كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

«حلم نورا» أفضل ممثلة بالتأكيد .. أفضل فيلم مستحيل !

بقلم: مجدي الطيب

أيام قرطاج السينمائية الثلاثون

   
 
 
 
 
 

عقب إعلان فوز فيلم «حلم نورا» (تونس / فرنسا / بلجيكا)، إخراج هند بو جمعة، بجائزة أفضل ممثلة في الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي، (19 – 27 سبتمبر 2019)، تباينت ردات الأفعال، بين مستحسن ومستهجن؛ خصوصاً أن المنافسة على الجائزة كانت ضارية، كما أن تصريح هند صبري بأن سيناريو الفيلم حصل على دعم من منصة الجونة، وتثمينها للعلاقة التي تربطها ومدير المهرجان إتشال التميمي، فضلاً عن كونها عضو باللجنة الاستشارية الدولية للمهرجان، زاد اللغط حول أحقيتها بالفوز بالجائزة، ووجود شبه مجاملة لها !

غير أن فوز الفيلم بالتانيت الذهبي لأفضل فيلم في أيام قرطاج السينمائية، في دورتها الثلاثين ( 26أكتوبر– 2 نوفمبر 2019)، فضلاً عن فوز هند صبري نفسها بجائزة أفضل ممثلة في المهرجان، حسم الجدل، وأنهى اللغط .

أزمة «نورا»

اعتمد فيلم «نورا تحلم» (90 دقيقة)، الذي كتبته مخرجته هند بو جمعة، على قصة واقعية للزوجة «نورا» (هند صبري)، التي تنتمي إلى الطبقة الشعبية التونسية، وتعمل في محل لتنظيف الملابس، وأخذت على عاتقها مسئولية تربية، ورعاية، أولادها الثلاثة، بعد سجن زوجها «جمال» (لطفي العبدلي)، بتهمة السرقة، وبينما تشرع في إنهاء إجراءات الطلاق، لتتوج قصة حبها و«الأسعد» (حكيم بو مسعودي)، تُفاجأ بالإفراج عن زوجها، بعفو رئاسي، الأمر الذي يُربك مخططاتهما، ويذهب تفكيرهما إلى الهرب، لكن الأحداث تتوالى، بعد ما يتنامى إلى علم الزوج سرها الخفي، وفي مشهد صادم، نادر حدوثه على أرض الواقع، وعلى الشاشة، يواجهها الزوج بخيانتها أمام أولادها، واتساقاً مع طبيعته العنيفة يلجأ إلى اغتصاب عشيقها، كنوع من الانتقام لشرفه، وهنا يُصاب السيناريو، والفيلم بالتبعية، بلعثمة درامية، ومسحة غير منطقية؛ ففي الوقت الذي نتوقع اتجاه «الأسعد» للانتقام من الزوج، وهو ما تؤكده تصرفاته، على صعيدي الشكل والمضمون، يكتفي بتحرير محضر سرقة ضده، وهو ما بررته المخرجة، عندما واجهتها في ندوة الفيلم التي عُقدت في الجونة، بخشية العشيق من الفضيحة !

من هنا يتعثر بناء، وإيقاع، الفيلم (مونتاج نيكولا رميل)، وتنحو الأحداث منحى ميلودرامياً، ويُغرقنا في متاهة تحقيقات بوليسية عبثية؛ خصوصاً بعد ما تنحاز الزوجة لزوجها، مؤكدة وجوده في المنزل وقت حدوث الجريمة الملفقة !

أفضل ممثلة .. ولكن !

يمكن القطع، إذن، أن لجنة تحكيم أيام قرطاج السينمائية كانت محقة في منح هند صبري جائزة التانيت الذهبي كأفضل ممثلة، وهو ما فعلته لجنة تحكيم مهرجان الجونة السينمائي من قبل، لكن قرارها منح الفيلم جائزة أفضل فيلم، التي تذهب للفيلم «الذي أتقن التحكم في السيناريو والإخراج»، شابه الكثير من العوار؛ إذ أن الارتباك الذي ساد السيناريو، مذ تلك اللحظة، أصاب المتابع للأحداث بالكثير من الحيرة، والانزعاج، اللذان استمرا طوال الفصل الأخير العبثي، الذي انهارت فيه العائلة، وتردى المستوى التعليمي للأبناء (الأبنة حصلت على صفر في دراستها)، ورغم هذا جاءت النهاية أكثر عبثية، عبر عودة الزوجة لملاحقة عشيقها، والإيحاء بعودة العلاقة بينهما، وإن ظل أداء هند صبري على حاله، من التألق والإجادة، والتماهي مع الحالة النفسية للزوجة «العربية»، وليست التونسية فحسب، التي تواجه العنف الذكوري، وتفتقد الرومانسية، وعندما تعثر على ضوء في نهاية النفق يُخلصها من الكابوس الذي يُخيم على حياتها، تُصدم بالنظرة الأخلاقية المجتمعية، وهي النقطة التي تُثير جدلاً، وانقساماً، كبيرين؛ فمن حق فصيل في المجتمع العربي أن ينظر للبطلة / الزوجة بوصفها خائنة، تجنت على أولادها، وانساقت وراء غريزتها، وتستحق أن تُحاكم بتهمة الزنى، التي يُعاقب القانون التونسي مرتكبها بالسجن خمس سنوات، في حين يرى فصيل آخر أنها ضحية مجتمع ظالم، حرمها من أن تعيش حياتها، وتركها لمصير مؤلم، وعذاب نفسي لا قبل لها به، وهي التي تطمح لحياة أفضل، ومستقبل أكثر رحابة !

قيادة رائعة

بعيداً عن السيناريو المرتبك، الذي كنت أفضل لو تركته المخرجة لسيناريست أكثر احترافاً، أظهرت المخرجة براعة في قيادتها لطاقم الممثلين، خصوصاً الرئيسيين منهم؛ مثل : هند صبري ولطفي العبدلي وحكيم بو مسعودي، وهو إنجازها الحقيقي في الفيلم؛ إذ أحكمت قبضتها على أداء هند صبري، ولم تتركها تتصرف كنجمة تمتلك أدواتها، ولها مدرستها الخاصة في الأداء، وبدورها قدمت هند صبري أفضل ما في جعبتها من سيطرة واضحة على الشخصية، وامتلاك تام لمكنوناتها، وتناقضاتها، بين القوة والوهن والطموح، كامرأة ممزقة، تعاني لكنها غير مغلوبة على أمرها، وتبحث جدياً عن الخلاص، مع علمها أنها تنشق على تقاليد مجتمع متحفظ، كاذب، ومتناقض، يرفع شعار الأخلاق، بينما رموز سلطته غارقون في الفساد حتى أنوفهم (أحد رجال الشرطة شريك في السرقة، ومتورط مع اللصوص)، وربما كانت هذه الجرأة، في تناول الفساد، فضلاً عن كشف المسكوت عنه، في ما يتعلق بوضعية المرأة، وما تتعرض له من ظلم، والخروج بالقضية من إطار المحلية لتتناول هماً عربياً عاماً، سبباً في تثمين التجربة، التي اتسمت بالتكثيف، شكلاً ومضموناً، في فصلها الأول، ثم عانت ترهلاً في نصفها الثاني !

 

####

 

"لما بنتولد".. في السجن

بقلم: أسامة عبد الفتاح

** فوجئنا جميعا بمستوى آراء وتعليقات المساجين التونسيين على الفيلم المصري بعد عرضه في سوسة

لا أنكر أن الدافع الشخصي كان مساويا، وموازيا، للجانب الموضوعي العام في حرصي على خوض تجربة "أيام قرطاج السينمائية في السجون" ضمن البرنامج الرسمي لدورة "نجيب عياد" من مهرجان قرطاج السينمائي الذي اُختتم في تونس في الثاني من نوفمبر الحالي.

وبعد أن حالت ظروف العمل وتغطية فعاليات وأقسام أخرى دون وقوفي – في دورات سابقة من "الأيام" – على تلك التجربة الإنسانية والمهنية الفريدة، جاءت دورة هذا العام لتتيح فرصة سانحة لا يجب إهدارها، خاصة أن أحد الأفلام، التي تقرر عرضها خلف الأسوار، مصري، ومن المثير حقا أن يتعرف المرء على كيفية استقبال جمهور من المساجين التونسيين لعمل سينمائي مصري.

المكان: السجن المدني بالمسعدين في سوسة، والزمان: الأول من نوفمبر 2019، والحدث: عرض الفيلم المصري الجديد "لما بنتولد" في إطار الدورة الخامسة من "أيام قرطاج السينمائية في السجون"، وهي بادرة أطلقها المخرج إبراهيم اللطيف، عام 2015، حين تولَّى إدارة مهرجان قرطاج، وحققت نجاحا كبيرا، حيث اجتذبت المهتمين بالشأن الفني والثقافي وعناصر المجتمع المدني إلى خصوصية التجربة واستثنائيتها، ومثلت فرصة للقاء نادر بين صناع الفن السابع والمساجين للنقاش والتفاعل حول الشرائط السينمائية، إيمانًا بحق نشر الثقافة السينمائية بين الجميع، حتى لو كانوا قد فقدوا حريتهم مؤقتا.

وواصل المدير العام لـ"الأيام"، الراحل نجيب عياد، بدوره، دعم هذه البادرة خلال توليه قيادة المهرجان في الدورات الثلاث الأخيرة. وفي نسختها الخامسة عُرضت 7 أفلام في 7 وحدات سجنية هي: السجن المدني في المرناقية، والسجن المدني في صوّاف، والسجن المدني في القصرين، والسجن المدني في برج الرومي، والسجن المدني في المسعدين، ومركز الإصلاح في سيدي الهاني، والسجن المدني في منوبة، بالشراكة مع الإدارة العامة للسجون والإصلاح ومكتب المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب في تونس.

وكانت شيراز العتيري، المديرة العامة للمركز الوطني التونسي للسينما والصورة، الذي ينظم ويشرف على "أيام قرطاج السينمائية"، قد صرحت بأن هذا البرنامج يمثل الطابع الإنساني في فلسفة وروح ذلك المهرجان العريق الذي يعطي المواطن حقه في الثقافة أينما وجد، حتى لو خلف الأسوار، فالسجن واقع اجتماعي وظروف فُرضت على السجين، والبادرة تستهدف تمكينه من فرصة لإعادة العلاقة مع الحياة خارج الأسوار ولو عبر الأفلام، ومن الممكن أن تكون هذه الأفلام فرصةً لتفجير طاقة إبداعية داخله يجهلها، كما يمكن الكشف عن مواهب بين السجناء.

وأوضحت أنه ليست هناك معايير خاصة للجمهور داخل السجن، وهو في النهاية جمهور "أيام قرطاج السينمائية"، وأن اختيار الأفلام مال لأن يكون النصيب الأكبر للأفلام التونسية لإعطاء فرصة أكثر للسجين لرؤية الحياة خارج السجن، إذ يمكن أن يجد ما يربطه بالواقع الخارجي، مما يوطّد علاقته بعالمه خارج الزنزانة، لكن ذلك لم يمنع وجود أفلام من مصر ولبنان. كما أكدت شيراز أنه لم يكن هناك إقصاء أو رقابة على الأفلام أو أي فلسفة أخرى سوى أنها مبرمجة داخل المسابقة وخارجها.

واُفتتحت العروض الأحد 27 أكتوبر الماضي بفيلم "عرايس الخوف"، للمخرج النوري بوزيد، بالسجن المدني في المرناقية، وكان أيضا فيلم افتتاح المهرجان، وتلاه عرض كلٍّ من فيلم "تليفزيون فتح الله" بالسجن المدني في برج الرومي، وفيلم "ع العارضة" لسامي التليلي بالسجن المدني في صوّاف، وفيلم "صباح الخير" لبهيج حجيج بالسجن المدني في القصرين، وفيلم "مبروك حبيب" لسنتيا صاوما في مركز الطفولة الجانحة بسيدي الهاني، وفيلم "لما بنتولد" لتامر عزت بالسجن المدني في المسعدين، وكان الختام الإثنين 2 نوفمبر، مع عرض فيلم "فترية" لوليد الطايع بالسجن المدني في منوبة.

وأعلنت الإدارة العامة للسجون والإصلاح في تونس أنه تمت مضاعفة عدد المساجين الحاضرين لهذه العروض، حيث انتفع بالعروض المباشرة 2400 سجين، إلى جانب أكثر من 6000 سجين داخل الوحدات السجنية عبر الشاشات العملاقة.

لم أكن قد دخلت سجنا في حياتي، لا داخل مصر ولا خارجها، ولا حتى لزيارة مسجون، ولذلك كانت التجربة التي خضتها مع صناع "لما بنتولد": المخرج تامر عزت والمنتج معتز عبد الوهاب والمنتج الفني محمد جمال والممثلين عمرو عابد وبسنت شوقي، ثرية جدا ومفيدة جدا، خاصة أن إدارة السجن وفرت لنا جولة داخل جميع عنابره وغرفه وساحاته لتكتمل الرؤية، وتكون التجربة فعلا عرضا سينمائيا داخل سجن، وليس تجميعا للمساجين في عرض بأي قاعة خارج السجن.

أعترف بأن أي مكان مقيد للحرية، مهما كان مستوى نظافته وتنظيمه، ومهما بلغ من آدمية وتحضر – والحق أن سجن المسعدين بسوسة كان على هذا المستوى – هو في النهاية مكان مقبض، لا تستطيع أن تقضي فيه وقتا طويلا، لكن حرارة استقبال المساجين لنا وللفيلم أذابت أي شعور بالوحشة أو بالاغتراب، والأهم والأجمل تعليقاتهم على الفيلم ومداخلاتهم في الندوة التي أعقبت عرضه، حيث فوجئنا جميعا بمستوى الآراء والتعليقات، ومدى نضجها وصدقها، مما حوّل قاعة العرض في السجن إلى منبر ثقافي!

وبالنظر إلى طبيعة الفيلم غير التقليدية، وبنائه الدرامي الصعب القائم على ثلاث قصص متوازية تربط بينها أغاني الملحن والمغني أمير عيد، أستطيع أن أقول – بضمير مستريح – إن تعليقات وداخلات عدد من المساجين كانت أنضج وأصدق وأكثر موضوعية من آراء بعض من يزعمون أنهم نقاد سينمائيون في بلادنا.

 

جريدة القاهرة في

12.11.2019

 
 
 
 
 

"نورة تحلم" وانطلاقة السينما التونسية الجديدة

عبد الكريم قادري

خطفت الأفلام التونسية في السنوات الأخيرة الأضواء من سينمات عربية بما في ذلك عريقة، وأضحى حضورها الدوري في المهرجانات العالمية والعربية يُشكل مصدر إلهام لشريحة واسعة من الجمهور، نظرا للأسئلة التي تطرحها، والمواضيع التي تقف عليها، وجرعة الحرية الزائدة التي تنطلق منها، وهي مقومات أساسية ساعدت بشكل كبير في نجاحها وانتشارها وتتويجها بالعديد من الجوائز والتكريمات.

هذه الانطلاقة الملفتة التي عرفتها السينما التونسية جاءت بعد ثورة الياسمين التي عاشتها تونس عام 2011، وأنهت من خلالها فترة حكم ديكتاتوري قاده الرئيس الراحل زين العابدين بن علي بقبضة من حديد لفترة زادت عن 23 عاماً. وبعد فترة التحرر التي عرفها الشعب التونسي هذه برزت العديد من المواضيع المخبوءة، أو التي ولدت خلال المرحلة، جرّاء الصدمة التاريخية الكبرى المنبثقة منها، ومن هنا تلقّف المخرجون هذه المواضيع، مستغلين بذلك جرعة الحرية والشرط التاريخي، وتنصلوا من الماضي الفني المثقل بالمباشراتية، وأسسوا لأنفسهم توجها سينمائيا جديدا، اعتمدوا فيه على الانتصار لمبدأ الفن، والبحث في التفاصيل الصغيرة، وتلقف "الثيمات" من تونس العميقة، بعيدا عن الجاهز الذي قتل السينما التونسية، والسطحي الذي شردها، وأصبحت من خلالهما مجرد أفلام بريستيج تقدم في المناسبات بعد أن جاءت تحت الطلب، لتأتي بعدها السينما الجادة وتزيح مخلفات تلك المرحلة. وفيلم "نورة تحلم" 2019، للمخرجة هند بوجمعة، هو واحد من بين الأفلام التي بدأت تؤسس للسينما التونسية الجديدة.

شعرية التفاصيل الصغيرة

يستمد فيلم "نورة تحلم" جماليته من التفاصيل الصغيرة التي يتعايش معها الفرد التونسي بشكل يومي، بعد تكوينها فنيا، وهي من الأشياء التي يصعب تلقفها وتطويعها في عمل فني بسهولة، من دون السقوط في فخ الخطابية التي تقتل الفن، لكن حس المخرجة وكاتبة السيناريو هند بوجمعة السينمائي جعلها تأخذ هذه المواضيع بشوائبها، ثم تقوم بغربلتها وتصفيتها، لتعيدها للجمهور بقالب فني مغاير، يولّد لذة المُشاهدة، وفي نفس الوقت يُحافظ على الشرط الجمالي، وهذا ما فعلته من خلال قصة فيلم "نورة تحلم" الرئيسية وروافدها الثانوية، الذي أدت فيه الممثلة هند صبري دور "نورة"، حيث جسدت شخصية زوجة السجين سفيان (أدى الدور لطفي العبدلي)، الذي يقضى مدة عقوبته في السجن،  هذه المرأة هي أم لثلاثة أطفال، تعمل  في مصلحة تنظيف الملابس بأحد المستشفيات لتسدد فواتيرها وتعيل أطفالها، وبسبب عنف زوجها وبعاده عنها تقع فريسة للوحدة، لهذا تقع في حب الأسعد (حكيم بومسعودي)، الذي يصبح حب حياتها، ويجعلها تغير العديد من المفاهيم والمحطات في حياتها، حيث تباشر إجراءات الطلاق من زوجها المسجون، لكن يحدث ما هو غير متوقع، ويتعرض حلمها مع الأسعد للخطر، بعد أن تم إطلاق سراح  الزوج، ومن هنا  تزداد الأحداث تعقيداً عندما يقرر الحبيبان الهروب بعيداً، لكن القصة تتخذ منحى آخر، خاصة وأن زوجها سفيان الذي عاد إلى البيت لم يتخل عن أفعاله الإجرامية، وما يزيد الطين بلة هو اكتشافه لهذه العلاقة الغرامية، من هنا يقرر رسم خطة للانتقام منهما، والقصاص من فعلتهما.

"الانطلاقة الملفتة التي عرفتها السينما التونسية جاءت بعد ثورة الياسمين التي عاشتها تونس"

هذه القصة البسيطة، التي يمكن أن نجد العشرات من القصص التي تشبهها، جعل نسجها بالطريقة التي اعتمدتها المخرجة هند بوجمعة طعما آخر لها، حيث اعتمدت على رواية القصة بشكل ما يعرف نقديا بـ"سينما الطريق"، حيث يتم تسليط الضوء على الشخصية الرئيسية، وبسط الأحداث على الطريق، لكن في هذا الفيلم يتحول "الطريق" إلى أحد شوارع تونس، وفضاءات الحدث تجري في الأماكن المغلقة، بيت، مستشفى، كراج، مركز شرطة، لكن قليلا ما يظهر مشهد بدون الشخصية الرئيسية نورة، ولقد قدمتها المخرجة بشكل متدرج، حيث أبانت عن المخاوف التي تعيشها وتسيطر عليها، والحلم الذي تبحث عنه وتريد تحقيقه، لتدخل بعدها في القصص الهامشية، دعما للخط العام.

بواسطة هذا النسيج المتكامل تُظهر المخرجة وكاتبة السيناريو سلبيات المجتمع، والقوانين التي تسيره، إلا أنها لا ترفقه بالإدانة، بل تضعه كما هو أمام المشاهد وتترك له الحكم، وكأنها تريد تبيان هذا الزيف فقط، تطرح الأسئلة الجوهرية وتتركها معلقة إلى حين، هذا الزيف الذي تعكسه القوانين المجحفة التي تطبق على كل من يُحكّم قلبه وتعاقبه بخمس سنوات كاملة، في حين لا تفعل شيئا أمام سطوة وعنف "سفيان" الذي أرهب عائلته وأطفاله، وجعلهم يعيشون في حالة نفسية سيئة، سواء وهو داخل السجن أو خارجه. هذا الزيف أيضا تعكسه صورة مبنى كنيسة تم تحويلها إلى مركز شرطة، وهو أيضا الذي يعكسه رجل الشرطة الذي يتعامل مع اللصوص والمجرمين ويقتطع منهم المال، وفي نفس الوقت هو من يتعامل معهم عندما يتم القبض عليهم، أي هو الخصم والحكم، هذه المعطيات هي التي قتلت حلم نورة ووأدته، وجعلت حياتها عذابا متصلا ومستمرا، حيث حرمت من حقها في أن تحب، وأن تعيش قصص الغرام التي فقدتها في زحمة الحياة، ليكون هذا الفيلم  صرخة عميقة ومرتفعة في وجه المجتمع الذكوري الذي يختبئ خلف شعارات التسامح، وتحرير المرأة، وضمان حقوقها، في حين يتم سحق هذه المرأة وكتم صوتها من خلال القوانين التي لا تساعد، وكذلك تحكيم الأعراف والعادات والتقاليد التي ظهرت في زمن غير هذا الزمن، لكنها تتحكم في مصير المرأة، التي ينظر لها من فئة واسعة على أنها عورة وجب سترها ورميها في زوايا البيت، وكأنها سرير يرمي عليه الزوج جسده حين يريد.

حلم نورة وحلم هند صبري

الممثلة التونسية هند صبري التي أدت دور نورة في هذا الفيلم، ورغم احترافها منذ سنوات في مصر، لم تتخل أبدا عن السينما التونسية التي احتضنت بدايتها وهي طفلة صغيرة، وهذا مع المخرجة التونسية مفيدة التلاتلي في فيلم "صمت القصور" 1994، وفيلم " موسم الرجال" 2000، لتتلقفها بعدها المخرجة المصرية إيناس الدغيدي في فيلم "مذكرات مراهقة" 2001، وفي نفس السنة اشتغلت مع المخرج المصري الكبير داود عبد السيد في فيلم "مواطن ومخبر وحرامي"، لتتلقفها بعد هذه الأعمال العديد من الأفلام والمسلسلات والسيت كومات، وتتحول إلى نجمة درجة أولى.

وقد أدت في الكثير من هذه الأعمال العديد من الأدوار المهمة، لكن دورها في الفيلم التونسي "نورة تحلم" والذي تتحدث فيه بلهجتها الأم، وتعالج قضايا مجتمعها، يُعد الدور المهم والأبرز في كل أعمالها، فقد أخرجت فيه طاقة كبيرة وانفعالات غير مألوفة، حيث تخلت عن شخصيتها الحقيقية، ولبست شخصية نورة بشكل وصل إلى غاية التوحد معها، خاصة في طريقة مشيتها، ضحكتها، تدخين السجائر، الصوت، الغضب، النظرة الحزينة والمشعة حلما، وكل هذه الانفعالات السلوكية والفيزيائية لم نشاهدها سابقا لدى هند صبري، ما يوحي بأنها اشتغلت بشكل كبير على هذا الدور، ودرسته جيدا. واستطاعت المخرجة هند بوجمعة أن تستخرج ما كان مختبئاً فيها، وكمثال على هذا الجهد الذي بذل طريقة طي الملابس التي تقوم بغسلها في الآلات بمكان عملها، حيث تضعها في الأكياس بطريقة سريعة، توحي بأنها محترفة في عملها وتزاوله منذ فترة، ما يوحي بأنها تدربت كثيرا على هذا العمل، حتى لا يقع أي التباس وتغريب في شخصية نورة ومهنتها، ويزيد من قيمة العمل ومهنية التمثيل والإخراج. في المقابل عكس أيضا الممثل لطفي العبدلي شخصية الزوج الطائش غير المسؤولة، ابن الشارع الذي يعمل في النشل، إذ عكس هذه الشخصية بكل موضوعية واقتدار، ولا تحس بأنه غريب عنها، وكأن المخرجة هند بوجمعة استطاعت أن تخلق تنافساً كبيراً بين الممثلين، نتج عنه هذا التمثيل المهني الكبير. ولقد جلب هذا الدور للممثلة هند صبري جائزة أحسن ممثلة بمهرجان الجونة السينمائي، بعد أن شارك الفيلم في المسابقة الرسمية للفيلم الروائي الطويل، وهذا في الدورة الثالثة (19-27 سبتمبر/ أيلول 2019). كما حصد الفيلم جائزة التانيت الذهبي بالدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية.

""نورة تحلم" عكس توجه المخرجة هند بوجمعة الرزين"

رزانة المخرجة وتميز الفيلم

تتلمس المخرجة التونسية هند بوجمعة صاحبة الفيلم تجربتها السينمائية برزانة كبيرة، فقد سبق أن أخرجت بعض الأفلام، لكن لكل فيلم وزنه الخاص، من بينها الفيلم الوثائقي "يا من عاش" 2012 الذي فاز بجائزة أفضل إخراج بمهرجان دبي، كما شارك فيلمها الروائي القصير "وتزوج روميو جولييت" 2014، في مهرجانات عدة، وفاز بالعديد من الجوائز الدولية. وسبق أن قدمنا مراجعة نقدية له هنا، لتنتظر 5 سنوات وتدخل أول تجربة لها في الفيلم الروائي الطويل من خلال "نورة تحلم" 2019، الذي عكس توجه المخرجة الرزين، والتي لا تقدم أي عمل من دون أن تقوم بتعتيقه وتقليبه على جميع أوجهه، حتى لا تعبث بالتجربة التي بدأتها برؤيا رزينة تريد الحفاظ عليها في جميع الأعمال. 

 *ناقد سينمائي من الجزائر

 

ضفة ثالثة اللندنية في

25.11.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004