"الجوكر"
الذي اقتنص "الأسد الذهبي" بفينيسيا
أمير العمري
شخصية من عالم "الكوميك بوكس" في مزيج من الخيال المصور
وسينما الاحتجاج السياسي.
شكل فوز الفيلم الأميركي “الجوكر” (أو المهرج) بجائزة
“الأسد الذهبي” لأفضل فيلم في مهرجان
فينيسيا السينمائي،
مفاجأة عند الكثيرين، ليس لأنه أقل من مستوى الفوز بالجائزة، فهو عمل جيد
ومتماسك على جميع المستويات، بل لكونه ينتمي على نحو ما، إلى سينما هوليوود
التي تستند إلى الخيال المصوّر (الكوميك بوكس) التي اشتغلت عليها كثيرا.
فيلم
“الجوكر”
Joker (أو
المهرّج) الذي أخرجه تود فيليبس، عمل مستمد من الخيال، لكنه ينتمي بقوة إلى
الواقع. وهو يبدو كما لو كان يدور في الماضي، فالأزياء والسيارات والملابس
والإكسسوارات (بما في ذلك جهاز التلفزيون البيضاوي الصغير) تنتمي كلها إلى
حقبة ماضية قد تكون أوائل الثمانينات، إلاّ أنه يمكن أيضا أن يكون عملا
مستقبليا، يقدّم تصوّرا لما يمكن أن يحدث إذا استمرت الأحوال على ما هي
عليه في مدينة “غوثام”
(Gotham)
التي يحافظ الفيلم على اسمها الراسخ في مسلسلات “باتمان” المعروفة، ولكنه
يقدّمها بكل معالم نيويورك الحالية وهو اختيار واضح ومتعمّد بالطبع.
نحن أمام بطل نقيض
anti-hero،
أو بطل مهزوم ومحبط ومعقد، لا يتمتع بأي قدر من البطولة بل من المشهد الأول
يتعرض للفتك به بعد أن يعتدي عليه عدد من الشباب ويسرقون منه لافتة “كل شيء
للبيع” التي يرفعها أمام أحد المتاجر التي تصفّي بضاعتها، ويحطمونها من دون
هدف سوى السخرية والإيذاء واللهو، ظنا بأن “آرثر” الذي يرتدي ملابس
“المهرّج” هو مجرد “مهرّج” لا حول له ولا قوة.
إلاّ أن آرثر سيقتني بعد ذلك مسدسا للدفاع عن نفسه. وهو ما
يتناقض مع مظهره العام وتكوين شخصيته، فقد كان يحلم بأن يصبح مهرّجا منذ
طفولته، لكن مأساته الشخصية دفعت به إلى قدر من الهوس والجنون وقد تقوده
أيضا إلى العنف، وهو يعيش بمفرده مع أمه المريضة في شقتهما الضيقة الحقيرة.
لا يعرف من هو أبوه. يشاهد الاثنان البرنامج التلفزيوني الشهير الذي يقدمه
أسبوعيا المقدم المعروف موراي فرانكلين (مباشر مع موراي فرانكلين).
أما فرانكلين الذي يعشق آرثر أسلوبه ويحلم بأن يظهر في
برنامجه، فيقوم بدوره في الفيلم روبرت دي نيرو الذي رأيناه في فيلم “ملك
الكوميديا” (1982) لمارتن سكورسيزي في دور يشبه -من زاوية ما- دور آرثر في
“الجوكر”، وهو ما دفع الكثيرين إلى المقاربة بين “الجوكر” و”ملك الكوميديا”
بل ومحاولة البحث عن علاقة بينه وبين فيلم سكورسيزي الآخر الذائع الصيت
“سائق التاكسي”
(1976).
تود فيليبس يقدم رسالة "فوضوية" واضحة تميل إلى فكرة
"التطهير" الاجتماعي بالعنف الفوضوي المجنون
دراسة شخصية
إلاّ أن فيلم تود فيليبس يقوم على رؤية مستقلة تخصّ صاحبها،
وهي رؤية مستمّدة جزئيا من الخيال المصوّر أساسا، ربما تكون قد تأثّرت على
نحو أو آخر، ببعض الجوانب في أفلام أخرى منها أيضا فيلم هيتشكوك الشهير
“سايكو”، ولكن في سياق الواقعية التي لا تبتعد عن المسار الصارم الذي يقترب
كثيرا من الطابع التسجيلي في خلق مكونات الصورة، أي الالتزام بأسلوب الفيلم
الواقعي، وسينما الاحتجاج السياسي والغضب التي عرفتها هوليوود منذ الستينات.
ومن ناحية أخرى، يمكن اعتبار “الجوكر” فيلم دراسة لشخصية
(character study)،
أي لشخصية شاب محبط فاشل في أن يحقّق حلمه، يريد أن ينتمي وأن يقترب من
الآخرين، لكنه يُقابل دائما بالسخرية والاستهزاء، ويتعرّض للاستنكار بل
وللإيذاء الجسدي، يشعر بأنه لا يقل قيمة عن غيره، لكن الواقع الذي يعيش
فيه، هو واقع تبرز فيه طبقة “الأثرياء” الذين لم يبذلوا جهدا للحصول على
الثروة سواء من مضاربي وول ستريت تحديدا وملاّك العقارات، أو هذا الرجل
“مدير البلدية” الذي سيعرف أنه والده الحقيقي الذي سيتنكّر له ويرفضه تماما
بعد أن يسعى إليه آرثر للحصول منه، لا على المال أو السند الاجتماعي، بل
على مجرد “حضن أب”، كما يقول له في مواجهة ستسفر عن تفريغ دموي لنتاج
الإحباط المتكرّر.
الجوكر يفشل في أن يصبح مهرّجا كوميديا، ويُطرد من كل عمل
ألحق به، خاصة بعد أن يسقط منه المسدس الذي كان في جيبه في أحد فصول مدرسة
للأطفال كان يقدّم لهم عرضا ضاحكا. ولا تجدي شكواه وتبريراته وأعذاره نفعا
بل يتم لفظه بكل قسوة.
وعند كل موقف صعب يقابله في حياته ينفجر آرثر في فاصل من
الضحك الهستيري الذي يبدو في نهايته أقرب إلى نوبة من البكاء. هذا الضحك
المتواصل الذي يشبه شهقة طويلة، هو غالبا القشرة التي يتستر داخلها آرثر
لكي تعوّضه عن الكلام أو التعليق كما أنه يشي أيضا بحالته “العقلية”
المضطربة، لكنه ليس هكذا دائما فكثيرا ما نشعر أنه أيضا “يفتعل” هذا الفاصل
من الضحك المتواصل العصبي كوسيلة للاحتجاج والرفض والتعبير عن الغضب.
داخل عربة من عربات قطار الأنفاق ثلاثة من الشباب من
العاملين في البورصة في وول ستريت (ألم أقل إننا في نيويورك التي هي
المعادل الواقعي للمدينة غوثام سيتي؟). ينفجر آرثر في ضحكه الطويل. النتيجة
أن يعتدي عليه الشباب الثلاثة ويركلونه بكل قسوة، وعندما يصبح مهدّدا
بالموت يخرج مسدسه ويقتل اثنين منهم، ثم يطارد الثالث في ممرّات المحطة
التالية التي يتوقّف عندها القطار ويقتله.
وتصبح هذه الجريمة “الثلاثية” العنوان الرئيسي في جميع
الصحف ووسائل الإعلام وبين السكان في المدينة كلها. لقد أصبح “المهرج”
القاتل بطلا في عيون الفقراء والملوّنين والمهمّشين من سكان المدينة
المنقسمة التي تعاني من التناقضات الطبقية اللعينة.
وسيلة للتطهير
سيظهر الجوكر أخيرا في برنامج معبوده موراي فرانكلين، ولكن
لكي يتعرّض للسخرية والهزء. وعندما تفرغ طاقة التسامح والقدرة على التكيّف
مع العالم تكون النتيجة أن الجوكر سينقلب على العالم بأسره، ويصبح وسيلة
لتطهير غوثام سيتي من الآثام على غرار بطل “سائق التاكسي” الذي يرتكب
المذبحة الدموية في النهاية لكي يطهر المدينة من “الرذيلة”.
المشكلة الأساسية في الفيلم، من الناحية الفنية أولا، أنه
يعاني قرب نهايته من تعدّد النهايات فكلّما تصوّر المشاهد أن الفيلم انتهى
عند لحظة ما، وكان يمكن أن تكون هي النهاية بالفعل، يفاجأ بالمزيد من
الاستطرادات التي لا تضيف الكثير وتمدّ في الفيلم لنصل إلى النهاية الثانية
التي لا تتحقّق ثم النهاية الثالثة التي يختتم الفيلم عندها.
أما المشكلة الثانية، فهي أننا ندرك حقا منذ البداية أن
بطلنا مصاب باضطراب عقلي خطير بسبب عجزه عن التحقق في مجتمع يضطهد الضعفاء،
ونحن بالتالي نتعاطف معه، لكن المشكلة أننا نظل نتعاطف معه حتى بعد أن يصبح
أداة رهيبة للعنف والقتل وسفك الدماء بدرجة هائلة، وهو الذي سيُلهم باندلاع
العنف الجماعي في نهاية الفيلم، وهي رسالة “فوضوية” واضحة تميل إلى فكرة
“التطهير” الاجتماعي بالعنف الفوضوي المجنون.
ربما تكون هذه الرسالة تحذيرا ممّا يمكن أن تؤدي إليه
التناقضات القائمة في المجتمع الأميركي حاليا. لكنها تحاط هنا بنوع من
“التمجيد” و”التجميل” بل والتعاطف مع ذلك البطل الذي يخفي في طيات ضحكاته
المجنونة- المحسوبة- المصنوعة- الاستهجانية، غضبا شديدا ورغبة عارمة في
التدمير.
لم يكن "الجوكر" ليصل إلى كل هذه الجاذبية والرونق، لولا
ذاك الأداء المذهل البديع من جانب الممثل جواكين فينيكس
لم يكن “الجوكر” ليصل إلى ما وصل إليه، أي كل هذه الجاذبية
والرونق والقدرة على السيطرة على عقول وقلوب المشاهدين وجذبهم إلى شخصية
كان الكثيرون يتصوّرون أنها قد أُشبعت تصويرا في السينما، لولا ذاك الأداء
المذهل البديع من جانب الممثل الشهير جواكين فينيكس.
براعة التقمّص
إن جواكين فينيكس يبدو وقد تماثل -ليس فقط مع الشخصية
المضطربة المجنونة نفسيا وذهنيا- بل وجسّد أيضا ملامحها “الجسمانية”، فهو
فقد الكثير من وزنه بحيث برزت عظام كتفيه وصدغه وعموده الفقري، وبدت عيناه
غائرتين، واستطاع أن يتحرّك كما لو كان مزيجا من “المهرج” الكرتوني والكائن
البشري، أي الشخصية التي تريد تسلية الآخرين وإضحاكهم، كوسيلة للتغطية على
ألمه الشخصي، ولكنه كان يستيقظ أيضا من نوباته السلبية، أي من فاصل الضحك
المستمر، لكي نكتشف أنه قادر على التفكير والحكم على الأمور وفهم ما يجري
من حوله وتحقيق انتقامه الخاص بطريقته. وهو يبدو في الكثير من المواقف كما
لو كان يختصر نتاج إحباط مئة عام من القهر الاجتماعي.
وعندما يقتل يبدو كما لو كان ينتقم من ماضيه وممّا تعرّض له
من ظلم وإنكار، وفي الوقت نفسه كما لو كان يقوم بدور في عمل من أعمال
الخيال. ويبدو فينيكس في ملابس وماكياج المهرج، شديد الإقناع، لا تخفي
المساحيق السميكة انفعالاته وتعبيرات عينيه، وفي الرقصة التي يؤديها على
السلم أمام البيت الحقير الذي يقيم فيه مع والدته، يتحرّك بخفة وبراعة
ويهبط في حركات محسوبة بدقة، كما لو كان كائنا كرتونيا قادما من خارج
الواقع.
ومشاهدة أداء جواكين فينيكس تكفي للاستمتاع بهذا الفيلم
الذي سيشقّ طريقه دون شك، نحو مسابقة الأكاديمية الأميركية ليثبت مجدّدا،
أن مهرجان فينيسيا هو الطريق الرئيسي إلى جوائز الأوسكار.
كاتب وناقد سينمائي مصري |