كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 

دراما سينمائية عن رثاء الذات وإدانة الاضطهاد ولعنة المؤسسة

أمير العمري

فينيسيا السينمائي الدولي السادس والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

"ضابط وجاسوس" الفيلم الفرنسي يحصل على “الأسد الذهبي" بمهرجان فينيسيا كأكثر الأفلام اكتمالا بين أفلام المسابقة.

لم يكن من السهل أن يفوز الفيلم الفرنسي “ضابط وجاسوس” (إني أتهم) لرومان بولانسكي بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان فينيسيا، بعد أن أبدت رئيسة لجنة التحكيم المخرجة الأرجنتينية لوكريسيا مارتل من البداية، عدم رضاها عن وجود الفيلم في المسابقة، وأنها لا ترى فرقا بين الفنان وعمله، وذلك في ضوء الجدل القائم بشأن قضية الاعتداء الجنسي التي اتهم فيها بولانسكي قبل أكثر من 40 عاما.

فرض فيلم “ضابط وجاسوس” (An Officer and a Spy) للمخرج رومان بولانسكي نفسه بمستواه الفني الرفيع وحقق فوزه الكبير، وكان يستحق أن يحصل على “الأسد الذهبي” بمهرجان فينيسيا الـ76 كأكثر الأفلام اكتمالا بين أفلام المسابقة.

السينما والقضية

في العام 1971 أخرج بولانسكي فيلم “ماكبث” بعد عامين من مقتل زوجته الممثلة شارون تيت مع أربعة من أصدقائها، على أيدي قبيلة تشارلز مانسون من الهيبيز، في جريمة بشعة روّعت الرأي العام. ولا شك من تأثر بولانسكي الكبير بتلك الجريمة، وهو ما عبّر عنه من خلال تصويره مشاهد العنف والقتل وسفك الدماء بما في ذلك ذبح الأطفال في فيلم “ماكبث”.

وفي تصريحاته التي سبقت عرض فيلمه الجديد في فينيسيا، يربط بولانسكي بين مشكلته الشخصية، أي ما يرى أنه “ملاحقة” ظالمة واستهدافا غير مبرّر، وبين ما تعرّض له الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس الذي اتهم ظلما بالتجسّس في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر، وأدين وحكم عليه بالسجن مدى الحياة.

ورغم ثبوت براءته رفضت المحكمة إطلاق سراحه لمجرد أنه “يهودي”. هذا الربط بين القضيتين، يقلّل من قيمة الفيلم ويختصره في مجرد التعبير المجازي عن “مأزق” بولانسكي الشخصي، في حين أنه يتجاوز الخاص إلى العام، ويحمل إسقاطات واضحة على المدّ العنصري الذي يجتاح العالم حاليا.

"ضابط وجاسوس" فيلم عن الولاء للحقيقة مهما كلّف الأمر، وعن الوعي الفردي الذي يملك أن يغيّر التاريخ

تعاملت السينما مع قضية دريفوس منذ وقت مبكر، فعندما كانت القضية ما زالت تُنظر، صوّر الأخوان لوميير سلسلة من “الأفلام” (11 فيلما زمن كل منها دقيقة واحدة) توثّق تاريخيا محاكمة دريفوس.

وظهر أول فيلم عن القضية في ألمانيا عام 1930 وأعيد إنتاجه في فيلم بريطاني في العام التالي، ثم أنتج فيلم أميركي بعنوان “إني أتهم” (نفس العنوان الفرنسي لفيلم بولانسكي) بطولة وإخراج جوزيه فيريه عن سيناريو لغور فيدال، ثم تناول القضية المسلسل التلفزيوني “سجين الشرف” (1991) إخراج كن راسل وبطولة ريتشارد دريفوس في دور دريفوس!

المفارقة أن دريفوس ليس الشخصية المحورية في فيلم بولانسكي، رغم أن قضيته هي محور الفيلم حسب سيناريو روبرت هاريس (عن روايته) في ثاني تعاون بينهما بعد “الكاتب الشبح” (2010).

قضية ألفريد دريفوس التي استمرت في فرنسا من عام 1894 حتى 1906، بدأت بإدانة دريفوس بتهمة التجسّس لحساب ألمانيا. ورغم ما ثبت بعد ذلك من أن ضابطا آخر كان هو الجاسوس الحقيقي إلاّ أن المحكمة العسكرية رفضت تبرئة دريفوس وقضت بسجنه مدى الحياة في “جزيرة الشيطان” في المحيط الأطلسي.

وقد تحوّلت القضية إلى فضيحة كبرى تمسّ المؤسسة الحاكمة بأسرها وعلى رأسها الجيش الفرنسي، بعد أن نشر الكاتب إميل زولا مقاله “إني أتهم” (L’Accuse) وهو العنوان الفرنسي لفيلمنا هذا. واعتبر زولا التعصّب ضد دريفوس مدفوعا بمعاداة اليهود.

هذه القضية يعيد بولانسكي تصويرها بكل تفاصيلها بما في ذلك محاكمة زولا بتهمة السب والقذف في حق قيادات الجيش، ولكن الفيلم يجعل الشخصية الرئيسية -ليس دريفوس الذي نراه في مشاهد محدودة- بل الضابط جورج بيكار الذي كان أحد شهود تجريم دريفوس والحكم عليه ثم تجريده من رتبته والتشهير به.

وبيكار كان ضمن النخبة العسكرية والطبقة السائدة التي تنظر باحتقار إلى اليهود وترى أنهم يستحقون التجريس والتجريم. وتقديرا لدوره في القضية تمت ترقيته ليصبح مديرا للمخابرات. وهو يذهب ويتولى منصبه في مبنى تنتشر فيه الروائح الكريهة، مقبض مظلم، ثم يعجز عن فتح نوافذ مكتبه، لكنه يواجه أيضا “الحرس القديم” الحديدي، أي الضباط الذين يتحكّمون عمليا في مجريات الأمور من عهد سلفه الذي أعفي من الخدمة بعد إصابته بداء الزهري.

في طليعة “التركة” التي ترجمها الجنرال المريض، “الكولونيل هنري” الذي سيتّخذ من البداية موقفا مناوئا لبيكار، يخفي عنه ما يعرفه، يتلاعب به ويريد تسييره كما يرغب. وعندما يبدأ بيكار في التشكّك في حقيقة إدانة دريفوس يتّخذ منه هنري موقفا عدائيا مكشوفا، فقد كان أحد المسؤولين عن اتهام دريفوس ظلما. سيكتشف بيكار بنفسه أن الرسالة التي نسبت إلى دريفوس وأدانته بالتجسّس ليست بخط يده بل بخط ضابط آخر يتم ضبطه بالفعل وهو يتسلّل إلى السفارة الألمانية.

بيكار سيصبح “البطل التراجيدي” الذي لا يكفّ عن تصعيد الأمر إلى جميع رؤسائه وصولا إلى وزير الحربية نفسه. لكن الجميع يحذّرونه ويطالبونه بضرورة نسيان الأمر وأن القضية قد أغلقت، لكنه لا يكفّ ولا يستسلم ويواصل الضغوط بل ويتّصل بمجموعة من الكتاب والصحافيين من بينهم إميل زولا الذي يفجّر القضية بعد نشر مقاله في صحيفة “لورور”، وما يعقب ذلك من اعتداءات عنصرية على المتاجر اليهودية.

الفيلم لا يتبع أسلوب الفيلم التقليدي الذي يحوّل القضية إلى فيلم تحقيق “بوليسي”. فبولانسكي لا يلتزم بأسلوب فيلم الإثارة وهو سيّد هذا النوع من الأفلام، بل يهتم بالسرد الدقيق للأحداث والشخصيات، وإعادة تجسيد الوقائع في تدرّج حول شخصية بيكار الذي يستيقظ وعيه ويمضي قدما في

الولاء للحقيقة

تحدي المؤسسة ويدفع الثمن عندما يبعدونه إلى معسكر بمنطقة نائية ثم خارج البلاد في إحدى المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، ثم يستخدمون علاقته بعشيقته، وهي زوجة أحد كبار الضباط، لترويعه وتطويعه، ثم يقبضون عليه ويجرّدونه من وظيفته ويودعونه السجن دون أن يفقد إيمانه أو يتراجع عن يقينه، وعندما تعاد محاكمة دريفوس يتخلّى عن ولائه التقليدي للمؤسسة العسكرية ويتحوّل إلى شاهد ضد رؤسائه. هذا فيلم عن الولاء للحقيقة مهما كلّف الأمر، وعن الوعي الفردي الذي يملك أن يغيّر التاريخ، وعن دور الفرد عندما ينطلق من داخل “المؤسسة” نفسها ليقلب المؤسسة رأسا على عقب. ولعل من أهم أسباب المتعة في الفيلم قدرة بولانسكي في التعبير عن كل الأطراف المشتبكة في “النزاع” في توازن دقيق، وتجسيد الصور والمشاهد المختلفة في باريس القرن التاسع عشر، بكثير من الرونق والسحر من خلال التصوير البديع الذي يضفي على الصورة ضبابية مثيرة، وتكوينات تشيع فيها الظلال القاتمة، والاعتماد على المصادر الطبيعية للضوء، وعلى الديكورات والأماكن الخارجية التي تضاهي ملامح ذلك العصر بكل تفاصيلها.

يلتقي بيكار بعملاء سرّيين له في أماكن عامة تكشف طبيعة الحياة في باريس في تلك الفترة، منها مشهد يدور في حديقة التماثيل في متحف اللوفر، ومشهد آخر داخل ملهى ليلي حيث ترقص مجموعة من الراقصات الحسناوات رقصة الكان كان التي كانت قد اشتهرت وقتها، ومشهد ثالث في كاتدرائية قديمة في باريس.

وبولانسكي يعيد الحياة إلى تلك الشوارع الباريسية التي تظهر في الفيلم على نحو ما كانت عليه في أواخر القرن التاسع عشر: الأزياء والعربات والخيول والمباني، وكأنه قام بتفريغ الشوارع من كل آثارها الحديثة وما يدل عليها من مبانٍ ربما بواسطة برامج الكمبيوتر. ويعود الفضل في المستوى البديع للتصوير في الفيلم إلى مدير التصوير البولندي بافل إيدلمان الذي عمل مع بولانسكي منذ فيلم “عازف البيانو” (2002).

ويتمتع الفيلم بالكمال الفني من ناحية التقنية السينمائية: تصميم المناظر، والملابس، والديكورات، واختيار الإضاءة غير المباشرة، وزوايا التصوير، والألوان الثقيلة القاتمة، وقماشة الصورة التي تبدو مستوحاة من طبيعة وأجواء لوحات ما بعد التأثيريين من رسامي أواخر القرن التاسع عشر مثل تولوز لوتريك وبول سيزان وغيرهما.

بولانسكي يستعيد ويعيد الحياة إلى كبار ممثلي الطبقة العسكرية في فرنسا بمفاهيمها وأخلاقياتها وهواجسها ونظرتها العامة للأمور. ولا يفوّت فرصة لكي يتهكّم عليها.

وتصلح جميع المشاهد الخارجية في الفيلم للتدريس لطلاب التصوير والإخراج. كما يصلح الفيلم عموما كدرس في العناية بالتفاصيل الدقيقة: تفاصيل الصورة، وتفاصيل الشخصيات والوقائع والأحداث كما يرسمها السيناريو. والأسلوب العام في الفيلم أسلوب كلاسيكي، يكشف أدق تفاصيل الموضوع من جميع جوانبه وزواياه. إنها الكلاسيكية البديعة التي تميّز بها من قبل فيلم “تيس” (1979)، يتم دعمها هنا بموسيقى ألكسندر ديسبلات التي تلعب على التوتر المكتوم وراء جلد الصورة، لكنها تصعد وتنطلق في النهاية بحيث تضع خطوطا سميكة توحي بمشاعر لا يمكن تلخيصها يخرج بها المشاهدون.

بلاغة التقمص

يلعب التمثيل دورا كبيرا في الإحساس بتلك الشخصيات واستعادة التاريخ من خلالها. ويضم الفيلم أساسا، أربعة من عمالقة التمثيل في السينما الفرنسية: أولهم جان دوجاردان في دور الضابط بيكار. صحيح أنه يتّخذ سمة شديدة التزمّت والثبات، يحدّق دائما إلى الأمام، لا ينظر كثيرا في عيني من يحدثه، لكنه يجسّد على هذا النحو شخصية رجل يلتزم بالصرامة العسكرية الضرورية، يعرف ما يريد، يتمسّك بالمبادئ التي يؤمن بها، ويصبح مع التحدّي أكثر قدرة على الصمود والمواجهة.

إنه يتطلّع فقط لخدمة الحقيقة. وهو رجل يفصل بين العمل الرسمي والحياة الخاصة، فهو يقيم علاقة مع السيدة بولين مونييه (تقوم بالدور زوجة بولانسكي الممثلة إيمانويل سنييه) المتزوجة من ضابط عجوز، لكنه ليس متحمّسا للزواج منها بل يفضّل أن تبقى علاقتهما كما هي.

وبرز أيضا في دور دريفوس الممثل لويس غاريل الذي يرفض التهم الموجّهة إليه بكل شجاعة، ويصمد أمام الروح العدائية التي تحيط به من كل جانب، ويصرّ على استعادة اسمه وتنقية تاريخه الشخصي ويظلّ يبحث حتى بعد تبرئته واستعادته وظيفته، عن ترضية يستعيد بموجبها حقه في الترقية التي ضاعت عليه خلال سنوات السجن.

رومان بولانسكي لا يلتزم بأسلوب فيلم الإثارة في "ضابط وجاسوس" بل يهتم بالسرد الدقيق للأحداث

وغاريل في دور دريفوس هو الوحيد الذي يظهر قليلا خارج سياق السرد الكلاسيكي، خلال فترة سجنه، فنرى كيف يقيّدونه من قدميه ويحرمونه من الحقوق الأولية البسيطة ويهينونه في انتقالات من خلال المونتاج إلى حيث يقضي السجن معزولا عن الأحداث الصاخبة.

وفي دور الكولونيل هنري لدينا ممثل من الوزن الثقيل هو غريغوري غيدبوا الذي يؤدّي الدور معبّرا عن خبث الضابط وما يخفيه في أعماقه أكثر ممّا يكشف عنه، بتعبيرات عينيه وإيماءاته وحركة جسده. إنه نموذج للممثل السينمائي الذي يعرف كيف يعبّر في بلاغة أمام الكاميرا.

يقوم ماتيو أمالريك بدور بيرتيون خبير المخطوطات الذي يعمل لدى “المؤسسة” الرسمية، والذي يصرّ في شهادته على أن الرسالة التي أدين بموجبها دريفوس هي بخط يده رغم ثبات أن هناك رسالة أخرى بخط يد الضابط الآخر “أسترنزي” اكتشفها بيكار.

يعتبر الفيلم أيضا تصويرا طريفا وربما غير مسبوق، لآليات التجسّس التي كانت تمارسها أجهزة المخابرات وما كانت تستخدمه من وسائل في مراقبة الأفراد: مراقبة الرسائل الخاصة (بما في ذلك الرسائل الغرامية) وكيف كانوا يفتحونها بطرق مختلفة بحيث لا يمكن اكتشاف الأمر، وكيف يصوّرون سرا المشتبه بهم، أو يلتقطون قصاصات الرسائل الممزّقة التي تلقى في سلال القمامة ويعيدون تلصيق مقاطعها لكي تصبح مقروءة، ليتم استخدامها كأدلة في ما بعد، وكيف كانوا يستأجرون شقة مجاورة لشقة الشخص الخاضع للمراقبة وينصتون إلى ما يدور في شقته بواسطة أجهزة استماع بدائية، ثم تصويره بكاميرا أولية.. وغير ذلك من الوسائل التي تتميّز بالدقة التاريخية وكأن بولانسكي اقتبسها من أحد متاحف عمل المخابرات.

ضابط وجاسوس” فيلم ملهم. إنه احتجاج معاصر وقوي على كل أشكال الاضطهاد، وهجاء بليغ للمؤسسة العسكرية عندما تفرض نفسها فوق الشعب وفوق الجميع بل وفوق الحقيقة!

 

العرب اللندنية في

13.09.2019

 
 
 
 
 

أمجد أبو العلاء: "صناعة فيلم في السودان ثورة بحدّ ذاتها"

أجراه: سامي عبدالله

نال المخرج السوداني أمجد أبو العلاء جائزة "أسد المستقبل" من أمير كوستوريتسا، في ختام الدورة الـ76 (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان البندقية (فينيسيا) السينمائي الدولي"، عن باكورته الروائية "ستموت في العشرين".

أثار الحدث بهجة العديدين من أهل السينما، وأدخل الفرحة إلى قلوب سودانيين كثيرين، خصوصًا أنّ الفيلم يستحق هذا الفوز، ويساهم في وضع السينما السودانية على خارطة المهرجانات الدولية، بعد أعوام من الغياب.

"ستموت في العشرين" يروي حكاية شاب يدعى مزمل، يتنبأ له شيخ صوفي بأن حياته ستنتهي فور بلوغه 20 عامًا.

في الآتي، حوار أجرته "العربي الجديد" مع أمجد أبو العلاء في البندقية.

(*) هل كانت السينما شغفك منذ الطفولة؟

- كنتُ طالبًا أبلغ 14 عامًا في مدينة "مدني" في ولاية الجزيرة، حيث صوّرتُ الفيلم، أمضي النهار مع العائلة في البيت، بينما يحاولون العثور على فيلم مناسب ليشاهدوه في التلفزيون. فجأةً، ظهر مشهد من فيلم مصري، أثار انتباههم واستهجانهم في آن معًا، وكان عنوانه "حدوتة مصرية". المشهد تحديدًا كان مشهد عملية القلب المفتوح للبطل، وشخصيته كطفل صغير يتجوّل داخل قفصه الصدري، مُقيمًا محاكمات لأسرته، في ما يشبه الحلم. عندها، صرخ الجميع: "دي شنو العوارة دي؟ ده شنو المخرج المجنون ده؟ ده أكيد يوسف شاهين"، وغيّروا القناة بضجر.

شعرتُ بالدهشة عندما اكتشفتُ أنّهم يقصدون المخرج. كيف تعرّفوا بسهولة إلى الفيلم؟ ما هو الشيء الذي يجعل مواطناً بسيطاً من السودان يتعرّف إلى أسلوب مخرجٍ ينتمي إلى بلدٍ آخر، من مشهد واحد في منتصف الفيلم؟ ولماذا المخرج؟ لماذا لم يعرفوا الفيلم باسم ممثّل دور البطولة؟ لم يقولوا "فيلم نور الشريف" مثلاً، بل أشاروا مباشرةً إلى شاهين.

من يومها، بدأ الفضول يراودني. طلبتُ من ابن خالتي، الذي يعيش في العاصمة، أن يجمع لي ما يستطيع من شرائط فيديو لهذا المخرج المجنون. وددتُ أن أعرف مَن هو. ثم، شيئًا فشيئًا، أردتُ أن أكون هذا الصانع القادر على التحدّث، بأيّ أسلوب كان، حتى لو لم يعجب الآخر.

في منتصف التسعينيات، انتشرت ظاهرة سمّاها السودانيون "حرامي الدش"، وهي تركيب جهاز لالتقاط القنوات الفضائية بشكلٍ غير قانوني، في ظلّ النظام الإسلامي، الذي كان يحرّم الـ"ستالايت" بهوس، إلى حدّ أنّه كانت هناك طائرات استطلاع تابعة للجيش تحلّق فوق أسطح البيوت، للاستدلال على أصحاب الصحون اللاقطة. تخيّل. كان الشباب المحرومون مهووسين بالقناة الفرنسية الخامسة، فقط لأنّها كانت تعرض أفلامًا لا تخضع للرقابة. كانت فرصة لهم لاقتناص مَشاهد حبّ وعري. لكنّي كنتُ أمتلك دافعًا إضافيًا، وهو مشاهدة السينما الأوروبية.

لاحقًا، بعد عودتي إلى الدراسة الجامعية في دبي، زاد اهتمامي بالسينما. أذكر زياراتي المتكرّرة إلى محلات "فيرجن" لشراء الـ"دي. في. دي.". لم أكن أجد سوى الأفلام الأميركية التجارية، ما كان يدفعني إلى طلب أفلام أوروبية غير متوفرة، كانوا يطلبونها خصيصًا لي، مقابل أجور إضافية. ورغم أنّي طالبٌ حينها، كنتُ أبدِّد مصروفي على الـ"دي. في. دي."، وكنتُ أشعر بسعادة غامرة.

(*) كيف تعلّمتَ إنجاز الأفلام؟

- في البداية، وقف أهلي حاجزًا أمام هذا الطموح. المفارقة أنّ أسرتي كانت متحرّرة جدًا، لكنّي في المقابل كنتُ متمرّدًا جدًّا على المستوى الفكري. كانوا يرون أنّه من الطبيعي على ابنهم أنْ يصبح طبيبًا أو مهندسًا، بينما كان حلمي أنْ أدرس في "فيميس" الفرنسية. منذ المراهقة، تمرّدتُ على كلّ شيء، على الدين والجنس والسياسة. اصطدمتُ بالمجتمع على نحوٍ جعل أهلي يتقبّلون اختلافي. إلّا أنّهم لم يتقبّلوا أنْ أمارس هذا التمرّد كمهنة. كانت المساومة الأقرب أنْ أدرس في معهد السينما في القاهرة، فرفضوا أيضًا. وجدتُ نفسي أدرس الشريعة والقانون في جامعة الإمارات.

من دون معرفة عائلتي، تحوّلتُ في السنة الأولى إلى دراسة الإعلام. كان ذلك أقرب ما في مقدوري لدراسة السينما. وجدتُ حلولاً كثيرة، منها أنّي استحوذتُ على كاميرا كلية الإعلام 4 أعوام كاملة في غرفتي في السكن الجامعي، بذريعة تصوير الأفلام. كوّنتُ فريقًا سميته Group For Ever، أنجز 12 فيلمًا قصيرًا. شاركنا في مهرجانات طالبية في العالم. المضحك أنّي وضعت الكلية أمام الأمر الواقع، فكان الطلاب الراغبون في تصوير المشاريع يحصلون على التصريح والأوراق الضرورية لاستخدام الكاميرا من غرفتي.

خلاصة ذلك، أنّي وصلت إلى حلول وسط لكيفية أن يصنع الشخص الشغوف بالسينما سينما من لا سينما، حتى لو وُضع وأجبر على البقاء في المكان الخاطئ.

(*) كيف اكتشفتَ رواية حمور زيادة؟

- ذات يوم، توفيت جدتي التي كانت المسؤولة عن تربيتي. توجّهتُ لحضور العزاء. في طريقي من دبي إلى السودان، طالعت المجموعة القصصية "الموت عند قدمي الجبل" لحمور زيادة. وجدتني مشغولاً بالموت، ومهمومًا به، كوني لا أتحمّل فكرة الموت. بدأتُ أتساءل: لماذا تموت جدّتي، وهي إنسانة تحبّ الحياة، وممتلئة بها؟

كانت علاقتي جيّدة وبسيطة بحمور زيادة. أبدى فضولاً كبيرًا لمعرفة كيف سأحوّل روايته إلى فيلم. لم يتدخلّ في شيء. الفيلم يتحدّث عن الموت، لكن أيضًا عن التحرّر. كيف نتمرّد على القيود، ونخرج من القوالب التي يجبرنا المجتمع على أن نقبع فيها.

(*) هل هناك مخرج من الذين تحبّهم كان له تأثيرٌ في الفيلم؟

- واضحٌ من حكايتي السابقة أن حبّي للسينما انطلق مع يوسف شاهين. بعد تعمّقي في سينماه، بدأتُ أتعرّفُ إلى كيفية قراءة المخرج للمجتمع والسياسة والعالم، من وجهة نظر ذاتية بحتة. مخرجون آخرون شغفت بهم لاحقًا، كاليوناني العظيم ثيو أنغلوبولوس، والسوفييتي أندره تاركوفسكي، الذي أعتقد أنه مؤثّر في تفكيري بشكل أكبر. لكن الأهم أن شاعرية هذين المخرجين تحديدًا طاردتني في تكوين طريقة السرد السينمائي.

عندما أنجزتُ "ستموت في العشرين" كنت واضحًا في ذلك، إذ إنّي قدّمتُ تحيات في 7 مَشاهد لـ7 مخرجين: شاهين وشادي عبد السلام وأنغلوبولوس وتاركوفسكي وجيوسيبي تورناتوري، والمخرج السوداني جاد الله جبارة. أثناء تصوير أحد المَشاهد، تلقيّتُ نبأ وفاة المخرج المصري أسامة فوزي. من دون قصد، وجدتني أُعيد ديكوباج مشهدٍ معين، ليتحوّل إلى تحيّة لروحه، فخرج المشهد بعد تعديله أجمل ممّا كان مُقدّرًا له أن يكون، وحمل برأيي ثقل حزننا كفريق عمل على وفاة هذا السينمائيّ، الذي كنّا ننتظر منه الكثير.

(*) هل كان صعبًا إيجاد تمويل لـ"ستموت في العشرين"؟

- في العادة، تكون مسألة التمويل صعبة، وتستغرق أعوامًا. لكن، كنا محظوظين، أنا وشريكي المنتج السوداني محمد العمدة، والمصري حسام علوان، بأنّ أول تقديم لمنحة كان لـ"مؤسّسة الدوحة للأفلام"، وحصلنا عليها. حينها، كانت المؤسسة تشارك في 4 أفلام مُرشّحة لجائزة الـ"أوسكار"، وبالتالي فتح الحصول على منحتها الأبواب أمامنا، للحصول على منح أخرى، حصلنا عليها من ألمانيا والنرويج وفرنسا ولبنان ومصر، بالإضافة إلى عدد من ورش تطوير النصّ.

(*) يا لها من مصادفة هذا التزامن، بين بدء تصوير الفيلم والاحتجاجات في السودان.

- رغم الصعوبات كلّها، شعرنا بأننا نساهم في صناعة ثورة موازية. لكنّ الأهم بالنسبة إلينا أنّ ما حصل جعل السلطات الأمنية تصرف النظر عنّا، فلم تعد تهتم بأنّنا نصوّر فيلمًا في قرية في ولاية الجزيرة. صناعة فيلم في السودان يُمكن اعتبارها ثورة بحدّ ذاتها.

(*) هل تعتقد أنك مثّلتَ السودان في البندقية، أم نفسك؟

- أشعر بالفخر والسعادة لو وَجَد أي سوداني نفسه، أو وَجَد أنّي أمثّله في هذا الفيلم، رغم أنّي أرى علاقة المخرج بفيلمه علاقة ذاتية وشخصية خاصة جدًا، وبالتالي أنا أمثّل نفسي وفيلمي يمثّلني أنا، بأحلامي وأفكاري وطموحاتي بالدرجة الأولى، ويمثّل السودان بطبيعة الحال، كفيلم يحكي عن بيئة وشخصيات وقصّة سودانية. إنّي ابن هذه البيئة، وطموحاتي تتلاقى مع طموحات أهل السودان.

(*) هل سيُعرض الفيلم في السودان؟

- بدأتُ التحضير لهذا الفيلم في عزّ وجود الإسلاميين في السلطة، وحصلنا على تصاريح التصوير من حكومتهم، رغم تزمّتها، وصوّرنا مشاهد الفيلم أثناء بداية نهاية هذا النظام. كنتُ أنوي بطبيعة الحال عرض الفيلم في السودان أثناء وجودهم، ويا للحظّ، وصلنا إلى 6 إبريل/ نيسان حيث احتشدنا وسط الخرطوم مع عشرات الآلاف، ونجحنا في إزاحة النظام. فما بالك الآن، في دولة جديدة، نسعى جميعًا إلى تحقيق مدنيّتها بشكل كامل، بكلّ ما يعنيه ذلك من حرية تعبير. بالتالي، فإنّ إجابتي عن سؤالك هي: نعم، سأعرض هذا الفيلم في هذا الوطن الجديد.

 

العربي الجديد اللندنية في

13.09.2019

 
 
 
 
 

حوار| المدير الفني لمهرجان فينيسيا:

السينما المصرية لا تهتم بإنتاج أعمال بمعايير فنية عالية

رانيا الزاهد

أكد ألبرتو باربيرا، المدير الفنى لمهرجان فينيسيا السينمائى الدولي، أنه يفضل التخلي عن منصبه على الرضوخ لضغوط فرض نظام «الكوتة» عند اختياره للأفلام المشاركة فى المهرجان، وأن موقفه هذا تسبب فى تحوله أمام الرأى العام  من «عاشق السينما» إلى «عدو المرأة» ويكشف هل هناك موقف من الافلام المصرية فى البندقية؟ أسئلة كثيرة يجيب عنها باربيرا فى السطور التالية فى حواره مع «أخبار اليوم».

·        فى البداية قلت له: هل غياب السينما المصرية عن فينيسيا هذا العام، يعود لأسباب سياسية؟

- فقال: بالطبع لا، فلا يوجد أى موقف سياسى يمكن ان يؤثر على اختيارات المهرجان للافلام المشاركة، ولكن مشكلة السينما المصرية أنها لا تهتم بإنتاج اعمال بمعايير فنية عالية تصلح للمشاركة فى المهرجانات السينمائية الدولية، وتعتمد فى الاساس على الافلام التجارية والجمهور المحلي، وهناك محاولات ضعيفة لانتاج افلام تصلح مثل «يوم الدين» الذى عرض فى «كان العام الماضى وهذه ليست أزمة السينما المصرية فقط، فهناك دول اوروبية تواجه نفس الازمة مثل المانيا واسبانيا وفى ايطاليا ايضًا نواجه نفس المشكلة، والامر يحتاج لموازنة لتحقيق التواجد على المستوى الدولى كما كانت دائما فى عصر يوسف شاهين.

·        بمناسبة الحديث عن شاهين، هل يوجد من السينما المصرية الأن اسم يتردد فى الاوساط الدولية مثله؟

- اعتقد ان المخرج يسرى نصر الله هو الاقرب فى مصر للمهرجانات وصناع السينما العالمية بعد شاهين، فهو مخرج مبدع وتتلمذ على يده لذلك يتمتع برؤية خاصة، كما انه يتواجد بشكل جيد فى المهرجانات الدولية.

·        يهتم مهرجانكم بتواجد عربى سواء على مستوى مشاركة الافلام أو فى لجان التحكيم كيف يتم الاختيار؟

- يعتمد الامر على عدة عوامل مختلفة، فنحن مهتمين بالفعل بالعالم العربى والسينما العربية لذلك نحرص على تواجد افلام من الدول العربية بالاضافة لاختيار بعض الاسماء البارزة للمشاركة فى لجان التحكيم، على سبيل المثال كان صديقى محمد حفظي، رئيس مهرجان القاهرة فى لجنة تحكيم العام الماضي، وهذا العام تم اختيار التونسية هند صبرى فالمهرجان يعتبر فرصة ذهبية لتوطيد العلاقات وفتح اسواق جديدة، واستفادة المهرجان ايضا من تواجد مثل هذه الاسماء للتعريف بالمهرجان فى الاوساط العربية.

·        كيف يمكن للمهرجان بناء جسور جديدة للتواصل مع العالم العربي؟

- نحن نعتمد على عدد جيد من المبرمجين المتخصصين فى مجال السينما العربية والافريقية ايضًا، لاختيار الافلام وايضا ترشيح الاسماء ودراستها، بالإضافة إلى وجود فاعلية «فاينال كت» التى تدعم الافلام فى المراحل الاولية وفى الاعوام الماضية حرصت على تواجد بعض المواهب من العالم العربى فى لجان التحكيم.

·        حضرت العام الماضى مهرجان القاهرة هل ستكون متواجدا هذا العام ايضًا؟

- نعم استمتعت بالتواجد فى مهرجان القاهرة العام الماضي، وتعرفت بشكل قريب من رئيسه محمد حفظى واصبحنا اصدقاء، وكانت تجربة رائعة حقا، لذلك أتمنى أن أتواجد هذا العام ايضًا ولن اتردد فى الرجوع للقاهرة مرة اخري.

·        وماذا عن مهرجان الجونة السينمائي، هل ستكون ضيف هذه الدورة؟

- للأسف لا، فقد تزوجت الشهر الماضي، وبسبب المهرجان لم يكن هناك متسع من الوقت للاستمتاع بشهر العسل، لذلك قررت زوجتى السفر بعد انتهاء الفعاليات وهى نفس فترة اقامة مهرجان الجونة، لذلك لن استطيع الحضور.

·        تم اتهامك بالتحيز ضد النساء لاختيارك فيلما واحدا من إخراج امرأة فى المسابقة، وهددت بالاستقالة إذا تم فرض «الكوتة»؟

- اخترت الأفلام الجميلة والمبتكرة للمهرجان. أنا غير مهتم بالسياسة ولست منتجًا، فمن بين 3300 فيلم  تمت مشاهدتها، تم اختيار 23% للمخرجات فى المسابقات المختلفة، واذا اردنا الحديث عن هذه المشكله بوضوح اعتقد أن نظام «الكوتة» مهين للمرأة، أنا واضح جدا واعلنت اننى ضد الكوتة لأننى أعتقد أنها مسيئة ومهينة للمرأة، فما الفائدة من اختيارك فى مهرجان لأنك امرأة، بدلاً من أن يتم اختيارك لأنك صنعت فيلمًا جيدًا.

·        هل أنت شخصية عنيدة، ترفض الانصياع للفكر السائد؟

- أجاب ضاحكًا، نعم ..نعم أعتقد ذلك، دعينى أقول شيئا، كان دائما لدينا ما بين 60 إلى 65 عرضا عالمى أول فى المهرجان، ولكن قررت ان اخفض هذا العدد هذا العام فأنا لا اريد أن أخرج للإعلان عن أكبر عدد من العروض العالمية الاولي، ولكن الاهم هو جودة ونوعية الفيلم، وهو نفس الشيء الذى افعله مع افلام المخرجات، لا يوجد صوت يعلو على صوت الفيلم الجيد.

 

بوابة أخبار اليوم المصرية في

13.09.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004