هذا هو مدار فيلم المودفار إذًا، عن رجل في خريف العمر، مغمور تمامًا بألمه الجسدي والنفسي، وهو يجاهد كي يبقي رأسه طافيًا فوق الماء.

المودوفار واستعادة الألق القديم للميلودراما

طالما كان المودوفار منجذبًا نحو الميلودراما، وهو هنا يقدم لنا ضربًا من الميلودراما الخالصة. الميلودراما التي صارت كلمة سيئة السمعة بافتراض أنها قرينة بالمبالغة في الانفعال العاطفي، لكن الميلودراما نوع فيلمي (genre)، ذو جماهيرية واسعة وموجود منذ البدايات الأولى للسينما، يعتمد على حبكات عاطفية معقدة وشخصيات معذبة. إذا كانت هناك أنواع فيلمية مثل الويسترن، أو فيلم الجريمة تركز على الصراعات الخارجية فإن هاجس الميلودراما هو استكشاف الصراعات الداخلية، أو مثلما يقول سيد الميلودراما دوجلاس سيرك، كل ما يحدث في فيلم الميلودراما، يحدث في داخل الشخصيات.

كان المودفار من المخرجين الذين جددوا في هذا النوع الفيلمي، متأثرًا بأساتذة الميلودراما، سيرك، كازان، وفاسبندر. ما يميز ميلودراما المودوفار، أنها ميلودرما تمتلك وعيًا بنفسها، أي أنها تضع سقفًا واضحًا للافتعال، تخطف خصوصيتها من الأهمية التي تعطيها للوعي الاجتماعي والبعد النفسي للشخصيات وليس فقط للأحاسيس، هذا يطرد من الميلودراما كل ما هو مصطنع ويبقي فقط على عناصرها الحيوية.

لكن ما الذي يجعل فيلمًا ما ميلودراميًا؟

على صعيد التيمات، لدينا العلاقات العائلية المعقدة، مواضيع الحب المحرم ( علاقات عاطفية وجنسية خارج التقاليد السائدة)، الفقد، التضحية، وشخصيات معذبة تسعى في طلب الغفران، أو الخلاص.

من أهم السمات المحددة للميلودراما، هو تكدس الوقائع، هناك أشياء كثيرة تحدث، لا تصنعها الشخصيات، بل تقع عليها، كسقوط المطر من السماء، مصادفات كثيرة تحدث في فيلم الميلودراما، هنا في (pain and glory)، يتم ترميم أحد أفلام سلفادور الأولى، ويطلب منه تقديمها للجمهور مع بطل فيلمه الذي لم يتحدث إليه منذ الفيلم لأنه لم يكن راضيًا عن أدائه التمثيلي، يلتقي به مجددًا، يتعرف من خلاله على الهيروين الذي يستخدمه لمداواة آلام جسده وروحه المتفاقمة، يزوره الممثل في بيته، ليجد عنده نصًا مسرحيًا اعترافيًا، عن حبه الكبير الضائع يطلب منه أن يؤديه، يوافق بعد ممانعة، أثناء عرض المسرحية الأولى يدلف هذا الحبيب إلى المسرح ليتعرف على نفسه وحكايته، مما يمهد للقاء بين المخرج وحبيبه القديم.

هذا التواصل الجديد مع حبه القديم، يمنحه الأمل والإرادة لتجاوز آلامه. كل هذا الحشد من الوقائع والمصادفات يقدمه ألمودوفار بطبيعية شديدة، ودون أي افتعال. من سمات الميلودراما أيضًا والتي تتحقق في فيلم آلمودوفار، الاعتماد على الفلاش باك، فالفيلم يتحرك بانسيابية بين الحاضر، والماضي حيث ذكريات الطفولة، ذكريات سلفادور مع أمه، هناك منعطفات سردية، انفصال، ثم لقاءات مجددة، فالسرد الدائري هو الأنسب للميلودراما، فسلفادور هنا يرمم ماضيه، يغلق الدوائر المفتوحة، يلتقي بحبه القديم، الذي اختفى دون وداع، اللوحة التي رسمها له بناء ورسام علمه سلفادور الكتابة في طفولته، وضلت طريقها إليه، يعثر عليها مصادفة في أحد المعارض، يقول لمساعدته، الأهم إنها وصلت لعنوانها في النهاية.

تميل الميلودراما إلى المسرحة، كفضاء يسمح للشخصيات أن تعبر عن الدراما الداخلية لها، وهو ما يتحقق عبر المسرحية التي يؤديها بطل فيلمه القديم، عن نصه الاعترافي، وكأنه سيلفادور يستعير جسدًا آخر مكان جسده المتداعي للتعبير عما بداخله من مشاعر.

فيلم المودوفار هو ميلودراما نقية، ذات عمق عاطفي أصيل وواضح، حيث تتدفق العواطف الداخلية لشخصياته على الشاشة عبر الميزانسين، اللون، الموسيقى والأغاني.

جماليات اللون في فيلم المودوفار

اللون الأكثر حضورًا وطغيانًا لدى المودوفار، هو بلا شك اللون الأحمر، وهو لون إسباني جدًا، أو مثلما يقول المودوفار: يعشق الإسبان الرداء الأحمر، ربما أكثر من الدين نفسه. الأحمر لون الرغبة، والدم، والنار، هنا هو شارة الألم الداخلي لبطله.

في الثقافة الصينية، الأحمر هو لون المحكومين بالموت، وهو ما يمنحه حضورًا إنسانيًا، لأن جميع المخلوقات محكومة بالموت، وهو مناسب لفيلم عن رجل في خريف العمر يتقدم نحو الموت. هنا أيضًا يحضر الأزرق البارد كتعبير عن وحدة الشخصية وحياته المسيجة بالعزلة، مثلما يحضر الأبيض أيضًا، خاصة في ذكرياته، كقرين للبراءة الأولى، أو ربما كتعبير عن فقر وتقشف طفولته، وجفاف جذوره الأولى.

مع المشهد الأخير، يكشف لنا المودوفار، أن ذكريات طفولته التي يستدعيها منذ البداية حيث تؤدي بينلوبي كروز شخصية الأم، هي فيلم، يستأنف به سيلفادور مسيرته المهنية التي توقفت بعد العملية الجراحية التي أجراها في ظهره، وموت أمه. هذا التأطير الفيلمي للذكريات يرمي إلى إثبات فكرة وجود جانب خيالي دائم في ذكرياتنا، هناك مسافة دائمًا بين ما حدث وكيفية تذكرنا له.

لا يمكننا الحديث عن تميز فيلم المودوفار، دون الحديث عن الأداء الاستثنائي لأنطونيو بانديراس، الفائز عنه بجائزة التمثيل في مهرجان كان الماضي، والذي ربما هو الأفضل في مسيرته. يخبر سيلفادور ممثله قبل أدائه لنصه المسرحي، النص أصبح فيه بعض الميلودراما، يجب أن تهرب من الانفعال العاطفي، ليس من الأفضل أن تكون ممثلًا يبكي، بل ممثلًا يحبس دموعه. هذا ما يفعله أنطونيو في أدائه، محاولًا كتم انفعاله العاطفي قدر المستطاع،محافظًا على وجه دائم ميلانكولي ومتألم، نراه دائمًا على حافة البكاء، المشهد الوحيد الذي نشاهد دموعه، هو دموع امتنان وحنين إلى حادثة من طفولته.

فيلم شفاف وحزين وعذب، وواحد من أفضل وأنضج الأعمال السينمائية هذا العام بلا شك.

 

موقع "إضاءات" في

06.10.2019

 
 
 
 
 

فاز بالأسد الذهبي في «فينيسيا السينمائي»

«جوكر».. الأجرأ والأكثر ظلامية في أفلام القصص المصورة

المصدر: عرض: عبدالله القمزي

هناك فرق كبير بين أن يذكّرك فيلم بماهيته باستمرار، لأن كل ما تراه على الشاشة لا يمكن فصله عن الصنف الذي ينتمي إليه الفيلم (أفلام أفنجرز مثالاً)، وبين أن تذكر أنت نفسك أن الفيلم ينضوي تحت ذلك التصنيف، لأن عقلك لا يستطيع ربطه بسهولة بصنفه، بسبب تكوينه المختلف والفريد من نوعه، مثال: «فارس الظلام» و«لوغان» و«جوكر».

في عالم باتمان هناك نوعان من الظلام: الأول يتميز بالخواء والسطحية ويقف خلفه زاك سنايدر، والثاني ظلام بطابع جمالي في بصمته الوراثية، ويقف خلفه الإنجليزي كريستوفر نولان. في فيلم Joker المستقل عن أفلام عالم باتمان في رؤيته الفنية السينمائية، وهو ليس مقدمة ولا ملحقاً لتلك السلسلة، فإن المخرج الأميركي، تود فيليبس، المشهور بثلاثية The Hangover الكوميدية، اقترب أكثر من رؤية نولان.

هذا فيلم مزعج، هو رحلة بداخل رأس وقلب رجل مصاب بمرض ذهني وهلوسات ومتألم نفسياً، وهو يميل إلى رعب أكثر من أكشن أو مغامرة. حتى فيلم نولان الأيقوني «فارس الظلام»، الذي يعد درة تاج الكاتالوغ السينمائي لشركة وورنر براذرز/‏دي سي، وظف قالباً تقليدياً مستوحى من أجواء القصص المصورة (كوميكس) أكثر من «جوكر». بوسعنا القول إن في تصنيف أفلام القصص المصورة والخيال فإننا لم نرَ شيئاً مثل «جوكر» في غرابته، وجرأته في الخروج على تقاليد الصنف.

ولن نفاجأ لو علمنا أن أفضل ثلاثة أفلام قصص مصورة في الـ20 سنة الماضية، انحرفت تماماً عن خط تصنيفها الذي اتبعته معظم أفلام سوبر هيرو. بكلمات أخرى، أفلام «فارس الظلام» (2008)، و«لوغان» (2017)، و«جوكر» (2019) كلها خارجة عن قالبها، ودخلت أراضي جديدة بشكل لم يسبق له مثيل.

«فارس الظلام» كان في قالب أفلام العصابات، و«لوغان» كان فيلم ويسترن قلباً وقالباً، أما «جوكر» فهو دراسة سلوك شخصية ودراما نفسية وتشويق عن قصة تكوين مجرم. الأفلام الثلاثة من عالمَي باتمان و «إكس من»، والفرق أن «فارس الظلام» صنف عُمريا لأبناء 13 عاماً مثل كل أفلام هذا الصنف، أما «لوغان» و«جوكر» فصُنفا للكبار فقط.

في لغة القصص المصورة، فإن «جوكر» فيلم عن قصة أصل شخصية، عام 1981، والشخصية الرئيسة هي الكوميدي المشوه الفاشل آرثر فليك (واكين فينيكس المبهر في أي دور يتقمصه)، الذي سيتحول إلى الشخصية الأيقونة الأشهر بعد باتمان، إن لم يكن مساوياً له في الشهرة، رمز الشر والخبث والدهاء: «جوكر».

تاريخياً، أول من جسّد جوكر كان سيزار روميرو في ستينات القرن الماضي، لكنه كان بطابع كوميدي، عام 1989 جسده المخضرم المعتزل، جاك نيكلسون، تحت إدارة تيم بيرتون، لكنه كان متصنعاً إلى أبعد الحدود، عام 2008 تحول الأسترالي الراحل، هيث ليجر، إلى جوكر تحت إدارة المبدع نولان، في أداء أسطوري منحه أوسكار أفضل ممثل مساعد، لكنه مات مدمناً على مضادات اكتئاب، قبل عرض الفيلم بستة أشهر، بسبب الحالة النفسية التي أصابته من الدور.

جاء بعده جاريد ليتو في جوكر منسي في «فرقة الانتحار» 2016، ثم فينيكس في هذا الفيلم. ولا ننسى مارك هاميل الذي أدى صوت جوكر في أفلام الأنيميشن. عندما يبدأ الفيلم نرى فليك المريض النفسي السابق، الذي يعمل مهرجاً تحت تأثير سبعة أنواع من الأدوية. يعيش فليك في مدينة غوثام بشقة مع والدته المنعزلة بيني (فرانزس كونروي).

تتمحور حياة بيني أو وجودها حول شيئين: عشقها مشاهدة مذيع برنامج حواري ليلي، يقدمه موراي فرانكلين (روبرت دينيرو)، وهوسها برب عملها السابق توماس وين (بريت كولين)، وهو والد باتمان، الذي رشح نفسه لمنصب الحاكم.

في الوقت نفسه فإن آرثر تعلق بساكنة في البناية، هي الأم العازبة صوفي (زازي بيتز). يحصل آرثر على مسدس من زميله ويستخدمه في لحظة غضب، بعد أن يتعرض للتنمر والضرب من قبل ثلاثة رجال أعمال أثناء وجوده في قطار الأنفاق. وبمجرد توقفه عن تناول الأدوية يبدأ الجانب المظلم من شخصيته في الظهور، وتسيطر شخصية جوكر على بقايا آرثر المسكين.

يتحرر «جوكر» من كليشيهات أفلام قصة أصل الشخصية (محاولة اكتشاف شخصية قواها الخاصة، أو التعرض لحادث يؤدي إلى ذلك)، ويرسخ نفسه في قالب أفلام الدراما النفسية والتشويق. من السهل معرفة الفيلمين اللذين تأثر بهما فيليبس في رؤيته الفنية، وهما فيلما مارتن سكورسيزي الشهيران «تاكسي درايفر» 1976، و«ملك الكوميديا» 1982. ويشير فيليبس إلى الفيلمين من خلال وجود دينيرو في دور مذيع، وهو الذي أدى بطولتهما معاً.

من الصعب عقد مقارنات، خصوصاً بين رؤيتَي ليجر و فينيكس لـ«جوكر»، لأن الأول وكل سابقيه أدوا دور مجنون بلا تأسيس لحالة جنونه. بينما فينيكس هنا يؤسس حالة الجنون التي شاهدنا «جوكر» خلالها في السنوات الماضية.

الفيلم عنيف، لكن لم نرَ فيه تمجيداً للعنف، الغرض من العنف إحداث صدمة أكثر من محاولة تحقيق ارتواء لمتعطشي مشاهد الدم من الجماهير. لو قارنا الفيلم بـ«جون ويك» أو أفلام الرعب من نوع الذباح slasher، فإن عنف جوكر أقل بكثير، وعدد جثثه لا يزيد على خمس. لكن تأثير العنف شديد في النفس مع كل مشهد قتل، بسبب الحالة النفسية التي تعيشها الشخصية.

أداء فينيكس رائع جداً، وتظهر عظامه بشكل مخيف بسبب فقدانه وزنه بسبب الدور، كما فعل كريستيان بيل في فيلم The Machinist عام 2004. لا ينسى فيليبس وضع مشهد مقتل والدَي بروس وين أمام عينه في نهاية الفيلم، وهو مشهد بداية قصة باتمان. أي أن جوكر يكمل دائرة القصة بربط قصته مع باتمان. هذا الفيلم متحرر تماماً من كل ما يربطه بقصص السوبر هيرو باستثناء أسماء الشخصيات.

يشير الفيلم إلى ظروف سياسية في القصة، مثل تقليص ميزانية تؤدي إلى إلغاء خدمات اجتماعية لمساعدة المرضى النفسيين، واهتمام الحكومة الأميركية بتعزيز مصالح الأغنياء على حساب الفقراء. وهذا انقلاب كامل على السياق السياسي لأفلام باتمان، التي ظهرت يمينية التوجه في ثلاثية نولان، أما «جوكر» فيميل إلى اليسار بتبرير جنوح جوكر إلى العنف، بتخلي الحكومة عن تلك الشريحة من السكان.

يذكر أن «جوكر» فاز بجائزة الأسد الذهبي (أفضل فيلم) في مهرجان فينيسيا السينمائي بدورته الأخيرة، وهو يستحق الترشح كأفضل فيلم، كما يستحق «فينيكس أوسكار» على أدائه الرهيب. لو فاز فينيكس فسينضم إلى ليجر ومارلون براندو وروبرت دينيرو في قائمة الممثلين الذين فازوا بأوسكار لتجسيدهم الشخصية نفسها، الأول والثاني أديا جوكر، الثالث والأخير فازا لتأديتهما شخصية فيتو كورليوني في فيلم «العراب».

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.

التقييم

 «الفيلم» فاز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان فينيسيا بدورته الأخيرة، ويستحق الترشح كأفضل فيلم، كما يستحق فينيكس «الأوسكار» على أدائه الرهيب.

 

الإمارات اليوم في

06.10.2019

 
 
 
 
 

قراءة في جوكر واكين فينيكس .. أن تبكي ضَحِكاً

محمد أيمن

شارداً في عالمه الخاص وباغضاً لحال مدينته التي لا ترحم ضعيفاً نجد آرثر فليك الذي يعمل مُهَرِّجاً لإحدي محلات المدينة في حالةٍ نفسية يُرثى لها .. تلك الحالة تُحركه لخلق عوالم أخرى يُصبح هو بطلها وصوتها الأعلى بعدما كان يُطرد من كل الأمكنة التي حاول من قبل أن يثبت نفسه فيها كصانع كوميديا .. ومع سير الأحداث ندرك أن كوميديا آرثر فيليك مجرد مفردة مصطلحة فحسب لكنها وبالأساس تنطوي على جوهرٍ مأسوي ومُحَطِم .. هي كوميديا الألم والتأوهات المتأتية من صوت الشر والقوة والفساد في هذا العالم .. هي التراجوكوميدي إن جاز التعبير ! تراجيديا القرن الواحد والعشرين في ثوبها الأكثر صدقاً وواقعية .. فنِكاتُ آرثر تجعلنا نضحك دموعاً ونبكي ضحكات !

لم يشاهد أحدٌ الفيلم إلا وستجد صوت واكين فينيكس وهو يضحك طيلة الأحداث عالقاً في مسامعه .. لكن هُنا نشهد ضَحِكاً آتياً من ظروفٍ حالكة وسوداءٍ بالكُلية .. كأن توبخه سيدة حين لعب مع طفلها .. أو أن يسمع رغبة مدير العمل في تسريحه .. أو أن يشاهد المدينة غارقة في الفساد السياسي والجنسي وهي تحترق عن بكرةِ أبيها .. حياته كانت مليئة بالأسى والضنكِ فراح يتعامل مع مأساتِه كأنها كوميديا .. ومع دمعاتِه كأنها ضحكاتٌ يُطلقها بين الحين والآخر .. ففي المسرح اليوناني تتشابه التراجيدية مع الكوميديا في أن كلا الشعورين ينجمان من حدثٍ لم يكن بالحسبان ؛ وهُنا وجد آرثر ضالته الشعورية فراح يتحايل مع قدره ويتعاطى مع مصيره كأنه نص كوميدي لم يتوقع حدوثه أحد ولا حتى هو .

لذا تم إستعراض الفيلم بعين آرثر المُجهدة ونفسه المعطوبة ناقلاً لنا نزيف الحزن الذي يعبر عنه بصوت الضحك الذي يزرفه كدموعٍ تتجلى لنفسه فقط .. ومع ذلك مازالت آثار دموعه بارزةً في ميكياج وجهه وهو يجاهد لمداراتها فلا يقدر .

تعامل المخرج مع جسد آرثر الهزيل كأنه مرآةٌ لمكنون ذاته المُهَشّمة .. فلم يكن الجسد مجرد أداة تمثيلية بل واجهة إستعراضية تنعكس عليها هشاشته الداخلية وفقره الشعوري .. نجد في بداية الفيلم كادر مُقرَّب على عروق يده الزرقاء البارزة ومع سير الأحداث نراه يمكث في ثلاجته ويظل بداخلها .. هذا الإنسان المنهك الذي أضنته اللكمات راح يُسَكِّن من ألم جسده بجعله بارداً كسائر الخلائق التي لا تعبأ بإيذائه لا سيّما بعدما نفذت أقراص الدواء المسكنة التي يتعاطاها .. ولربما كان ذلك المشهد تعبيراً مجازياً لتحايلٍ آخر قدمه آرثر ؛ فبعدما يأس من تحوّل المجتمع عنه وإشعاره بالدفء والإحتواء راح يقلل من حرارة جسده ليتبدى له هذا العالم وكأنه أكثرُ دفئاً وحُنوّاً ! نجد كذلك تلك الكدمات التي تركت أثراً منذ صغره تقبع في جنبات جسده فتسفر عن طفولته القاسية التي شكّلت علاقته بمن حوله .. أو التشجنات العصبية التي تلبَسَه فتجعله كائناً ضعيفاً لا يكاد يسيطر عن جموح جسده المستمد من جموح مخيلته واضطرابه النفسي .

يقول الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل أن الإنتقام وما ينطوي عليه من شرٍ له دورٌ في تقدم البشرية ودفع الركائز الإنسانية إلى الإمام .. ففي المبدأ الهيجلي يحصل التغيير في الوعي والقناعات الجمعية بوجود جدلية أو كما أسماها " دياليكت " بين فئتين يتناحران أو تسعى إحداهما للإنتقام من الأخرى واسترداد حقها وفي طريق إنتقامها يصبح الشر نواة خلق مفاهيم مجتمعية أكثر إرضاءاً لكلا الطرفين .. تبني آرثر فيليك تلك الفلسفة لكن بشكل أكثر تطرفاً فحمل سلاحَه وأشهره في وجه كل من تسبب له أو لغيره بأذى وإن كان مجرد تضرر نفسي .. راح يثأر من كل من حجّموه وأخفضوا صوته وتباروا على من يعذبه نفسياً بقدرٍ أكبر .. فآرثر يود ترك بصمته بداخل هذا المجتمع المُخيف الوحشي ؛ لذا نجد خربشات قلمه بارزةً على جدران بيته .. حائط مصعد العمارة وحتى في الطرقات التي يمر بها .. هذا الأثر وضح أكثر حين أصبحت قضية القتل مجتاحة أرجاء المدينة فتحولت إلى حراك شعبي من قِبَل المهمشين الفقراء المطحونين يودون اقتناص حقوقهم من ذويهم الأكثر حظاً .. وحين بدأ فيليك جريمته الأولى بقتل ثلاثة شُبّانٍ يضايقون فتاةً ثم يبرحوه ضرباً نجده يذهب لبيته ويؤدي رقصته في هدوء ورصانة وكأنها رقصة التحرر وترنيمة الخلاص .. بدتْ رقصةً حالمة تزيد من وداعتها الموسيقى وقد أصبح آرثر أقل إضطراباً وتلاشت تشنجاته فسارت رقصته في سيمفونية متناغمة مستشعراً هدوء النفس للمرة الأولى منذ زمن .

خواكين فينيكس قدم لنا شخصيةً متوهِمة بإمتياز .. يمكن ملاحظة أن عقارب الساعة المُسَلطة على نفس التوقيت - الحادية عشر وعشر دقائق - ظهرت في عدة مشاهدِ في الفيلم في أحداث زمنية مختلفة .. فشخصيتنا لا تعتبر الزمن حاجراً بل يمكنها اختلاق أحداثٍ غير حقيقية والعيش بمقتضاها كوسيلة دفاعية تجاه مأساتِها الخاصة .. فمثلاً حين كان آرثر يشاهد برنامجه الكوميدي المفضّل نجده يتذكر - أو في الحقيقة يخلق - مشهداً متخيلاً لحلوله ضيفاً في البرنامج .. ومع تقدم الأحداث وإتصال فريق العمل بغرض إستضافته يتحسس جسده وكأنه يريد التأكد من أن هذا واقعاً ليس من ابتداع عقله .. كذلك شخصية جارته التي تُثني على مواده الكوميدية أو وجوده في الملهى وتصفيق الحضور له كل ذلك يندرج تحت أوهامه الخاصة التي تمثل طوق النجاة ولجام الخلاص ..

ومن هذا المنطلق نجد الفيلم يقدم لنا الأحداث خالصة دون توضيح مبالغ فيه للواقع والأوهام اللذين يحتلان المكانة ذاتها لدى آرثر .. فالزمن برمته يصبح فراغاً عقلياً يتحرك فيه بطلنا يواجهه .. يعيد صياغته .. يخلقه مجدداً أو حتي ينزعه كُلياً من ذاكرته .. في مشهد المواجهة بينه وبين أبيه المزعوم نجده يقف أمام حوضٍ في مسرح سينما كبير ثم ينتقل المشهد بعدها لنفس الوضعية لكن تلك اللقطة أمام حوض بيته المتهالك ناهيك عن غرابةِ وسهولة تسلسل هذا اللقاء من الأساس .. كذلك مشهد هروبه بمستند حالة أمه المرضية كان أيضاً غير منطقي فلم يتعرض إليه أحدٌ أو يحاول إسترجاع الملف وحين يقرأه آرثر نرى ماضي أمه وهو ينظر إليها عبر زجاجٍ مموّه .. وكأنه يختزن بعقله مُسبقاً تلك الذاكرة بأنه كان طفلاً متبنياً فأصبح في صراعٍ مع هذا الماضي الذي لطالما حاول طمسه فيبدو أن انقطاعه عن تناول مضادات الإكتئاب جعله في مواجهة جريئة مع ماضٍ يفر منه . ومع مقابلته لتلك الحقيقة التي حاول اخفاءها عن نفسه يتذكر كل الأحداث الأخرى التي كانت من صنيع عقله كجارته وثناثها عليه وما كان منه سوى أن يضحك أو بمعنى آخر يبكي بطريقته المعهودة !

ومن ثمّ كان ترتيب المشاهد مساعداً على قراءة مراحل تطور شخصيتنا ؛في مشهد تسريحه نجده يَلْكُم تلك الساعة التي أظهرت التوقيت المتكرر ويخرج إلى مكانٍ قد غمره النور كمجازٍ عن إنفكاكه من أسر المجتمع وتلى بعد ذلك خبر توقفه عن زيارة معالجته النفسية فلم يعد بحاجة إليها بعد ذلك وكأن القتل والرد بالقوة على قسوة العالم أصبح متنفساً له ومرمماً لشتاته وألمه النفسي ..

ويأتي مشهد النهاية مُرهصاً لفلسفة آرثر على مدار الفيلم .. نجده يمر في رواق المستشفي وحيداً لا يوجد مرضي ولا أطباء ولا أشخاص .. يركض يميناً ويساراً محاولاً الرقص رغم قيود يده .. يظل آرثر في ذلك الفضاء العقلي الذي شيده لنفسه كملجأ آخر يلوذ إليه بعد كل وخزةِ ألمٍ لا يتحملها ترن في أعماقه من مجتمعٍ منجرف يدهسه بدمٍ بارد .. هذا الرواق هو مكانٌ مُتَخَيل من آرثر يحتمى بداخله من سوء الحياة وإجحاف الواقع وحقيقة أنه أصبح وحشاً مثلهم مدارياً ألمه بين ظلوع جسده .. وحزنه بين سطور دعاباته .. ودموعه بين أصوات ضحكاته التي لا تنجلي . فلم يكن تركيز الفيلم على شخصية الجوكر بقدر آرثر فيليك الإنسان الذي يشبهنا .. يشبه إنسان هذا القرن الذي يقابل العالم ببسمةٍ تخفي ضعفه وإنكساره.

 

موقع "رقيم" في

06.10.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004