كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

وثائقي سوداني يتوج بذهبية قرطاج السينمائي

لمى طيارة

أيام قرطاج السينمائية الثلاثون

   
 
 
 
 
 
 

صهيب قاسم البري: إنجاز فيلم «الحديث عن الأشجار» انتصار على الدكتاتورية والبيروقراطية.

توّجت أيام قرطاج السينمائية في دورتها الثلاثين التي اختتمت، السبت، الفيلم السوداني الوثائقي الطويل “الحديث عن الأشجار” بالجائزة الذهبية، وهو فيلم من إخراج صهيب قاسم البري، وتأتي أهمية العمل بالدرجة الأولى من كونه فيلما قادما من السودان، وثانيا لأنه ينبش ويبحث في الذاكرة البصرية للسودان عبر أرشيفها السينمائي من خلال شخصياته الأربع التي كان لها الفضل الكبير في صناعة تلك الأفلام وأرشفتها.

تونس – رغم ارتباط معظم أفلام السينما الوثائقية وخاصة العربية منها في ذهن المشاهد بطابع الحزن والبؤس، يبرز فيلم “الحديث عن الأشجار” كفيلم سوداني خفيف الظل يحمل مضمونا جديرا بالاهتمام والتوقّف عنده، ويحكي الفيلم عن التاريخ المزدهر للسودان الذي كان يشع ّثقافة وحضارة.

صحيح أن التجربة في حد ذاتها لم تكن سهلة واحتاج المخرج صهيب قاسم البري إلى روح المغامرة والكثير من الحيل لإنجازها وسط بيروقراطية وقوانين قاتلة تحكم السودان، إلاّ أن روح الدعابة التي تتملّكه وحيلته الواسعة وصبره الذي نتلّمسه في شخصيته حين التقته “العرب” بتونس، إثر تتويجه بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، ما يؤكّد تمكّنه من إنجاز فيلم بهذا الجمال وتلك الحساسية.

لكن كيف أتت فكرة الفيلم؟ وكيف علم المخرج بالأرشيف السينمائي السوداني؟ يقول صهيب قاسم البري في حواره مع “العرب”، “كنت أعرف مسبقا بوجود هذا الكم الكبير من الأرشيف السينمائي السوداني، فهناك ما يقارب 13 ألف فيلم تسجيلي كانت في معظمها من الإنتاجات الرسمية للدولة، إلاّ أنه ومع محاولة حكومة البشير والإسلاميين محو الذاكرة السودانية تماما، تعرّضت تلك الأفلام إلى إهمال كبير جدا، ووضعت في مكان سيء وتحت ظروف لا يمكن بأي حال من الأحوال تجميع أرشيف سينمائي وطني فيها”.

فيلم “الحديث عن الأشجار” عمل خفيف الظل يحمل مضمونا جديرا بالاهتمام و يحكي عن التاريخ المزدهر للسودان الذي كان يشع ّثقافة وحضارة.

وعن كيفية النبش في أرشيف سينمائي في دولة تحكمها البيروقراطية، ومدى حجم الصعوبات التي واجهت المخرج صهيب قاسم البري أثناء رحلته السينمائية تلك، يقول “وجدت صعوبة كبيرة في البحث والنبش عن تلك الأفلام وخاصة أفلام وأرشيف سليمان (أحد أبطال فيلمه الأربعة)، لأنه موجود داخل مبنى التلفزيون السوداني، وهو بناء محصّن جدا على اعتباره مهددا دوما بالاحتلال تحت ضغط أي خلاف يحصل، وأثناء زياراتي المتكرّرة لمبنى التلفزيون قابلت حرّاس الأرشيف السينمائي، وكان بنجامين واحدا منهم، وقد لفت انتباهي بشكل كبير واعتبرته شخصية نادرة، لأنه رجل متفهّم جدا سبق وأن عمل لفترة طويلة في الإنتاج السينمائي السوداني، ورغم أن الجنسية السودانية قد انتزعت منه بين يوم وليلة، وفقد بالتالي مرتبه كموظف بسبب أصوله التي تعود لجنوب السودان، إلاّ أنه واصل حراسته لذلك الأرشيف”.

رمزية العنوان

لأن الأفلام كما الروايات والقصص تُقرأ من عناوينها، فإن عنوان الفيلم “الحديث عن الأشجار” لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام، فمن أين استوحى المخرج هذا العنوان؟ ولماذا؟

وعن سؤال “العرب” يجيب المخرج السوداني “اقتبست العنوان من بيت شعر للكاتب والشاعر الألماني بريخت، بالتحديد من قصيدة بعنوان ‘للذين يأتون من بعدنا’ والتي يقول فيها: أي زمن هذا الذي يكاد الحديث فيه عن الأشجار يصبح جريمة، بينما هناك جرائم أكثر هولا”، كما أن والدي كان يكرّر نفس العبارة في بداية التسعينات والتي كانت تعرف بسنوات الرصاص والقمع والقتل، حيث كنا نعيش حالة من الإحباط الشديد، خاصة بعد أن فُصل والدي ومعظم أفراد العائلة من العمل، واعتقل صديق لي كان يعمل طبيبا ومات تحت التعذيب، بالإضافة إلى أن منار أحد أبطال الفيلم والذي تعود مرجعيته إلى الأدب، ذكر في الفيلم نفس العبارة وكرّرها”.

صهيب قاسم البريكنت أصوّر بشكل سري، فلو طلبت تصريحا لمنع الفيلم

كل ذلك أشعر المخرج السوداني بأهمية تلك العبارة وما تحمله من رمزية، فالحديث عن الأشجار هو حديث عن الجمال والفن والأزمنة القاسية، لكن في ظل الفاشية والقمع والموت يحصل نوع من النزاع الداخلي في قلب الفنان حول الشرعية الأخلاقية وكيفية الحديث عن الفن أو السينما أو الجمال وسط هذا الدمار، ويزداد هذا التنازع ويصبح أكبر بكثير حين يكون الفنان قادما من السودان، فبعد كل هذا الخراب الذي وصل إلى حد تدمير حتى الإنتاج الزراعي الغني والدفع بالعشرات للنزوح إلى المدن، علاوة على المهاجرين بسبب دارفور وجنوب السودان، كل ذلك وعبر سنوات طويلة اغتال كرامة المواطن السوداني بشكل يومي.

ويضيف “كما أن هناك نوعا آخر من التنازع يعيشه الفنان السوداني وخاصة من سبقوني، ما بين الرضوخ والتنازل لأتمكن من إنتاج فيلمي، أو أن اختار الطرق الوعرة التي اختارها من سبقوني والتي من خلالها قُدّمت أفلام جميلة ومهمة في المحتوى رغم رمزيتها الكبيرة”.

ورغم محلية فيلم “الحديث عن الأشجار” استطاع مخرجه صهيب قاسم البري أن يحصل على تمويل خارجي هام، فكيف استطاع تحقيق ذلك، وعن ذلك يقول “في البداية وجدت صعوبة كبيرة في الحصول على تمويل، وخاصة من السودان على اعتبار أنه لا يوجد أي إنتاج أو مساعدة على الإنتاج، بل على العكس من ذلك تماما، فالعراقيل هي سيّدة الموقف، إذ أنني كنت أصوّر دون وجود تصاريح وبشكل سري، ولو طلبت تصريحا لتوقف الفيلم مباشرة،

بالتالي جزء كبير من الفيلم صوّرته بنفسي”.

ويضيف “حاولت خلق سيناريوهات وهمية لأتمكن من التصوير، وحصلت على التمويل فعليا بعد أن كتبت السيناريو الأوّلي للفيلم، وكان أول دعم أحصل عليه من مهرجان أبوظبي السينمائي، وهو التمويل الذي من خلاله اقتنيت معدات التصوير، ثم في فترة لاحقة دعمتني شركة AGAT FILM، وهي شركة إنتاج فرنسية، ومع بداية التصوير بدأ الفيلم يحصل على فرص تمويل كثيرة، لكنها كانت تجربة قاسية ليس فقط بسبب الدكتاتورية في السودان، بل أيضا بسبب دكتاتورية رأس المال، فنحن كمخرجين حين نصوّر الفيلم الوثائقي نكون بمفردنا دون وجود أي تمويل، نخاطر وندفع من جيوبنا، وبعد أن نعمل مع شركات الإنتاج نخرج بمرارة من التجربة، خاصة كونها تضخّم من نفسها على حساب مبدع الفيلم، وإلى اليوم ما زالت لديّ بعض النزاعات مع شركات الإنتاج إلى درجة أنني لا أملك رابطا إلكترونيا للفيلم، وأفكر لاحقا في أن أعمل واحدا بمفردي”.

من المحلية إلى العالمية

شارك فيلم “الحديث عن الأشجار” في مهرجان برلين السينمائي الذي يعتبر واحدا من أهم المهرجانات في العالم، وحصل فيه على جوائز، عن ردة فعل السودان كحكومة حول التتويج وهل تعرّض الفيلم وطاقمه لأي مضايقات حين العودة إلى السودان، يقول المخرج “بطبيعة الحال كانوا مُجبرين على قبول الفيلم، رغم علمي أن أحد موظفي الأمن العاملين في التلفزيون السوداني كان ينوي قتلي، لكن التغطية الإعلامية الكبيرة للفيلم شكلت نوعا من الحماية بالنسبة لي، خصوصا بعد تتويجه بجائزة في برلين، رغم أنني حينها صعدت المنصة ووجّهت خطابا للثورة السودانية وقصيدة”.

ويضيف صهيب قاسم البري “حين عودتي إلى الخرطوم كنت وأبطال العمل نتوقّع سيناريوهات كثيرة لاعتقالنا، وكنا نضحك خوفا، وعندما وصلنا إلى المطار قال لنا إبراهيم ضاحكا لا تمشوا سويا كما (أفيش) الفيلم، لكن لحظة وصولنا قابلتها بسالة وجسارة السودانيين، وخاصة بعد الفيديو الذي انتشر لنا في السودان، وهذا يؤكد رغبة الشعب في استعادة الكرامة والانتصار للحرية ولو بشكل رمزي، وأن الحكومة وصلت إلى درجة فقدت فيها أي نوع من الكونترول أو الرقابة بسبب الاضطراب الداخلي، وخصوصا بعد أن باتت السجون تفيض بالمساجين”.

كاتبة سورية

 

العرب اللندنية في

05.11.2019

 
 
 
 

"شافية" محمد زين الدين مرآة سينمائية لواقع وحياة وانفعالات

نديم جرجوره

تعيش أمباركة (فاطمة عاطف) في بلدة يُطلّ عليها مصنع للفوسفات، برفقة ابنها بالتبنّي (16 عاماً)، عبدو (المهدي العروبي). تعتاش من ممارستها الطب الشعبي، لمعالجة أمراض ناس البلدة، غير المذكور اسمها، رغم أنّ هناك من يُحيلها على "واد زم"، مسقط رأس محمد زين الدين (1957)، مخرج "أمباركة" (2018)، المُشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، في الدورة الـ9 (4 – 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية" (السويد). إحالة غير معنيّة بتأكيد صحّة المعلومة، بقدر ما تقول إنّ التشابه حاصلٌ بين البلدتين، وإنّ زين الدين يستلّ مناخات فيلمه الأخير هذا، وحكاياته وفضاءاته وشخصياته، من مسقط رأسه.

تبدو أمباركة، بمهنتها تلك، المنقذة الوحيدة في البلدة، فهي "الشافية" (كما العنوان باللغة الفرنسية) لأبنائها من أمراض عديدة يُصابون بها. فالمصنع يبثّ سمومًا، والحياة قاسية، والرغبة في امتلاك أبسط الأشياء تصطدم بقهر وفقر وارتباك. ابنها بالتبنّي أمّيٌّ، لكنه يجتهد لتعلّم القراءة والكتابة. علاقته بها غير سليمة، فهو يُدرك أنّه مُتبنَّى، ما يُشعره بأنّه غير خاضعٍ لها، رغم تسلّطها عليه، والتسلّط لن يحول دون منحها حنانًا له، في أوقات مختلفة. يحاول الانقلاب عليها مرارًا، لكنّه محتاج إلى أدوات للنجاة، يظنّ أن القراءة والكتابة بعضها. محتاج إلى خلاصٍ من الخراب، المُقيم في البلدة، والمعتمِل في روحه. صديقة له تساعده، لكنّها تصطدم بتخلّفه، غير المُبرَّر لها، عن موعدٍ معها منتصف إحدى الليالي، للخروج النهائي من البلدة. هي لن تعرف سبب تخلّفه، ولعلّ هذا غير مهمّ.

شْعيبة (أحمد مستفيد) نصّاب وسارق. يبيع "الحوت" (تعبير مغربي شعبي يعني السمك)، وعند انتهائه من "وظيفته" هذه، يلجأ إلى السرقة. شاب غير عابئ بأحد، وغير معنيّ بأحد. نزق وغاضب، وفي الوقت نفسه ذكيّ ومحتال. يُصاب بطفح جلديّ، فينصحه صديقه عبدو بزيارة "الشافية". زيارة تليها أخرى، قبل أن تتحوّل لاحقًا إلى علاقة بينهما، يتّضح فيما بعد أنّها "جسدية" استغلالية بالنسبة إليه، وروحية وانفعالية بالنسبة إليها، بالإضافة إلى الجسد/ الجنس، فهي محرومةٌ الزوج والرجل. علاقة ينتبه إليها عبدو، فينتفض بصمت، ويحاول هروبًا، لكنه يفشل. شْعيبة يسرق أمباركة، فتظنّ أن عبدو هو السارق. وعند اكتشاف عبدو السارق الفعليّ، يحاول تبرئة نفسه من دون جدوى. تزداد النزاعات، وتنتهي مسارات الشخصيات الثلاث بمزيدٍ من المآسي، فعبدو يُقتَل خطأ على يدي أمباركة، التي تتمكّن من اتّهام شْعيبة بالفعل الجُرميّ أمام أهل البلدة جميعهم.

لن يُعطِّل كشف الخاتمة متعة المُشاهدة. قد تكون الخاتمة مُتوقّعة، وإنْ بشكلٍ غير واضح تمامًا. أو ربما هي مطلوبة، لانسجامها الدرامي مع المسارات والمصائر. فالعلاقات الناشئة بين هؤلاء الثلاثة طافحة باضطرابات وغضب وتملّق، كما برغبات معطّلة، وخيبات مؤلمة، وقسوة متنوّعة الأشكال والأساليب، وعنف مبطّن ينكشف أحيانًا بكلمة أو نبرة أو سلوك أو انفعال. الشخصيات كلّها معطوبة، تعاني غالبيتها أمراضًا في الجسد، تحاول الشافية معالجتها بما لديها من خبرة فطرية، وأخرى في الروح، وهذا معقودٌ على احتمالات كثيرة، وإنْ يتبدّى بعضها في مظاهر سلوكيّة، كأنْ يؤدّي الاضطراب كلّه إلى مآسٍ، بل إلى مزيدٍ من المآسي والانكسارات والصدامات.

التقاط هذا كلّه، سينمائيًا ودراميًا وحسّيًا، مشغول برويّة لن تحجب حجم الغليان، بقدر ما تُساهم في تبيان معالمه ومساره وتأثيراته، والمآل التي يبلغها. تصوير البلدة وناسها وتفاصيلها، المكانية والروحية، مكتفٍ بكاميرا (لوكا كوأسّان) تراقب وتتابع وتنقل ما تراقبه وتتابعه، من دون إضافات بصرية أو جمالية، كأنّها توثِّق لكنها تنفضّ عن الفنّ الوثائقي، فهذه لن تكون مهمّتها.

الحالات والانفعالات والشخصيات والفضاءات والأمكنة والعلاقات مستلّة من وقائع العيش في البلدة، ومنقولة إلى الشاشة الكبيرة بأسلوب يوهم ببساطة وسلاسة، لكنّه يتمكّن سريعًا من توريط المتابع في خفايا أرواح، وخبايا أمكنة، ومسام أجساد، وارتباك انفعالات ورغبات. كأنّ محمد زين الدين مكتفٍ بـ"جسّ نبض" المكان وفضائه، والذات وامتداداتها، والروح وغليانها، والنفس ومتاهاتها، فإذا بـ"جسّ النبض" هذا يتحوّل إلى بناء سينمائي، يرتكز على تصوير دقيق للتفاصيل والهوامش والمتن، وعلى توليف (إيلينا كابريا) يبني تلك العمارة السينمائية على وقائع العيش في دهاليز الجغرافيا، وكوابيس النفوس.

الإشارة إلى مصنع الفوسفات، المُصوّر في لقطات عديدة بطريقة تجعله ماردًا يطلّ على البلدة بجبروت وتملّك وسطوة، تقول إنّ المكان موبوء بأمراضٍ تُضاف إلى أمراضٍ شتّى، فتُعالج أمباركة مُصابين بشتّى أنواعها ومصائبها الجسدية، هي التي تحتاج إلى علاجٍ روحي، كما يبدو لاحقًا؛ وتعكس خراب الروح وتعب الجسد أيضًا، إذْ ينبثق الخراب والتعب من جبروت المصنع نفسه، أو يتأتيان من قسوة العيش ومتاهة الحياة وانسداد الأفق. فالمكان/ البلدة مُهمَّش، اجتماعيًا واقتصاديًا وإنسانيًا وثقافيًا وحياتيًا، وتظهر معالم التهميش في أشكال العمارة والأزقّة والملابس والمقاهي وغيرها، وهي أشكال موغلة في الفقر والتمزّق والتوتّر، رغم هدوء ظاهرٍ، كذاك الذي يُسيطر، لدقائق، على بداية فيلمٍ، يغوص تدريجيًا في مسام روح ووعي، دافعًا إلى التأمّل في أحوال التهميش والمهمّشين.

لكن "أمباركة" يبقى شهادة سينمائية عن أناسٍ يواجهون أقدارهم بصمت أو غضب أو ارتباك أو نزق أو لامبالاة. يواجهون أيضًا يومياتهم، فيحاولون صُنع المستحيل من أجل خلاص معطّل أو ملتبس أو مؤجّل أو ملغى.

 

####

 

"لما بنتولد": مشاعر معلّبة ورومانسية قديمة

محمد جابر

يمتلك "لما بنتولد"، للمصري تامر عزت، سمات مشجّعة، تُستَشفّ قبل مُشاهدته: أوّلها أنّه مختلفٌ عن السائد، فهو ينتمي إلى السينما المستقلة، حيث الميزانية صغيرة، والممثلون ليسوا نجوم صف أول، وبالتالي هناك سيطرة أكبر للمخرج على تقديم رؤيته الفنية من دون ضغوط إنتاجية. في الوقت نفسه، يحاول الفيلم، إيجابيا، التحلّي بعوامل تجارية جاذبة، كقصصه الرومانسية المُقدّمة في قالب موسيقيّ، للاستفادة من أحد ممثليه، أمير عيد، المغني المشهور وعضو فرقه "كايروكي". 

الأمر الجاذب الآخر كامنٌ في صنّاع الفيلم أنفسهم. فلتامر عزت أفلامٌ وثائقية جيدة، بدأ إنجازها منذ أعوام عديدة، علمًا أنّ فيلمه الروائي الثاني هذا يأتي بعد 9 أعوام على فيلمه الأول "الطريق الدائري". كذلك كاتبة السيناريو الموهوبة نادين شمس، التي توفّيت قبل 5 أعوام، بعد مسيرة قصيرة ومميّزة. سيناريو "لما بنتولد" أحد الأعمال التي تركتها من دون تنفيذ.

لكن، رغم المعطيات الإيجابية هذه، لم تكن النتيجة النهائية جيّدة، إطلاقًا.

يرتكز "لما بنتولد" على 3 حكايات منفصلة دراميا، يتمّ التنقّل بينها سرديا، وتجمعها علاقة رومانسية تنشأ بين بطليها، اللذين يتعرّضان لضغوط طبقية ودينية ومجتمعية. في الحكاية الأولى، يعاني أمين (عمرو عابد) فقرا، يؤثّر على حياته، فيوافق مضطرا على أن يكون "عامل جنس" مقابل المال، مُقدِّما "خدماته" إلى سيدات غنيات، ما يؤثّر على علاقته بزوجته عايدة (ابتهال الصريطي). في الحكاية الثانية، تحبّ الفتاة المسيحية فرح (سلمى حسن) الشاب المسلم أسامة (محمد حاتم)، لكن الاختلاف الديني يهدّد علاقتهما، رغم التآلف والمحبة بينهما. في الحكاية الثالثة، يتراجع الجانب الرومانسي ليصبح هامشيا، إذْ تروي القصّة أساسا رغبة أحمد (أمير عيد) في احتراف الغناء، مقابل رفض والده المليونير لذلك، مُصرّا على مساعدته في إدارة شركاته.

تُثير مُشاهدة "لما بنتولد" شعورا بأنّه قديم للغاية، ليس فقط 5 أعوام إلى الوراء، أي إلى ما قبل وفاة كاتبته، بل إلى أقدم من ذلك بعقود، على مستوى البُعد العريض للحكايات التي تبدو كأنّها شوهدت قبلاً، أو شوهد مثلها في أفلام مصرية بالأسود والأبيض، كما على مستوى التفاصيل الدرامية، التي لا تمنحها أيّ معالجة مختلفة أو معاصرة.

فطبيعة الضغوط الميلودرامية، التي يتعرّض لها أمين من شقيقه المُراهق، والنزاعات بين زوجته ووالدته وجدّه المريض، العاجز عن إحضار الدواء له، ونوع الحوارات الدائرة بين الأب المليونير والابن المغني عن المال والغناء والعائلة، وأزمة الشابّة المتديّنة، هذه كلّها لن يختلف ـ جوهريا ـ وضعها في قصص تحدث عام 1950 مثلاً، وهذه فجوة عن الزمن، وعن السينما أيضا، لاستخدام لغة وأسلوب وصُور رومانسية "دارجة"، انتهت منها السينما منذ زمن طويل.

كذلك، يعاني السيناريو مشكلة في تتابع أحداثه، وأبرز مثل على ذلك القصّة الثانية، التي يعرف بطلاها، منذ بدايتها، أنّهما مختلفان دينيا، فهما يفتتحان حديثهما الأول معا بكلام عن هذا الاختلاف، ثم يمرّان عليه عابرا، ويستمرّ سرد القصّة في صُور رومانسية متكرّرة، قبل انفجار الأزمة فجأة، بعد حكاية مفتعلة ترويها الأم للابنة، فتبدو الشابّة كأنّها تذكّرت هذا الاختلاف الديني. فما هي الحتمية الدرامية لانفجار الأزمة الآن؟ لا إجابة حقيقية. في القصة الأولى (الأجرأ والأكثر قابلية للدراما)، يمرّ البطل بـ"كليشيهات" الفقر وأزماته المعتادة، قبل اتّخاذه القرار الذي يُعرف مسبقا أنّه سيتّخذه، أي قبول العرض، من دون أنْ نشعر لحظة بأزمة إزاء فعله، أو أنْ نقدر على التعاطف معه، قبل انتهاء القصّة فجأة بشكل مفتعل أيضا.

القصّة الثالثة هي الأكثر فراغا. فبقرار سردي غريب جدا، لا تبدأ القصّة إلا في النصف الثاني للأحداث، وهذا غير مُبرّر دراميًا. لكن، ما يبرّره كامنٌ في أن المحتوى فارغ تماما، ويمكن اختصاره في مشهد واحد. لكن المخرج فضّل أن نفاجأ بها بعد منتصفها، وأن نرتبك إزاء ظهور المغني أمير عيد منذ بداية الفيلم كـ"معلّق غنائي" على الأحداث (يظهر وسط المَشاهد من دون تفاعل مع الشخصيات، ليغنّي ما يشعرون به). فجأة، يصبح شخصية درامية عادية، لها حكايتها، بينما تعليقه لا يتكرّر في النصف الثاني.

"لما بنتولد" أقل بكثير من المتوقّع. لم يستفد من مساحة الحرية الإنتاجية، ولا باللعب في منطقة مختلفة عن الوضع الحالي للسينما في مصر، مكتفيا بخليط من الـ"كليشيهات" والمشاعر المُعلّبة والحكايات الرومانسية القديمة جدًا.

 

العربي الجديد اللندنية في

06.11.2019

 
 
 
 

سيد رجب: الجمهور التونسى ذكى ومحب للسينما وأشكره على استقباله لفيلم «حبيب»

جمال عبد الناصر

عرض فيلم "حبيب" للمخرج شادى فؤاد والفنان سيد رجب بمهرجان أيام قرطاج السينمائية، ولاقى الفيلم رد فعل كبيرا، وقد حاور "عين" النجم سيد رجب حول شخصيته التى يقدمها بالفيلم، ورد فعل الجمهور التونسى فى العرض الأول للفيلم، بالإضافة إلى كيفية تقديمه لشخصية "حبيب" الحلاق التى سُمى الفيلم على اسمه.

فى البداية قال النجم سيد رجب: شاركت من قبل فى مهرجان أيام قرطاج المسرحية، ولأول مرة أشارك فى مهرجان أيام قرطاج السينمائية، ويُعرض فيلم لى فى مسابقاته، وأنا بالفعل سعيد جدا بالفيلم منذ قراءة السيناريو؛ لأنه بسيط وشاعرى وإنسانى، وهذا كان السبب الأول الذى دفعنى لقبول المشاركة بالفيلم، ومخرج الفيلم شادى فؤاد مجتهد وشاطر، وممتلك لأدواته كمخرج، وحين عرض السيناريو أطلعنى على الديكوباج الخاص بالفيلم، وكان كل مشهد مرسوما ومعدا قبل التصوير.

أما عن رد فعل الجمهور التونسى عند أول عرض للفيلم قال: الجمهور التونسى جمهور ذكى وشاطر ومحب للسينما، وأتمنى كل جمهور العالم العربى يكون مثل جمهور تونس بأيام قرطاج السينمائية

أما عن الشخصية التى قدمها وكيف استطاع أن يتقمصها فقال: قدمت شخصية الحلاق للمرة الأولى، ولكنى "اشتغلت" مع المخرج ومع نفسى عليها، ووضعت تفاصيل، وعملنا بروفات على كل تفاصيل "الحلاق" بداية من "ماسكة المشط والمقص" والمشية وكل تفاصيل لغة الجسد للشخصية

وعن أصعب مشاهده بالفيلم الروائى القصير "حبيب" قال: بشكل شخصى لا يوجد لدى مشهد صعب وآخر سهل، كل مشهد بالنسبة لى صعب وسهل وممتع، فالشخصية عندما تتكون بداخلى أتعامل مع الموضوع النابع من الشخصية وليس التكنيك.

وحول كونه نجما معروفا ومع ذلك يقدم أفلاما روائية قصيرة قال: بالفعل أحب السينما الروائية القصيرة، ولكنى أحب التمثيل بشكل عام فى أي قالب، سواء همثل مسرحية أو فيلم أو مسلسل، فطالما أمثل شخصية خارج شخصيتى أكون مستمتعا جدا بما أقدمه

وختم سيد رجب حديثه قائلا: أشكر الجمهور التونسى على تشجيعه ورؤيته واستقباله الصادق للفيلم وإحساسه به، فقد منحنى أنا والمخرج دعما يطمئننا عندما نعرض الفيلم بمصر

 

عين المشاهير المصرية في

06.11.2019

 
 
 
 

بعد ثلاثين عاما من القمع السينما السودانية تعود

لمى طيارة

غياب الوجوه السودانية المميزة عن المشاهد العربي يعود إلى تغيب البلاد عن خارطة الدراما العربية جماهيريا رغم الطاقات الإبداعية التي تتميز بها المنطقة.

بعد فوزه في مهرجانات عالمية، يتوج الفيلم السوداني “ستموت في العشرين” بجائزة التانيت الذهبي للعمل الأول جائزة الطاهر شريعة، وجائزة السيناريو في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة إلى جانب جائزة الاتحاد الدولي للنقاد ضمن الجوائز الموازية، والفيلم من بطولة كل من إسلام مبارك ومصطفى شحاته، سيناريو وإخراج أمجد أبوالعلا. العرب التقت بطلة الفيلم إسلام مبارك للحديث عن دورها في الفيلم وعن مهرجان قرطاج الذي اختتم منذ أيام.

إسلام مبارك ممثلة سودانية في رصيدها العديد من الأعمال الدرامية السودانية، لكن لم تعرف عربيا إلا بعد أن لعبت دور سكينة والدة المتزمل في الفيلم  السوداني “ستموت في العشرين”.

ورغم المخزون الثقافي الهام والطاقات الإبداعية الكبيرة، إلا أن السودان تغيب عن خارطة الدراما العربية جماهيريا، وهذا ما يؤكده غياب وجوه مميزة مثل إسلام مبارك عن المشاهد العربي.

شخصية صعبة

نسأل مبارك إن كانت تجربة العمل مع أمجد أبوالعلا في باكورة أعماله السينمائية مغامرة بالنسبة إليها وكيف حصل التعاون، لتجيبنا “أنا فنانة سودانية لدي رصيد جيد في الدراما التلفزيونية، ولكن هذا أول عمل سينمائي لي لظروف كثيرة أصبحت معروفة ومتعلقة بوضع السودان خلال الثلاثين عاما الماضية من القمع للفنون وخصوصا للسينما، أما بالنسبة إلى الفيلم فجاء الدور عن طريق الصدفة،  تحديدا عبر تجربة الأداء (الاوديشن) التي قام بها أمجد في المسرح القومي وهو المكان الذي نرتاده كممثلين”.

تتابع الفنانة “أعجبتني في البداية فكرة تجربة الأداء بحد ذاتها لأنها كانت جديدة بالنسبة إلي، فنحن في السودان لم يسبق وأن أجرينا مثل تلك التجربة، أردت أن أستمتع بها، وحين دخلت وجدت أمجد وبرفقته النص، وبعد أن أجريت الاختبار بأسبوعين تواصل معي المخرج وسلمني النص”.

 وتلفت مبارك إلى أنها لم تكن أبدا مغامرة بقدر ما هي حب للدراما عموما وللسينما بصفة خاصة، قائلة “أنا من الفنانين الذين لا يعملون إلا في حال أعجبهم النص، وشخصية سكينة كانت مختلفة جدا قوية جدا وصعبة جدا وأنا بطبيعتي أحب الأدوار الصعبة. عندما قرأت السيناريو للمرة الأولى اعتقدت أنها شخصية عادية ويمكن أن تكون مجرد سيدة بسيطة، ولكن صعوبتها كانت في تلك البساطة، وبعد قراءة النص للمرة الثانية والثالثة شعرت بأن شخصية سكينة ليست بسيطة، بل هي روح الفيلم، هي الخلطة الرئيسية للمتزمل وهي سبب توازنه، فالهم الرئيسي بالنسبة إليه كان دوما والدته وخاصة في حال رحيله، فهل ستفتقده وكيف سيكون وضعها، صدقا أقولها إن سكينة كانت من أجمل الشخصيات التي أديتها”.

الفيلم نوع من التحدي بالنسبة إلى السينما السودانية

بعد توقف طويل للسينما السودانية لأسباب مختلفة، نجدها تعود وبقوة إلى المحافل السينمائية، ليس هذا فحسب، بل وتتوج بجوائز عالمية وعربية، وفيلم “ستموت في العشرين” الذي يعتبر الفيلم الروائي الطويل السابع في الترتيب العام لإنتاجات السينما السودانية، يستقبله الجمهور التونسي بحفاوة كبيرة.

 حول كيفية استقبال أبطال الفيلم وردة فعل الجمهور التونسي، تقول بطلة الفيلم إسلام مبارك “قبل حضوري إلى مهرجان قرطاج، كنت أسمع الكثير عنه وعن جمهوره خاصة من المخرج الذي لطالما كان يحدثني عن الجمهور التونسي  العظيم، إلى درجة بات يتملكني القلق والتوتر من مقابلته وحضوره الفيلم، ورغم كل التصفيق الذي حصل أثناء دخولنا قاعة العرض والهتاف والإحساس الإيجابي الكبير الذي كان يتملكنا لأنه عرضنا العربي الأول، إلا أن كلام أمجد استمر تأثيره في عقولنا، إلى درجة أنني كنت أجلس أثناء عرض الفيلم وأنا أشعر بالرعب بمعنى كلمة الرعب”.

وتتابع مبارك “قاعة الأوبرا كانت صامته تماما أثناء العرض، لا تعليق ولا حتى نفس، ولكن بعد أن انتهى الفيلم وظهرت شارة النهاية، وجدت جمهورا مختلفا، سمعت تصفيقا حادا وتعليقات تنم عن ثقافة وبصيرة سينمائية كبيرتين لدى هذا الجمهور. حقيقة أريد أن أقول لجمهور تونس شكرا أتحفتونا و‘حبيناكم برشا‘”.

نجاح سوداني

حول صدى النجاح الكبير والجوائز التي حققها الفيلم وربما غير المتوقعة لدى بطلة العمل، وإن كانت تثير الرغبة في أن تنهض السودان مرة أخرى سينمائيا، تقول إسلام مبارك “يعتبر فيلم ‘ستموت في العشرين‘ الفيلم الروائي الأول لمخرجه أمجد أبوالعلا وأول فيلم سينمائي أعمل فيه أنا ومصطفى والغالبية العظمى من المشاركين الشباب، بالنسبة إلي عموما أنا أتمتع بالثقة الزائدة بقدراتي كفنانة، أستطيع أن أصنع التوازن بيني وبين الشخصية التي أقدمها فأشعر بها وتشعر بي، ولم يكن مفاجئا بالنسبة إلي نجاح الفيلم لأسباب كثيرة، منها بالدرجة الأولى أنه فيلم سوداني يقدم بعد فترة طويلة وفي ظل ظروف سياسية صعبة جدا، في النهاية الفيلم كان نوعا من التحدي بالنسبة إلى السينما السودانية ككل، ومجمل التفاصيل التي رافقت الفيلم نعتبرها توفيقا من الله، ويعتبر الفيلم نبوءة حقيقية وتأسيسا جديدا للسينما السودانية لوضع قواعد جديدة لها، في ظل حكومة مدنية، لكن لم أكن أتوقع جائزة أسد المستقبل في مهرجان فينيسيا رغم أنني  توقعت الجوائز الأخرى في المهرجانات العربية أو الأجنبية التي شارك الفيلم بها، وأتمنى أن نحظى بفرص وجوائز أكثر لاحقا”.

الفيلم يعتبر نبوءة وتأسيسا جديدا للسينما السودانية لوضع قواعد جديدة لها في ظل وضع سياسي وثقافي مختلف

بعد نجاح الفيلم خارج وداخل السودان والشعبية التي كونّها فريق العمل على صعيد محلي بالدرجة الأولى، نسأل الفنانة إن كانت الدولة السودانية ستلتفت إلى السينمائيين والسينما كصناعة وكسلاح ثقافي من الممكن من خلاله التعريف بالسودان كبلد حضاري وثقافي، تقول محدثتنا “الفنان بطبعه يمتلك روح الأمل، بالنسبة إلي أملي في أن يكون السودان في صفوف البلدان السينمائية، لكن السودان يحتاج إلى وقت وحكومة، السودان الجديد يحتاج أيضا إلى الوقت حتى تلتفت لموضوع الفنون عامة، فنحن في هذه الفترة نعيش في ظل ظروف حرجة جدا سواء في الاقتصاد أوالمعيشة أو غيرها من مكملات الحياة، لكني أتوقع الانتعاش في السينما وهذا يجعلني أقول إن هناك بشائر حقيقية بدأت تهل على السودان وهناك مخرجون شباب مجدون جدا يعملون الآن في أفلام سينمائية كثيرة، متابعة أتمنى أن يقف السودان في مصاف الدول الأفريقية والعربية سينمائيا بإذن الله”.

وعن وضع الدراما التلفزيونية السودانية حاليا، على اعتبار أن الأعمال الدرامية السودانية لا تتابع بشكل جيد ولا تقدم على الشاشات العربية، تقول إسلام مبارك “نحن ما زلنا بعيدين جدا بالنسبة إلى الدراما السودانية، صحيح هناك شركة خاصة تنتج ولكنها عبارة عن أفراد ومجموعات تعتمد على الشللية، بالنهاية نحن لا نملك شركات إنتاج كبيرة ومن الصعوبة إنتاج الأعمال الدرامية لأسباب وظروف عديدة جدا، لكننا مستمرون ولدينا القدرة على الصمود وننتج في بعض الأحيان دراما لأفلام صغيرة، بالنهاية نحن كفنانين ليست لدينا خيارات كثيرة سوى المضي في هذا الطريق بحب، وأن نخلق أعمالنا من العدم وهذا كاف لخلق رصيد وتميز بالنسبة لنا كفنانين سودانيين نواجه كل الصعوبات.

كاتبة سورية

 

####

 

"بيك نعيش"..فيلم تونسي يطرح قضية الاتجار بالأعضاء

فيلم روائي طويل عن مأساة أسرية للمخرج التونسي الشاب مهدي البرصاوي.

تونس – يعدّ فيلم “بيك نعيش” أول فيلم روائي طويل للمخرج التونسي الشاب مهدي البرصاوي، بعد أن أنجز ثلاثة أفلام قصيرة كان آخرها “خلينا هكّا خير”.

وأدّى الأدوار الرئيسية في فيلم “بيك نعيش” الممثلون سامي بوعجيلة ونجلاء بن عبدالله ويوسف الخميري ونعمان حمدة وصلاح مصدّق ومحمد علي بن جمعة وجهاد الشارني.

ويروي الفيلم في 90 دقيقة، قصة زوجين، فارس (سامي بوعجيلة) ومريم (نجلاء بن عبدالله)، يعيشان حياة عادية مع ابنهما عزيز البالغ من العمر 11 سنة، قبل أن تتحوّل حياة العائلة إلى مأساة. فبعد سبعة أشهر من سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، يأخذ فارس ومريم ابنهما في جولة إلى الجنوب التونسي حيث يتعرضون هناك لسطو مسلح وينقل عزيز إلى المستشفى وتصبح حياته في خطر وتتحوّل العطلة إلى كابوس مرعب لهذه العائلة.

صنع مهدي البرصاوي من الفيلم دراما أو مأساة أسرية ليثير منها جملة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية. إنها قضايا شاملة عرفتها تونس بعد ثورة 14 يناير 2011، وقام المخرج بالحفر عنها والتعمّق في تفاصيلها بلغة بصرية جمالية راوحت بين المشاهد الفيلمية العامة والمشاهد الفيلمية القريبة وبين الأماكن المغلقة والأماكن المفتوحة وبين زمني الليل والنهار وملامح الشخصيتين الرئيستين فارس ومريم والنظرات المتبادلة بينهما.

لم يكن اختيار محافظة تطاوين (جنوب تونس) لتصوير فيلم “بيك نعيش” اعتباطيا، فالأحداث تدور في شهر سبتمبر من سنة 2011، وفي هذا الشهر تم اغتيال الرئيس الليبي

مهدي البرصاوي صنع من الفيلم مأساة أسرية ليثير منها جملة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية

السابق معمر القذافي وسيطر الثوار على العاصمة طرابلس، لذلك كان اختيار محافظة تطاوين منطقيا بحكم موقعها الجغرافي على الحدود الليبية التي انهار أمنها ونظامها، ممّا جعل ظاهرة التهريب تستفحل بين الجانبين التونسي والليبي وطالت أنشطة التهريب مجالات أخرى غير البنزين، تعرّض لها المخرج في فيلمه. وبالعودة إلى بداية الفيلم، تبدو الحياة جميلة وتسير بشكل طبيعي لأسرة مرفّهة نسبيا تمتلك سيارة ولها طفل متعلّم، ولكن بمجرّد وقوع حادث إطلاق النار وإصابة الطفل ونقله إلى المستشفى، يبدأ الواقع في التعرّي شيئا فشيئا بداية بالوضع المتردي في المستشفيات والنقص في الإطار الطبي وشبه الطبي وفي المعدات الطبية، ثمّ سرعان ما تبلغ الأحداث ذروتها وتبدأ في التعقّد.

وبداية العقدة في الأحداث كانت مع المفاجأة التي فجّرها الطبيب المشرف على حالة الطفل المصاب، إذ يكتشف بعد فحص اختبار الحمض النووي أن عزيز ليس الابن الشرعي لفارس، لتبدأ إثر ذلك الأحداث في المزيد من التعقيد للبحث عن حل لإنقاذ حياة المريض.

وأراد المخرج من حالة التعقيد التي يحرّك بها المسار الدرامي في أحداث الفيلم كلّ مرة، تسليط الضوء على مجموعة من القضايا، فاختبار الحمض النووي واكتشاف الأب أن الابن ليس من صلبه كان دافعا لإبراز تغوّل العقليّة الذكورية في المجتمع وأن الثقافة المجتمعية لم تتغيّر مع رياح الثورة التي هبّت.

والقضية المركزية الأخرى في الفيلم، هي سلطة النزعة الدينية السائدة في المجتمع التي تحرّم التبرّع بالأعضاء لغير الأفراد التابعين للأسرة نفسها. وهذا الأمر زاد من تعقيد الأمور أكثر، خاصة أن حالة الطفل المصاب آخذة في التعكّر إضافة إلى عامل الوقت الضيّق للأم للبحث عن الوالد الشرعي للطفل.

تتطوّر العلاقة بين الزوجين في الفيلم لتصبح علاقة انفصال بعد أن كانت علاقة اتصال، ثم تدرّجت لتصبح علاقة اتصال في موضع انفصال، أي اتصال خارج عش الزوجية، وهذه العلاقة قامت على التوتر الدائم بين فارس ومريم واستمرّ ذلك حتى نهاية الفيلم.

وخلق المخرج من الانفصال غير المعلن بين الزوجين اتفاقا بينهما على إنقاذ الابن. وهذه الحبكة الدرامية وظّفها مهدي البرصاوي في إدخال أحداث جديدة ليثير منها قضايا تهمّ أمن الحدود والتجارة بالأعضاء والتجارة بالبشر.

فالأب فارس كان له من المبادئ والقيم الإنسانية السامية ما دفعه إلى شراء أعضاء لابن ليس من صلبه، وهذا أدّى إلى الكشف عن شبكات تتاجر بالأعضاء متورطة فيها عناصر فاعلة في الدولة منها الأمني والطبي.

ولكن فارس خيّر في النهاية الالتجاء إلى الأب الشرعي سامي (محمد علي بن جمعة) للتبرّع لابنه عزيز ويهبه حياة جديدة. وعلى مشهد التبرّع بالأعضاء ولقطة تبادل النظرات بين فارس ومريم تنتهي أحداث فيلم “بيك نعيش” لتبقى في الأذهان أسئلة عالقة: أي تغيير أحدثته الثورة والتشريعات التي تهمّ الحياة الإنسانية لا تزال على حالها ولم تتطوّر في بلد استفحلت فيه ظاهرة الفساد والتهريب والاتجار بالأعضاء؟

وشارك فيلم “بيك نعيش” في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة ضمن فعاليات الدورة الثلاثين لأيام قرطاج السينمائية الأخيرة، دون أن يتمكّن من حصد أي جائزة من جوائز المهرجان، إلاّ أنه تحصّل في المقابل على جائزة الجمهور في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة في الدورة الرابعة والثلاثين للمهرجان الدولي للفيلم الفرنكوفوني بمدينة نامور البلجيكية.

 

العرب اللندنية في

08.11.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004