كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 

قراءة في أفلام الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي

عبد الكريم واكريم

الجونة السينمائي

الدورة الثالثة

   
 
 
 
 
 
 

اختتمت الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي، وهكذا كان الحاضرون والضيوف قد شاهدوا طيلة تسعة أيام أفلاما لا يمكن أن تجتمع بهذه القيمة الفنية في أي مهرجان عربي آخر، إذ أن ضيوف الجونة أتيح لهم مشاهدة أهم ما عُرض في المهرجانات السينمائية الكبرى خلال هذا العام إضافة لاكتشافهم لجواهر سينمائية كانت مختبئة وبحث عنها مبرمجو المهرجان ليتحفوهم بها، خصوصا أن أفلام المسابقة الرسمية أغلبها أفلام أولى أو ثانية لمخرجيها.

وقد جاء نتائج مسابقة الفيلم الروائي الطويل كالتالي:

جائزة نجمة الجونة الذهبية فاز بها فيلم "ستموت في العشرين" للمخرج السوداني أمجد أبو العلاء.

جائزة نجمة الجونة الفضية حصل عليها فيلم "عيد القربان" للمخرج البولوني  يان كوماسا.

جائزة نجمة الجونة البرونزية عادت لفيلم "آدم" للمخرجة المغربية مريم التوزاني.

جائزة نجمة الجونة لأحسن فيلم عربي روائي طويل فاز بها فيلم "بابيشا" للمخرجة الجزائرية مونية مدور.

جائزة نجمة الجونة لأفضل ممثل حصل عليها الممثل البولوني بارتوش بيلينا عن دوره في فيلم "عيد القربان".

جائزة نجمة الجونة لأفضل ممثلة نالتها الممثلة هند صبري عن دورها في فيلم "حلم نورا".

 وفي التالي قراءة لبعض أفلام الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي :

"آدم" لمريم التوزاني في الجونة السينمائي. فيلم نسائي حميمي

استطاعت مريم التوزاني بفيلمها الروائي الطويل الأول هذا أن تحقق تفوقا فنيا من خلال تناول قضية اجتماعية ذات طابع نسوي، وذلك من خلال قصة تدور في فضاء شبه مغلق من بداية الفيلم إلى نهايته، وبين امرأتين تتطور بينهما العلاقة بالتدريج من التباعد والنفور إلى التعاطف من جانب واحدة اتجاه الأخرى ثم الصداقة الجميلة.

إذ تلجأ سامية الشابة الحامل بشكل غير شرعي والهاربة من عار الأسرة والأهل إلى دق منازل الناس في حي شعبي قصد العمل عندهم، فلا تقبلها سوى الأرملة عبلة التي تعيش صحبة طفلتها وحيدتين بعد أن توفي الزوج في حادثة سير، وبالتدريج ودون تسرع في لي عنق الحكي ولا تمطيط للأحداث تنسج المخرجة بشكل درامي تدريجي علاقة بين الشخصيتين المختلفتين في تركيبتيهما الإنسانية، لنتابع كمشاهدين واحدة من أهم الأفلام المغربية المشتغل فيها على الفضاء الداخلي بشكل متحكم فيه ومن خلال شخصيتين أساسيتين فقط.

إذ لم تشكل الطفلة "وردة" رغم حضورها الطاغي سوى ذلك الرابط الذي يساهم في التقريب بين سامية و الأم عبلة، ومع الثلث الأخير للفيلم وبعد ولادة الشابة سامية لطفلها تِؤزِّم مريم التوزاني الوضع، كون الطفل الوليد غير مرغوب فيه من طرف الأم لأنه يشكل عنوانا للفضيحة، لترفض أن ترضعه أول الأمر ثم تكاد تقتله في لحظة انعدام توازن نفسي وعاطفي.

كانت اللحظات القليلة التي تخرج فيها الشخصيات الثلاث من الفضاء المغلق، المتمثل في المنزل و المتجر كفضاءين غير منفصلين، تشكل نوعا من الانفتاح على زخم الحياة وعنفوانها، وقد استطاعت المخرجة تصوير الشارع المغربي بشكل قل أن رأيناه، ليس فقط خلال هاته اللحظات العابرة لكن أيضا أثناء متابعتها لشخصيتيها سامية وعبلة وهن داخل متجر المأكولات، بحيث كنا نشاهد زخم الحارة من وجهة نظرهما وكيف يعيشانها من الداخل.

استعملت مريم التوزاني الأغاني والموسيقى في فيلمها "آدم" بشكل وظيفي بحيث كانت لأغنية "بتونس بيك" لوردة الجزائرية دور مهم في فك شيفرة شخصية عبلة التي كانت مغرمة بأغاني وردة إلى حدود تسمية ابنتها على اسمها، لكن ما إن توفي زوجها في حادثة السير حتى حَرَّمت على نفسها سماع الأغاني، لكن حضور سامية وإصرارها على إخراج عبلة من تقوقعها على ذاتها جعل هذه الأخيرة تعاود التصالح مع نفسها ومع جسدها وتمنح فرصة للرجل الذي يحبها.

من أهم ما ميز فيلم "آدم" هو ذلك الأداء التشخيصي الاستثنائي للممثلتين نسرين الراضي ولبنى أزبال اللتين حملتا الشخصيتين الرئيسيتين ومن خلالهما الفيلم على أكتافهما.

عموما يمكن لنا التأكيد أن فيلم "آدم" يشكل إضافة مهمة للسينما المغربية وإعلانا عن قدوم مخرجة ستقول كلمتها في القادم من الأفلام.

"أغنية بلا عنوان" البيرو في سنوات الفوضى واللاستقرار السياسي

تدور أحداث فيلم "أغنية بلا عنوان" للمخرجة البيروفية ملينا ليون  أثناء سنوات بداية الثمانينات حيث كانت البيرو تعيش أزمات اقتصادية وانتفاضات ضد النظام الحاكم يتزعمها تنظيم "الدرب المضيء" الشيوعي الماوي ، ومن خلال هذه الخلفية التاريخية نتابع حكاية أم شابة في بداية عشرينياتها يُسرق طفلها الرضيع في عيادة وهمية من طرف عصابة تتاجر في الأطفال بعد أن يتم إيهامها بأن العيادة تُقَدِّم خدمات مجانية للنساء الحوامل كي يلدن بها، وفي بحثها المضني عن طفلها الرضيع تلتقي بصحفي يشتغل بجريدة مهمة فيقرر هذا الأخير من باب التعاطف بداية الأمر أن يتبنى قضيتها التي ستقوده إلى اكتشاف وفضح مافيا تتاجر بالأطفال الرُّضَّع وتبيعهم خارج البيرو.

الفيلم مصور باللونين الأبيض والأسود الأمر الذي أضفى عليه مسحة من الحزن ومنح الصورة جماليات شكلية تكاملت مع التيمة المتناولة، بحيث استطاعت المخرجة ميلينا ليون في فيلمها الأول هذا، الذي كان عرضه الأول في مسابقة نصف شهر المخرجين بمهرجان كان السينمائي في دورته الأخيرة، أن توصل أحاسيس الغبن والقهر والظلم الذي تعرضت لها الأم الشابة والأمهات الأخريات اللواتي تم اختطاف أطفالهن منهن بشكل حقير ولا إنساني وكيف أن "العدالة" البيروفية آنذاك لم تكن تأبه بِرَدِّ الأبناء إلى أمهاتهن وأنها لم تتحرك لِلزَّجِّ ببعض من أفراد مافيا الأطفال في السجن سوى لأن جريدة كبيرة ومؤثرة شعبيا أفردت للقضية صفحتها الأولى. 

وحتى حينما يطلب الصحفي من القاضي متابعة التحقيق لكي يتم استرداد الأطفال من الخارج يجيبه هذا الأخير "لماذا لا ترى الأمور من وجهة نظر مختلفة، فالأطفال سيعيشون ربما أفضل بعيدا عن أمهاتهم الفقيرات".

"أغنية بلا عنوان" فيلم إنساني تتعاطف فيه المخرجة مع سيدات مغبونات ولا حول لهم ولا قوة في مواجهة ظلم وقع عليهن، وهو فيلم يحمل أحاسيس رقيقة وحزنا مشوبا بالرفض وعدم تقبل واقع مزر وغير إنساني. وفي مشهد جميل يقوم فيه عضو ملثم منتم لتنظم "الدرب المضيء" بتفجير قنبلة صغيرة ليتمكن من تفريق تجمع مهرجاني ليُوزِّع منشورات ضد النظام وسط جمع من الناس، لتكتشف الأم الشابة بشكل سري وبنوع من الدهشة ونحن معها كمشاهدين أن الصحفي المتعاطف معها هو من فعل ذلك وأنه منتم للتنظيم المحظور.

"الأب" دراما كوميدية عائلية

في فيلم "الأب" للمخرجين البلغاريين بيتر فالجانوف وكريستينا جوروزيفا نتابع قصة أب وابنه مكتوبة بشكل جيد ومُؤدَّاة من طرف ممثلين مُتمكِّنَين يحملان الفيلم على كتفيهما من البداية وحتى آخر لقطة فيه. تموت الأم ليتوهم الأب أنها مازالت تتواصل معه عن طريق قوى خارق للعادة وللطبيعة، لكن الابن العقلاني يرفض توهمات أبيه ويفعل ما بوسعه لكي يثنيه عن الاستعانة بمشعوذين يوهمون الناس بإمكانية التواصل مع الموتى من أقربائهم. 

لكن الأب يزداد تَمَسُّكا بأوهامه كلما ازداد الابن إصرارا على إقناعه بعكسها، خصوصا حينما تهرع إليهما جارة صديقة للأم وهي ترتجف من الخوف مدَّعية أن هذه الأخيرة تتصل بها من العالم الآخر عبر الهاتف. ومن خلال لحظات اعتمد فيها المخرجان كوميديا موقف راقية ضبطا لحظاتها بشكل جيد، لم تدع جمهور الجونة الحاضر في القاعة أن يتماسك نفسه ويتفاعل بالضحك بين الفينة والأخرى، الأمر الذي أنقذ الفيلم من رتابة كانت ربما ستجره لزاوية أخرى بنظرة مختلفة، كون الفيلم ينسف خرافات الماورائيات بشكل سلس وبدون خطاب مباشر ولا وعض ولا إرشاد. وقد نسج المخرج والمخرجة شخصيتين تحملان طابعا إنسانيا واضحا للعيان من خلال علاقة جد معقدة بين أب وابنه تتجاذبها مشاعر الحب والرفض واللوم .

شخصيتان مختلفتان في كل شيء لكن يجمع بينهما حب عميق ، وفي مشهد أخير جميل بعد أن يستطيع الابن أن يثبت بالدليل القاطع لأبيه أن ما يعتقده هو مجرد أوهام ، يعترف هذا الأخير بإحساسه بالذنب ناحية موت الأم ويعتبر نفسه مسؤولا بشكل غير مباشر عن موتها ، كونها أجرت معه اتصالا هاتفيا قبل وفاتها بقليل بعد إجراء عملية جراحية ولم يكن هو مباليا بمصيرها بل خاطبها بألفاظ جارحة وتمنى لها الموت.

"الأب" فيلم إنساني بكل ما في الكلمة من معنى ويحمل طابع تلك الأفلام التي تأتينا من أوروبا الشرقية بين الفينة والأخرى حاملة نفحات السينما الجيدة والمختلفة.

"ذات مرة في تروبشفك" دراما قروية أسرية

"ذات مرة في تروبشفسك" للمخرجة الروسية لاريسا سادريلوفا عبارة عن دراما قروية تتناول حياة ثنائي من الأزواج وعلاقة "خيانة زوجية" بين طرف من كل جانب من هذا الثنائي. وقد حاولت المخرجة أخذ جانب الرؤية الموضوعية الخارجية دون الميل أو التعاطف أو التبرير لأي من شخوصها.
تتصاعد أحداث الفيلم من علاقة غرامية سرية بين رجل وامرأة متزوجين وجارين وتسير الأمور بدون مشاكل حتى تكتشف زوجة الرجل "خيانة " زوجها لتلمح لزوج عشيقة زوجها لتفتضح الأمور
.

لا تصدر المخرجة الروسية أحكام قيمة على شخوصها ف"الخيانة" لا تحمل تماما المفهوم الأخلاقي الحاد خصوصا أن زوجي العشيقين يظلان متشبثين بهما رغم علمهما بالعلاقة، هي فقط اختيارات عاطفية يتحمل كل من يختارها عاقبتها وهنا في هذا الفيلم تكون العاقبة خيرا ويعود العشيقان إلى أسرتيهما دون أدنى عواقب وخيمة بحيث تنتصر المخرجة لِلَمِّ الشَّمل الأسري عوض الذهاب بعيدا مع العاطفة الجارفة والمدمرة والمشتتة للشمل.

"محطمة النظام" طفلة تبحث عن الحنان الأسري ولا تجده

نتابع في فيلم "محطمة النظام" للمخرجة الألمانية نورا فايشت الطفلة "بيني" ذات العشر سنوات والتي تنتج طاقة شعورية غير طبيعية إذ تنتابها باستمرار حالات هستيرية تُكَسِّر خلالها كل ما تجده أمامها وتدخل في تشنجات وصراخ حاد رافضة كل محاولات من حولها لتهدئتها، ونظرا لكون أمها المطلقة غير مستعدة للتكلف بها ومراعاتها والاعتناء بحالتها فإن فريقا من المختصين الاجتماعيين والنفسيين يحاولون أن يتكلفوا بحالة الطفلة التي لا تكاد تتحسن حتى تعود إلى ما كانت عليه أو تسوء أكثر.

"محطمة النظام" فيلم صادم لا يدعنا كمشاهدين نظل محايدين اتجاه ما نشاهده على الشاشة، إذ تجعلنا المخرجة نتعاطف مع الطفلة "بيني" في كل حالاتها حتى وهي تمارس عنفها ضد الآخرين. وفي مشهد مؤثر حين تقرر الأم التخلي عن طفلتها بعد أن تكون قد وعدتها بالعودة إلى البيت مبررة للمتخصصة الاجتماعية أنها تخاف على طفليها الآخرين من عنف "بيني" ومن كونهما سيتأثران بها، لتطلب منها الأخيرة أن تخبرها بنفسها بهذا القرار لكن الأم تتملص وتهرب لتعود المتخصصة الاجتماعية إلى "بيني" والدموع في عينيها وتدخل في حالة من البكاء لتنقلب الأدوار في هذه اللحظة لتصبح "بيني" هي من تخفف عن المرأة المصدومة من جحود الأم.

من خلال أحداث الفيلم وما استطاعت شخصية الطفلة أن تظهره من صدق وبأداء جيد للممثلة الصغيرة التي أدت دورها يبدو أن المخرجة نورا فايشت قد أجرت بحثا ميدانيا متأنيا قبل أن تشرع في كتابة وتصوير فيلمها هذا لأن التصاق الفيلم بالواقع وبحالة ميدانية ظاهر للعيان على الشاشة.

"المرأة الباكية" و "أبيض في أبيض".. السينما اللاتينية حينما تنبش في فظاعات الماضي الأليم

يمزج المخرج الغواتيمالي خايرو بوستامانتي في فيلمه "المرأة الباكية" بين الأسطورة والواقع وهو يتناول قضية سياسية جد شائكة وهي محاولة شعب المايا في غواتيمالا فضح ما تعرض له من قمع وقتل وإبادة بداية الثمانينات من القرن الماضي على يد ديكتاتور والمطالبة بالقصاص منه، ورغم أنه يقدم هنا باسم متخيل فإنه يحيل على الديكتاتور إيفرين ريووس.

موضوع كهذا كان يغري بتناول مباشر لقضية ساخنة لكن المخرج اختار أن يتطرق لتيمته هاته بشكل فني متميز بحيث نرى كل الأحداث من وجهة نظر أسرة الديكتاتور المتقاعد والمريض والمتهالك ومن داخل بيته، هو الذي نظن بداية أنه يتوهم رؤية أشياء وأشباح، خصوصا أن أعراض مرض الأزهايمر قد بدأت تظهر عليه، هو المقيم صحبة أسرته المكونة من زوجته وابنته الطبيبة وابنتها الصغيرة والحرس المدجج بالسلاح، لكن الأمور ستتغير بقدوم امرأة هندية شابة من المايا، لتُعوض نقصا حدث بسبب ذهاب مجموعة من الخدم المايا نتيجة الاحتجاج الشديد الذي يتعرض له الدكتاتور قرب باب بيته.

هاته المرأة التي سيتبين لنا كمشاهدين وبالتدريج غرابة تصرفاتها خصوصا فيما يتعلق بعلاقتها بحفيدة الديكتاتور، لنعلم في الأخير أنها مجرد شبح "المرأة الباكية" التي قتلها الديكتاتور هي وأطفالها الصغار حينما كان في الحكم وجاءت لتنتقم منه، ولن تهدأ حتى يموت كل من شارك في المذبحة التي ذهبت ضحيتها هي وأطفالها وجزء من شعبها.

وقد استطاع المخرج الغواتيمالي أن يجر نوعا سينمائيا اعتدنا أن نراه كسينما للرعب والماورائيات نحو منطقة أخرى مختلفة وهي السينما السياسية بكل ما تفرضه من مباشرة، وقد نجح في ذلك بامتياز خصوصا أنه استطاع اللعب بهذين النوعين ولم يمنحنا كل أوراقه مرة واحدة ضابطا أدواته الإبداعية ومتمكنا منها في فيلمه هذا.

في فيلم "أبيض على أبيض" للمخرج التشيلي ثيو كور نجد مرة أخرى تلك التيمة لسينما أمريكا اللاتينية هاته الأيام وهي النبش في بشاعات الماضي الأليم والمجازر التي تعرض لها الهنود الحمر والشعوب الأصلية من طرف الأنظمة الديكتاتورية المتعاقبة على حكم البلاد ومن طرف الإقطاعيين والمسيطرين على الأرض بالقوة. هنا في هذا الفيلم يوظف المخرج التصوير الفوتوغرافي الذي درسه وأتقنه من خلال مصور بورتريهات فوتوغرافية يؤتى به من طرف صاحب مجرعة إقطاعي لتصوير زوجته الصغيرة وبعض من رجاله وجزء من مزرعته، ليكتشف هذا المصور وبالتدريج مدى البشاعات التي يقترفها هذا الإقطاعي في حق السكان الأصليين وكيف يمارس في حقهم مذابح ممنهجة وبدم بارد.

وقد استطاع المخرج ثيو كور في فيلمه الثاني هذا أن يوظف جماليات الصورة مستغلا شخصيته الرئيسية التي تمتهن التصوير بفية وبحب إلى درجة أن يصبح في مشهد أخير وجميل يمارس ما يشبه ويقارب الإخراج السينمائي وترتيب وتأثيث مكونات إطار صوره ومعطيا للشخوص التي يصورها. فيلم أبيض على أبيض فيلم مختلف ولا يطمح فيه مخرجه أن يتقفى أي اتجاه سينمائي لكن ككثير من الأفلام اللاتينية الحديثة نجد به تأثرا بالأدب الأمريكولاتيني وبكتَّابِه الكبار.

وخارج المسابقة الرسمية في الاختيار الرسمي تم عرض أفلام حديثة لمخرجين مهمين عرضت في المهرجانات البارزة عالميا ومن بين هاته الأفلام فيلما "عفوا لم أجدكم" للمخرج الإنجليزي كين لوتش و"ألم ومجد" للمخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار.

كين لوتش يستمر في رصد معاناة المهمشين في فيلم "عفوا، لم أجدكم"

في فيلمه الأخير "عفوا لم أجدكم" يعود المخرج الإنجليزي كين لوتش إلى مواضيعه الأثيرة المتمثلة في معاناة الطبقات الكادحة والمسحوقة تحت نير الاستغلال الاقتصادي لمن هم أعلى منها طبقيا. وفي هذا الفيلم نتابع قصة أسرة فقيرة تناضل فقط من أجل حياة كريمة عادية، إذ أن رب الأسرة يقوم بتوصيل الإرساليات بعد أن اشترى سيارة جديدة يشتغل بها لحساب شركة لكن صاحب الشركة لا يرحمه وعند كل تأخير أو تغيب عن العمل، مهما كان السبب عاجلا وضروريا، يخصم منه مقادير من المال، ليصل معه بعد أن تعرض لحادث اعتداء وسرقة إلى مبالغ كبيرة لا يستطيع أداءها. إضافة لهذا نتابع في الفيلم المشاكل الاجتماعية للأسرة والتي أغلبها ناتج عن مشاكل اقتصادية وعن الحالة المتواضعة لها، إذ يعاني الابن المراهق من مشاكل دراسية ينقطع على إثرها عن الذهاب للمدرسة وفي نفس الوقت يحتقر عمل أبيه ومساره في الحياة فتنتج بين الإثنين مشادات ومشاحنات نتيجة ذلك والبنت الطفلة ذات العشر سنوات تعاني من اضطرابات في النوم وتتبول في السرير ليلا، أما الأم فتضطر للاشتغال ساعات إضافية في عمل جد مرهق ومقرف بدون مقابل مادي إضافي على تعبها ذاك.

على العموم يظل كين لوش أهم مخرج معاصر يستطيع الغوص في قضايا اجتماعية لأناس طحنتهم الآلة الرأسمالية وجعلت منهم عبيدا معاصرين لا يفعلون سوى الدوران في ترسانتها الهائلة ليضخوا الأموال لها ويظلوا في شقاء طوال عمرهم، وهو يفعل هذا بسلاسة وبشكل يبدو أول الأمر بسيطا لكنه عميق في نفس الوقت، إذ نشاهد في هذا الفيلم كما كل أفلامه الأخرى شخوصا من لحم ودم أمامنا على الشاشة ونتابع معاناتهم الحقيقية دون مساحيق ولا ادعاء فني مبالغ فيه.

ألمودوفار يكتب وصيته سينمائيا في "ألم ومجد"

يمكن لنا الجزم وبدون مبالغة تذكر أن "ألم ومجد" يعد الفيلم الأكثر حميمية للمخرج الإسباني الشهير بيدرو ألمودوفار، إذ نتابع فيه معاناة المخرج السينمائي سلفادور مالو الذي لا نجد كبير عناء لنرى فيه ألمودوفار نفسه، هذا المخرج الذي تنهشه الأمراض ووهن منه الجسد ودخل في حالة إدمان على الهيروين واضطر للتوقف عن الكتابة والإخراج السينمائي لمدة ويعاني إضافة لكل هذا أزمات نفسية.
في هذا الفيلم الجد حميمي يدخل ألمودوفار في حالة مكاشفة ومصارحة ونقد ذاتي مع نفسه ومع جمهوره، إذ يُصرُّ على عرض سلبيات حياة المخرج ومن خلالها سلبيات حياته وتعثراته في الحياة وفي الفن
.

في "ألم ومجد" يبدو الصدق والمكاشفة للنفس وللآخر حاضرين بكل قوة وبشكل فني ناضج، هنا نجد خرجا كبيرا وكأنه يكتب وصيته الأخيرة بشكل سينمائي على الشاشة، فيلم به شجن دفين وحزن شفاف يبدو في عيون شخصية المخرج من خلال أنطونيو بانديراس الممثل وليس النجم، وفي لحظة صدق يقول المخرج لممثله "لا أحب الممثلين الذين يبكون، البكاء سهل لكن الممثل الحقيقي هو الذي نشاهد الدموع في عينيه وهو يحبسها أن تسقط"، وهذا ما نراه حقيقة أثناء أداء الممثل للمسرحية وفي عيون الصديق الذي يأتي ليشاهدها ليفاجئ بأنها تحكي مرحلة مهمة من علاقته بسلفادور مالو.

في أحد المشاهد الكوميدية في الفيلم يكشف ألمودوفار كيف خذل جمهورا كان ينتظره ليناقش معه فيلمه الكلاسيكي، وهنا وهو يسائل حول علاقته بالجمهور، يبدو وكأنه غير عابئ برأي الجماهير ولا حتى بإقبالها، وكأنه وصل لمرحلة النضج والعبقرية التي لم تعد تحتاج اعتراف الغير ولا لرأيه.

 

موقع "أويما 20" في

03.10.2019

 
 
 
 
 

بابيشا المرأة التي قارعت التطرّف بالأناقة والجمال

الجونة: عدنان حسين أحمد

تعود بنا المخرجة الشابة مونية مدور إلى العشرية السوداء التي عاشتها الجزائر في تسعينيات القرن المنصرم وعصفت بالبلاد والعباد معًا في محاولة يائسة لترسيخ السلفية المتطرفة التي قاومتها الفتيات الشابات هذه المرة بينما كان موقف الشباب سلبيًا ومتخاذلاً، والأغرب من ذلك أنّ الفتيات أصررنَ على محاربة التطرّف بالأناقة والجمال والغنج الأنثوي المثير الذي لم يسقط في الابتذال.

تحيطنا المخرجة علمًا بأن الفيلم مستوحىً من أحداث حقيقية لكن ذلك لم يمنعها من إضفاء بعض اللمسات الخيالية التي منحت القصة الدرامية نكهة خاصة حينما يتآزر الواقع الأسيان مع شطحات الخيال والأحلام الجماعية لهذة الثُلة الساحرة من الفتيات اللواتي يُقمن في السكن الجامعي ويلتقين بالشباب على قارعة الطرق التي يسلكنها ولا يجدنَ ضيرًا في ولوج سيارات بعض الشباب الذين يقترحون توصيلهن إلى القسم الداخلي الذي يُقمنَ فيه، ثم تتطور العلاقات العابرة إلى قصص حُب فاشلة في معظمها لأن المرأة في هذا الفيلم متشبثة بالوطن بينما يميل الشباب إلى الهجرة والهروب من ضغوطات الوطن وأولها التطرّف والخشية من المستقبل الغامض الذي ينتظر الغالبية العظمى من الشعب الجزائري.

وعلى الرغم من هيمنة (نجمة) التي جسّدت دورها الممثلة المبدعة لينا خضري كشخصية مركزية تلتف حولها الأحداث إلاّ أن ذلك لم يمنع من توهّج الشخصيات النسائية الأخرى مثل وسيلة، وسميرة، وكاهينة، وليندا، وصالحة، فكل واحدة منهنّ لها دور متفرد أشبه بالجدول الصغير الذي يغذّي نهرًا كبيرًا، ولولا هذه الجداول الفرعية الصغيرة لما كان للنهر الكبير وجودًا. وبما أنّ الفيلم درامي بالدرجة الأولى فلا غرابة أن تُقتل (ليندا) الصحفية الشابة، شقيقة (نجمة) لأنها تعمل في الصحافة وتقف ضد الإرهاب والتطرّف الذي كشّر عن أنيابه كلما ضعفت الدولة وغاب القانون.

يبدو أنّ اسم (بابيشا) Papicha غريبًا بعض الشيء على المُشاهدين العرب من غير الجزائريين لذلك سارعت المخرجة إلى توضيح المعنى قبل عرض الفيلم بدقائق وقالت إنها تعني (الفتاة الشابة الجميلة والمدللة إلى حدٍ ما) وهي كذلك ضمن السياق السردي للفيلم حيث أصرّت (نجمة) على إقامة عرض للأزياء يعتمد على الزي التقليدي الجزائري الأصيل الذي يُعرف بـ (الحايك) ويُعدّ رمزًا للهوية الجزائرية المُقاومة. لقد سعى المتطرفون في العشرية الدموية السوداء إلى اعتماد ما يمكن تسميته بالشرطة الدينية التي تُراقب الناس، وتحصي عليهم أنفاسهم، فبينما كانت هذه الباقة الجميلة من الفتيات يأخذن درسًا جامعيًا باللغة الفرنسية تهاجمهم مجموعة من الفتيات المحجبات والمنقبات اللواتي يرفضن التدريس باللغات الأجنبية ويعتبرنه تجاوزًا كبيرًا على الدين، وتقاليد المجتمع الجزائري، ولغته العربية الأصيلة وينذرن جميع منْ في الحصة الدراسية بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم يعودوا إلى رُشدهم ويتخذوا من الدين الإسلامي واللغة العربية منارة مضيئة في هذا العالم الضبابي المظلم. وقد تمادت إحداهن فأقدمت على قتل (ليندا) بدم بارد لأنها شقيقة (نجمة) كما أنها تعمل في الصحافة التي تُعرّي الإرهاب، وتفضح المتطرفين الذين يقودون البلاد إلى ما لا يُحمد عقباه.

رغم انكسار (نجمة) إلاّ أنها تمضي في مشروعها الكبير وتُرينا طبيعة الأزياء التي تصنعها بأنامل مُرهفة لكن المتطرفين كانوا يقفون لها بالمرصاد، وفي رمشة عين تحوّل العرض إلى رماد لكنها نجت من الموت بأعجوبة بعد أن فقدت العديد من الصديقات اللواتي آزرنها لتحقيق هذا العرض المُبهر الذي كشف جوانب متعددة من أوجه الجمال الجزائري الذي كان مختفيًا وراء الحجب.

يتشظى المسار السردي إلى قصص متعددة، فواحدة منهن تحمل من صديق وَعَدها بالزواج وتركها أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما الإجهاض أو مواجهة العائلة وتقاليد المجتمع المتزمت، أما نجمة فإنها تتخلى عن الشاب الذي أحبها وخرج معها إلى البحر تارة وبعض الأماكن العامة تارة أخرى لكنه آثر الهجرة وترك البلاد التي يعتقد أنها سوف تشتعل في قادم الأيام، الشابة الأخرى (وسيلة) التي أحبت أيضًا وخرجت مع الحبيب غير مرة لكن قصتها العاطفية وصلت إلى طريق مسدودة أيضًا فإنسحبت هي الأخرى إلى عالم الأزياء وتألقت فيه مثل بقية زميلاتها الجامعيات.

يمكن القول باطمئنان كبير أنّ (بابيشا) هو فيلم شخصيات تجاوزنَ حدود القصة السينمائية التي رسمتها مخرجة الفيلم ومؤلفة السيناريو ولهذا السبب فإن لينا خضري هي المرشحة الدائمة في أي مهرجان يُشارك في هذا الفيلم بمسابقة رسمية لأن تخطف جائزة التمثيل نظرًا للجهد الكبير الذي بذلته في الأداء المعبّر  الذي أحبّه الجمهور وتعاطف معه إلى درجة التماهي. أما الشخصيات الرجالية السلبية فقد أدوا جميعًا أدورًا تكيميلية، إن صح التعبير، أمثال كريم، ومهدي، ومختار وبقية الشخصيات الدائرة في فلك النساء.

لابد من الإشارة إلى أنّ مونية مدور هي كريمة المخرج الراحل عزالدين مدور الذي عرفناه كمخرج ملتزم ومثير للجدل في فيلم (جبل باية) أو (شحال نحبك) الذي تخلى فيه عن الفصحى واعتمد على اللهجة الجزائرية الدارجة، فالبنت على سرّ أبيها وإن اختلفت الرؤى والتقنيات. درست  مونية الإخراج السينمائي في جامعة (لافيمي) بباريس، وفاز فيلمها القصير الأول (إدويج) بجائزة سيني + في مهرجان سان جان دولوز السينمائي. ويبدو أن انطلاقتها الحقيقية ستكون مع فيلم (بابيشا) الذي اشترك في مسابقة (نظرة ما) في الدورة 72 لمهرجان كان السينمائي، وهو يتنافس الآن في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة لمهرجان الجونة الثالث الذي يحتفي بأهم الأفلام الروائية والوثائقية المنتقاة من مهرجانات عالمية كبيرة مثل كان، وبرلين، وفينيسيا.

 

القدس العربي اللندنية في

03.10.2019

 
 
 
 
 

حديث عن الأشجار.. فيلم يسترجع سنوات الدكتاتورية والقمع الديني

الجونة: عدنان حسين أحمد

لم يكن فوز الفيلم الوثائقي "حديث عن الأشجار" للمخرج السوداني صهيب قسم الباري بجائزة نجمة الجونة الذهبية مفاجئًا للنقّاد والمُشاهدين معًا، فثمة أفلام تقول الحقيقة أو تصرِّح بالقسم الأكبر منها، وفيلم صهيب من هذا النمط الجريء الذي يتحرّش بِرُكنين أساسيين من أركان الثالوث المقدس؛ الدين والسياسة؛ ولا يجد حرجًا في أن يتحرّش بالرُكن الثالث لو أُتيحت للفيلم فرصة تناول الجنس أو التمحور على بعض من جوانبه التي تلبّي الغرائز الإنسانية من دون أن تهمل الأبعاد الروحية التي يتسامى فيها الكائن البشري في أقصى لحظات النشوة واللذة والتحليق.

يعرّي الفيلم الحقبة الدكتاتورية للرئيس المخلوع عمر حسن البشير التي استمرت على مدى ثلاثة عقود بعد انقلابه المعروف على حكومة الصادق المهدي المنتخَبة وعاثَ في البلاد فسادًا حيث هيمن الحكم العسكري، وبسط نفوذه على كل مرافق الدولة والحياة، فاسحًا المجال أمام القمع الديني الذي شلّ حركة الثقافة والفن، وأربك الحياة في عموم المدن السودانية وكانت السينما هي إحدى أبرز الضحايا ضمن المشهد الفني الذي يعوّل عليه المثقفون والفنانون والمفكرون في هذه البلاد المترامية الأطراف.

ونظرًا لتآزر الاستبداد العسكري مع الاستبداد الديني تمّ إغلاق الصالات السينمائية ليس في الخرطوم وحدها وإنما في كل المدن السودانية التي تتوفر على مثل هذه الصالات التي تغذّي الذائقة البصرية والفكرية للمثقفين والفنانين والناس العاديين الذين يرتادون يجدون ضالتهم فيها.

تتكئ بنية هذا الفيلم الوثائقي على أربع شخصيات رئيسة وهي ابراهيم شدّاد، والطيّب مهدي، وسليمان ابراهيم ومنار الحلو، وكل واحد من هؤلاء المخرجين الأربعة يثرون قصة الفيلم بالإضاءات والشذرات والمعلومات التي تشكّل في خاتمة المطاف قصة طريفة، معبِّرة، لا تخلو من الكوميديا السوداء. وعلى الرغم من أهمية ما قاله المخرجون الثلاثة الآخرون إلاّ أن ثيمة الفيلم تكاد ترتكز على الجُمل التي قالها وتفوّه بها المخرج ابراهيم شدّاد وهي ينتقد الجوامع الستة التي ترفع الآذان في أمكنة قريبة عن بعضها ولا تحتاج لهذا العدد الكبير المآذن في بقعة جغرافية ضيّقة.

يحتاج المُشاهِد العادي لأن يعرف هؤلاء المخرجين من كثب، فابراهيم شدّاد هو المخرج السوداني الوحيد الذي درس الإخراج السينمائي لمدة خمس سنوات بعد مدة قصيرة الاستقلال في الأكاديمية الالمانية لفنون السينما والتلفزيون وعاد ليجد البلاد تمرّ بدوامة متواصلة من الانقلابات العسكرية مثل العديد من الدول العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد أنجز ابراهيم شدّاد عددًا من الأفلام الوثائقية التي لم ترق للنظام العسكري القامع فضاعت وثائقياته أدراج الرياح مثل "حفلة صيد" و "القطط والمجانين"، و "حديقة الحيوان"، و "النيل والضفاف" وما سواها من الافلام التسجيلية التي تتطابق مع شخصية هذا المخرج الفَكِه الذي يتوفر على كاريزما نادره تجعل كلامه مؤثرًا وضاربًا في صميم المتلقي الذي يسمع كلامًا ساخرًا لم يألفه من قبل.

تعود بنا قصة الفيلم إلى تأسيس "جماعة الفيلم السوداني" عام 1989 في محاولة جديّة لدعم إنتاج الأفلام السينمائية لكن الحظ لم يحالفهم لأنّ النظام القمعي كان لهم بالمرصاد حيث تمّ اعتقالهم بسبب خلفيتهم الآيديولوجية اليسارية التي كانت رائجة آنذاك.

بريشت له حضور قوي في ثيمة الفيلم حين يردد أحد المخرجين الأربعة مقولته الشهيرة: "يأتي زمن يصبح فيه الحديث عن الأشجار جريمة، لأنه يعني السكوت عن كل ما يحدث". تُرى، هل سكت المثقفون السودانيون آنذاك ولم ينبسوا ببنت شفة إلاّ بعد رحيل الدكتاتور والمتآمرين معه من رجال الدين المنافقين الذين تجدهم حاضرين في كل العصور، أم أنهم كانوا يتململون، ويغلون من الداخل، ويتمردون بين آونة وأخرى؟

وفي حديثهم عن طبيعة موت السينما السودانية قال أحدهم:"السينما ما ماتت موت طبيعي. السينما ماتت فجأة " ولعل هذا التصريح يشير إلى الإسلاميين المتشددين الذين قرروا خنق السينما رغم أنها كانت طفلاً صغيرًا مازال يحبو ولكنهم قيّدوه وجعلوه يدور حول نفسه في متاهة لا مَخرج فيها، أو نافذة يُطل من خلالها إلى العالم المحيط به.

تنطوي قصة الفيلم على ذكريات وأشجان قديمة مثل الرسائل المتبادلة بينهم، وأوراق المحاضرات الجامعية، والأشرطة المرممة، والمعدات القديمة وما إلى ذلك من سنوات الدراسة في موسكو وبرلين يسترجعونها ويتأملون ذكرياتها الجميلة التي تبرق في الأذهان، وتسطع مثل النور في القلوب المُحِبة الهيمانة.

لاشك في ذكاء المخرج صهيب قسم الباري وقدرته الواضحة على الالتقاط ولولاه لما تحدث أحد الشخصيات الأربعة عن  الدكتاتوريات الثلاث والديمقراطيات الثلاث التي عاشها الشعب السوداني خلال السنوات التي أعقبت الاستقلال، فالرئيس يحصل عمر حسن البشير يحصل على نسبة 94.5 % وهي نسبة لا تعرفها غير الدول العربية التي تمجد الدكتاتوريات والأبطال القوميين الذين يتهاوون مثل النمور الورقية أمام أول إعصار قوي. وفي أحد خطاباته يقول الدكتاتور السوداني المخلوع متلكئًا: "إن حضارتنا السودانية تمتد إلى 7 مليون سنة، ثم يتدارك نفسه لكنه يقع خطأ أكبر حين يقول 700 مليون سنة، وهو يعني بالتأكيد 7000 آلاف سنة من عمر الحضارة السودانية" هذا التخبط يدفع الجمهور لأن يسخر من قادته الذين يجهلون عمر الحضارات العربية في بلدانهم التي ينهشها الفقر والجوع والأميّة.

انتظمت أحداث هذا الفيلم في بنية داخلية مدروسة بعيدًا عن النماذج التقليدية التي عرفناها في الأفلام الوثائقية، فهؤلاء الأربعة الذين يتحدثون على سجيتهم هم مَنْ منحوا قوته، وأمدّوه بالحيوية، وربما يكون إعادة تأهيل السينما، وتنظيفها، وطلائها من جديد هو أشبه بالنسغ الصاعد في جذع الشجرة التي بدأت تورق من جديد وصارت شاشتها النظيفة أقرب إلى المغناطيس الذي يجذب الناظرين. وعملاً بمبدأ الديمقراطية لجأ أحدهم إلى الاستفتاء الديمقراطي على طبيعة الأفلام التي يبتغيها المُشاهدون الذين يملكون كل الحق في عرض الأفلام القادمة من مختلف أصقاع الأرض من دون أن تمتلك السلطات الحكومية الحق في التدخل ومنع الأفلام التي لا تروق لهم، فذائقة الجمهور هي المعيار الأول والأخير الذي يقرر عرض هذا الفيلم أو ذاك. لقد أدانَ الفيلم الاجراءات الأمنية التعسفية التي كانت تعيق عرض الأفلام لأسباب كثيرة يعرفها المواطن السوداني، والمفارقة في هذا الفيلم أن الجهات الأمنية السودانية ترفض عرض الفيلم في سينما "الثورة" وتختلق عشرات الأعذار الكاذبة من أجل قتل البهجة، وتحريم المتع الثقافية الجميلة التي تنير البصر والبصيرة، وتخفف وطأة الحياة اليومية الثقيلة في ظل القمع والإرهاب الفكري الذي تعاني منه غالبية الدول العربية إن لم نقل كلها جملة وتفصيلا.

جدير ذكره أنّ المخرج صهيب قسم الباري قد أنجز فيلمًا وثائقيًا آخر لا يبتعد كثيرًا عن هذا المضمار يحمل عنوان"أفلام السودان المنسية" عام 2017. درس صهيب السينما في باريس، وعمل مصوّرًا ومونتيرًا الأمر الذي منحه معرفة دقيقة ومضافة في صناعة الفيلم الوثائقي والقصير. وبعد حزمة الجوائز التي انتزعها من مهرجانات عدة في إستانبول وبرلين والجونة فإنه يعدنا بالكثير من الأفلام السينمائية ذات السوية الفنية سواء أكانت وثائقية أم روائية أم قصيرة على حدٍ سواء.

 

المدى العراقية في

03.10.2019

 
 
 
 
 

وزير الثقافة والإعلام السوداني: تميز صناع السينما سبب فوزنا بجوائز مهرجان الجونة

أرسل وزير الثقافة والإعلام السوداني فيصل محمد صالح، والأمين العام للمجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون

بالسودان موفق عبدالرحمن، رسائل تهنئة لصناع فيلمين سودانيين فازا في مهرجان (الجونة) السينمائي، في دورته الثالثة، التي اختتمت قبل أيام.

وقال الأمين العام للمجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون بالسودان موفق عبد الرحمن، إن هذا التميز للسينما والدراما السودانية يرجع للتنوع الثقافي المدهش في السودان، مؤكدا وقوف وزارة الثقافة والمجلس مع المبدعين، ودعمهما للوصول لهذه المنصات، التي تعمل على تعريف الآخرين بالثقافة السودانية في جميع المجالات.

وأضاف أن الجائزتين تمثلان إنجازا مهما، مشيدا بصناع الفيلمين لأدائهم المتميز، الذي مكنهم من حصد الجوائز القيمة في مهرجان الجونة.

يذكر أن السودان نال جائزتين، في فئتي أفضل فيلم روائي طويل، وذهبت لفيلم (ستموت في العشرين) وقيمتها 50 ألف دولار أمريكي، وأفضل فيلم تسجيلي طويل، لفيلم (حديث عن الأشجار) وقيمتها 30 ألف دولار.

 

المصرية في

01.10.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004