"ضابط
وجاسوس" الفيلم الفرنسي يحصل على “الأسد الذهبي" بمهرجان فينيسيا كأكثر
الأفلام اكتمالا بين أفلام المسابقة.
لم يكن من السهل أن يفوز الفيلم الفرنسي “ضابط وجاسوس” (إني
أتهم) لرومان بولانسكي بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان فينيسيا،
بعد أن أبدت رئيسة لجنة التحكيم المخرجة الأرجنتينية لوكريسيا مارتل من
البداية، عدم رضاها عن وجود الفيلم في المسابقة، وأنها لا ترى فرقا بين
الفنان وعمله، وذلك في ضوء الجدل القائم بشأن قضية الاعتداء الجنسي التي
اتهم فيها بولانسكي قبل أكثر من 40 عاما.
فرض فيلم “ضابط وجاسوس”
(An Officer and a Spy)
للمخرج رومان بولانسكي نفسه بمستواه الفني الرفيع وحقق فوزه الكبير، وكان
يستحق أن يحصل على “الأسد الذهبي” بمهرجان فينيسيا الـ76 كأكثر الأفلام
اكتمالا بين أفلام المسابقة.
السينما والقضية
في العام 1971 أخرج بولانسكي فيلم “ماكبث” بعد عامين من
مقتل زوجته الممثلة شارون تيت مع أربعة من أصدقائها، على أيدي قبيلة تشارلز
مانسون من الهيبيز، في جريمة بشعة روّعت الرأي العام. ولا شك من تأثر
بولانسكي الكبير بتلك الجريمة، وهو ما عبّر عنه من خلال تصويره مشاهد العنف
والقتل وسفك الدماء بما في ذلك ذبح الأطفال في فيلم “ماكبث”.
وفي تصريحاته التي سبقت عرض فيلمه الجديد في فينيسيا، يربط
بولانسكي بين مشكلته الشخصية، أي ما يرى أنه “ملاحقة” ظالمة واستهدافا غير
مبرّر، وبين ما تعرّض له الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس الذي اتهم ظلما
بالتجسّس في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر، وأدين وحكم عليه بالسجن مدى
الحياة.
ورغم ثبوت براءته رفضت المحكمة إطلاق سراحه لمجرد أنه
“يهودي”. هذا الربط بين القضيتين، يقلّل من قيمة الفيلم ويختصره في مجرد
التعبير المجازي عن “مأزق” بولانسكي الشخصي، في حين أنه يتجاوز الخاص إلى
العام، ويحمل إسقاطات واضحة على المدّ العنصري الذي يجتاح العالم حاليا.
"ضابط
وجاسوس" فيلم عن الولاء للحقيقة مهما كلّف الأمر، وعن الوعي الفردي الذي
يملك أن يغيّر التاريخ
تعاملت السينما مع قضية دريفوس منذ وقت مبكر، فعندما كانت
القضية ما زالت تُنظر، صوّر الأخوان لوميير سلسلة من “الأفلام” (11 فيلما
زمن كل منها دقيقة واحدة) توثّق تاريخيا محاكمة دريفوس.
وظهر أول فيلم عن القضية في ألمانيا عام 1930 وأعيد إنتاجه
في فيلم بريطاني في العام التالي، ثم أنتج فيلم أميركي بعنوان “إني أتهم”
(نفس العنوان الفرنسي لفيلم بولانسكي) بطولة وإخراج جوزيه فيريه عن سيناريو
لغور فيدال، ثم تناول القضية المسلسل التلفزيوني “سجين الشرف” (1991) إخراج
كن راسل وبطولة ريتشارد دريفوس في دور دريفوس!
المفارقة أن دريفوس ليس الشخصية المحورية في فيلم بولانسكي،
رغم أن قضيته هي محور الفيلم حسب سيناريو روبرت هاريس (عن روايته) في ثاني
تعاون بينهما بعد “الكاتب الشبح”
(2010).
قضية ألفريد دريفوس التي استمرت في فرنسا من عام 1894 حتى
1906، بدأت بإدانة دريفوس بتهمة التجسّس لحساب ألمانيا. ورغم ما ثبت بعد
ذلك من أن ضابطا آخر كان هو الجاسوس الحقيقي إلاّ أن المحكمة العسكرية رفضت
تبرئة دريفوس وقضت بسجنه مدى الحياة في “جزيرة الشيطان” في المحيط الأطلسي.
وقد تحوّلت القضية إلى فضيحة كبرى تمسّ المؤسسة الحاكمة
بأسرها وعلى رأسها الجيش الفرنسي، بعد أن نشر الكاتب إميل زولا مقاله “إني
أتهم”
(L’Accuse)
وهو العنوان الفرنسي لفيلمنا هذا. واعتبر زولا التعصّب ضد دريفوس مدفوعا
بمعاداة اليهود.
هذه القضية يعيد بولانسكي تصويرها بكل تفاصيلها بما في ذلك
محاكمة زولا بتهمة السب والقذف في حق قيادات الجيش، ولكن الفيلم يجعل
الشخصية الرئيسية -ليس دريفوس الذي نراه في مشاهد محدودة- بل الضابط جورج
بيكار الذي كان أحد شهود تجريم دريفوس والحكم عليه ثم تجريده من رتبته
والتشهير به.
وبيكار كان ضمن النخبة العسكرية والطبقة السائدة التي تنظر
باحتقار إلى اليهود وترى أنهم يستحقون التجريس والتجريم. وتقديرا لدوره في
القضية تمت ترقيته ليصبح مديرا للمخابرات. وهو يذهب ويتولى منصبه في مبنى
تنتشر فيه الروائح الكريهة، مقبض مظلم، ثم يعجز عن فتح نوافذ مكتبه، لكنه
يواجه أيضا “الحرس القديم” الحديدي، أي الضباط الذين يتحكّمون عمليا في
مجريات الأمور من عهد سلفه الذي أعفي من الخدمة بعد إصابته بداء الزهري.
في طليعة “التركة” التي ترجمها الجنرال المريض، “الكولونيل
هنري” الذي سيتّخذ من البداية موقفا مناوئا لبيكار، يخفي عنه ما يعرفه،
يتلاعب به ويريد تسييره كما يرغب. وعندما يبدأ بيكار في التشكّك في حقيقة
إدانة دريفوس يتّخذ منه هنري موقفا عدائيا مكشوفا، فقد كان أحد المسؤولين
عن اتهام دريفوس ظلما. سيكتشف بيكار بنفسه أن الرسالة التي نسبت إلى دريفوس
وأدانته بالتجسّس ليست بخط يده بل بخط ضابط آخر يتم ضبطه بالفعل وهو يتسلّل
إلى السفارة الألمانية.
بيكار سيصبح “البطل التراجيدي” الذي لا يكفّ عن تصعيد الأمر
إلى جميع رؤسائه وصولا إلى وزير الحربية نفسه. لكن الجميع يحذّرونه
ويطالبونه بضرورة نسيان الأمر وأن القضية قد أغلقت، لكنه لا يكفّ ولا
يستسلم ويواصل الضغوط بل ويتّصل بمجموعة من الكتاب والصحافيين من بينهم
إميل زولا الذي يفجّر القضية بعد نشر مقاله في صحيفة “لورور”، وما يعقب ذلك
من اعتداءات عنصرية على المتاجر اليهودية.
الفيلم لا يتبع أسلوب الفيلم التقليدي الذي يحوّل القضية
إلى فيلم تحقيق “بوليسي”. فبولانسكي لا يلتزم بأسلوب فيلم الإثارة وهو سيّد
هذا النوع من الأفلام، بل يهتم بالسرد الدقيق للأحداث والشخصيات، وإعادة
تجسيد الوقائع في تدرّج حول شخصية بيكار الذي يستيقظ وعيه ويمضي قدما في
الولاء للحقيقة
تحدي المؤسسة ويدفع الثمن عندما يبعدونه إلى معسكر بمنطقة
نائية ثم خارج البلاد في إحدى المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، ثم يستخدمون
علاقته بعشيقته، وهي زوجة أحد كبار الضباط، لترويعه وتطويعه، ثم يقبضون
عليه ويجرّدونه من وظيفته ويودعونه السجن دون أن يفقد إيمانه أو يتراجع عن
يقينه، وعندما تعاد محاكمة دريفوس يتخلّى عن ولائه التقليدي للمؤسسة
العسكرية ويتحوّل إلى شاهد ضد رؤسائه. هذا فيلم عن الولاء للحقيقة مهما
كلّف الأمر، وعن الوعي الفردي الذي يملك أن يغيّر التاريخ، وعن دور الفرد
عندما ينطلق من داخل “المؤسسة” نفسها ليقلب المؤسسة رأسا على عقب. ولعل من
أهم أسباب المتعة في الفيلم قدرة بولانسكي في التعبير عن كل الأطراف
المشتبكة في “النزاع” في توازن دقيق، وتجسيد الصور والمشاهد المختلفة في
باريس القرن التاسع عشر، بكثير من الرونق والسحر من خلال التصوير البديع
الذي يضفي على الصورة ضبابية مثيرة، وتكوينات تشيع فيها الظلال القاتمة،
والاعتماد على المصادر الطبيعية للضوء، وعلى الديكورات والأماكن الخارجية
التي تضاهي ملامح ذلك العصر بكل تفاصيلها.
يلتقي بيكار بعملاء سرّيين له في أماكن عامة تكشف طبيعة
الحياة في باريس في تلك الفترة، منها مشهد يدور في حديقة التماثيل في متحف
اللوفر، ومشهد آخر داخل ملهى ليلي حيث ترقص مجموعة من الراقصات الحسناوات
رقصة الكان كان التي كانت قد اشتهرت وقتها، ومشهد ثالث في كاتدرائية قديمة
في باريس.
وبولانسكي يعيد الحياة إلى تلك الشوارع الباريسية التي تظهر
في الفيلم على نحو ما كانت عليه في أواخر القرن التاسع عشر: الأزياء
والعربات والخيول والمباني، وكأنه قام بتفريغ الشوارع من كل آثارها الحديثة
وما يدل عليها من مبانٍ ربما بواسطة برامج الكمبيوتر. ويعود الفضل في
المستوى البديع للتصوير في الفيلم إلى مدير التصوير البولندي بافل إيدلمان
الذي عمل مع بولانسكي منذ فيلم “عازف البيانو”
(2002).
ويتمتع الفيلم بالكمال الفني من ناحية التقنية السينمائية:
تصميم المناظر، والملابس، والديكورات، واختيار الإضاءة غير المباشرة،
وزوايا التصوير، والألوان الثقيلة القاتمة، وقماشة الصورة التي تبدو
مستوحاة من طبيعة وأجواء لوحات ما بعد التأثيريين من رسامي أواخر القرن
التاسع عشر مثل تولوز لوتريك وبول سيزان وغيرهما.
بولانسكي يستعيد ويعيد الحياة إلى كبار ممثلي الطبقة
العسكرية في فرنسا بمفاهيمها وأخلاقياتها وهواجسها ونظرتها العامة للأمور.
ولا يفوّت فرصة لكي يتهكّم عليها.
وتصلح جميع المشاهد الخارجية في الفيلم للتدريس لطلاب
التصوير والإخراج. كما يصلح الفيلم عموما كدرس في العناية بالتفاصيل
الدقيقة: تفاصيل الصورة، وتفاصيل الشخصيات والوقائع والأحداث كما يرسمها
السيناريو. والأسلوب العام في الفيلم أسلوب كلاسيكي، يكشف أدق تفاصيل
الموضوع من جميع جوانبه وزواياه. إنها الكلاسيكية البديعة التي تميّز بها
من قبل فيلم “تيس” (1979)، يتم دعمها هنا بموسيقى ألكسندر ديسبلات التي
تلعب على التوتر المكتوم وراء جلد الصورة، لكنها تصعد وتنطلق في النهاية
بحيث تضع خطوطا سميكة توحي بمشاعر لا يمكن تلخيصها يخرج بها المشاهدون.
بلاغة التقمص
يلعب التمثيل دورا كبيرا في الإحساس بتلك الشخصيات واستعادة
التاريخ من خلالها. ويضم الفيلم أساسا، أربعة من عمالقة التمثيل في السينما
الفرنسية: أولهم جان دوجاردان في دور الضابط بيكار. صحيح أنه يتّخذ سمة
شديدة التزمّت والثبات، يحدّق دائما إلى الأمام، لا ينظر كثيرا في عيني من
يحدثه، لكنه يجسّد على هذا النحو شخصية رجل يلتزم بالصرامة العسكرية
الضرورية، يعرف ما يريد، يتمسّك بالمبادئ التي يؤمن بها، ويصبح مع التحدّي
أكثر قدرة على الصمود والمواجهة.
إنه يتطلّع فقط لخدمة الحقيقة. وهو رجل يفصل بين العمل
الرسمي والحياة الخاصة، فهو يقيم علاقة مع السيدة بولين مونييه (تقوم
بالدور زوجة بولانسكي الممثلة إيمانويل سنييه) المتزوجة من ضابط عجوز، لكنه
ليس متحمّسا للزواج منها بل يفضّل أن تبقى علاقتهما كما هي.
وبرز أيضا في دور دريفوس الممثل لويس غاريل الذي يرفض التهم
الموجّهة إليه بكل شجاعة، ويصمد أمام الروح العدائية التي تحيط به من كل
جانب، ويصرّ على استعادة اسمه وتنقية تاريخه الشخصي ويظلّ يبحث حتى بعد
تبرئته واستعادته وظيفته، عن ترضية يستعيد بموجبها حقه في الترقية التي
ضاعت عليه خلال سنوات السجن.
رومان بولانسكي لا يلتزم بأسلوب فيلم الإثارة في "ضابط
وجاسوس" بل يهتم بالسرد الدقيق للأحداث
وغاريل في دور دريفوس هو الوحيد الذي يظهر قليلا خارج سياق
السرد الكلاسيكي، خلال فترة سجنه، فنرى كيف يقيّدونه من قدميه ويحرمونه من
الحقوق الأولية البسيطة ويهينونه في انتقالات من خلال المونتاج إلى حيث
يقضي السجن معزولا عن الأحداث الصاخبة.
وفي دور الكولونيل هنري لدينا ممثل من الوزن الثقيل هو
غريغوري غيدبوا الذي يؤدّي الدور معبّرا عن خبث الضابط وما يخفيه في أعماقه
أكثر ممّا يكشف عنه، بتعبيرات عينيه وإيماءاته وحركة جسده. إنه نموذج
للممثل السينمائي الذي يعرف كيف يعبّر في بلاغة أمام الكاميرا.
يقوم ماتيو أمالريك بدور بيرتيون خبير المخطوطات الذي يعمل
لدى “المؤسسة” الرسمية، والذي يصرّ في شهادته على أن الرسالة التي أدين
بموجبها دريفوس هي بخط يده رغم ثبات أن هناك رسالة أخرى بخط يد الضابط
الآخر “أسترنزي” اكتشفها بيكار.
يعتبر الفيلم أيضا تصويرا طريفا وربما غير مسبوق، لآليات
التجسّس التي كانت تمارسها أجهزة المخابرات وما كانت تستخدمه من وسائل في
مراقبة الأفراد: مراقبة الرسائل الخاصة (بما في ذلك الرسائل الغرامية) وكيف
كانوا يفتحونها بطرق مختلفة بحيث لا يمكن اكتشاف الأمر، وكيف يصوّرون سرا
المشتبه بهم، أو يلتقطون قصاصات الرسائل الممزّقة التي تلقى في سلال
القمامة ويعيدون تلصيق مقاطعها لكي تصبح مقروءة، ليتم استخدامها كأدلة في
ما بعد، وكيف كانوا يستأجرون شقة مجاورة لشقة الشخص الخاضع للمراقبة
وينصتون إلى ما يدور في شقته بواسطة أجهزة استماع بدائية، ثم تصويره
بكاميرا أولية.. وغير ذلك من الوسائل التي تتميّز بالدقة التاريخية وكأن
بولانسكي اقتبسها من أحد متاحف عمل المخابرات.
“ضابط
وجاسوس” فيلم ملهم. إنه احتجاج معاصر وقوي على كل أشكال الاضطهاد، وهجاء
بليغ للمؤسسة العسكرية عندما تفرض نفسها فوق الشعب وفوق الجميع بل وفوق
الحقيقة! |